تنحى ضابط الشرطة فى هدوء ليترك المرأة التى لم تكمل عامها الثلاثين مع أخيها الأكبر ، وقد دخلا فى معركة كلامية صاخبة ، حتى لايمثل وجوده عبئا على أى منهما .
ومالبث أن أغلق الباب خلفه حتى ارتفعت أصواتهما مرة أخرى
صاح فى غضب هادر :
- ماهذا الذى ستفعلينه ؟!!
ردت وهى تغالب دموعها الجارية :
- سأفعل ماسمعت .. سأتنازل عن هذا البلاغ ، وعن القضية كلها .
للمرة العاشرة لم يصدق أذنيه .. نظر إليها فى غضب ممزوج بدهشة عارمة وهو يحاول أن يعصر رأسة كى تخرج تفسيرا لهذا الموقف الذى تقاسمته السخافة والسذاجة والجنون
صرخ فى وجهها :
- كيف تصفحين عن هذا المخمور الذى قتل ابنك ؟!!
قالت ونبرة بكائها تعلو :
- لم يكن مخمورا .. لم يكن مخمورا .. ولاتنسى أنه هو السبب الذى أنقذ الأخرى
- بل كان مخمورا بكل تأكيد .. وإلا فكيف لم ينتبه إلا بعد أن صار الطفلين تحت عجلات سيارته الفارهة التى اشتراها أبوه الباشا لكى يحطم بها أرواح الناس .
- إن كان طائشا ومخمورا ، فهل تستطيع أن تفسر لماذا حملهما بالسيارة إلى المستشفى ؟؟ ولماذا تكفل بكل مصاريف علاجهما ؟؟ ولماذا سلم نفسه إلى الشرطة ؟؟ ولماذا .... ؟؟ ولماذا ؟؟... ولماذا ؟؟
وأضافت باستماتة تشبه تلك الاستماتة التى تقاوم بها دموعها :
- لو كان طائشا مافعل كل هذا ؟
أمسك كتفيها وهزها بقوة صائحا باستغراب وذهول :
- هل أثرت فيك دموعه إلى هذا الحد حتى انستك طفلك الصغير الذى لم تبرد دماؤه بعد ؟
صرخت بكل ماتبقى فى حلقها من صوت وهى تدفع يديه بقوة :
- لاتقل أنى نسيته .. لن تكون أكثر حبا له منى .. إنه ولدى .. ولدى .. أتفهم ؟
وانهارت على مقعدها وكأنها أنهت مخزون طاقتها الذى كان فى عطاء متواصل طوال اليومين السابقين .
اقترب منها واحتواها بين ذراعيه فى عطف حنون ، وسالت من عينه دمعة ساخنة .. مسحها ثم قال بصوت خفيض :
- ياحبيبتى .. لابد أن يأخذ المجرم عقابه ، لو فعل كل الناس كما فعلت لصارت أرواح البشر بلاثمن .. والحمد لله أنه لم يعرف كيف يتصرف حتى سلم نفسه بنفسه لينال عقابه العادل .
ردت بصوت مبحوح كأنه همس بعيد :
- لقد سلم نفسه لأنه إنسان نبيل ، وكان يمكنه أن يواصل طريقه فيموت الولد والبنت كليهما ، ولن يصل إليه أحد ، ولو كان مجرما حقا مادخل السجن بقدميه .
- هل هذا قرارك الأخير ؟
- نعم .. سأدفع له ثمن إنقاذ ابنتى بإنقاذه من السجن .
- والولد ؟!!!!
- هذا قدر الله .. وكان لابد له أن يموت ، فى هذا الحادث أو لأى سبب آخر .
وقف فجأة وقال فى عزم :
- إذن .. سأثبت لك أنه وأهله لايقيمون لحياة الناس وزنا .
وانطلق خارجا من الغرفة إلى ردهة القسم الطويلة ، وطلب من الضابط استدعاء الشاب .
وحينما وقف الثلاثة أمام ضابط الشرطة قال الأخ فى غضب حازم :
- لقد قلت إنك على استعداد لفعل أى شئ .. أليس كذلك ؟
قال الشاب فى توسل :
- ياسيدى أقسم لك أننى حاولت تفاديهما بكل ......
قاطعه بنفس الغضب الحازم :
- أليس كذلك ؟
رد الشاب بسرعة :
- نعم .. نعم .. أنا على استعداد لفعل أى شئ أيا كان ، ولكن يهمنى بالمقام الأول أن تتأكدوا أن الحادث تم رغما عنى ، وأننى أتألم لمقتل الطفل مثلكم تماما .
- لماذا لم يأت أبوك لينقذك من مصيرك ؟ أم أنه يجهز لك كتيبة المحامين ؟
- أرجوك ياسيدى لاتسخر .. أبى مريض ، وقد فضّل أن آخذ عقابى كاملا .
- أنت الوريث الوحيد لأبيك ؟
- نعم
- نريد تنازلا عن كل أموالك كمقابل لحياة الطفل الصغير .
- موافق
أشار ضابط الشرطة بيده ، وهم أن يتكلم لولا ان انطلقت المرأة صارخة
- كفى
وأضافت :
- كفى ياأستاذ أحمد ، لقد دفعت ماهو أكثر من اموالك حين أنقذت البنت الأخرى .. وإذا كان الطفل قد مات فى المستشفى فهذا أجله الذى انتهى .
ثم التفتت إلى أخيها قائلة :
- الآن .. هل تأكدت ؟
وقف الأخ كالتمثال الأصم ، لايختلف عنه إلا فى أمواج الدهشة والذهول التى تتدفق من عينيه ، وهو يرى لأول مرة مشهدا يجمع كل هذا الكم من المشاعر العجيبة والمتناقضة ، وكل هذه التصرفات التى فاقت سعة خياله ، وخيال أى إنسان .
- أنا متنازلة عن هذا البلاغ ياسيادة الضابط .
قالتها المرأة بعزم لايخلو من حزن دافئ وعميق .
أمسك الضابط بقلمه ليكتب بضعة أسطر ، ثم ناولها للسيدة الصغيرة لترسم بتوقيعها نهاية المشهد العصيب .
كتبت فى 4/3/2005، عن قصة حقيقية
لا أعلم صدق أي منهما جعلهما هما الاثنين تحديداً داخل هذا الامتحان أنهما بذاتيهما هما من تقابلا. ليس أحدهما ملائكياً والآخر إبليساً
ردحذف