في المقال السابق[1] تحدثنا عن أمير البحر "غلام زرافة" أحد أهم أبطال الإسلام في المعارك البحرية، وواحد من أهم الرجال الذين كان لهم الذكر والفضل في مواجهة الدولة البيزنطية في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدولة العباسية التي كان انشغالها بالمشكلات الداخلية حائلا دون أن تشارك بجيوشها الرسمية في القتال.
وقد ذكرنا أن غلام زرافة كان فتى مملوكا، وُلِد في أتاليا، ولكنه سبي في معركة مع المسلمين، فاستقر في طرابلس واعتنق الإسلام، ثم تدرب وتدرج وأبدى من المواهب والإمكانيات ما جعله أمير الحرب وقائد البحرية الإسلامية في ذلك الوقت، وهو صاحب كثير من المعارك والبطولات المؤثرة، إلا أن أهمها على الإطلاق كانت غزوته لمدينة سالونيك اليونانية..
***
في عام (291 هـ) هاجم الروم حدود البلاد الإسلامية على حين غفلة من أهلها بجيش كبير يقدر بمائة ألف، فتوغلوا وقتلوا وأسروا الكثير من المسلمين ومنهم كثير من النساء والأطفال، على أن الرد لم يتأخر كثيرا بل انطلق البحار الكبير غلام زرافة، وكان نائب ثغر طرسوس –وهي مركز الجهاد ضد البيزنطيين ذلك الوقت- بجيش كبير ففتح مدينة أنطالية (هي الآن أتاليا أو أداليا في تركيا على ساحل البحر المتوسط والتي تقع على الخليج المعروف باسمها) وكان فتحا هائلا عظيما مزلزلا، ومن العجيب أن قتلى الروم كانوا خمسة آلاف وأسراهم كانوا خمسة آلاف ومن أُنقِذ من أسرى المسلمين كانوا خمسة آلاف أيضا! وغنم ستين مركبا بما فيها من أموال ومتاع، وبلغ سهم المحارب الواحد من الغنائم في هذه الغزوة ألف دينار[2].
***
وعند هذا الحد توقفت الروايات الإسلامية، بينما فجرت الروايات البيزنطية مفاجأة أخرى، إذ أن الغزوة لم تتوقف عند أنطاليا، بل سارت في البحر المتوسط وتوغلت في بحر إيجه حتى هاجمت مدينة "تسالونيك" اليونانية التي هي ثاني أكبر مدينة في الامبراطورية البيزنطية بعد عاصمتها القسطنطينية، فسكانها بلغوا نحو ربع المليون نسمة، وهي ثغر تجاري مهم[3]، ولم تذكر الروايات العربية شيئا عن تسالونيك اللهم إلا المسعودي[4]، وذلك لأن المسعودي –كما يذكر د. عمر عبد السلام تدمري- قام بجولة في البحر المتوسط والتقى عددا من البحارة والمجاهدين في الثغور الشامية.
***
انتقل غلام زرافة بسفنه، مع مائتي بحار بخلاف القادة، وانضم إلى الحملة المتطوعون المسلمون من غزاة البحر، ومن ثغر صور، بل ومن مصر والشمال الإفريقي أيضا، ودفعت المفاجأة وعدم الاستعداد للمواجهة أسطول البيزنطيين إلى التراجع والانسحاب أمام أسطول غلام زرافة، الذي وجد الطريق سالكا دون مقاومة، فهاجم مدينة أبيدوس –الميناء الرئيسي للسفن المتجهة إلى القسطنطينية- وبعدئذ عاد لترتيب استعدادته وتنظيم قواته وأسلحته إلى جزيرة ثاسوس، ثم اتجه إلى تسالونيك!
وكانت تسالونيك محاطة بسور ضخم، بنيت خلفه حصون على تلال ومرتفعات، فكان ذلك يوفر لها حماية قوية، لكنها في ذلك الوقت كان في حالة من الإهمال، وافتقدت إلى حامية قوية للقيام بدور الحراسة، فزاد هذا من حالة الارتباك البيزنطي، وصار الامبراطور يدفع بعدد من القادة لمواجهة الأمر، فكانوا يضطربون ويلغي كل قائد خطة سلفه، فقد أيقن القائد بتروناس أن الوقت قد فات لإصلاح حال السور والأبراج الدفاعية، فكانت خطته ردم ما استطاع من البحر المواجه للأسوار بحيث يمنع اقتراب السفن من الأسوار، فتكون المعركة دفاعية من خلال رمي المهاجمين باللهب من بعيد، لكن ليو –القائد الثاني- لم ير هذا مفيدا فأوقف العمل فيه وبدأ في رفع الأسوار من جديد، وكان العمل يجري فيه ببطء لا يناسب الموقف المتدهور، كما أن الروايات البيزنطية تندد بسلوك أهل المدينة الذين تعلقوا بالخرافة وكان لديهم إيمان بأن القديس سوف يحميهم بكراماته وكانوا على يقين بأن المدينة لا تسقط أمام غير المسيحيين، وقد أدى هذا بالقائد الثالث نيكيتاس الذي قدم حديثا إلى أن يحاول الاستعانة بفرق الصقالبة الموالين للدولة البيزنطية، ولكن فرق المرتزقة إذ علموا بتدهور الأوضاع طلبوا أموالا وأجورا طائلة، فتعطلت خطة نيكيتاس ولم يعد أمامه إلا الدفاع الذاتي عن المدينة. ولم يُفِق أهل المدينة من خرافاتهم إلا حين رأوا سفن الأسطول الإسلامي تظهر في الأفق، فسرت حالة الرعب والارتباك والهلع داخل المدينة.
كانت خطة غلام زرافة تعتمد على استطلاع الدفاعات ووسائل الحرب داخل المدينة، فكانت الأيام الأولى محاولات البحث عن ثغرة، فجرت محاولة لاقتحام إحدى البوابات الأربعة وحرقها، ولكن قوة الدفاع الذي انهال باللهب والحجارة والسهام على المهاجمين جعل المحاولة الأولى غير ناجحة.
في اليوم التالي كانت الخطة مختلفة؛ تم تحديد بوابتين لكي يُشن عليهما هجوم سريع في ذات الوقت، والهدف إحراقهما لكي ينفتح الطريق إلى داخل المدينة، فأعدت عربات مملوءة خشبا ومشحونة بالمواد سريعة الاشتعال، ثم استخدمت مراكب صيد خشبية لتغطية هذه العربات من أعلى كحماية لها وللمهاجمين أثناء دفعهما حتى توصيلهما إلى الأبواب كي لا يتمكن الروم من حرقها أو إصابة المهاجمين قبل الوصول إلى الهدف، وبالفعل، تمت الخطة بنجاح، واندفع المهاجمون في وقت واحد وتحت حماية المراكب المقلوبة فأوصلوا العربات المنشودة إلى الأبواب ثم أشعلوا فيها النيران، وعادوا بسرعة إلى صفوف الجيش بعيدا عن مرامي الروم.. لم يمر وقت كثير حتى اشتعلت البوابات وانصهرت الرتاجات، وانهارت البوابتان.. ولكن وُجد خلفهما تحصينات حجرية، مما أفشل الخطة أيضا!
لم يعد من طريق إلا اقتحام السور، وكان لابد من فكرة مبتكرة لتنفيذ هذا الاقتحام.. وقد كان!
طوال الليل انشغل الجيش الإسلامي في صناعة أبراج خشبية عالية تفوق ارتفاع النقاط المتهدمة من الأسوار، وتم تحديد نقاط الاقتحام، ولمزيد من تعلية الأبراج تم ربط سفينتين ببعضهما ليشكلا قاعدة أوسع يعتمد عليها البرج الخشبي، ومع بزوغ الفجر كانت الأبراج العالية قد بنيت، وأقيمت فوق السفينتان المربوطتان، وقد استعد المهاجمون فشُحِنوا في هذه الأبراج.. واستيقظ الروم على أبراج جديدة بزغت لهم فجأة!
اندفع المهاجمون بكل ما لديهم من قوة نحو نقاط السور المقصودة، يرمون المدافعين بكل وسيلة، لا سيما وقد صنعوا في الأبراج ما يشبه مدفعا ناريا.. أنبوبا نحاسيا تقذف فيه مواد اللهب والسوائل المشتعلة، فتخرج من الأنبوب نحو المدافعين وكأنها مدفع ناري كبير..
وإزاء ما نزل بالمدافعين من مفاجأة صاعقة، فكرة مبتكرة، وهجوم غير متوقع، انهارت دفاعات الروم، وولوا الأدبار بعد معركة ليست بالطويلة.. واندفع المسلمون يقتحمون المدينة، ويطاردون عدوهم، وكان هذا هو الاقتحام الأول لهذه المدينة البيزنطية العنيدة!
وكالعادة في مثل هذه المعارك، كان الشغل الشاغل للجيش بعد الانتصار، تحطيم القدرات الحربية للمدينة، وجمع ما أمكن من الغنائم والأموال والأسرى، فأما الأموال فلدعم الجيش وللاستفادة القصوى من النصر ولتعويض نفقات الحملة وتكاليفها، وأما الأسرى فلمبادلتهم مع الأسرى المسلمين في سجون الروم (وكانت عمليات تبادل الأسرى تجري بشكل شبه سنوي في ذلك الوقت بين الدولة الإسلامية والامبراطورية الرومية)، وقد تم هذا بأقصى ما يستطاع، حتى أن الرواية البيزنطية تذكر أن الأسرى كانوا عُشر سكان المدينة، وأنهم بلغوا 22 ألفا!
وبغض النظر عن دقة العدد، فالمؤكد أن العدد كان كبيرا إلى الحد الذي ابتعد فيه الأسطول الإسلامي العائد إلى الشام عن الاقتراب من السواحل والجزر الرومية فلم يكن يستطيع أن يحارب حامية وهو محمل بهذا العدد الكبير من الأسرى!
لكن أهم ما ظفر به غلام زرافة في هذه المعركة هو سر السلاح البيزنطي الذي أفشل كثيرا من محاولات المسلمين لفتح القسطنطينية، وهو "النار البيزنطية" والتي كانت فعالة في صد الهجوم الإسلامي على المدن البيزنطية، فكان امتلاك سر هذا السلاح تفوقا جديدا في الميدان الحربي ظفر به المسلمون على يد بطلهم غلام زرافة.
***
هبت عاصفة قوية في البحر المتوسط شطرت إحدى السفن التي تحمل طاقم البحارة القليل من المسلمين، وأكثرها أسرى من الروم، وفيم كان أسهل شيء في مثل هذه الظروف أن يهتم القائد بطاقم البحارة تاركا هؤلاء الأسرى للبحر، إلا أن الإسلام الذي تشربه غلام زرافة لم يسمح له بمثل هذا، بل قام بمناورة بحرية قاوم فيها الأمواج والعاصفة لينقذ السفينة المنكوبة، طاقهما وأسراها، وهذا ما شهد به القائدان المأسوان ليو ونيكيتاس، وسجله المؤرخ البيزنطي كامنياتس الذي تعد روايته هي الرواية المفصلة الوحيدة عن هذه المعركة![5]
وصل الأسطول الإسلامي ظافرا إلى الشام، بعد فتح كبير هائل، غير متوقع بكل تأكيد!!
***
من المؤسف أن المسيرة لم تكتمل كما هو متوقع بعد وفاة غلام زرافة، ورغم أن الدولة البيزنطية نفسها كانت قد دخلت في خلافات وحروب مع البلغار، فحين "انتقل العرش إلى الامبراطوري قسطنطين السابع بورفير وجينيتوس (913 – 919 م) ثم رومانوس الأول ليكابينوس (919 – 944 م) الذي حكم لفترة طويلة لم تستطع بيزنطة أن تقوم بعمل عسكري فعال ضد العرب لأن جيوشها كانت مشغولة في الحروب مع البلغار، ولم يستطع العرب المسلمون بالمقابل أن يستغلوا فرصة انشغال الجيوش البيزنطية في الجبهة البلغارية ليقوموا بعمل عسكري يحقق لهم نصرا على بيزنطة لأن الدولة العباسية كانت في هذه الفترة من تاريخها تمر بفترة ضعف شديد وتنفصل عنها أقاليم تقوم فيها دويلات مستقلة"[6].
لقد فاجأت المسلمين دواهي أخرى، ظهر الشيعة القرامطة في الشام فشغلوا الدولة العباسية وكانوا ضربة قوية للدولة الطولونية (التي كانت تتولى شأن الجهاد في ذلك الوقت) .. ثم مات الخليفة المكتفي، وخلفه المقتدر الذي كان عهده انتكاسة للدولة العباسية بعدما بدا أنها ستستعيد أمجادها من جديد..
وما زالت ذاكرة البطولات زاخرة..
[1] راجع مقال: أمير البحر غلام زرافة
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1415 هـ. 6/423.
[3] الاضطراب في الروايات الإسلامية نابع من أمرين:
الأول، هو أن بعض الكتب ذكرت "أنطاكية" بدلا من "أنطالية" والثانية هي الصحيحة، وقد فات تصحيح هذا الخطأ أو التصحيف على كثير من المحققين، ولكنه لم يفت من كبارهم مثل: د. عمر عبد السلام تدمري في تحقيقه لتاريخ الإسلام للذهبي، وكذا د. بشار عواد معروف في تحقيقه لنفس الكتاب، وكذا محمد الأرناؤوط في تحقيقه لشذرات الذهب.
والثاني، أن الرواية العربية تذكر أن أنطاليا كانت ثاني أعظم مدينة عند الروم بعد القسطنطينية، وهذا لا يتفق مع أنطاليا بل يتفق أكثر مع سالونيك اليونانية التي ينطبق عليها هذا الوصف، وهو ما أثبتته التواريخ البيزنطية، وأكده المؤرخان محمد عبد الله عنان (مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ص93 وما بعدها)، ود. عمر عبد السلام تدمري (لبنان.. من قيام الدولة العباسية وحتى سقوط الدولة الإخشيدية، جروس برس، طرابلس، لبنان، الطبعة الأولى 1412 هـ = 1992 م. ص99 وما بعدها)، ود. سهيل زكار (الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية، دمشق، 1415 هـ = 1995 م. 3/216، 217).
[4] يسميها "سالونيكة في التنبيه والإشراف"، ويسميها "سلوقية" في مروج الذهب، وهو تصحيف. انظر: المسعودي: التنبيه والإشراف، تحقيق: عبد الله إسماعيل الصاوي، دار الصاوي، القاهرة. ص153، ومروج الذهب: تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1393 هـ = 1973 م. ص320.
[5] تفاصيل المعركة نقلها مختصرة الأستاذ عنان في كتابه "مواقف حاسمة"، ثم نثلها د. عمر عبد السلام تدمري بالتفصيل، وكلاهما ينقل عن المؤرخ جورج فينلاي من كتابه (تاريخ الامبراطورية البيزنطية) (Georgr Finaly: History of the Byzantine Empire) وهو من نقلها إلى الإنجليزية من اليونانية التي كتبها به المؤرخ شاهد العيان كامنياتس.. وهذا الكتاب –كتاب قينلاي- متوفر منه نسخة مصورة مجانية على موقع "كتب جوجل" (books.google.com)
[6] د. سهيل زكار: الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية 3/217، 218.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق