التقطت من بين تلال الورق المتراكم على مكتبى هذه الورقة التى تحتوى على إفطارى ، وما إن بدأت فى التهامه حتى بدأ " السادة " المواطنون فى التدفق على المصلحة ، يبدو أننى لن أهنأ بيوم أبدا .
مايقرب من عشرين سنة وحياتى بين هذه الأوراق الصفراء المتراكمة التى ترقد على هذا المكتب المتهالك الذى هو واحد من بين 10 مكاتب تحويها هذه الغرفة الكئيبة .
- هذه الأوراق ينقصها ختم المصلحة ياسيد
هكذا صحت فى وجه هذا العجوز الذى لايريد أن يفهم طبيعة العمل والنظام فى المصالح الحكومية ، ويبدو أن هذا الأسلوب ناجح تماما ، فقد قال الرجل فى انكسار واضح :
- " ومن أين آتى بهذا الختم ؟ "
-" هذا الختم مع الأستاذ أكرم .. وهو على وصول إن شاء الله .. تفضل انتظر على مقعد من هذه المقاعد .
" كان الله فى عونك يا أكرم .. كل شئ فى هذه المصلحة يحتاج إلى هذا الختم اللعين ، وكانه مصباح علاء الدين الذى يصنع المعجزات " هكذا غمغمت لنفسى أثناء التهام الإفطار اليومى الموحد الذى لم يتجاوز أبدا إطار الفول والطعمية حتى اصبحت اقطر زيتا حين اعرق .
ثم مالبث العجوز أن عاد مرة أخرى فى نفس الانكسار :
- يابنى .. إننى قادم من سفر ، ولابد من إنهاء هذه الأوراق لكى أحصل على علاج البنت الراقدة فى البيت .
قلت فى غضب :
- الله يشفيها ياحاج ، مشكلتك مع الأستاذ أكرم .
صاح فى اندهاش حانق :
- وأين الأستاذ أكرم هذا ؟
- يبدو أنه يتناول إفطاره مثل كل الناس .. دقائق ويأتى .
مالى ومال ابنته المريضة أو امه الميتة ؟ تكفينى همومى ، كلنا نمرض ونصح ونمرض ونصح .. لن تنهار الدنيا إذا مرضت ابنته أو حتى ماتت .. اين جريدة الصباح .. آه إنها عند " فتحى " .
فتحت جريدة الصباح اليومية لأمر على نفس العناوين المحفوظة : الرئيس يستقبل فلان ، الرئيس يودع فلان ، الرئيس يفتتح ، الرئيس ينغلق ، أفضل مافى هذه الجريدة شيئين : صفحة الرياضة ، والكلمات المتقاطعة... اين الكلمات المتقـ ... نعم .. إنها هى .
لا ادرى كم من الوقت مر على وانا منهمك فى حل الكلمات المتقاطعة التى لايؤثر على تركيزى فيها إلا أصوات " السادة " المواطنين الذين يكثرون بالخارج ويتزاحمون على المقاعد .. ومالى أنا .. فلينتظروا حتى يأتيهم أكرم .
- " أنت ياأستاذ .. الم يأت الأستاذ أكرم ؟ "
أف .. إنها السيدة التى كانت هنا بالأمس ، وانتظرت حتى ايقنت أن أكرم غائب اليوم ، فكررت الزيارة اليوم .
- لقد ذهب إلى مشوار بسيط ، وسيأتى حالا .. الصبر جميل .. إن الله مع الصابرين .
زفرت فى يأس واضح وعادت أدراجها ، ومازلت أردد : الصبر جميل ، ولا أدرى هل الصبر فعلا جميل أم مرير ؟ فبماذا أفادنى الصبر غير بقاء الحال كما هو .. موظف حقير فى إحدى المصالح ، زوجة تهوى النكد ، أولاد يعرفون إلا المطالبة بالمصروف وأجور الدروس الخصوصية ، صاحب المنزل الذى يشبه عقارب الساعة المضبوطة على أول يوم فى الشهر ليحصل الإيجار ، هذا غير مصاريف المياه والكهرباء والتليفون والضرائب و .... إلخ من هذه الدوامة التى أحياها ... ثم اقول للناس : الصبر جميل .
نعم ... وهل أستطيع أن أقول غير ذلك ؟؟ .. فلماذا لايصبرون هم ويرحمونى من هذا الصداع المتكرر الذى أعانيه كل يوم .
وفجــأة ،،،
" ألا تستطيع يابنى أن تختم لى هذه الأوراق .. لقد تأخرت .. ولابد أن أعود اليوم إلى البلد " قالها العجوز فى استعطاف .
" أين هو مدير المصلحة هنا ؟؟؟؟ أسبوع كامل ولا يأتى هذا الموظف الذى يعطّل مصالح الناس " قالتها السيدة فى غضب .
" يعنى إذا غاب أكرم هذا ، لايستطيع أحد فى كل هذه المصلحة الطويلة العريضة أن يقوم بعمله " قالها رجل فى الأربعينيات فى استنكار .
" حتى متى سننتظر هذا الباشا الذى يسمى اكرم ؟ " قالتها سيدة فى الثلاثينيات فى سخرية .
" هل عندكم فى هذه المصلحة موظف يسمى اكرم أصلا ؟؟؟ " قالها هذه المرة شاب على سبيل الطرفة .
يبدو ان الجميع فقدوا أعصابهم ، ولست فى حالة تسمح لى بالأخذ والرد والخناق والصياح على كل واحد فى هذه الطوابير ، لذا قمت فى هدوء وتركت مكتبى وخرجت من الغرفة فى صمت كامل .
فى أثناء خروجى استوقفنى أحد زملائى قائلا :
- " اكرم .. أنت الوحيد الذى لم تدفع سهمك فى الجمعية " .
9/5/2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق