أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
***
وإني لأعترف أول المقال أن فضل جماعة الإخوان المسلمين عليَّ هو مما لا يمكن أن أجحده ولا أنكره ما طالت بي الأيام، فلقد تعلمت الوسطية في كتب أعلامها من الفقهاء والمفكرين، وتعلمت الأخلاق وحسن النظر على يد كثير من أبنائها ومربيها، وعشت مع الإخوان فترة لازلت أفخر أني عشتها بينهم، لا سيما فترة الجامعة، وإني إل الآن أقدر أني لو لم أكن عشتها بينهم لكان مصيري إلى الانحراف بلا شك، لقد جعلوني أفخر بشبابي إلى آخر عمري، فلم يكن يشغلني –في هذه الفترة المتوقدة وفي زمن الفتن- إلا أحوال الأمة والدعوة، فَسَلِمْت بحمد الله مما يشغل أقراني من الشباب।
ولكن..
هل هذا الفضل ينبغي أن يجعلني أسيرا طول عمري؟ لا أقول بحق إذا علمته، ولا أنبه على باطل كما أراه؟
الكل سيجيب: لا، ولكن انصح وقل، وأعلن رأيك، فنحن بشر ونسمع النصيحة ونحب التطور والتجديد والتناصح، وقد نأخذ بالرأي إذا رأيناه أنفع، و .... إلى آخر هذا الكلام
إلا أن لسان الحال يقول: نعم، ينبغي أن تظل أسيرا، وتذكر فضلنا القديم المقيم الذي لا ينكره إلا جاحد، فإذا عَنَّ لك أن تنصح ففي السر، وبأدب، ثم ينبغي ألا تصر على رأيك حين تسمع الرد، بل تترك ما في رأسك لأن إخوانك يعلمون أكثر منك، وهم أحكم منك، وهم أبعد نظرا، وهم الذين يرون المشهد من فوق، وهم الذين حَنَّكَتْهم التجارب، وهم الذين ضحوا في سبيل هذه الدعوة، وعاشوا مرارات السجن والتعذيب .. وهم ... وهم ... وهم ... إلخ
***
والحق أن العقل الذي أنقد به الإخوان الآن، لا أنكر أنهم ساهموا في تكوينه، وأن القلم الذي أكتب به الآن لا أنكر أنه ترعرع في ظلالهم وفي مجلاتهم ومنتدياتهم.. إلا أن الفضل –من قبل ومن بعد- هو فضل الله تعالى، وإن كان قد جرى على يد الإخوان، وهذه الأدوات إنما هي نعم الله أولا وأمانته استودعنا إياها واسترعانا فيها، وقد أوصانا (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).
وما أحسب أنه يجب مراعاة الفرع على حساب الأصل، ولا أن يُخشى في الله كيد عدو كما لا يخشى فيه عتاب الحبيب.. وإن قَصْدَ الله في القول والعمل ينبغي أن يكون القَصْدُ الوحيد للمسلم، ولقد كان من فضل الله علينا وعلى عباده جميعا أن أمرنا بالتوحيد فمن ثَمَّ تَوَحَّدَت وِجْهَة العمل والقَصْدِ (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون، ورجلا سَلَمًا لرجل، هل يستويان مثلا؟؟).
ولو أن لكل أحد فضل على أحد، فأراد بهذا الفضل أن يحمله على اتباع مذهبه وطريقته، إذًا لما انتقل أحد من الضلالة إلى الهدى، فلقد تعلم سلمان الفارسي واشتد عقله وعوده وهو بين المجوس، وبهذا العقل الذي تَكَوَّن عند المجوس ثم عند النصارى دَخَل في الإسلام، بل أستطيع أن أقول بأن من أهم ملامح عظمة الصحابة أنهم استطاعوا نقد تاريخهم والتبرؤ منه حين بدا لهم أنهم كانوا على ضلالة، ولاشك أن مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص وغيرهما كانوا تحت ضغط رهيب إذ تسبب اتباعهم لما رأوا أنه الحق في إغضاب أمهاتهم وهن من أصحاب الفضل، حتى لقد بلغ سعد أن يقول لأمه "لو كانت لك ألف نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت هذا الدين".. وإن من المثير للعجب أن ترى خالد بن الوليد يؤمن بدين يطالبه أن يؤمن بأن أباه في النار، وكذا عكرمة بن أبي جهل، وكذا الوليد بن عقبة..
إن جيل الصحابة هو الجيل الأعظم الذي استطاع نقد ومحاكمة تاريخه ورفضه بكل ما كان في هذا التاريخ من فضل عليه، ومن أصحاب الفضل عليه..
وهل نحن في حاجة لأن نذكر من أسلم من أحبار اليهود والنصارى، عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، والسمؤال بن يحيى المغربي، وقائمة طويلة طويلة ممن نشأوا في ظلال قوم لا يدينون بالإسلام حتى تبوأوا فيهم مناصب السيادة والرياسة ثم تركوهم حين تبين لهم الحق.
ولقد حدث هذا بين المسلمين، فكم من عالم نشأ على مذهب ثم انتقل إلى مذهب آخر واستمسك به، ثم أشبع المذهب الأول نقدا وأخذ في الانتصار لمذهبه الجديد، متجاوزا فضل شيوخ المذهب الآخر الذين علموه وأنشأوه وأَمَدُّوه بما ساهم في تكوين عقله وفكره ونظره..
إنني أدافع عن نفسي، نعم، رغم أنه ليس من طبعي، إلا أنني أفعله أمام قوم أحبهم وأعلم أن كثيرا منهم ما زال يحبني، وإني –يشهد الله- لأرجو لهم الخير كما أرجوه لكل المسلمين ولكل الناس، وأعلم أن كثيرا منهم ما زال يرجو لي الخير.. وما كان أشد على نفسي من شيء كما كان تَغَيَّر بعضهم عليّ، وقولهم فيّ ما لم أكن أتوقع أن يُقال.
***
فيا أيها الإخوان.. هذا فضلكم منسوب إليكم لا أجحده ولا أنكره، غير أن الأمانة التي حَمَّلَنا الله إياها تستدعي أن أقول ما أراه حقا، ولو لم يعجبكم.
***
لقد كان أشد ما آلمني أن الإخوان –لاسيما الشباب- دخلوا معركة الانتخابات، وكأنهم فقدوا الذاكرة..
فقبل الانتخابات تجد حماسة من يرى التغيير على بعد يوم منه، ليس بينه وبين التغيير شيء إلا أن ينجح في حشد الناس للتصويت وتعليمهم الإيجابية، فإذا نوقشوا في طبيعة هذا الحماس على خلفية خبرة الماضي تمخض الحماس كله عن هدف "فضح النظام"، وأحيانا عن هدف "خطوة على الطريق".. وهي الأهداف التي يتضح أنها لا تستحق كل هذه المعاناة وهذا الجهد والبذل والتعرض للبطش والاعتقال.
لكن بعيدا عن النقاشات التي تهدأ فيها الحماسة وينزل فيها مستوى الحلم والأهداف، يظل الخطاب حماسيا مشتعلا، حتى لقد قال صديق ذات مرة: " من يتطلع إلى التغيير من خلال الانتخابات القادمة .. فهو يؤمن بأن الثعلب قد يبيض أحيانا"، فرد عليه صديقنا الإخواني بقوله " فعلا أن أؤمن بأن الله قادر على أن يجعل الثعلب يبيض، مثلما أنا مؤمن أن الله قادر على إحداث التغيير"!!!
وصحيح أن الله قادر على كل شيء، إلا أنه عدل وحق، وضع في هذا الكون قوانين وسنن لا يخرقها محاباة لأحد، فنسيان القوانين والسنن والتصرف من منطلق الحلم، بل من منطلق الإيمان بأن الله قادر على كل شيء وعلى خرق قوانينه في الكون والتاريخ هي سذاجة بل ربما أقول إنه استحباب للعمى!
ثم في أثناء الانتخابات يختفي حماس الخطاب الذي كان في اليوم السابق، ويظهر الخطاب الذي ينعى على البلد حالها، ويشكو ما يفعله النظام، ويندب حظ الديمقراطية والإصلاح..
وبعد الانتخابات يأتي الخطاب الذي يرثى لحال البلد، ووضعها وكوارثها وما أنزله النظام بها، ثم بعد قليل خطاب آخر يواصل "الثبات" و"الصمود" والسير في طريق الإصلاح.. وكأني أرى ياسر عرفات قائلا: "يا جبل ما يهزك ريح"!!
المثير للدهشة والإشفاق أن هذه الخطابات الثلاثة –قبل وأثناء وبعد الانتخابات- تظهر وكأن الانتخابات تحدث للمرة الأولى، حماسة قبلها، ثم دهشة وصدمة في أثنائها، ثم رثاء لما وصل إليه الحال بعد انقضائها.. وكأن "صفر" مجلس الشورى لم يكن منذ شهور معدودات!!!
***
ما أشبه المفاوضات بالانتخابات..
ولقد كان عرفات، ومن بعده عباس يدوران فيها كالثور في الساقية.. بعدما يبذل المجهود العظيم يجد نفسه في المكان الذي بدأ منه، ثم هو يظن نفسه –أو هكذا يقول- "مجاهدا" في سبيل القضية، حتى إنه ليخوض "مفاوضات شرسة"، ويقف في "صمود رائع" ضد ما يُطلب منه من تنازلات، رغم كل "الضغوط الخارجية".. وفي النهاية، فإننا سننتصر، و"ستحمل زهرة من زهراتنا وشبل من أشبالنا علم فلسطين فوق أسوار القدس، عاصمة دولة فلسطين".
وإذا ذُكِّر بـ"تاريخ" المفاوضات، وأُريد منه أن يتعظ من "التجارب السابقة" سارع بالقول: "هذه المرة تختلف"، ثم التمس أي اختلاف كأن يكون في السلطة حزب العمل لا حزب اليمين المتطرف، أو أن يكون في البيت الأبيض رئيس مثل أوباما وليس مثل بوش، أو أن يكون رئيس أمريكا في الولاية الثانية له وليس في الولاية الأولى... وهكذا.
وحقيقة الأمر أنه تحت "السيطرة الكاملة" لعدوه، لقد أدخل نفسه في لعبة يملك خصمه كل أطرافها، وليست بيده أية أوراق ضغط على الإطلاق، ولا يستطيع أن يستمر وأن يبرر وجوده إلا بتسويق مزيد من الفرص والجولات التفاوضية ويقول "هذه المرة تختلف".
ولو أزحنا عن عقولنا بعض الهوى، لوجدنا حال جماعة الإخوان مع النظام كحالة عباس وعرفات مع إسرائيل وأمريكا.. الجماعة تحت السيطرة الكاملة للنظام، ويجب عليها ألا تتعدى حدودا معينة في حركاتها وإلا أودعنا نفرا من قياداتها في السجن أو في محاكمة عسكرية، أو نَفَّذْنا حملة اعتقالات، فهذه الإجراءات قادرة على توصيل الرسالة.
والجماعة المسالمة رغم امتلاكها تنظيما منتشرا في المحافظات المصرية، إلا أنه تنظيم مكشوف تماما للأجهزة الأمنية، وأي تمرد لا يخضع لقواعد اللعبة يمكن على الفور إنهاءه بالقبض على أعضاء مكتب الإرشاد وأعضاء المكاتب الإدارية في المحافظات، وتنتهي قدرة التنظيم على إحداث ضغط حقيقي.
كل هذا يدركه النظام كما تدركه الجماعة، ولذا فلا مجال أمام الجماعة إلا أن تعارض بحساب وبحذر، ولئن علت الأصوات حينا فالأمر على أرض الواقع مختلف.. على أرض الواقع ليس ثمة خطوط حمراء كما هو في الخطابات؛ فلقد ضرب الأمن –مثلا- الطالبات، واعتقلت بعض النساء الإخوانيات أكثر من مرة، ولم يحدث شيء ذو بال لانتهاك هذه "الخطوط الحمراء"..
حتى النائب صبحي صالح –شفاه الله وعافاه- بعدما أعلن في لقطة مصورة أنه سيموت على الصندوق، صورت له لقطة أخرى في يوم الانتخابات وهو يقول: "أعمل إيه؟ أعملها مطحنة يعني؟!"..
لقد كان المرشد العام –وهو من علماء العرب المعدودين في مجاله- أكثر الناس هدوءا وواقعية، وكانت حلقته في بلا حدود على قناة الجزيرة اعترافا واضحا بإفلاس الجماعة الكامل، فهو سيظل في نضاله، وإن زورت الانتخابات سيناضل قانونيا وقضائيا، فإن لم تنفذ أحكام القضاء فلا حيلة أمامه، إنها حلقة كاشفة فعلا لأن الرجل كان صادقا وواقعيا ولا يحب العبارات النضالية التي تثير الإعلام ولا قدرة له على تنفيذها.
وشخصيا أتوقع أن يفوز عدد قليل في انتخابات الإعادة بعدما وصلت رسالة النظام للجماعة بأنها غير قادرة على الحصول على مقعد واحد مهما كانت شعبيتها (وهي الرسالة التي يُدهشني أن الإخوان لم يقروؤها من انتخابات الشورى الماضية).. وإن كنت أيضا لا أستبعد أن تُحرم الجماعة من أي مقعد.
***
ما بقي للجماعة إلا "الصمود" و"الثبات"، والعودة "لتربية الشعب وتأهيله ليطالب بحقه"، وفي كل الأحوال ستقول الجماعة إنها نجحت، نجحت في فضح النظام، وفي التواصل مع الناس، وفي تحريك قواعدها الداخلية... وكفي بهذا مكسبا ونصيبا!!
ولقد صدمني أحدهم ذات يوم بقوله (كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم...) والحمد لله أنه لم يُكمل الآية إذا لوضعني مع المنافقين المتخلفين عن الجهاد॥
فالحمد لله الذي "نَقَّى" صفوفهم من أمثالي، وصرت –فيما أحسب- من الذين قيل فيهم "لا يلدغ من جُحْرٍ مرتين"!!