الأربعاء، نوفمبر 30، 2016

كيف يتدرب أعضاء النظام الخاص للإخوان المسلمين

لا زلنا مع الكتاب الثالث في "مكتبة الثائر المصري"، كتاب "حقيقة النظام الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين" لمؤرخ النظام الخاص والقيادي فيه محمود الصباغ، والذي بدأناه في المقال الماضي.

7. لقد برأت المحكمة المتهمين في قضية النظام الخاص، وجاء في كلامها ما يثبت نبل أهدافه في التحرير والمقاومة بدليل ما شهد به قادة الجيش المصري من بسالتهم في فلسطين، فجمع الأسلحة والتدرب عليها ووجود كتب وخطط ووثائق عسكرية مما هو ضرورة لازمة لتحقيق أهداف الجماعة المنشورة في أدبياتهم. بل إن رئيس المحكمة لما أنهى القضية استقال من القضاء وانضم للإخوان، كذلك قال عضو اليمين عن الإخوان بعد المحاكمة "كنت أحاكمهم والآن أنا منهم".

8. حاول النظام الخاص إحراق أوراق قضية السيارة الجيب، ولم يكن البنا على علم بهذه العملية التي فشلت، إذ اكتشفت القنبلة (وهي حارقة لا تدميرية) قبل انفجارها، والحمد لله أن العملية لم تنجح فظلَّت أوراق القضية شاهدة على عظمة النظام الخاص كما قضت به المحكمة. ولقد كان اكتشاف السيارة الجيب وبعض الوثائق الأخرى أمرًا قَدَريا لا لمهارة من الشرطة، كأن الله أراد أن يكشف للناس ما عليه الإخوان من نبل وسمو وبسالة، وكيف أن ما يدانون به هو الشرف الكبير.

9. أول ما يلتزم به العضو المرشح للانضمام لهذا النظام الخاص هو السرية التامة، ويُختبر صدقه بأن يُكلف بشراء مسدس خاص به من ماله، ولا إعذار ولا استثناء في هذا التكليف، وفي أول جلسة يُسأل عن أنشطته ويُنصح بالإقلاع عن المكيفات ويُسأل عن حالته الصحية، ثم يتعرض لجلسات أخرى تهدف إلى تحقيق اليقين بالمهمة والثقة بالقيادة والسمع والطاعة وتلقين مهارات التغطية والهروب من المواقف الحرجة ويكلف بكتابة وصيته، ثم يكلف بمهمة في مكان بعيد يؤديها تحت مراقبة لا يعرفها، ثم يكلف بمهمة أخرى مدروسة، ثم مهمة يعدل عنها في اللحظة الأخيرة، ثم يختبر بعد هذا كله صلاحيته ليكون مرشحا للعمل في النظام الخاص، فمن اجتاز هذه المراحل أرسل إلى القاهرة ليبايع ويعلم حينها أن كل ما فات كان اختبارا فقط. وقد كانت لحظة البيعة هي أسعد لحظة في حياتي كلها.

10. يُعدُّ ويُدَرَّب عضوُ النظام الخاص عبر أربعة مراحل، كل مرحلة مدتها خمسة عشر أسبوعا، وفي كل مرحلة ينبغي أن يكتسب مهارات قتالية واستخبارية وفكرية وروحية، وتركز لائحة التنظيم على مسألة تشرب القيم الروحية وأداء تكاليفها، ومن لم يكن متعلما كان على المتعلمين أن يدرسوه ويعلموه الكتب المطلوب استيعابها.

11. تتلخص تلك المهارات في تحقيق القوة البدنية بتمارين ورياضات كالملاكمة والمصارعة والسباحة والتجديف، وتعلم السلاح، وقيادة الخيول والجمال والمركبات التي تبدأ من الدراجة ثم الموتوسكيل ثم المراكب الشراعية والسيارة، والقدرة على رسم الخرائط واستعمال البوصلة وتقدير المسافات ودراسة المناطق، والقدرة جمع المعلومات وتحليلها وكتابة التقارير، وتعلم الإسعافات.

12. الخيانة أو إفشاء أي أسرار بحسن نية أو سوء نية يعرض صاحبه للإعدام مهما كانت منزلته.

13. الشورى في هذا النظام معلمة لا ملزمة، والجنود مكلفون بالطاعة، والقائد مكلف بالاستشارة، والمسؤولية بين الأعضاء تضامنية، أي أنهم جميعا مسؤولون عما يقع في محيطهم من تصرفات سيئة تضر بالمجموعة أو العمل أو النظام كله.

14. تكاليف البيعة هي: تقوى االله في السر والعلن، والصلاة والخشوع والجماعة في المسجد، والتهجد والدعاء والاستغفار للفرد وللجماعة وللقيادة، وتلاوة ورد الاستغفار والقرآن والكتمان والصمت والجزاء والطاعة للقيادة ولأمراء الجماعات والتذكير بالموثق على مواصلة الجهاد لينتصر الإسلام ويسود القرآن أو الاستشهاد.

15. كانت قيادة التنظيم الخاص خمسة: عبد الرحمن السندي، مصطفى مشهور، محمود الصباغ، أحمد زكي حسن، أحمد محمد حسنين. وكان ثمة خمسة آخرون من رجال الدعوة العامة ولكنهم مؤتمنون على سر وجود تنظيم خاص للجماعة، وهم يحضرون اجتماعات قيادته أحيانا أو يُستشارون في الأمور التي تتسع عن نطاق النظام، وأولئك هم: صالح عشماوي، محمد خميس حميدة، الشيخ محمد فرغلي، عبد العزيز كامل، محمود عساف (وهذا الأخير كان لفترة عام مسؤولا عن جهاز المعلومات في النظام الخاص، ثم صار مسؤول المعلومات الخاصة بالمرشد حسن البنا وحلقة وصل في شأن المعلومات بينه وبين جهاز المعلومات في النظام الخاص).

16. لا يترشح للعضوية إلا من مرَّ بالتجارب والاختبارات، ولا يقبل الترشيح بداية إلا بأسباب واضحة وتقارير وافية عن المرشح، ويكفي أن يكون به ميل لأي حزب آخر ليرفض الترشيح، بينما الذي يؤمن بالفكرة ولو كان ذا عاهة يمكن أن يكون عضوا ويشارك بما يناسبه. والفرد إذا ترقى وصار أميرا لم يُعف من مسؤولياته كفرد بل تزيد مسؤولياته كأمير.

17. لم يقتصر تفكير النظام الخاص على مجرد استعمال السلاح بل سعى في تصنيعه أيضا، وقد صنع وطور عددا من المتفجرات والساعات الزمنية المؤقتة للانفجار واستخدمت بقوة وفاعلية ضد الصهاينة والإنجليز، وأمددنا بها الشهيد عبد القادر الحسيني في حربه ضد اليهود. بل وأنشأنا مصنعا للبلاط ظاهريا ولكنه كان عمليا ينتج هذه القنابل المبتكرة وكان كل عماله من أعضاء النظام الخاص، فكان تمويلا وغطاءا في نفس الوقت. وقد كانت أودية الجبال البعيدة الآمنة ساحات للتدريب على استعمال السلاح.

18. لقد شهد بما أنجزه النظام الخاص للإخوان من مساعدة ودعم ومشاركة في جهاد اليهود والإنجليز كل من: مفتي فلسطين أمين الحسيني، وقادة حرب فلسطين في الجيش المصري: اللواء فؤاد صادق واللواء أحمد المواوي، وسجلوا شهاداتهم هذه في المحكمة التي نظرت قضية السيارة الجيب.

19. جاء في شهادة أمين الحسيني أن البنا عزم على تجهيز عشرة آلا شاب مسلح بعدما رأى أن الأنظمة تريد تسليم فلسطين لليهود بلا حرب، وأنه إن لم تسلحهم الحكومة (التي كانت تعلن دعمها لفلسطين) فسيجعل كل شعبة من شعب الإخوان تتكفل بتسليح شبابها. وجاء فيها أيضا: أن النقراشي منع جمع السلاح ووعده بإرسال السلاح من طرف الحكومة إلى الحدود، ولكنه حنث بوعده، بل واستولت الحكومة على ما لدى الهيئة العربية العليا من المتاع.

20. في شهادة أمين الحسيني: الخطة التي كان مقررة ألا تتدخل الجيوش العربية بل يكون التعويل على أهل فلسطين للدفاع عن بلادهم على أن تجهزهم الدول العربية وتدربهم وتحصن قراهم، وتسمح للمتطوعين بالدخول، بينما تظل الجيوش لا تجاوز الحدود. لكن هذا لم يحدث لأن "غرض أعداء قضية فلسطين كان إبعاد العناصر المؤمنة والمستميتة في القتال".

21. اللواء أحمد فؤاد صادق: كان الإخوان جنودا أبطالا أدوا واجبهم على أحسن ما يكون، يعتمد عليهم في الأحوال التي تستدعي بطولة خاصة، في كل مرة قاموا ببطولات طالبت لأجلها بنياشين لهم، لم يؤثر قرار الحل على روحهم المعنوية، وعند الخطر كنت أقدمهم لأنهم أحسن العناصر.

22. اللواء أحمد المواوي: كانت روحهم المعنوية عالية، دائما يطلبون ألغاما لنسف وتلغيم طرق المستوطنات، المسألة مسألة روح لا مسألة ضباط، الإخوان كانوا أكثر فئات المتطوعين.


إلى هنا انتهت المساحة المخصصة فنستكمل في المقال القادم بعون الله.

الجمعة، نوفمبر 25، 2016

في ذكرى استشهاد شيخ المجاهدين

قبل سبع وعشرين سنة (24 نوفمبر 1989م)، اغتالت يد الشر والإجرام شيخ المجاهدين العرب في أفغانستان، إذ انفجرت سيارة الشيخ وهو ذاهب لأداء صلاة الجمعة، لتُخْتَمَ حياةٌ حافلة بالبركة، علما وعملا، تأليفا وجهادا، فنال الشهادة وهو ما يزال في السابعة والأربعين من عمره، وبذلك يوضع اسمه بين العمالقة الكبار الذين بارك الله في أعمالهم، فجاءوا في الأمد القليل بالعمل الجليل.

وقد أراد أهله وأصحابه أن يجموا تراثه من التأليف، فجمعوا له ما ألفه في عشر سنين، وعجزوا عن أن يجدوا آثارا أخرى له من الكتابات والمحاضرات ألقاها في أوروبا وأمريكا والخليج وغيره، وبالرغم من هذا فإن الذي جُمِع ملأ أربع مجلدات كبيرة، في نحو أربعة آلاف صفحة، كل صفحة حُشِد فيها الكلام وضُيِّق حتى يصغر الحجم، فلو أنها طبعت في نحو ما تطبع به المجلدات في العادة فلن تقل بحال عن عشرين مجلدا!!

جمعت هذه المجلدات حديثا في العقيدة وفي الفقه وفي التاريخ، وكان أعظم شأنها ما كُتِب في الجهاد وفقهه وأحواله وبناء المجاهد ونحو ذلك.

من لم يعرف مؤلفها لم يشك أبدا في أنه كان متفرغا للعلم وطلبه والعكوف على أوراقه وكتبه، ثم تأتي المفاجأة حين تعرف أن صاحب هذا العطاء العلمي الضخم هو رأس الجهاد في عصره، وعلم من أعلام الجهاد منذ زمنه وإلى ما شاء الله..

إنه الشيخ الشهيد: د. عبد الله عزام.

فلو أنه لم يكتب حرفا لما لامه أحد، ولو أنه كان مُقِلاًّ لم يَعِبْ عليه أحد، أما وهو من هو في الجهاد ثم يترك هذا الإرث الغزير من العلم فتلك هي الهمة.. تلك هي الهمة!

ولعلها من بركة الجهاد عليه أن تَرَكَ -وهو إمام الجهاد- ما لم يتركه إلا النادرون من العاكفين على الكتب والورق!!
على أن أهم ما في هذا التراث هو رشده ونضجه، فالرجل العالِم حين يخالط أحوال الجهاد والمجاهدين يستطيع أن يضع يديه على الثغرات وأن يعالجها، والواقع أن جانبا عظيما مما تُنكب فيه الحركات المجاهدة أنها لم تطلع ولم تتشرب التجارب الجهادية السابقة، ولا تعاملت بالتوقير المطلوب مع تراث شيوخ المجاهدين، فتكررت كثير من الأخطاء التي كررت معها مزيدا من الأزمات.

ونحن نستثمر هذه الذكرى في إلقاء ضوء على بعض أقواله، مثيرين بهذا شوق من لا يعرفه وعزم من يعرفه على النهل من تراثه الثرّ المجموع تحت عنوان: "الذخائر العظام فيما أُثِر عن الإمام الهمام الشهيد عبد الله عزام".

(1) ليت الجيوش العربية ما دخلت فلسطين

"ليت الدول العربية ما دخلت فلسطين، لأنها دخلت لتسلم الأراضي لليهود وصيانة نبتتها الناشئة من أعاصير الرياح الإسلامية التي يمكن أن تعصف بها، وما خدع شعب أو ظلم أكثر من الشعب الفلسطيني. فلقد دخلت الجيوش العربية لتسليم الأراضي لليهود، وكان دور الأسلحة الفاسدة التي أرسلها الملك فاروق جد مدمر للنفسية العربية والإسلامية. وكذلك قام الجيش العراقي بالدور الموكل إليه على الوجه الأكمل وكلمته التي كان يرددها كلما استنجد الشعب الفلسطيني به (ماكوا أوامر) لا زالت مرارتها تسري لهيبا  في دماء أبناء فلسطين.

وأما الجيش الأردني فحَدِّثْ عن دور قائده الإنجليزي الجنرال كلوب باشا ولا حرج، فقد جاء ليستلم مواقع المجاهدين من الإخوان القادمين من مصر، وقد كان القائد الأردني الذي يستلم مواقع مار الياس اسمه عبد القادر يسير مع موسى دايان ليسلمه الخنادق والمراكز الواحد تلو الآخر، وكان حسين حجازي القائد المصري من الإخوان المسلمين قد رفض أن يسلم مواقع مار الياس إلى سبعة من الجيش معهم شاويش فصاح حسين حجازي بالشاويش (انصرف راجعا) كيف تحمون موقعا  فيه ثلاثمائة مجاهد واثنا عشر ضابطا  بسبعة من الجنود؟ وهنا ظن عبد القادر أن حسينا من أبناء فلسطين فشتم أبناء فلسطين قائلا: أنتم خونة بعتم أرضكم!!... ولذا فعبد القادر -بعد المؤامرة التي مزقت هذا الشعب وباعت أرضه وعرضه ودمه- يقول: أنتم خونة أيها الفلسطينيون، وقد كان بجانبه دايان يسلمه عبدُ القادر الموقع تلو الموقع!!.

وبعد أن قامت الجيوش العربية بدورها المحدد -وهو تسليم  الأرض لليهود- قامت كثير من الألسنة تلوك أعراض أبناء فلسطين الممزقة، وتنهش لحومهم بعد أن مزقتها بالحراب"[1].

(2) دروس من أرض الجهاد

أدركت أن التربية ركن ركين وجزء أساسي في الإعداد لأي عمل جهادي، وقبل امتشاق الحسام وانتضال السلاح، ولا يمكن للنفس المقصرة أن تتسلق إلى قمة سنام الإسلام وهي عاجزة عن صعود أولى درجات السلم، ولئن قفزت فوصلت فإنها لا تستطيع الصمود، فإن استطاعت بطاقة اندفاعها وحماسها على الصعود فإنها لا تطيق طويلا الصمود، وعندها تسقط من فوق القمة.

وبالمعايشة مع الإنصاف يمكن أن تذوب كثير من الخلافات بين الجماعات وتنصهر الطاقات من شتى المآرب والدعوات في بوتقة العمل الواحد، وعلى حرارة الأحداث وسخونة الوقائع والمشكلات.

وبالمعايشة فوق أرض المعركة تبددت كثير من الأوهام، وزال كثير من الغبش واللبس الذي نشأ في الظلام، وأدرك الإنسان أن العمل الجدي الواقعي غير الأحلام العذبة التي تداعب الخيال، وإن الآمال لا بد لها من عظام الرجال لينقلوها إلى وقائع وأفعال.

وبالتجربة الحية الواقعية أدركت أن الجماعات الإسلامية يكمل بعضها بعضا، ولا غنى عن التعاون على البر والتقوى، ولا يمكن لأي حركة أن تقيم مجتمعا إسلاميا بدون الاستفادة من طاقات المسلمين، وأن تكسب كل ذرة خير تستطيعها في صالح العمل الإسلامي ابتغاء مرضات ‍الله![2]

(3) مراعاة الحاضنة الشعبية

"إن مراعاة المذهب الحنفي من قبل المجاهدين العرب أمر ضروري وشرط أساسي لنجاحهم داخل أفغانستان، ولا يمكن للعربي أن يصل إلى قلب الأفغاني إلا إذا احترم دينه، والدين في ذهن الأفغاني متمثل في المذهب الحنفي، فمن خالفه فإنما يخالف الإسلام نفسه، وأي عربي يخالف المذهب الحنفي فإنما هو وهابي، والوهابية في نظر الأفغاني العامي إنما هي طائفة من الطوائف الضالة الخارجة عن الملة الإسلامية كالنصيرية والقاديانية والدروز والإسماعيلية، ولقد عملت عوامل كثيرة على تعميق هذه النظرة تجاه الوهابية، وهذه العوامل ذات جذور تاريخية تمتد قرونا.. على رأسها:

1.    الخلاف بين الدولة العثمانية وبين الوهابية، والدولة العثمانية لها احترام كبير في نفوس الهنود والباكستانيين والأفغان، لأنها دولة الخلافة ومنار الإسلام.
2.    الإعلام البريطاني الذي مكث فترة طويلة يعمق هذا الشرخ ويزيد هذه الهوة، ولا زالت إذاعة بي بي سي تبث سمومها يوميا لهدم الثقة بين العرب والأفغان.
3.    الصوفية التي كان لها سيطرة على نسبة من الناس.
4.    الشيعة، وهؤلاء سواء في إيران أو في داخل أفغانستان لا زالوا يضربون بمعاولهم ويحاولون أن يهدموا الصلة بين العرب والمسلمين في أفغانستان وباكستان وغيرها.

ولأجل هذا كله فقد كنا نرجو الإخوة العرب أن يتركوا بعض هيئات الصلاة المخالفة للمذهب الحنفي، وفي هذا فتاوى كثيرة من العلماء وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل والإمام مالك وابن تيمية"[3].

أقول: ما يزال هذا الكلام مفقودا في الساحات الجهادية للأسف الشديد، وقد تسبب فقدانه هذا في أزمات عديدة بعضها لم يعد بالإمكان جبره!!




[1] عبد الله عزام، موسوعة الذخائر العظام، ط1 (بيشاور: مركز الشهيد عزام الإعلامي، 1997م)، 1/835.
[2] السابق 2/ 728، 729.
[3] السابق 2/727.

ماذا تعرف عن أبي مسلم الخراساني

قال الخليفة العباسي المأمون: «أَجَلُّ ملوك الأرض ثلاثة، وهم الذين قاموا بنقل الدول وتحويلها: الإسكندر، وأزدشير، وأبو مسلم الخراساني».

وقد وصلنا في حكايتنا فصول الثورة العباسية ودروسها، في المقالات الماضية[1]، حتى اللحظة التي تسبق انطلاق الثورة في خراسان، والذي سيكون على يد أبي مسلم الخراساني.

فما قصة أبي مسلم؟

تتعدَّد الروايات وتصل إلى حدِّ التضارب حول أصل أبي مسلم الخراساني وطريقة انضمامه إلى الدعوة؛ وانقسم المؤرِّخون تبعًا لذلك في القول بأنه مولى فارسي أو هو عبد، وإذا ما أخذنا بالرواية التي يتناقلها الكثير من المؤرِّخين؛ فإن القصة تكون كالآتي: وُلِد أبو مسلم في قرية قرب أصبهان من أب فارسي وأم أَمَة، ولقد اضطر والده تحت ظروف مالية قاهرة إلى بيع الأَمَة التي كانت حاملًا بأبي مسلم إلى عيسى العجلي؛ الذي كان يمتلك بعض الأراضي في ضواحي أصبهان، فهناك وَلَدَت إبراهيم الذي نشأ مع أولاد العجلي، وحينما شبَّ عمل في خدمتهم، وفي جمع الأموال من مزارعهم المنتشرة في أصبهان والكوفة، وصار مولى لهم.

وفي الكوفة تعرَّف على بعض الأتباع من الغلاة، وجذبه العمل إلى «آل البيت»؛ بل اشترك في حركة المغيرة بن سعيد العجلي في الكوفة عام 119 هـ؛ لكنه استطاع أن يفلت من السلطة الأموية ولم يُمَسَّ بأذى. وظلَّ ملازمًا لأبي موسى السَّرَّاج يعمل في صناعة السروج، ويتلقى منه آراء الشيعة لآل البيت، وعند العجليين تعرَّف أبو مسلم على الدعوة العباسية، حينما التقى ببعض الدعاة العباسيين الذين زاروا بعض العجليين في سجن الكوفة -وكانوا في طريقهم إلى الحجاز- فلفت أنظارهم؛ فأعجبوا به وكسبوه إلى دعوتهم، وأخذوه معهم إلى إبراهيم الإمام بعد أن استأذنوا أبا موسى السراج[2].

ملامح شخصية أبي مسلم

كان أبو مسلم قصيرًا، أسمر، جميلًا، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل الشعر، طويل الظهر، قصير الساق والفخذ، خافض الصوت، فصيحًا بالعربية والفارسية، حلو المنطق راوية للشعر، عالمًا بالأمور، لم يُر ضاحكًا ولا مازحًا إلَّا في وقته، ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يُرَى مكتئبًا، وإذا غضب لم يستفزه الغضب. ظهرت عليه ملامح النبوغ منذ صغره، ثم زادت مع الأيام توهجًا واشتدادًا؛ فكان شجاعًا ذا عقل ورأي، وتدبير وحزم، وكان عالمًا بالشعر[3].

كان أبو مسلم من الأمثلة التي تُضرب في علوِّ الهمَّة، وذلك في كل أموره، كما كان شخصية قوية وعنيدة لا تقبل بالهزيمة، ولو كانت في لعبة شطرنج، يروي أحد أقرانه هذا الجانب من شخصيته فيقول: «كنت أطلب العلم فلا آتي موضعًا إلَّا وجدت أبا مسلم قد سبقني إليه، فألفني، فدعاني إلى منزله، ودعا بما حضر فأكلت، ثم قال: كيف لعبك بالشطرنج؟ فقلت: إني لاعب بها. فدعا بشطرنجه فتناولت السواد فوضعته بين يدي، فتناولها من بين يدي وأعطاني البياض، فأَشْفَتْ شاهه على القتل[4]، فداخَلَه أمرٌ عظيم، فاغتممت له، ثم قال لي: العب فقد فرج الله. فَخَلَّص شاهه، وجعل يقول:

ذروني ذروني ما قَرَرْتُ فإنني ... متى ما أُهِج حربا تضيق بكم أرضي
وأبعثُ في سود الحديد إليكمُ ... كتائب سود طالما انتظرت نهضي[5]

ويقول هو عن نفسه: ارتديت الصبر، وآثرت الكتمان، وحالفت الأحزان والأشجان، وسامحت المقادير والأحكام، حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي[6].

تميز أبو مسلم عن غيره من دعاة العباسيين بالكفاءة والعسكرية، ودهاء الدبلوماسية، وفتوة الشباب[7]، وأثبتت الأيام أنه إداري ناجح، كان يهتم بإحصاء قوته وجنده ومعرفتهم بأعيانهم وأنسابهم وبلدانهم[8]، وفعله فيما سيأتي هو أوضح دليل على مواهبه!

استقرَّ أبو مسلم عند الإمام محمد بن علي العباسي يعمل في خدمته، ومن بعده مع ابنه إبراهيم بن محمد، ولفتت شخصيته ومواهبه نظر إبراهيم بن محمد؛ فاستعمله في حمل الرسائل إلى الكوفة وخراسان، وهو عمل في غاية الخطورة -بالنسبة إلى تنظيم سري- يدل على ثقة الإمام إبراهيم في كفاءة أبي مسلم وأمانته، وإخلاصه للدعوة، والإمام إبراهيم هو الذي طلب منه تغيير اسمه إلى عبد الرحمن بن مسلم، وكَنَّاه بأبي مسلم الخراساني[9].

لا ندري بالتحديد كم ظلَّ أبو مسلم يحمل الرسائل بين مراكز الدعوة، لكنَّه ظلَّ فيه إلى عام 128 هـ؛ حيث سيتم تكليفه بالمهمَّة التي أدخلته باب التاريخ!

أبو مسلم أمير الدعوة في خراسان

من خلال هذا العمل اكتسب أبو مسلم معرفة بأحوال خراسان[10]، كيف لا وهو يُطالع تقارير تتوخَّى أكبر قدر من الصدق والدقة لأنها مرفوعة إلى الإمام.

وفي (128هـ) طلب النقباء في خراسان أن يُرسل الإمام مَنْ ينوب عنه من أهل البيت؛ ليكون ممثلًا له أثناء إعلان الثورة، وذلك لاشتداد العصبيات في خراسان ذلك الوقت؛ مما يجعل وجود رجل من آل البيت قوة للدعوة، وبعد فشل إبراهيم الإمام في إقناع عدد من الرجال مثل سليمان بن كثير وقحطبة بن شبيب وإبراهيم بن سلمة، قرَّر اختيار مولاه أبى مسلم الخراساني[11].

وأغلب الظن أن رفض نقباء خراسان القيام بهذا الأمر كان نوعًا من الزهد في المسئولية إزاء هذه المرحلة الفاصلة، وهذا مما يظهر في عدد من أقوالهم مثل قول سليمان بن كثير: «ما كرهت القيام بهذا الأمر إلَّا أنَّ أكون أضعف الناس فيه نية». والزهد في المناصب الكبرى لدى مؤسسي الدعوات الدينية أمر مفهوم؛ فالغالب على هؤلاء الرجال أنهم يفزعون عند الجزع، ويقلون عند الطمع، ويتعرَّضون للمخاطر لا يرجون إلَّا وجه الله وثواب الآخرة، كما يبدو أنهم كانوا يتوقَّعون في حال رفضهم أن يقدم عليهم واحد من آل البيت، وربما الإمام نفسه ليقود الثورة؛ كما هو الحال في كل ما سبق من ثورات معروفة.

وعلى الناحية الأخرى فلم يكن أمام الإمام إبراهيم إلَّا أنَّ يدفع برجل مثل أبي مسلم؛ الذي توفرت له عدة مزايا تجعله الرجل المناسب:

فهو رجل من غير آل البيت، فلن يُؤَثِّر ظهوره على سرية اسم الإمام، الذي سيظل مجهولًا بالنسبة إلى الأمويين، حتى اللحظة المناسبة التي يتحقق فيها النجاح الكامل، وفي حالة ظهوره وفشل الدعوة فإن رأس الدعوة المتمثل في الإمام سيظل مجهولًا؛ ويتمكن من إعادة ترتيب الصفوف من جديد، مثلما حدث عند مقتل أبي عكرمة السراج وحيان العطار وعند مقتل خداش.

وهو في ذاته رجل كفء لهذه المهمَّة، وقد ظهرت منه المواهب الذاتية المدهشة التي تجعله مؤهلًا للقيام بهذا الدور؛ حتى لقد وصفه الإمام إبراهيم بعد التجربة والمعاشرة بقوله: «هذا عضلة من العضل[12] ... إني قد جربت هذا الأصفهاني، وعرفت ظاهره وباطنه، فوجدته حجر الأرض»[13]. وبالإضافة إلى هذا فهو قد اكتسب علمًا وخبرة بالحال من واقع عمله في نقل الرسائل.

ثم هو رجل من الموالي؛ ومن شأن اختياره قائدًا للدعوة في خراسان أن يجذب للدعوة كثيرًا من الموالي، الذين سيرون بأعينهم كيف لا تُفَرِّق الدعوة الجديدة بين العرب وغيرهم، بل كيف يبلغ المولى أن يكون سيِّدًا على شيوخ العرب! وقد أسهم هذا بالفعل في انحياز كثير من الموالي إلى الدعوة العباسية.

وعلى الرغم من أن هذا السبب الأخير قد يُحدث أزمة في صفوف الدعوة، فقد لا يتقبل نقباء الدعوة وهم شيوخ العرب أن يتولَّى عليهم واحد من الموالي، لا بل هو مع هذا الخادم الذي كان يخدمهم قبل سنوات بسيطة، والذي دخل الدعوة على أيديهم .. على الرغم من هذا فإن الإمام إبراهيم قد عرض الأمر عليهم من قبل فلم يقبلوا، وأصرُّوا على أن يبعث لهم الإمام من عنده مَنْ يقود أمرهم في هذه اللحظات، فمن ثَمَّ كان طبيعيًّا ألا يعترضوا على هذا الاختيار .. على أنه قد احتاط مرَّة أخرى لمثل هذا السبب فكتب مع أبي مسلم أنه لو وافق سليمان بن كثير على أن يظلَّ هو الأمير فهو الأمير؛ وعلى أبي مسلم أن يكون من جنوده باذلًا له حقَّ السمع والطاعة.

ترى كيف ستمضي الأمور؟

هذا ما نؤجل الحديث عنه للمقال القادم إن شاء الله تعالى.

نشر في ساسة بوست



[2] البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 119 وما بعدها، والدينوري: الأخبار الطوال ص337، 338، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 215، 290، ومجهول: أخبار الدولة العباسية 253 وما بعدها (وقد أفاض في ذكر نسبه وخبره حتى انضمامه للدعوة واستقصى جميع الروايات في أمره)، والخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 10/ 207 وما بعدها، وابن عساكر: تاريخ دمشق 35/ 408 وما بعدها، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/ 461، 474، والذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 52، وصالح سليمان الوشمي: أبو مسلم الخراساني ص11 - 19، ود. فاروق عمر: الثورة العباسية ص86.
[3] ابن عساكر: تاريخ دمشق 35/ 413، وابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 146، وما بعدها، والذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 48، وصالح سليمان الوشمي: أبو مسلم الخراساني ص19 - 21، 95 - 99.
[4] أشفت شاهه على القتل: المراد أوشك على الهزيمة في الشطرنج.
[5] ابن عساكر: تاريخ دمشق 35/ 412، والذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 53.
[6] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 10/ 208، وابن عساكر: تاريخ دمشق 35/ 414.
[7] د. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص21.
[8] الطبري: تاريخ الطبري 4/ 308، 313، وابن مسكويه: تجارب الأمم 3/ 266، 274.
[9] البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 120، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 232.
[10] د. فاروق عمر: الثورة العباسية ص87.
[11] البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 119، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 300.
[12] المعنى الظاهري الحرفي: «مشكلة من المشاكل». وتقال للمبالغة والتعظيم والإعجاب.
[13] ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 147، والذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 50.