"وأُحذَّرك
من الدماء والدخول فيها والتقلُّد لها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية
والنظر في أحوالهم"
[من وصية صلاح الدين لابنه الأفضل]
***
ليست من لحظة في تاريخ الإسلام كان يُمكن أن يرتكب فيها
المسلمون المذابح الواسعة دون أن يتهمهم أحد بالقسوة مثل هذه اللحظة التاريخية..
لحظة استرداد بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد نحو قرن من الزمان. ذلك أن دخول
الصليبيين لبيت المقدس شهد واحدة من أكبر المذابح المروعة في التاريخ الإنساني،
حتى عدَّ المؤرخون من قُتِل من المسلمين يومئذ بسبعين ألفا، وروى بعضهم أن الخيول
كانت تخوض في الدماء حتى رُكَبها.
لكن هذه اللحظة صارت أكثر خلودا وتألقا ولمعانا حين سجلت
ما فعله صاحبها الخالد: السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي.
لقد ترفع صلاح الدين عن سفك الدم وعن الانتقام، وأبدى من
الفروسية والرحمة والسماحة ما أُخِذ عليه في بعض الأحيان، إذ كان من ضمن الذين عفا
عنهم ذوي غدر وخسة أثخنوا في المسلمين بعد ذلك، لكن الخسارة الوقتية في الحرب لا
تقارن بالكسب التاريخي في الأخلاق، ولئن قالت ميادين الحروب أن صلاح الدين كان
رحيما أكثر مما ينبغي لقائد عسكري فإن ميادين القلوب وقفت منبهرة أمام الفارس الذي
تعفف عن سفك دم مقاتليه وفَضَّل أن يحفظ دماءهم وأرواحهم رغم كثرة الدواعي الدافعة
لإزهاقها.
يمكن للمرء أن يكتب كتابا كبيرا عن صلاح الدين دون أن
يخط جملة واحدة من عنده، بل ويمكنه أن يكتب مجلدا أو اثنين دون أن يخط جملة واحدة
لكاتب عربي أو مسلم، فلقد بلغ انبهار المؤرخين من غير العرب والمسلمين بشخصية صلاح
الدين وأخلاقه وفروسيته ورحمته ما جعله واحدا من أكثر الشخصيات التي كُتِب عنها في
التاريخ الإنساني.
وما ذلك إلا لأن الرجل تعفف عن سفك دماء كثيرة كان يملك
أن يسفكها! فليتأمل القادة والساسة والعسكريون كيف يكون الخلود!
***
"لقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك
في الحروب الصليبية"[1]،
إذ "لما غزا الصليبيون الأرض المقدسة سنة (1099م)، خلفوا وراءهم في كل مكان الموت
والدمار، بيد أنه لما رد صلاح الدين الصليبيين على أعقابهم، لم يلجأ إلى وسائل الانتقام،
ولم يخرب المسلمون الأماكن التي فتحوها، كما فعل المقاتلون الدينيون السابقون لهم من
الممالك الأخرى"[2].
"حين تمكن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس
-التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها
مذبحة وحشية وقسوة- فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقاما لسفك دم المسلمين، بل
إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربا المثل في التخلق بروح الفروسية
العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خلقي تجاه
كلمة الشرف أو الأسرى"[3]..
"لم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون
من ضروب التوحش، فيبيد النصارى عن بكرة أبيهم؛ فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعا
سلب شيء منهم"[4].
"كان صلاح الدين مستمسكا بدينه إلى أبعد حد، وأجاز لنفسه
[في الحرب] أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى[5]؛
ولكنه كان في العادة شفيقا على الضعفاء، رحيما بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه
بوعده سُمُوًّا جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي -"الخاطئ"
في ظنهم- رجلا يصل في العظمة إلى هذا الحد، وكان يعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه
إلى مطالب الشعب جميعها، وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب، ولم يترك
في خزانته الخاصة بعد موته إلا دينارا واحدا؛ وقد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصية
لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية"[6].
***
إن "أخلاق صلاح الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على
البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا سحريا خاصا، حتى إن نفرا من الفرسان
المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضموا
إلى المسلمين"[7]،
وإن "شرف الفروسية الإسلامية سيكون مثار انبهار الأوربيين، بل وسيدفعهم نبله هذا
إلى العديد من المواقف المحرجة، فما كان منهم إلا التماس أن السبب وراء أخلاقه الرفيعة
والكريمة ما هو إلا لأن لديه دماء أوربية تجري في عروقه... ومثل هارون الرشيد، تجد
القصص التي تحيط به لها طابع رومانسي وأسطوري"[8].
لقد "وصل الأمر إلى حدِّ أنه ظهرت في القرن الرابع عشر
قصيدة طويلة جرى العرف على تسميتها "صلاح الدين" وأعيدت فيها صياغة حوادث
الأساطير القديمة، وذلك لأن فارسا من هذا الطراز الرفيع يجب بالضرورة أن يصبح منتميا
إلى الأسرة المسيحية، وهكذا قيل إن أمه هي الكونتيسة بونثيو التي تحطمت سفينتها على
الساحل المصري، وأنه هو نفسه اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت"[9].
***
لم يزل صلاح الدين مُعَظَّمًا عبر العصور، ويوم أن زار وليام
الثاني آخر الأباطرة الألمان الشرقَ (1899م)، وقف أمام قبر صلاح الدين، وخطب عنده
خطبة أعلن فيها حبه للعرب وحمايته لهم، ووضع على القبر لوحة من البرونز صنعها له
خصيصا، فهيَّج ذلك قريض أمير الشعراء أحمد شوقي فأنشأ يقول:
عظيمُ الناس من يبكي العظاما ... ويندبهم ولو
كانوا عظاما
رعاك الله من ملك همام ... تعهَّد في الثرى ملكا
هماما
أتدري أيَّ سلطان تحيَّي ... وأيَّ مُمَلّكٍ
تهدي السلاما
دعوت أجلَّ أهل الأرض حربا ... وأشرفهم إذا سكنوا
سلاما
نشر في مجلة الوعي الإسلامي - العدد 580 - ذو الحجة 1434هـ - أكتوبر، نوفمبر 2013م
[3] زيجريد هونكه: الله ليس كذلك ص34.
[4] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص329.
[5] فرسان المعبد وفرسان المستشفى هي كتائب مسيحية تابعة للكنيسة مباشرة، وكانت من أعنف وأشرس الكتائب في حربها على المسلمين.
[6] ول ديورانت: قصة الحضارة، 15/ 44، 45.
[7] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص111.
[8] مايكل ه مورجان: تاريخ ضائع ص268.
[9] مكسيم رودنسون: الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية، منشور في "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث، ص41، 42.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق