استعرضنا في المقالات السابقة موجزا لتاريخ خلافتي أبي بكرالصديق –رضي الله عنه- وعمر بن الخطاب –رضي الله عنه- وها هو الموعد مع خلافة ذي النورين
عثمان بن عفان رضي الله عنه.
لقد سار عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على سيرة الراشدين
أبي بكر وعمر في الحكم، وكانت أولى خطبه مؤسِّسة للمفاهيم والأصول ذاتها التي أسس لها
خطاب الشيخين؛ من حيث إن الخليفة وكيل عن الأُمَّة، وليس وصيًّا عليها، وأن للأُمَّة
حقَّ مقاومة انحرافه عن القانون الذي هو الشريعة النازلة في القرآن والسُّنَّة، وأن
أمر الأُمَّة تحكمه الشورى، وأن العدل بين الناس والمساواة بينهم في الحقوق واجب من
واجبات الخليفة.
غير أن ثمة إضافة جديدة مميزة في خطابه إلى الناس؛ ألا وهي
التوصية بالزهد في الدنيا، ففي ذلك الوقت كانت الدولة الإسلامية قد أقبلت عليها الأموال
من كثرة الفتوح والغنائم والتنظيم الإداري القوي، وكان حريصًا في رسائله إلى الولاة
والقادة العسكريين على التأكيد أن النظام الذي وضعه عمر لم يتغيَّر؛ لأنه كان في الأساس
على مسمع ومرأى ومشورة من أهل الحلِّ والعقد، ومنهم عثمان.
وكان أهمُّ ما يُمَيِّز عثمان - رضي الله عنه - أخلاقه السهلة
الرقيقة، فكان صورة للحلم والعفو والصفح والتواضع، وكان أكثر الناس حياءً، وكان هذا
هو السمت الغالب على شخصه، وكل هذا لا ينافي أو ينقص ما كان عليه من حزم وشجاعة! كما
كان مثالًا في الزهد والخوف من الله، والبكاء من خشيته.
وواصلت المؤسَّسات الإدارية نهوضها ونضجها في عهد عثمان بن
عفان على الأسس والقواعد ذاتها التي وضعها عمر، مع فوارق في التفاصيل والأساليب فرضها
تغيُّر الظروف والمسائل المستحدثة، فتدفَّقت الأموال وعمَّ الرخاء دولة الإسلام.
وقد كان عثمان حاكمًا يقظًا، يُراقب الولاة في كل الأنحاء،
ويحرص على اختبار سير الأحوال في الدولة، وكان يتعرَّف على نبض الأُمَّة من خلال حضوره
لموسم الحجِّ؛ حيث يستطيع أي إنسان أن يشكو فيه الوالي على بلده، كما كان يسأل القادمين
إلى المدينة عن الأحوال، واتخذ من أهل البلاد مَنْ يكتب التقارير إليه، وهذا بخلاف
الإجراءات المعتادة؛ كإرسال المراقبين من عنده أو طلب قدوم الولاة إليه، أو الرسائل
المتبادلة.
لكن كل هذه الإنجازات تهون أمام هذا القرار الذي هو أهمُّ
قرارات عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ وهو جَمْع الأُمَّة على مصحف واحد،
وقد اتخذ هذا القرار بعد البحث والشورى والاتفاق مع وجوه الصحابة وكبارهم، وكان الدافع
إليه أن البلاد المفتوحة على اتِّساعها قد تلقَّت القرآن عن الفاتحين والعلماء والصالحين،
ولكنهم مع طول الوقت وتباعد البلاد أدخلوا اللهجات المحلية في قراءته، ثم بدأ يظهر
بينهم التنازع حول القراءة الصحيحة، فكانت الخشية أن يتنازع الناس في القرآن، وأن يعود
هذا عليه بالتحريف، فكان قرار الدولة الإسلامية بقيادة عثمان بن عفان هو جمع المسلمين
على مصحف واحد، معتمد منسوخ من النسخة التي جُمعِت في عهد أبي بكر - رضي الله عنه
-، ثم إرسالها إلى الأمصار لتكون وحدها نسخة المصحف التي تُحاكم إليها اللهجات واللغات
المحلية؛ وبذلك حُفِظت الوحدة الإسلامية، وحمى الله كتابه من التحريف والتبديل، الذي
انتهت إليه كتب الأمم السابقة.
واستمرَّت مسيرة الجهاد والفتوح تتقدَّم وتُواصل فتحها البلاد
والقلوب؛ فقد فُتِح في عهد عثمان بلاد أذربيجان، وطبرستان، والمناطق في جنوبي وغربي
بحر قزوين وبلاد القوقاز، وقُتِل الملك الفارسي الأخير يزدجرد، ووصلت الفتوحات إلى
خراسان ، وتجاوزت كل الجنس الإيراني، ثم بدأت مواجهة الجنس التركي -الذي يقطن مناطق
وسط آسيا- من بعد نهر المرغاب، وفتحت بلاد النوبة في مصر، وغيرها من الأنحاء في الشمال
الإفريقي.
ودخلت مرحلة أخرى في عهد عثمان - رضي الله عنه - بإنشاء الأسطول
البحري، وبداية الجهاد في البحر بالتزامن مع جهاد البرِّ، وقد كان عمر لم يسمح بهذا
خشية على المسلمين من بيئة البحر المحفوفة بالمخاطر، ففتح المسلمون جزيرة قبرص في البحر
المتوسط.
لكن ختام عهد الخليفة الراشد الثالث لم يكن كبدايته .. إذ
اندلعت أول فتنة في تاريخ الإسلام، تلك الفتنة التي لن تزول آثارها أبدًا!
لقد تضافرت كثير من العوامل لتصنع هذه الفتنة التي أشعلها
متآمرون استغلُّوا جهل وتآمر أصحاب القلوب المريضة، فأشاعوا عن الخليفة الراشد الشبهات
والأباطيل؛ فإمَّا اختلقوها من الأساس، وإمَّا حرَّفُوها ليصلوا إلى أغراضهم، وخلاصتها:
أن الخليفة عثمان بن عفان قد انحرف عن الشريعة وتخلَّى عن إقامة العدل، وظلم الناس،
وحابى أقاربه؛ فولاهم على الأنحاء والبلاد. وكل هذه أمور باطلة فاضت الكتب بتفنيدها
ونسفها؛ إذ لا تقف أمام أدنى بحث أو تحقيق علمي في الموضوع.
ثم تطوَّر الأمر نحو التشكيك في شرعيَّته أصلًا، وتزعَّم
اليهودي المتمسلم عبد الله بن سبأ القول أن الخلافة كانت في الأساس وصية لعلي بن أبي
طالب؛ فهو أحقُّ الناس بها، ولا يتقدَّمه أحد فيها، وعملت اليد اليهودية التي استطاعت
من قبلُ تحريف المسيحية ونقلها إلى الوثنية؛ لتبدأ المخطط ذاته في الإسلام، وانتشرت
هذه الحركة في مصر والبصرة والكوفة، وتفيد المعلومات المتوفِّرة أن الخطَّة كان يُمَهَّد
لها منذ زمن، وأن حركتها في البلاد قد بُذِل فيها مجهود كبير.
وكان الخليفة أقرب إلى الرفق واللين من الشدَّة والحسم؛ فزاد
ذلك من انتشار الفتنة وتصاعدها، وبدأت الأمور تتأزَّم في تلك البلاد، ثم أخذت منحاها
الأخير في خروج جيوش هذه الحركة من هذه الأمصار، ودخولها المدينة، وحصارها بيت عثمان
بن عفان - رضي الله عنه -.
لم تُجْدِ محاولات الإصلاح لا في الأمصار ولا عندما قدموا
إلى المدينة، لقد كان الأمر دائمًا يصطدم بترتيب جديد لأهل الفتنة، ولم يكن لدى الخليفة
مانع في عزل والٍ أو أكثر؛ ما دام كان هذا اختيار الناس، بل لم يكن لدى الخليفة مانع
من التنازل عن الخلافة ذاتها؛ لولا أن الصحابة منعوه من هذا خوفًا من الفوضى، وأن يكون
قرار الأُمَّة المأخوذ بالشورى رهنًا برغبات مجموعات تُثير الفتنة، «كلما كرهوا أميرهم
خلعوه» .. وجرت مشاورات ونصائح وخطب بين الخليفة والصحابة وأهل الصلاح من جانب، وأهل
الفتنة من الجانب الآخر؛ لكن جراب الفتنة لم يكن ينضب من تدبير جديد يُعيد الأمور إلى
أسوأ مما كانت.
لم يبقَ حلٌّ إلَّا القتال، ولم يكن من الصعب إبادتهم؛ لكن
الخليفة رفض تمامًا أن يُراق دم مسلم في هذه الفتنة، ومنع الصحابة من القتال دونه ومنع
حراسته، ثم كتبت الأزمة فصولها الأخيرة واستغلَّ أهل الفتنة خروج كثير من الصحابة إلى
الحجِّ؛ فاقتحموا الدار على عثمان بن عفان وقتلوه صباح يوم الجمعة (18 من ذي الحجة
35هـ)، وهو في الثانية والثمانين من عمره، وبدأ منذ هذه اللحظة انقسام المسلمين الذي
توقَّعه عثمان نفسه بقوله: «والله لئن قتلتموني فإنكم لا تتحابُّون بعدي أبدًا، ولا
تصلون جميعًا بعدي أبدًا، ولا تُقاتلون العدوَّ جميعًا بعدي».
وكان الخبر صاعقًا على أهل المدينة وعلى أهل مكة -وبها جمعٌ
من الصحابة- وعلى الأمصار الإسلامية؛ إذ لم يتوقَّع أحد أن الأمور قد تصل إلى هذا الحدِّ
أبدًا؛ فذلك أمر ليست له سابقة!
واجتمع الصحابة في المدينة، واختاروا من بينهم الرجل الرابع
في المقام والمكانة والفضل والسابقة، وهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكان اختيارهم
هذا موافقًا بطبيعة الحال لرغبة أهل الفتنة، الذين خرجوا أساسًا وكثير منهم يعتقد أن
عليًّا هو الوصي وهو الأولى بالخلافة والأحقُّ بها .. بينما حاول آخرون منهم تنصيب
عبد الله بن عمر تعبيرًا عن قوتهم، وظنًّا منهم أنهم أصبحوا أهل القرار، غير أنهم لم
يجدوا أي استجابة من عبد الله بن عمر؛ حتى بعد أن هدَّدُوه بالقتل، فأيقنوا أن الخلافة
لن تخرج عمَّا أقرَّه أهل المدينة وبقية المهاجرين والأنصار وأهل بدر، وأن الناس لن
يُخالفوهم في هذا، فاستسلموا!
فبهذا بدأ عهد الخليفة الراشد الرابع: علي بن أبي طالب
نشر في ساسة بوست
مقال هش
ردحذف