ذكرنا في مقال سابق على
صفحات المعهد المصري أن الفارق
الرئيسي والتميز الأكبر للنموذج السياسي الإسلامي متمثل في وجود "النص
المعصوم" الذي يمثل الثوابت والمركز للنموذج الحضاري، ثم في وجود عصر تحقق
تاريخي يمثل "العصر الذهبي" والنموذج العملي لتطبيق هذا النموذج.
واتخذنا مسألة "شرعية السلطة" كنموذج يبدو معه هذا الافتراق.
ومن ضمن التعليقات التي وصلتنا على المقال تعليق يتساءل
عن الفائدة من وجود نموذج أصلا، خصوصا إذا كان هذا النموذج لم يطبق سوى ثلاثين
عاما في تاريخ جاوز الأربعة عشر قرنا؟!
سأستعين في الإجابة على هذا السؤال بالدراسة المتميزة الموسعة
التي أعدتها الباحثة الإيطالية ماريا لويزا برنيري حول "المدينة الفاضلة عبر
التاريخ"، وفيه تتبعت أفكار الفلاسفة وتصوراتهم عن المدينة الفاضلة، منذ
العصر القديم مرورا بعصر النهضة والتنوير والعصر الحديث.
(1) وجودٌ في مقابل العدم
كان أول ما خلصت إليه دراسة برنيري أنه ليس ثمة نموذج من
تصورات المدينة الفاضلة قد تحقق في واقع الأرض، سواء في ذلك من تصوروا وامتلكوا
سلطة التنفيذ أو من تصوروا وامتلكوا سلطة النداء والتوجيه أو من تصوروا الأمر في
خيالهم فحسب.
وكثيرا ما راود الخيال الغربي فكرة نهاية التاريخ وأنهم
بصدد الوصول إلى اللحظة التي يكتشف فيها البشر الطريق الأمثل لنظام حياتهم، بل هي
الفكرة الجوهرية في المسيرة العلمانية (ويراجع في هذا كتابات د. عبد الوهاب
المسيري) بل أعلن بعضهم في لحظات بعينها أنهم الآن عند نهاية التاريخ كما فعل
فرانسيس فوكوياما عند انتصار الليبرالية وانهيار الاتحاد السوفيتي، ثم ما يلبث أن
يسفر الزمن عن أن التاريخ لم ينتهِ بعد!
والفلسفة الغربية أشبه بالغابة الضخمة المشتبكة
المتناقضة من الأفكار والتصورات والرؤى، وما نراه نحن في العالم العربي –لضعف
الثقافة وقلة الاطلاع- ثوابت عندهم هي في الحقيقة موضوعات تهتز بشدة وتعاني من
انتقادات جذرية وكاسحة، بل إن الفلسفة الغربية أنتجت مصطلح "ما بعد كذا"
لتعبر عن "انتهاء" مرحلة أو فلسفة دون استيضاح ماذا سيليه.
فالخلاصة أن "وجود نموذج" يمثل القدوة في
الفكر الإسلامي هو بحد ذاته إنقاذ من التيه والضياع الفلسفي الكبير الذي يؤدي إليه
"عدم وجود" نموذج في الماضي، وكذلك عدم اليقين بنموذج واضح الملامح
سيأتي به المستقبل.
ولا يجد المرء تشبيها لهذا الوضع خيرا من قول الله تعالى
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].
(2) الواقعية في مقابل النظرية
في بداية بحثها، تعترف برنيري بأن "عصرنا هو عصر
التسويات والحلول الوسطى، والسعي لجعل العالم أقل شرورا. والحالمون من أصحاب الرؤى
أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار، والناس "العمليون" هم الذين يحكمون
حياتنا"، ومنذ القرن التاسع عشر بدأ انحلال "التفكير اليوتوبي" وأصيب
بعدوى "الواقعية"[1].
هكذا إذن، لم تستطع تصورات المدينة الفاضلة أن ترفع من
مستوى الحياة الواقعية، بل كان تأثير الواقع أشد فأنزل المثاليات النظرية من
عليائها لتنتج تصورات أخرى للمدينة الفاضلة أقل حلما ومثالية.
وكانت واحدة من إشكاليات الموضوع أنهم بدلا من محاولة "اكتشاف
قوانين الطبيعية، فضَّلوا أن يخترعوها أو يعثروا عليها في "سجلات الحكمة
القديمة"... وبدلا من أن يقيموا يوتوبياتهم على تجمعات حية وبشر مثل أولئك
الذين يعرفونهم، أقاموها على تصورات مجردة"[2].
هنا تبدو قيمة نموذج عملي واقعي تحقق في التاريخ لثلاثين
سنة أمرا عظيما، فهو نموذج لم يحلق في آفاق الخيال ولم يحاول اختراع قوانين
الطبيعة، بل نجح في التعامل مع واقع البشر. ولقد استمر ذلك النموذج ثلاثين سنة في
قمته ثم بدأ النزول عن هذه القمة تدريجيا وببطء، لكن الأمة التي خرجت في هذه
الثلاثين سنة هي الأمة التي ظلت ألف سنة تشع علما وحضارة.
فالخلاصة أن تحقق النموذج في واقع الحياة لعدد من السنين
يمثل في حد ذاته القدرة على إعادة تحققه مرة أخرى، فيصير السعي إليه سعيا واقعيا،
وهو خير من السعي وراء سراب تصورات حالمة لم تتحقق ولم تستطع أن تخرج من سطور
الكتب إلى التعامل مع واقع الناس.
(3) الوضوح في مقابل التناقضات
إذا صار لدينا نموذج عملي متحقق في واقع الناس، أثمر ذلك
نجاة من الاشتباكات والتناقضات في تحديد النموذج المعرفي والكليَّات الكبرى، فلن
تصير الأمة ضحايا للأفكار التي تمثل ردات فعل على واقعها بالمقام الأول، إذ لن
تضطر لدخول صراعات دموية للخروج من عصر الإقطاع إلى عصر الشيوعية أو من عصر
الشيوعية إلى عصر الليبرالية أو من عصر الكنيسة إلى عصر الدولة.. وهكذا!
إن وجود النموذج العملي هو ما يحدد أمورا كثيرة هي من
كُليَّات وأصول النظام المعرفي، مثل المرجعية النهائية وتفاعلها مع الوقائع
التفصيلية المستجدة، ومثل الانحياز بين الفردية والجماعية، بين المادية والروحية،
وما ينبثق عن كل هذا من أنظمة وأنماط اقتصادية واجتماعية وغيرها.
ثم إن طول فترة النموذج –وهو في حالته المثالية- لتبلغ
ثلاثين سنة يسمح بوجود الكثير من الأحداث والتقلبات التي تسفر في النهاية عن وجود
نموذج ثري.
وإن أول وأهم ما في هذا النموذج الراشدي هو أنه نموذج
لبشر يحكمون بشرا، ليسوا آلهة ولا رسولا ولا كهنة يتصل أحدهم بالسماء، وهو ما
يجعلها تجربة بشرية خالصة في التطبيق وإن كانت مرجعيتها سماوية ربانية، لكن الحاكم
والمحكوم وكافة المتأثرين بالنظام يعرفون أنهم محكومون بنظام يجتهد فيه البشر
للبشر.
ولقد شهدت هذه الثلاثون عاما التقلبات التي تمر بالدول
كلها، بدءا من مخاضات التأسيس (في عهد أبي بكر) ثم مرحلة التوسع والنمو والنضج (في
عهد عمر) ثم الرخاء والازدهار (عهد عثمان) ثم الفتن الداخلية (أواخر عهد عثمان إلى
عهد الحسن بن علي)، مع ما شهده كل هذا من تعديلات في بنية النظام وانتقال للسلطة
وتأسيس للمؤسسات وسياسة للأموال وتعامل مع المعارضة السلمية والمسلحة... وغير ذلك!
وكل هذه الأمور وغيرها تختلف العقول بشأنها إن غاب النص
وغاب النموذج التطبيقي له، وإن الأمة التي تسعى لاستعادة نموذج سبق وتعامل مع
الأوضاع السياسية لهي أكثر بصيرة وأوضح طريقا من أمة تبحث عن نموذج لم تر ملامحه
ولا تحسم كثيرا من أسئلته الجوهرية.
(4) روح الحضارة الإسلامية
ونختم المقال بضرب المثال:
إن المسلمين يؤمنون بأن عصر الخلافة الراشدة هو القدوة
التي يتمثلونها، ولهذا آثار ضخمة على مستوى التصور وعلى مستوى التطبيق، وقد ضربنا
في المقال السابق مثلا بالحاكم المسلم الذي يظل عبر التاريخ يُحاكم إلى نماذج
الخلفاء الراشدين باعتبارهم المثال الذي ينبغي تجديده، ولقد يكون الحاكم المسلم
أنجز –بالمعيار الدنيوي- إنجازا عظيما لكن جمهرة الفقهاء والمؤرخين لا يرضون عنه،
وهو هو نفسه الذي لو كان في سياق غربي لكان بغير شك من عظماء مؤسسي الدول، وذلك
لأن وجود نموذج في النظام الإسلامي يمثل الحق الذي يعلو على القوة، وانعدام هذا
النموذج في السياق العلماني يؤدي لأن تكون القوة هي معيار الحق.
الآن نضرب مثالا آخر لآثار الإيمان بنموذج الخلافة
الراشدة، هو أن روح الحضارة الإسلامية تنحاز إلى الإنسان لا إلى البنيان، وإلى
المعنى أكثر من المادة.
لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في
الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا
مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة.. لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل
قدوة. إلا أن هذا العصر كان هو عصر الإنسان، العصر الذي يأمن فيه الإنسان على نفسه
وعرضه وأهله، لا يستطيع حاكم أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، عصر تستطيع
فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا
حقوق لا ينتقص منها.
إن الذي ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه
قُتِلوا ينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة
الممنوحة للجميع، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمرا قبل أن يقتله ويحيا في
المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن
يطعنه، وحاصر المتمردون بيت عثمان وهو من حماهم ومنع أصحابه من مقاتلتهم والتصدي
لهم بعد مجهود وافر في بيان ما هم عليه من الباطل والدفاع عن نفسه، وكان من قبل
ذلك قد تعرض لمحاولة اغتيال فلم يعاقب أصحابها باعتبار أن الجريمة لم تقع فلا يستحقون
عقابا، وقُتِل علي على يد رجل من فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب ولم يمنعه هذا أن
يصل إليه.
إنه انحياز لحرية الناس وحقوقهم على حساب أمن السلطة!
وهو انحياز فلسفي كبير يترتب عليه معظم النظام السياسي والأمني في الدولة
الإسلامية، وهو انحياز لاقتراب الحكام من العامة.
لهذا فمن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن
ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم
والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس
بتهم تكدير السلم العام!! أو لعل هذا هو الطبيعي، فإن من نشأ في ظل هذا النظام لم
يعرف معنى الحرية فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته!
إن أمرا يغفل عنه الأكثرون من العلمانيين الذين يتحدثون
في الشأن السياسي الإسلامي، بل ويفهمونه بالمقلوب، ذلك هو احتواء الإسلام على نصوص
"السمع والطاعة" للحاكم، ذلك أنهم يغفلون عن أن بنية النظام السياسي
الإسلامي تجعل المجتمع قويا متماسكا قادرا على مواجهة السلطة، لذلك كان لا بد من
وجود قيمة السمع والطاعة (إلا في حدود) لكي تظل الدولة ونظامها ممسوكا بالقيم
الإسلامية الحاكمة على الحاكم والمحكوم معا. في حين يخلو السياق العلماني من معنى
السمع والطاعة لأن الشعوب في حقيقة الأمر أسرى لدى الدولة التي تحتكر القوة وتملك
فرض النظام وإخضاع الناس له، ولذلك يبرز في النظام العلماني معنى محاسبة السلطة
ومراقبتها لمنعها من التغول، في حين ينحو النظام الإسلامي إلى حراسة المجتمع القوي
المتكتل من التفلت[3].
هذا الانحياز إلى الإنسان وكرامته له وجه آخر، لأنه
انحياز ضد القصور والزخارف والزينة، فالحضارة الإسلامية تهتم لأن تقيم مجتمعا
تسوده الكرامة والعدل والإنصاف ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ
وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه
مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا! وهذا افتراق خطير!
إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج
محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على
هذه العصور سلبي، نعم قد نستدل بكل هذا على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي
من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي
تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر
الأندلسيين!
لكل ما سبق ولغيره مما لا تتسع له سوى الكتب ذات
المجلدات.. كان وجود النموذج السياسي الإسلامي الكامل –ولو لثلاثين سنة- نعمة
عظيمة على الأمة، وتفردا تاما من تفرداتها وتميزاتها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق