في المقالين السابقين[1] رأينا كيف تضعضعت الدولة الأموية، لقد أنهكتها انقسامات البيت الأموي والثورات المتكاثرة في الغرب والشرق والجنوب، وما إن بدا أن الأمويين استطاعوا القضاء على ثورات الخوارج الخطيرة في العراق حتى ظهرت في خراسان[2] الثورة العباسية التي لم يكن لأحد أن يتوقع أنها الثورة القاضية والضربة الأخيرة للدولة الأموية.
ورغم أن الدولة الأموية رمت بأبطالها الكبار لمواجهة هذه العاصفة القادمة من الشرق والتي يقودها قحطبة بن شبيب الطائي، إلا أن النصر كان من نصيب العباسيين دائما على قلة عددهم وعتادهم.
ورغم أنها استطاعت اعتقال الإمام إبراهيم قائد الدعوة العباسية من الشام إلا أن الوقت كان قد فات، وكان اعتقاله ثم قتله غير مؤثر في مجرى الأحداث التي تصب في صالح العباسيين.
ورغم أن الخليفة الأموي مروان بن محمد وواليه على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة كلاهما من رجال الحرب الأكفاء إلا أن الارتباك واضطراب العلاقة بينهما مع توالي الهزائم كان مانعا من مواجهة محترفة سليمة للتقدم العباسي، كذلك فإن استهانة القادة الأمويين العسكريين الكبار بشأن العباسيين جعل الهزائم تنزل بهم أسرع مما يتوقع!
وسنتوقف في هذا المقال عند معركة دالة في المسيرة العباسية والأموية، ثم سنستعرض المعركة الأخيرة في المقال القادم بإذن الله تعالى.
***
سقوط جلولاء
جهز يزيد بن هبيرة جيشه من أهل الشام، ونزل به في مدينة جلولاء، وبنى خندقا حولها وخزن الأسلحة والأطعمة استعدادا لحرب طويلة، وكان قراره هذا بناء على ما وصلت إليه جيوشه من الحالة المعنوية المتدهورة، فكان تقديره أنه إذا تحصن داخل المدينة بحيث تطول الحرب، فإن هذا سيكسر هيبة الهاشميين في نفوس جنوده، كما سيكسر اندفاعة جيشهم فيؤثر في معنوياتهم. إلا أن قراره هذا واجه بعض الاعتراضات من أهمها ما قاله واحد من قواده وهو الحوثرة بن سهيل: إنما يُخَنْدِق الرجل إذا كان ما وراءه وما حواليه في يده، وأنت قد فسد عليك من على يمينك وشمالك وتحت قدمك، وقد طمع فيك عدوك، والرأي لك المناجزة، فإما لك وإما عليك، وهو ما اتفق معه غالب من كان في جيش ابن هبيرة، إلا أنه أصر على قراره هذا.
وكان رأي الحوثرة نفيسا بالفعل، وكان عدم الأخذ به من أسباب مزيد من التدهور في العراق، وذلك لأن أهل العراق لم يكونوا سندا ولا ظهرا للأمويين، وهو ما سيستفيد منه العباسيون.
لم يكن قحطبة على دراية كاملة بالوضع في العراق، فاتخذ قراره بالتوجه إلى حرب ابن هبيرة في جلولاء، لكن رسالة وصلت من أبي سلمة الخلال (كبير دعاة العباسيين والمقيم سرا في الكوفة)، جعلته يعدل عن هذا القرار. أرسل إليه أبو سلمة بألا يحاول لقاء ابن هبيرة، بل أن يتجنبه ويتوجه مباشرة إلى الكوفة، لأن أهل الكوفة مستعدون للانضمام إلى هذه الدعوة، وعليه فينبغي أن يسرع ما استطاع في كسب الأراضي، وبالتالي كسب الأقوام وازدياد أعداد الجيوش العباسية. وكان أيضا خبر اعتقال الإمام إبراهيم.
وهنا تغيرت خطة قحطبة من حصار جلولاء –حيث جيش ابن هبيرة- إلى الاندفاع نحو العراق، ولكنه أشاع أنه سيسير إلى جلولاء زيادة في خداع ابن هبيرة، وبالفعل لم يشعر ابن هبيرة بالخديعة إلا حين أتته الأخبار بتحرك جيش قحطبة نحو المدائن، فانسحب انسحابا سريعا نحو "الدسكرة" تاركا خلفه في جلولاء كثيرا من الغنائم والذخائر، وما إن علم قحطبة بهذا الانسحاب حتى رجع إلى جلولاء فدخلها وأخذ ما بقي فيها من غنائم وذخائر وأحرق ما لم يستطع أن يأخذه معه، وحاول أن ينفذ عملية مطاردة لفلول جيش ابن هبيرة المنسحب إلا أن الجيش المنسحب كان قد ابتعد بالفعل.
وبهذا تكون الخطة الفاشلة لابن هبيرة قد أنفقت الوقت والجهد والأموال في عملية فاشلة تماما، كان سيدها سوء التقدير وعدم الاستماع للنصيحة.. كما أن جهد أبي سلمة الخلال ورسائله التي تصل في الوقت المناسب كانت ذات الفضل الأكبر في تغير خطة قحطبة التي انتهت إلى دخول جلولاء بأيسر مما كان أحد يتوقع، بل وأن يغنم ما خلفه جيش الأمويين أثناء انسحابه المتعجل.
ثم أشاع قحطبة أنه متوجه إلى المدائن، وعلى هذا استعد ابن هبيرة، حتى جاءته الأخبار بوجهة قحطبة الحقيقية وهي الكوفة، حتى التقى الجيشان أخيرا –بعد مراوغات ومعارك محدودة لسرايا جيش قحطبة- في منطقة غرب الفرات (5 المحرم 132 هـ).
الكوفة تلبس السواد
للأسف الشديد لم تُكْتَب مصادرٌ تكشف دور أبي سلمة الخلال المحوري والمركزي والشديد الأهمية في صناعة الثورة ثم الدولة العباسية، أو لعلها كُتِبَت ولم تصل إلينا ضمن ما ضاع من تراثنا المفقود، إلا أن أبا سلمة لا يظهر كثيرا في المصادر التي بين أيدينا، وحتى ظهوره القليل هذا كان دائما ظهورا فارقا وحاسما ومتسببا في تأثيرات قوية في لحظات شديدة الحرج.
بدا هذا في إدارته لأمر المعارك بالتواصل مع قحطبة قائد الجيش الآتي من خراسان، وهي الإدارة التي نجحت ببراعة في كسب الأرض والمعارك والمدن والأنصار دون خسائر تذكر، غير أن ثمة معركة أخرى لا يكاد يُلتَفَت إليها كان يديرها أبو سلمة داخل الكوفة مع العشائر والزعماء وأنصار آل البيت، وإليك واحدة من أهم هذه التحركات:
لما عبر قحطبة نهر الفرات، وصار في أرض العراق، أرسل أبو سلمة الخلال إلى زعيم اليمانية في الكوفة محمد بن خالد القسري رسولا يقول له: قد كنت تتمنى هذا اليوم، فقد بلغته، فأظهر السواد، واخرج في مواليك وعشيرتك وصنائع أبيك[3]، فبعث إلى مواليه وقومه وجيرته وصنائع أبيه، فاجتمع إليه منهم نحو من ألف رجل، فأخبرهم برأيه وما أجمع عليه، وأمرهم ألا يبيتوا حتى يكونوا قد لبسوا السواد. ثم بعث أبو سلمة بمثل ذلك إلى زعيم آخر هو طلحة بن إسحاق بن محمد بن الأشعث الكندي فتأهب، ثم سَرَّب أبو سلمة إلى جماعة طلحة بن إسحاق أنصار العباسيين في الكوفة، ومن يتبعون رأي أبي سلمة من أهله وجيرانه، فساهم هؤلاء في دفع طلحة بن إسحاق وقومه إلى الخروج على نحو ما فعل محمد بن خالد القسري، وبهذا انقلب حال الكوفة إلى ولاء العباسيين في ذلك الوقت الحرج حتى إن صاحب الشرطة (وزير الداخلية) الأموي لم يجد إلا الهروب واللحاق بابن هبيرة في معسكره، ودخل محمد بن خالد القسري قصر الكوفة الذي صار خاليا، وتبعه في هذا طلحة بن إسحاق.
وصعد محمد بن خالد القسري منبر الجامع وخطب قائلا: "يا أهل الكوفة إن الله قد أكرمكم بهذه الدعوة المباركة، وقد طلبها الأبناء بعد الآباء، فَحُرِموها حتى ساقها الله إليكم، هذه جنود الحق قد أظلتكم، داخلة عليكم أحد اليومين، فقوموا فبايعوا"، فاستبق الناس إلى البيعة حتى كادوا يكسرون المنبر من التزاحم، وما تخلف عن البيعة إلا أناس قليل. وأشار أبو سلمة عليه بحيازة ما في بيت المال والخزائن فكان ما أشار به.
ثم أرسل أبو سلمة بكل ما فعل إلى قحطبة، وأمره أن يقرأ رسالته على الجنود، ولا شك في أن أثرها على قحطبة وعليهم لا يكاد يوصف.
إن أبا سلمة الخلال يستحق أن تفرد له دراسة تحلل هذه الموهبة في التخطيط والتنفيذ والإدارة.
وانتبه ابن هبيرة متأخرا لخطورة خلو الكوفة من الجند، لا سيما بعد أن صار قحطبة في غرب الفرات، فأرسل إليها الحوثرة بن سهيل كإجراء استباقي خوفا من أن يسبق إليها جيش قحطبة، إلا أن الحوثرة عندما وصل وجد الكوفة قد خرجت من سلطان ابن هبيرة وتولى أمرها محمد بن خالد القسري، فلم يستطع أن يدخلها.
وفوق ذلك ساهم خروج الحوثرة في ضعف الجيش الأموي الذي صار الآن في مواجهة جيش قحطبة عند الفرات، فكأنما كانت سيرة الأمويين وولاتهم في هذه الفترة سلسلة من الأخطاء القاسية!!
قائد مقتول وجيش منصور!
تواجه الجيشان بالقرب من "الفلوجة"، ولم يجر بينهما قتال كثير، كان قحطبة مشغولا بأن يجد مخاضة يمكن عبور الجيش منها إلى الضفة الأخرى حتى وجدها بإرشاد أعرابي خبير من أهل المكان، فاختبرها فوجدها كما قال الأعرابي صالحة لعبور الجيش، وفي هذه الأثناء كان جيش ابن هبيرة على الضفة الأخرى مفتقدا للتماسك إذ كثرت المسافات بين وحداته، فقيادته على المقدمة قد ابتعدت عن الساقة، فانتهز قحطبة هذا العيب ودفع بسرايا من جيشه عبرت المخاضة وقاتلت الجيش من خلفه واستطاعت إلحاق الهزيمة بمجموعة منه، وما إن انتهى هذا حتى كانت مؤخرة جيش الأمويين بقيادة محمد بن نباتة قد لحقت بموضع القتال فنشب قتالٌ جديد كانت اليد العليا فيه لمحمد بن نباتة الذي حاصر المجموعة العباسية حتى برغم ما أتاها من إمدادات أخرى. وفي هذه الأثناء كان رسول أبي سلمة الخلال قد وصل إلى أرض المعركة وبَشَّر الجيش بأن الكوفة قد دخلت في ولاء العباسيين فكان خبرا عظيما، ارتج له الجيش العباسي بالتكبير، فَكّبَّرت السرايا التي عبرت إلى الضفة الأخرى مما أوقع في نفوس الشاميين أكثر وأكثر وقالوا: قد أتاهم شيء سُرُّوا به، فمن هنا ظهرت الهزيمة في جيش الشام، ولم يأت الليل حتى كان قحطبة يعبر المخاضة بجيشه كله، ويحمل وراء كل فارس واحدا من الرَّجَّالة، ولم تكن معركة كبيرة ولكنه كان نصرا مؤثرا.
إلا أن المعركة أسفرت عن خبر مؤسف للعباسيين، إذ فقدوا قائدهم الكبير الذي قادهم من نصر إلى نصر، فخرج بهم من خراسان حتى دخل العراق وما بقيت له إلا خطوة إلى عاصمة العراق وعاصمة العباسيين "الكوفة"، وكان من المُرَجَّح أنه قد غرق (8 المحرم 132 هــ) فكان خبرا قاسيا نزل بالجيش العباسي، إلا أنهم تداركوا الأمر ولم يتركوا فرصة لدخول الضعف إليهم فاجتمعوا على تولية ابنه حميد على الجيش.
وهكذا انتصر الجيش رغم أن قائده قد قُتِل!!
وعلى الجانب الآخر، حاول ابن هبيرة أن يعيد تجمع الجيش فنصب خيمته وأوقد نارا على بعد فرسخ من المعركة حتى ينحاز إليها المنسحبون من الجيش، إلا أن المعنويات المنهارة حملت أكثر الناس على تركه، حتى اضطر أن يوقف مناديا يُنادي أنها خيمة الأمير ابن هبيرة، إلا أن هذا لم يصنع شيئا ذا فائدة، ولما قَدِم عليه القائد محمد بن نباتة –وهو قائد المؤخرة- كان الموقف واضحا بأن الأمر لم يعد يحتمل العسكرة في هذا المكان، وأشار عليه أن ينطلق إلى الكوفة، وهذا على أساس ظنهم بأن الكوفة ما زالت في سلطة الأمويين ويحكمها الحوثرة بن سهيل –الذي أرجعه ابن هبيرة إليها خشية انفلات جيش قحطبة- إلا أن أحد المستشارين واسمه طارق بن قدامة القشيري عارض الرأي على أساس أن خبر هزيمة الجيش يوشك أن يصل إلى الكوفة مما سيجعل الأمر صعبا، فمن ثم اتفقوا على الاعتصام بمدينة واسط.
ومدينة واسط هي إلى الغرب من الكوفة، والاعتصام بها يعني الخروج من المعركة وانتهاء دور هذا الجيش من هذه المهمة في مواجهة العباسيين.
كان يمكن لابن هبيرة أن ينسحب بالجيش وينضم للجيش الرئيسي الذي يقوده مروان بن محمد، وقد قال له يحيى بن حضين أنه لا شيء تفعله لمروان أحب إليه وأثمن عنده من أن تنضاف إليه هذه الجنود ولكن العلاقة المتوترة بين ابن هبيرة ومروان بن محمد جعلت ابن هبيرة يخشى من مروان ويفضل الانسحاب إلى واسط رغم أنها لا تعد مكانا جيدا عسكريا بل هي بؤرة حصار، ولكن لعله كان يأمل في الصمود حتى ينتصر جيش مروان على جيش قحطبة.
ثم وصلتهم الأنباء بعدئذ بخروج الكوفة من سلطة الأمويين فما كان من هذه الأخبار إلا أن ساهمت في تفرق الجيش الشامي عن ابن هبيرة، فمنهم من انحاز إلى العباسيين ومنهم من ترك الجيش الشامي إلى وجهة أخرى ومنهم من اتجه إلى الشام، ثم أرسل ابن هبيرة إلى مروان بن محمد رسالة بما قد كان من الهزائم وانسحاب الناس عنه وسيطرة العباسيين على الكوفة، ويبرر فيها مقامه بمدينة واسط بأنه بهذا يمثل خطا متقدما للجيش الأموي في الغرب حين يأتي الجيش الأموي من الشام ويستخلص الكوفة من الهاشميين، وهي الرسالة التي أثارت غضب مروان بن محمد لا سيما من أن الجيش المنصور قد قُتِل قائده بينما نجا قائد الجيش المنهزم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق