انتهى عهد العباسيين الأقوياء بموت المتوكل على الله، وابتدأ عصر السيطرة العسكرية التركية على الدولة العباسية التي دخلت به في حالة من الضعف، اللهم إلا فترة الخلفاء: المعتمد (وكانت القوة الفعلية والحكم الحقيقي بيد أخيه أبي طلحة الموفق بالله)، والمعتضد، والمكتفي.. ففي تلك الفترة عاد للدولة بعض من قوتها الذاهبة، وعلى رغم الإنجازات الهائلة التي قدمها أولئك الخلفاء إلا أن ميراث الضعف الذي ورثوه جعل جل جهدهم في إصلاح الضعف وإخماد الفتن وإعادة بسط نفوذ الخلافة، فلم تبلغ الدولة ما كان لها في عهد العباسيين الأقوياء الأوائل.
وإذا اقتصرنا على مشهد العلاقات بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية، سنجد أن الثلث الأخير من القرن الثالث الهجري كان واحدا من أحرج وأصعب الفترات في العلاقة بين الدولة الإسلامية والامبراطورية البيزنطية، حيث "كانت الظروف مواتية زمن هذا الامبراطور (باسيل الأول) لتحقيق نصر في هذا الميدان (الحروب الإسلامية البيزنطية) لأن علاقات الامبراطور كانت حسنة مع: أرمينيا في الشرق، ومع الروس والبلغار في الشمال، ومع البندقية والامبراطورية الفرنجية في الغرب، وإذا أضفنا إلى هذا الجو من الصداقة والود مع هذه الأقوام، ظروف الخلافة العباسية الداخلية وما كانت تعيشه من أزمات إبان تسلط ضباط القصر الأتراك على الخلفاء وانفصال مصر عن جسد الخلافة زمن الطولونيين، واضطراب الأوضاع في الغرب الإسلامي لوجدنا أن باسيل كان يتمتع بفرصة ذهبية لتحقيق نصر على المشرق والمغرب، ولكن على الرغم من كل هذه الظروف المواتية، وبرغم أن الحرب بين الطرفين العربي والبيزنطي لم تتوقف لم تستطع الإمبراطورية تحقيق نصر في هذه الجبهة"[1].
وكان هذا من فضل الله تعالى، ثم بفضل الأبطال الذين جاهدوا في الثغور وتحملوا عبء صد الهجمات البيزنطية بل ومهاجمتها في عقر دارها أكثر من مرة، فحفظوا ثغور الإسلام وحدوده في لحظات عصيبة.
من هؤلاء الأبطال، صاحبنا "غُلام زرافة"..
***
البحث التاريخي في شخصية غلام زرافة وأهم معاركه يعود فيه الفضل لاثنين من المؤرخين، لا أعلم غيرهما تناول هذا الموضوع، أولها: المؤرخ الكبير محمد عبد الله عنان في كتابه "مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام"[2]، وثانيهما: المؤرخ المحقق د. عمر عبد السلام تدمري في كتابه "لبنان.. من قيام الدولة العباسية حتى سىقوط الدولة الإخشيدية"[3]، فأما الأستاذ عنان فهو الذي ربط بعد جهد بين اسم بطلنا في الرواية العربية الفقيرة في الحديث عنه، وبين اسمه في الروايات البيزنطية التي تفيض بما فعل، وأما الدكتور عمر فقد سدَّ الخلل الذي تركه الأستاذ عنان فنقب في الكتب العربية بين الشذرات والسطور عن أصله ونسبه ونشأته.
ونحن في هذه السطور القادمة عيال على مجهودهما!
ومن المؤسف حقا أن رجلا بحجم ومكانة وإنجاز "غلام زرافة" لم يأخذ حقه من المعرفة والمناقشة، رغم أنه –بوصف محمد عبد الله عنان- "أعظم بحار في ذلك العصر، وأعظم بحار مسلم على الإطلاق"، وهو –بوصف المؤرخ جورج فينلاي– "الأبعد أثرا والأكثر جرأة ومهارة بين أمراء البحر المسلمين"[4]، وهو "البطل المشهور" بوصف تاريخ كمبرديج للعصور الوسطى.
***
هو في الرواية البيزنطية باسم "ليو الطرابلسي" (Leo of Tripolis)، وفي الروايات الإسلامية "لاوي" و"لاون" و"لاو" و"الزرافي مولى المقتدر العباسي" و"لاوي الطرابلسي" و"لاوي الزرافي"، غير أن اسمه الأشهر هو غلام زرافة، وذلك أنه كان مملوكا لزرافة حاجب الخليفة المتوكل، والذي ظل في سامراء (عاصمة الخلافة في ذلك الوقت) حتى اضطربت الأحوال بالصراعات بين الأتراك وثورة العامة عليهم حتى خرج أكثر من أمير إلى خارج العاصمة، فكان زرافة ممن خرج إلى طرابلس الشام.
في ذلك الوقت كان طفل آخر قد وُلِد في مدينة أنطالية (أتاليا) على الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى البيزنطية (تركيا الآن)، وفي واحدة من المعارك البحرية بين الأسطول الإسلامي والبيزنطي التي كان البحر المتوسط مسرحا لها، وقع الغلام أسيرا لدى المسلمين، واستقر به الحال في طرابلس (بين عامي 249 – 252 هـ / 863 – 866 م)، عند أميرها زرافة الذي اتخذه لنفسه، وبهذا صار "غلام زرافة"، وأضاف رقما جديدا إلى سجل لا يعد ولا يحصى من أبطال الإسلام ممن كانوا سبايا وأسرى في صغرهم، ثم نشأوا في المجتمع الإسلامي، فاعتنقوا الإسلام ثم جاهدوا في سبيله وصاروا أعلامه ورجاله.
ويذكر الكندي –مؤرخ مصر، وصاحب كتاب "الولاة والقضاة"- اسما آخر لصاحبنا غلام زرافة، فيسميه "رشيق الوردامي"، وهو ما يُفسره د. عمر عبد السلام بأنه دليل على رشاقته، وعلى لون بشرته "الوردي الدامي" التي تدل على أصوله اليونانية.
في ذلك الوقت لم يكن أحد من أهل مدينة أنطالية البيزنطية يتخيل أن المسلمين قد ظفروا بفتى سيكون بطل أكبر غزوة إسلامية تفتح هذه المدينة البيزنطية، بعد حوالي أربعين سنة!
***
كانت طرابلس المدينة الشامية الباسلة، إحدى ثغور الإسلام على البحر، وواحدة من أهم مراكز الجهاد البحري، فكثر فيها البحارة، وكان ميناؤها حافلا بالسفن الحربية، فكان يظللها جو الجهاد.. وهناك نشأ غلام زرافة وترعرع، وتعلم الجهاد والبحر، ووجد من المعلمين من أعده ودربه إعدادا حسنا، كما وجد من المجاهدين الكبار من ملأ عليه خياله وطموحه، فأرض الجهاد حافلة بالسير والبطولات وروائع القصص التي تسحر خيال الفتية والشباب! وفي ذلك الوقت كان العهد قريب بعدد من الأبطال العظام في تاريخ المعارك الإسلامية مثل عمرو بن عبيد الله الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني، ويازمان الخادم الذي وصفه المسعودي بقوله "كان يازمان في نهاية البلاغة في الجهاد في البر والبحر، وكان معه رجال من البحريين لم ير مثلهم ولا أشد منهم، وكان له في العدو نكاية عظيمة، وكان العدو يهابه وتفزغ منه النصرانية في حصونها، ولم يُرَ في الثغور الشامية والجزَرِية -بعد عمرو بن عبيد اللّه بن مروان الأقْطَع صاحب ملطية، وعلي بن يحيى الأرمني صاحب الثغور الشامية- أشد إقداماً على الروم من يازمان الخادم"[5].
وقد أبدى غلام زرافة من المواهب والإمكانيات والاستعداد، ما صار به أميرا على طرابلس، وقائدا للجهاد المنطلق منها، وظهرت كنيته "أبو الحرب"!
وبطول الجهاد في البحر أمسى غلام زرافة خبيرا بجغرافية البحر المتوسط، يستفاد هذا مما ذكره المؤرخ والرحالة المسعودي في قوله: "شاهدت أرباب المراكب في البحر الرومي من الحربية والعمالة وهم النواتي وأصحاب الرحل والرؤساء ومن يلي تدبير المراكب والحرب فيهم، مثل لاوي المكنى بأبي الحرب غلام زرافة صاحب طرابلس الشام من ساحل دمشق، وذلك بعد الثلثمائة يُعَظِّمون طول البحر الرومي وعرضه، وكثرة خلجانه وتشعبه"[6].
وورد عن غلام زرافة ما يفيد إيمانه وغيرته على الإسلام حتى لقد عاقب رجلا بلغه انحرافه عن الإسلام، وتلبسه ببدعة، حتى لقد رفع الرجل إلى ابن غلام زرافة شعرا يقول فيه:
لئن كنت ظلما قد رُميت ببدعة ... وعضضتني ناب حديد من الدهر
فإني على دين النبي محمد ... وصاحبه في الغار أعني أبا بكر[7]
وقد عاش غلام زرافة حياته في طرابلس، فيها نشأ وترعرع وتعلم، ثم جاهد وغزا، تزوج وأنجب، وكانت له ذرية من أهل العلم والفضل والأدب، فابنه محمد كان فاضلا أديبا وذكره ابن عساكر في ترجمة دمشق، وحفيده محمد بن عبد الصمد كان من أهل الحديث وعنه أخذ الحافظ محمد بن علي الصوري وعبد الرحيم بن أحمد البخاري، وهذا الحفيد كان ابنه عبد الصمد أيضا من المحدثين في بيروت ودمشق، وابنه عبد السلام من المحدثين في مصر، وتولى عدد من هذه الأسرة مناصب رفيعة ورويت أشعار في الرثاء والمدح لبعضهم.
***
ظل غلام زرافة يجول في البحر المتوسط، قائدا للبحرية الإسلامية، ويغزو الثغور البيزنطية، لا سيما مسقط رأسه أتاليا، وهو ما سنعرض إليه في المقال القادم إن شاء الله تعالى، حتى رماه بابادوبولس بأنه "الطرابلسي اليوناني العاصي"، ووصفه المستشرق أوستروغورسكي والمؤرخ جورج فينلاي بالمرتد، وهو الوصف الذي يشيع عنه في الكتابات الغربية[8].
وكعادة الكثيرين من القادة العِظام، لم يفلتوا من هزيمة قاسية، تلقى غلام زرافة هذه الهزيمة بشكل مفاجئ في عام (313 هـ / 924 م) أمام شواطئ اليونان وفي مقابل الأسطول البيزنطي الذي قاده الامبراطور رومانوس بنفسه، وفاجأه بالهجوم عند جزيرة لمنوس، في كمين خسر فيه غلام زرافة الكثير من بحارته، وتختلف الروايات بين نجاته بأعجوبة من هذه المعركة، أو بين مقتله، والرواية البيزنطية تميل إلى مقتله بالطبع، فيما يرجح د. عمر عبد السلام تدمري أنه نجا من المعركة، ولا نعرف عن هذه المعركة معلومات وافية.
***
في المقال القادم بإذن الله سنتكلم عن جهاد غلام زرافة وغزواته البحرية التي أقضت مضاجع الروم، وأهمها غزوته الكبرى الشهيرة لسالونيك اليونانية.
[1] د. سهيل زكار: الموسوعة الشاملة في الحروب الصليبية، دمشق، 1415 هـ = 1995 م. 3/214، 215.
[2] محمد عبد الله عنان: مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام، الناشر: حسين عنان، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1417 هـ = 1997 م. ص93 وما بعدها.
[3] د. عمر عبد السلام تدمري: لبنان.. من قيام الدولة العباسية حتى سقوط الدولة الإخشيدية (132 – 358 هـ / 750 – 969 م)، جروس برس، طرابلس، لبنان، الطبعة الأولى 1412 هـ = 1992 م. ص81 وما بعدها.
[4] Georgr Finaly: History of the Byzantine Empire, William Blackwood and sons, Edinburdh, p317.
[5] المسعودي: مروج الذهب، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1393 هـ = 1973 م. 2/582، 583.
[6] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر. 1/129.
[7] ابن عساكر: تاريخ دمشق، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1419 هـ = 1998 م. 13/331.
[8] د. عمر عبد السلام تدمري: لبنان منذ قيام الدولة العباسية حتى سقوط الدولة الإخشيدية ص85.
وانظر أيضا، تاريخ كمبردج للعصور الوسطى، و:
Georgr Finaly: History of the Byzantine Empire, p318.
(http://en.wikipedia.org/wiki/Leo_of_Tripoli)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق