الاثنين، أكتوبر 03، 2005

سفالات الشخصية الأمريكية -3

عرض الدكتور محمد سليم العوا فى 3 مقالات بجريدة الأسبوع ، بداية من العدد 381

_________( 1 )_____________________

جرائم غربية
د. محمد سليم العوا
أصدرت مكتبة الشروق الدولية هذا العام كتابا بالغ الأهمية للأستاذة عايدة العزب موسي عنوانه: 'العبودية في إفريقيا والتاريخ المفقود'.
والذين يهتمون بالعلاقات مع الغرب، وبتاريخ هذه العلاقات في بلادنا وأراضينا، والذين يقرءون ما تكتبه الصحافة الغربية، ويشاهدون ويسمعون ما يبثه الإعلام الغربي عن الانسانية وحقوقها، وعن التمدن الذي صدرته أوروبا إلي العالم، وعن الحضارة المستندة إلي احترام القانون دون نظر إلي الذين يطبق عليهم... المعنيون بهذا كله عليهم أن يقرءوا كتاب العبودية في إفريقيا ليقفوا علي حقائق هذه المدنية، ومسلك تلك الحضارة الذي لم أجد وصفا مهذبا له أكثر من وصفه الذي جعلته عنوانا لهذا المقال.
الجريمة الكبري التي كشفتها لنا عايدة العزب هي أن أسوأ ما فعله 'الاستعمار بإفريقيا هو طمسه لتاريخها وحضاراتها القديمة: ليصمها بأنها قارة متخلفة... وبشكل منظم ومدروس أجمع المستعمرون علي اختلاف جنسياتهم علي اتهام إفريقيا بأنها قارة بلا حضارة، مجرد جماعات من الهمج المتوحشين يأكلون لحوم البشر'. وتعلق الكاتبة علي هذا الاتهام الأخير بسؤال عمن كان الأفارقة يأكلون لحومهم؟ أكانوا يأكلون لحوم بعضهم بعضا؟ أم كانوا يأكلون لحوم البيض الغزاة؟!!
والواقع الذي يكشفه الكتاب، بل الذي حرصت مؤلفته أن تثبته في أول صفحة من مقدمته أن إفريقيا استعمرت بالقوة والإكراه تحت ضغوط لم يكن لأهلها وزعمائها الوطنيين قًبîلى بمقاومتها، وأجبر هؤلاء الزعماء علي توقيع أوراق ابتزاز سماها الأوروبيون 'معاهدات' لأنهم يحترمون القانون وهي أوراق تدين الأوروبيين المستعمرين وتشينهم ولاتدين الأفارقة ولا تشينهم. ويكفي أن نعرف اليوم أن هذه المعاهدات كانت تنص ونصوصها كتبها الأوروبيون طبعا علي أن 'تبقي هذه المعاهدة سارية إلي أن يبيد التراب ويشيب الغراب'!!
وقد وصف أحد زعماء القبائل التي كانت تسكن فيما يعرف الآن باسم (زيمبابوي) كيف استعمرت أرض آبائه فقال: 'أرأيت كيف تقبض الحرباء علي الذبابة؟ إنها تزحف خلفها حتي إذا اقتربت منها كفت عن الزحف والتنفس فترة، ثم تستأنف زحفها بطيئا تقدم رجلا أولا ثم أخري بعد حين، وعندما تكاد تلامس الذبابة تنقض عليها بلسانها وتختفي الذبابة.. إن انجلترا هي الحرباء وأنا الذبابة'!!
لقد كان الإفريقي، إذن، واعيا تمام الوعي لما تفعله به القوة الاستعمارية القادمة من أوروبا، وكان واعيا تمام الوعي لغايتها وأنها لا تريد إلا أن تبتلعه فتذهب بوجوده نفسه، كما تبتلع الحرباء الذبابة! وهو وعي يشهد بكذب المعلومات التي روجتها صناعة الإعلام الغربية عن جهل الأفارقة وتخلفهم ودونيتهم: وهي معلومات ظلت تروج وتïبث في أذن الإفريقي وعقله ووعيه اليقظ لتدفعه إلي الخجل من ماضيه والتخلي عن واقعه والتحول إلي تابع ذليل لسيده الأوروبي.
ومع ذلك فقد قاوم الإفريقي هذا الاستعمار وأدواته السياسية والثقافية والإعلامية قرنا أو يزيد، وهو أمر يؤكد أن هذه القبائل والشعوب الإفريقية كانت تدرك مميزاتها وتحب هويتها حتي إنها ناضلت أكثر من مئة سنة لتستعيد حريتها.
عندئذ تحول الجهد الأوروبي من استعمار شعوب بكاملها إلي استتباع الزعامات التي تولت أمر هذه الشعوب بعد الاستقلال. وكان ذلك كافيا تماما لتحقيق مآرب المستعمرين، فالتعامل مع شخص واحد يلبي جميع الطلبات الاستعمارية، ويرفع في داخل بلاده أجمل شعارات الاستقلال والحرية، أسهل كثيرا من التعامل مع شعب يقاوم الاستعمار ويقاتل في كل بقعة من أرضه ليتخلص منه. وعندما أبي بعض الزعماء الأفارقة الذين يستحقون اسم الزعامة أن ينصاعوا لاستعمار أشخاصهم الذين استبدله الأوروبيون باستعمار البلاد نفسها كان مصير أحدهم (باتريس لومومبا) أن اختطف وقتل في يناير 1961 ثم وضع جثمانه في حامض مذيب ليختفي تماما من الوجود (كما كانت الحرباء تفعل مع الذبابة) وقتل الثاني (كوامي نكروما) مسموما بعد أن دبر له انقلاب أطاح به وأعاد الحكم في بلده إلي من يستطيع التعامل مع الحضارة المتمدينة!
والذي فعله الاستعمار في هذا الشأن في إفريقيا يشرح لنا لماذا لا يستجيب الغرب، ولا تستجيب الولايات المتحدة وارثة الاستعمار الأوروبي إلي مطالب الوطنيين العرب والمسلمين في الشأن الديمقراطي، وفي شأن الحريات، وفي شأن حقوق الإنسان. إن الاستجابة لهذه المطالب تصعب علي المستعمرين قدامي وجددا التعامل مع الشعوب التي يراد استعمارها والاستيلاء علي خيراتها والهيمنة علي قرارها السياسي وثروتها المادية والبشرية. بينما التعامل مع مستبد يدير شؤون شعبه بالحديد والنار، والسجون المفتوحة والمحاكم العسكرية والقوانين سيئة المسعة، ويغلق منظمات المجتمع المدني، ويمنع تكوين الأحزاب، ويقيد الحق في اصدار الصحف.. التعامل مع مثل هذا المستبد في أي مجتمع يسهل علي المستعمر أن يكون سيدا دائما، ولا يجد له ندا أبدا. وهذه هي المعضلة التي يجب علي النضال الوطني من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أن يجد لها حلا.

لقد بدأت عايدة العزب الفصل الأول من كتابها برسالة 'ترويض العبيد' لكي يعرف القاريء منذ البداية حجم القسوة والظلم الذي كان الأوروبيون يعاملون بهما أهل البلاد الأحرار الأبطال الذين قاوموا الهجمة الاستعمارية بلا شيء تقريبا، ولكنهم صمدوا في وجهها حتي نالوا استقلالهم في منتصف القرن العشرين. لقد حاول المستعمر ترويض الأفارقة ليسحق آدميتهم ويحولهم إلي آلات بشرية بلا مشاعر ولا حقوق ولا لغة ولا دين ولا حياة روحية، بل وبلا أمل في شيء من ذلك كله. كانت الأساليب المتبعة مع أهل البلاد الأحرار هي الشنق علي الأشجار وقطع الأيدي والمذابح الجماعية التي هلك فيها ما يزيد علي عشرة ملايين أفريقي. وكانت بعد ذلك تجارة الرقيق التي لا يستطيع أحد أن يحصر علي وجه التحديد ضحاياها.
وعندما انتهت العبودية للبشر بموجات التحرر من الاستعمار تحولت القارة العظيمة إلي عبودية جديدة للقروض والديون والشركات متعددة الجنسيات التي تستغل كل ما يصلح للاستغلال في أفريقيا، وتهدم كل ما يفيدها هدمه من تاريخها وحضارتها، وتنفق من فوائض أرباحها علي حملات التنصير الكاثوليكية والبروتستانتية وعلي دعوات المحافظة علي الحيوانات المتوحشة والأليفة، فالقردة والأفيال والنمور والذئاب أهم ألف مرة عند الحضارة الإنسانية الغربية من أي إنسان أسود.


إن كتاب العبودية في أفريقيا يجب أن يقرأ بكل إنعام نظر، وبتأمل حقيقي في ماضينا وماضي المستعمر الأوروبي، لنفهم منه حاضر المستعمر الأمريكي. ولو كنت أملك دار نشر لقمت بترجمة هذا الكتاب فورا لأعرضه في كل ركن من أركان معرض فرانكفورت للكتاب الذي ستكون الثقافة العربية ضيف الشرف فيه في أكتوبر القادم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق