الأحد، أغسطس 18، 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (17) كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط


مذكرات الشيخ رفاعي طه (17)

من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط

·        لماذا عزلنا أول أمير للجماعة الإسلامية في أسيوط بعد شهور؟!
·        حاول الإخوان إثناءنا عن عزل أمير الجماعة الإسلامية لكننا أصررنا على ذلك!
·        لم نستجب لمحاولات الإخوان فرض هيمنتهم على شباب الجماعة الإسلامية!

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة:

خضع أسامة حافظ وكبار زعماء الطلاب لاختيار الشاب الطالب بالصف الأول بكلية الطب أسامة السيد كأمير للجماعة الإسلامية بالجامعة، في واحدة من وقائع الزهد وتوقير الكبار وتقديم مصلحة الدعوة على مصلحة النفس، على النحو الذي أشرنا إليه سابقا.

لكن وَضْع أميرٍ على رأس الإخوة الكبار، وهو لا يتمتع بمواهب القيادة، لم يكن أمرا طبيعيا، لقد صار الأمر كأنه وُضِع أمير شكلي ليدير شيئا أكبر منه وأعظم، وجرى الأمر بهذه الصورة: الاسم والمنصب الرسمي لأسامة السيد، والزعامة الحقيقية لمن هم كأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وغيرهم. له الصورة ولهم حمل العبء العملي في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم يصدرون عن طبعهم وما استقر عليه الأمر في الفترة الماضية، فهم الذين يملكون مقاليد العمل على الحقيقة.

عُرِفت جامعة أسيوط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان هذا أبرز سمت للعمل الدعوي الشبابي فيها، وقد حاول أسامة السيد تعطيل هذا الأمر مرارا ولكنه لم يفلح!

كان أسامة السيد واجهة قيادة الإخوان في الجامعة، وبدأ يظهر بالتدريج لماذا وضعوا أسامة السيد في هذا المنصب وأصروا عليه في ذلك المعسكر، كانت بداية المشكلات في اجتماع مجلس شورى الجامعة، حيث يجتمع أمراء الكليات ليتشاوروا ويقرروا ماذا يفعلون، فإذا اتفقوا على شيء قال أسامة السيد: لا بد من الرجوع للإخوة الكبار، لا يمكن أن نتصرف في هذا بغير إذن الإخوة الكبار، وهكذا!.. يقصد بهم قيادة الإخوان في المحافظة.

وعندئذ يزمجر الإخوة أمراء الكليات، أولئك الذين أسسوا العمل ونظموه وتحملوه وكانوا يعملون باستقلال تام قبل أن يطرأ عليهم هذا الوضع الجديد، ويعترضون على هذا الأسلوب الذي يرهن العمل وقراره لآخرين، وأسامة من جهة يصرّ على ألا يُمْضِي أي أمر دون هذا الرجوع لقيادته في الإخوان واستئذانهم، ويتمسَّك بشرعية اختياره أميرا وله على الجميع حق السمع والطاعة!

تعددت الوقائع، يخرج أسامة من اجتماع مجلس شورى الجامعة إلى قيادة الإخوان بما استقر عليه أمرهم، فإما أقرُّوهم فعاد إليهم بإمضاء ما اتفقوا عليه، وإما اعترضوا فلم يُقِرُّوهم فسعى في نقض ما اتفقوا عليه بالأمس.

هنا بدأ ينمو عزمٌ لدى أسامة حافظ بأن يعزل أسامة السيد! وحدَّث بقية الإخوة بما في نفسه، يقول: اخترنا أسامة السيد أميرا فإذا هو مخبر، يذهب إلى الإخوان فيخبرهم بكل شيء، وكلما اتفقنا على أمر رهنه لقرار ورغبة "الإخوة الكبار" عنده، والجامعة لها وضعها الذي لا يفهمه من كان خارجها، ولا يمكن أن يُقاد العمل في الجامعة من خارجها، وذهب هذا مثلا وشعارا "الجامعة تقاد من داخلها لا من خارجها".

وجد كلامه صدى في نفوس بقية الإخوة، وتشاوروا: كيف نعزله؟ قالوا: نجمع الناس كما جُمِعوا أول مرة، ونختار مرة أخرى، ولئن أعادوا اختياره فهم وما أرادوا، ولكن سيكون اختيارهم هذه المرة اختيارا حرًّا يجب علينا قبوله، وإن لم يختاروه فلن نسمح مرة أخرى لهذا الضغط أن يُمارس علينا، ولن يُفرض علينا من لا نقتنع به.

كان هذا في ذات السنة، لقد تولى أسامة السيد إمارة الجامعة في النصف الأول من العام الدراسي 1976 – 1977، بدأت ولايته في شهر نوفمبر أو ديسمبر 1976، وقضينا في هذه المشكلات الداخلية سحابة هذا العام حتى قررنا إقامة المعسكر العام لعزله في شهر مارس أو إبريل 1977، واخترنا أن يكون أيضا في مسجد عمر مكرم.
وليس يعني هذا أن العمل في الجامعة قد توقف، بل نحن في هذه السنة قد فزنا برئاسة اتحاد الطلاب في الجامعة. وكما هو معروف فقد كانت إمكانيات اتحاد الطلاب الرسمي العصب الأقوى في العمل الدعوي في الجامعات تلك الفترة.

حاول الإخوان ما استطاعوا إثناءنا عن فكرة الدعوة إلى معسكر، ثم حاولوا إثناءنا عن فكرة الانتخابات في المعسكر أيضا، طلبوا أن نعطيه فرصة أخرى، سنة أخرى، فترة جديدة، ونحن في إصرارنا نرفع شعار "الجامعة تقاد من داخلها لا من خارجها" و"لا فرصة إلا لمن يأتي به الطلاب"، يجادلوننا: ها قد صرنا في نهاية السنة الدراسية والوقت قد ضاق بل قد فات، ولن يتمكن الجديد من فعل شيء إذا انتُخِب، ونحن نرد: المهم عندنا أن يتحقق اختيار حقيقي للطلاب، ولئن اختاروه مرة أخرى فلا مشكلة عندنا..

وهكذا أخفقت محاولاتهم في إفساد الأمر، وذهبوا في محاولة حشد أتباعهم لإعادة انتخابه!

كان زعماء تنظيم المعسكر والدعوة إليه ثلاثة: أسامة حافظ وصلاح هاشم وأنا.. وكان حضور صلاح هاشم نوعا من الدعم المعنوي والروحي باعتباره مؤسس العمل الدعوي في الجامعة مع أنه كان قد تخرج في هذ الوقت.

بدأنا بانتخابات أمراء الكليات، وفيما أتذكر كانت النتائج هي هي، فيما عدا أمير المدينة الجامعية التي فاز بها هذه المرة ناجح إبراهيم وكان طالبا في كلية الطب، خلفا لأخ اسمه محمد عباس أو شيئا قريبا من هذا، وقد كان هذا الأخ من الجماعة الإسلامية أيضا لكنه لم يعد من المشهورين من رجالها فيما بعد.

اختير أسامة السيد أميرا لكلية الطب مرة أخرى، وجاء دور اللحظة المهمة، لاختيار أمير الجامعة.

كانت قيادات الإخوان حاضرة أيضا، نفس المجموعة: د. دسوقي شملول ود. محمد حبيب والمحامي محمد الغزالي، وفيما أظن الأستاذ عبود أيضا، وحاولوا قدر إمكانهم منع اختيار بديل لأسامة سيد، ولكن قيادات العمل الطلابي التي بدأته كانوا حاضرين أيضا: صلاح هاشم وأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وعبد الله عبد السلام.

ولم أحضر أيضا هذا الاجتماع، ولا أتذكر السبب الآن، لكني أدركته في اللحظات الأخيرة!

تداول الحاضرون فيمن يمكن أن يكون أميرا للجامعة، كان الإجماع منعقدا على رفض أسامة السيد، لكن ليس ثمة إجماع مقابل على شخص البديل، كان أسامة حافظ أول من طُرِح ليكون هو أمير الجامعة، ولكن أسامة حافظ رفض، رفض لئلا يقال: فعل هذا كله لأنها أرادها لنفسه. مثلما تنازل عنها أول مرة زهدا فيها وإيثار لما ظنه مصلحة العمل الدعوي.

وكان الشيخ أسامة حافظ هو الذي رشح ناجح إبراهيم ليكون أميرا للجامعة!

قال له الإخوان: لكن ناجح إبراهيم حليق، وأنت كنت تنتقد أسامة السيد لأنه حليق أيضا، فقال: يلتحي من الآن. فالتحى ناجح من هذه اللحظة وصار أميرا للجامعة.

انتهى الأمر، وصعد أسامة السيد المنبر ليقول كلمة، وهنا دخلت المسجد فأدركت هذه الكلمة!

الحق أنه قال كلمة مؤثرة حقا، بل لقد أبكاني فيها، وذكر أن ما حدث اليوم أمر غير شرعي، وأنه خروج على أمير شرعي، وأنه عمل لا يجوز، ولا أرضى عنه، وبصفتي أميرا للجماعة لا أقبل به، وذكر نحو هذا الكلام. كانت أشبه بخطبة التنحي عن العرش!! وانقضى الأمر، وأعلن ناجح إبراهيم أميرا للجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط.

وقبل أن أترك هذا المقام فإني أسأل الله أن يجمعنا بالدكتور أسامة السيد على خير وعلى ما يحب ويرضى، هو الآن طبيب كبير، ولكنه ليس حاضرا في الساحة الإسلامية، أو بالأحرى لا أدري الآن أين موقعه من العمل الإسلامي، وقد قابلته مرة أخرى في التسعينات، لقد كان أخا دمث الخلق جدا، وكان أصغر منا في السن ونحن أكبر منه، واختاره الإخوان –كما ذكرتُ من قبل- لكي يقضي أكبر فترة ممكنة في التواجد داخل الجامعة، بحيث يؤسس لحركة الإخوان داخل جامعة أسيوط، لكن هو كشاب كانت إمكانياته القيادية ضعيفة، لم يكن الأمر مجرد صغر في السنّ، فربما كان الأخ صغيرا ولكن ارتفعت به مواهبه، ولذلك لم يكن قادرا على احتواء الإخوة الذين كانوا أكبر منه وأقوى في مسألة القيادة.

كان يمكنه أن يعود للإخوان في كل القرارات لكن بشكل أذكى وأكثر احترافا وحصافة، دون أن يعطي شعورا لمجلس شورى الجماعة الإسلامية أنهم رهن قرار الإخوان، لقد كان يعلم أن هؤلاء الذين معه ليسوا أبناء جماعة الإخوان، ومن ثَمَّ فهم لا يقبلون بهذا الارتهان والقيادة من الخارج، أحسب أني لو كنتُ مكانه لكنت ركزت جهدي واهتمامي في احتواء أولئك الذين ليسوا من الإخوان ليصيروا جزءا من الإخوان فيما بعد، فأشركهم معي في القرار والإدارة، بدلا من أن أقول: لا بد من الرجوع للإخوان، يمكنني أن أقول: ما رأيكم أن نستفيد من رأي هؤلاء الإخوة الكبار ومن خبرتهم؟ هلم بنا لمزيد من الفائدة نناقش هذا الأمر مع هؤلاء الإخوة الكبار، وهكذا.. أنشئ نوعا من التعامل والاحتكاك بين هؤلاء الإخوة وبين الإخوان الكبار عسى أن يجعلهم ذلك من الإخوان تدريجيا! لكن الذي وقع أن الإخوة الكبار في الإخوان كانوا كأصحاب الفيتو والمرجعية المفروضة على مجلس شورى الجماعة الإسلامية بالجامعة، وبالتالي أنشأ هذا شعور النفور وقوَّى شعور الاستقلال لدى الشباب. لعله لو كان أسنَّ من ذلك وأخبر حركيا كان سيمكنه أن يدير الأمر بشكل أفضل.

نشر في مجلة كلمة حق 


الخميس، أغسطس 08، 2019

الحج الممنوع والقلب المفجوع؟


وصلا بالمقال الماضي، نستأنف ونقول:

بعث الله في نفوس المؤمنين حب البيت الحرام والشوق إليه، وكانت تروي لي أمي عن جدتها رحمها الله أنها حجَّت على مواكب الجِمال، وأن الناس في تلك الأيام كانوا يوَدِّعون الحاج كوداعهم الميت، فإن الطريق طويل، والأخطار كثيرة، وقد يكون الخطر بسيطا كعقرب أو أفعى في الصحراء، أو مرضا بسيطا لا يوجد له الطبيب والدواء، وقد يكون خطرا كبير كما يحدث من قُطَّاع الطريق أو ظلم الحُكَّام ونحوه. والمقصود أن رحلة الحج كانت أشبه برحلة الموت إلا أن الشوق الذي يتردد في صدور المؤمنين لا يفتر ولا يهدأ حتى يحرك صاحبه إلى هذه الرحلة ولو كانت رحلة موت!

ولست أنسى يوما كنت فيه في مؤتمر بجامعة إفريقيا عن "طرق الحج في إفريقيا"، فاستفدت من بعض المشاركين أن المذهب المالكي يجعل الاستطاعة في الحج هي الاستطاعة البدنية، بمعنى أن صحيح البدن قد فرض عليه الحج ولو كان فقيرا، فكان أهل الشمال والغرب الإفريقي يخرجون من بلادهم البعيدة، فإذا نفدت نفقته عمل في أي عمل يلقاه في أي بلد حتى يحصل أجر مرحلة من الرحلة، فلا يزال يعمل وينتقل إلى أن تنفد نفقته فيعمل ثم ينتقل حتى يصل إلى البيت العتيق. وهكذا اتصل المسلمون في أقصى غرب إفريقيا والأندلس بالحرمين والمشارقة، وهكذا بقيت الأمة واحدة متجانسة.

ولكن السؤال الذي يلح على الخاطر: أي شوق هذا الذي يحمل صاحبه على أن يتكبد كل هذا العناء في رحلة مخوفة مجهولة محفوفة بالمخاطر؟!.. لا تفسير لهذا بأي مقياس مادي، إنما هو الحب الذي أودعه الله قلوب المؤمنين.

يروي محمد لبيب البتانوني في رحلته إلى الحج "الرحلة الحجازية" (1327هـ = 1909م)، وكان ممن اختير ضمن موكب الخديوي عباس حلمي الثاني لما عزم على الحج، يروي أن الحج يهذب الأخلاق تهذيبا لو أن الحكومات انتبهت إليه ليسرت سبيل الحج على الناس، وذكر أن الحكومة المصرية كانت "في الزمن الغابر تُخرج إلى الشوارع والحارات في أشهر الحج أناسا يتغنون بأناشيد (يسمونها تحانين) تُحرِّك عواطف الناس إلى أداء هذه الفريضة" (الرحلة الحجازية، ص162).

وذكر الشيخ رشيد رضا في رحلته للحج (1334هـ = 1916م) ذات الملاحظة عن تشويق الحكومة المصرية للحج، فروى أن ركاب الدرجة الثالثة كانوا ينامون على ظهر السفينة، وأولئك كانوا "من أدنى طبقات المصريين، قد دعَّهم إلى الحج دعًّا ما كان من عناية الحكومة ببعث حجاج يحجون، وحَمْلِها الأغنياء على مساعدة الفقراء على الحج بالمال، فوق ما كان من تسهيل سائر الأسباب" (مجلة المنار 19/563).

وهذه الحكومة المصرية التي نتحدث عنها هنا ليست حكومة إسلامية، بل هي حكومات فاسدة كانت تحت الاحتلال الإنجليزي، وكان رأسها الخديوي أو الملك هو سليل أسرة محمد علي باشا زعيم التغريب والعلمنة في العالم الإسلامي، ومع ذلك فإن بعض الشر أهون من بعض، فما لاقيناه من حكم العسكر من بعدهم صار يُشَوِّق إلى أيامهم! كما أن حكومة الحجاز في تلك الأيام أيضا لم تكن حكومة إسلامية بل كانت تنسج المؤامرة مع الإنجليز للانقلاب على الدولة العثمانية فيما عرف بالثورة العربية.

هذه المساعدة والتشويقات التي كانت تبذلها الحكومة وتساعد الفقراء ليحجوا، تثير الأذهان لمعرفة كم كان يكلف الحج في تلك الأيام، ومن حسن الحظ أن المؤرخ المصري الكبير د. حسين مؤنس أخبرنا أنه حجَّ في عام 1937 (أي في مطلع عهد الملك فاروق)، يقول: "لم يكن معي إذ ذاك إلا مائة جنيه كنت قد ادخرتها، وكانت كافية في تلك الأيام لكل مطالب الحج من نفقات سفر وإقامة وما لا بد من أدائه من ضرائب قليلة كان لا بد من دفعها"، وفي نهاية الرحلة كان قد أنفق ثمانين جنيها فقط بما في ذلك السفر ذهابا وإيابا!!

كان عمره في هذا الوقت ستة وعشرون عاما، وكان الجنيه المصري وقتها يساوي 4 دولارات، أي أن تكلفة الحج على المصري كانت تساوي 320 دولارا، وهو ما يوازي الآن خمسة آلاف جنيه مصري، لكن رحلة الحج هذه الأيام تكلف المصري في المتوسط مائة ألف جنيه!!

منذ ذلك الوقت حتى الآن جرت في النهر مياه كثيرة، قيل عن مصر إنها استقلت وصار يحكمها أبناؤها الوطنيون، وفاض نهر النفط في الحجاز حتى صار ملوكها وأمراؤها مضرب المثل في البذخ والترف والإسراف وهدر الأموال، ومع ذلك اختفى من مصر التشويق إلى الحج وتضاعفت تكاليفه، كما ضيَّقت السعودية على الحج وفرضت عليه الضرائب، خصوصا ذلك الذي أراد تكرار الحج والعمرة، فعليه أن يدفع الأموال الكثيرة لسلطات مصر ثم لسلطات السعودية.

أما الذي صارت تُشَوِّق إليه مصر وتسهله السعودية فأمر آخر، إنها حفلات الرقص والخلاعة والمجون في جدة، إذا قصدت إلى تلك الحفلة خرجت لك التأشيرة السعودية في دقائق، ولم تكلفك السلطة المصرية شيئا من الضرائب. وقد حاول بعض الأذكياء استثمار هذا في الذهاب إلى العمرة فألقي القبض عليهم في السعودية ثم خضعوا للتحقيق الأمني في مصر، إذ كيف لك أن تستغل تسهيلاتنا لحفلات الطرب والرقص فتذهب إلى البيت الحرام؟!

هذا فضلا عن أن السلطة السعودية تمنع كثيرا من المسلمين أن يحجوا أو يعتمروا، فالذي يعارض السلطة السعودية لا يستطيع أن يفكر في زيارة البيت الحرام ولا أن يتمتع بالأمن فيه، على أن السعودية لا تقتصر في ذلك على معارضيها، بل هي تتطوع فتحرم معارضي الأنظمة الأخرى الصديقة أيضا، وقد وقع أنَّها سلَّمت حجاج ومعتمرين إلى أعدائهم يسومونهم سوء العذاب ثم يقتلونهم!!

بل أكثر من ذلك، السلطة السعودية تمنع شعبا من الحج لأن السعودية على خلاف سياسي مع النظام الحاكم هناك، أعني: المسلمين في قطر، وهذه عقوبة فريدة من نوعها، قد أنكرها أهل الجاهلية الأولى، فلقد كانت قريش في مأزق شديد أمام العرب أن منعت رسول الله من العمرة وهما على عداء، حتى قال حليف قريش الحليس بن علقمة: أيحج الناس من لخم وجذام وحمير ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟!!

كلما شب الشوق للحرم في نفسي تناولت كتابا من كتب الرحلات الحجازية، أتلمس في الحكاية عن بيت الله إرواء شيء مما في صدري، فإذا الرحلة تزيد الشوق شوقا، ثم جاء صبيحة يوم لا أنساه، حصلت فيه على كتاب "المختار من الرحلات الحجازية"، وهو كتاب بديع ممتع عجيب، جمع الرحلات الحجازية بما فيها المغمور المطمور، ثم لخصها وانتقى منها، ونشرها رحيقا لذيذا يجمع بين المتعة والفائدة.. كان هذا الكتاب أحد أغلى ما في مكتبتي من الكتب، أتناوله كل حين وأنهل منه رحيقا عذبا من أجواء البيت الحرام. لكني كلما تناولته كلما آلمني وعذبني أن مؤلفه الآن في سجون السعودية، إنه الداعية الموهوب صاحب الهمة العالية والمؤلفات الغزيرة، محمد موسى الشريف!!

رجل من آل البيت، من أهل المدينة، وأمه مصرية، جمع في برديه بين الحجاز ومصر.. فلو كانت مصر ما تزال تثير الأشواق للحرم، أو كانت السعودية ما زالت ترحب بالحجاج، لكان هذا الرجل وكتابه يوزع مجانا على الشعوب! بدلا من تأشيرات اللهو والخلاعة التي تصدرها هيئة الترفيه!

ألا لو كان للمسلمين خليفة لأنشدنا له قصيدة شوقي الباكية المبكية التي شكا فيها من ولاة مكة وظلمهم وجورهم قائلا:

ضجَّ الحجاز، وضجَّ البيت والحرم .. واستصرخت ربَّها في مكة الأممُ
قد مسَّها في حماك الضُّر، فاقض لها .. خليفةَ الله، أنتَ السيدُ الحكم
أُهِينَ فيها ضيوفُ الله واضطُّهِدوا .. إن أنت لم تنتقم فالله مُنتقم
عزَّ السبيلُ إلى طه وتربِته .. فمَنْ أراد سبيلا فالطريقُ دم
ربَّ الجزيرةِ، أدرِكْها، فقد عَبثَتْ .. بها الذئابُ، وضلَّ الراعيَ الغنم
إن الذين تولُّوْا أمرَها ظلموا .. والظْلمُ تصحبُه الأهوالُ والظُّلَم
في كلَّ يومٍ قتالٌ تقشعرُّ له .. وفتنةٌ في ربوع اللهِ تضطرم

الأربعاء، أغسطس 07، 2019

نظرية مدهشة مثيرة للتأمل!


صدر الشهر الماضي في اسطنبول كتاب "نظريات ونماذج بيت المقدس" لأستاذ العلاقات الدولية د. عبد الفتاح العويسي، وفي هذا الكتاب مزجٌ بين فروع عدة من علوم السياسة والتاريخ والعلاقات الدولية، ولذا فقد كان هو مطلع سلسلة عنوانها "نحو تصور جديد للعلاقات الدولية" مما يجعلنا نتوقع أن السلسلة تخبيء لنا المزيد منها. كذلك جاء العنوان الفرعي للكتاب على هذا النحو "لتفسير الأحداث المعاصرة وتوجيهها وصناعة التاريخ المستقبلي".

المؤلف اسم معروف مشهور في الدراسات المقدسية، وهو حقل الدراسات الأكاديمية المتعلقة ببيت المقدس، وهو مؤسس ومدير الوقف المعرفي لدراسات بيت المقدس، الذي يقيم مؤتمرا علميا سنويا في هذا المجال، وتصدر عنه مجلة فصلية محكمة أيضا، فضلا عما يصدر من الدراسات الأخرى خارج هذه السياقات.

لست هنا في معرض التعريف بالمؤلف أو الكتاب، مع أن الأمر يستحق ويبدو شيقا ومثيرا، لكن سأركز على مسألة واحدة تعد جوهر الفكرة التي بُنِي عليها الكتاب، وهي فكرة تحولت –مع دراسات المؤلف عبر عقود- إلى نظرية في العلاقات الدولية، والواقع أن هذه النظرية تفتح الطريق للتفكير في عدد من الأمور بشكل مختلف، وبشكل عام فإن قوة النظرية هو فيما تطرحه من نموذج تفسيري جديد قادر على ضمِّ عدد من الظواهر في سياق واحد.

في هذه السطور أسوف تعريفا عاما لهذه النظرية مؤملا أن يفتح هذا الطريق لقراءة الكتابة ومواصلة البحث في الآفاق الجديدة التي يفتحها هذا التفسير الجديد.

بدأت النظرية من قول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله).

إذن، فالمسجد الأقصى كما في الآية هو مركز البركة، وتنتشر البركة من حوله، أي أننا لو رسمنا خريطة مفترضة للبركة، فستبدأ دوائر البركة تنداح من مركز المسجد الأقصي وتتسع حوله.

لكن أين تنتهي مساحة البركة هذه؟.. فرسَّام خريطة البركة يريد أن يعرف أن يقف!

يجيب المؤلف: إلى المسجد الحرام! ويستدل على اختياره هذا بالآية نفسها، فقد حددت الآية ذلك بعبارة (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، وبهذا فإن المسافة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى هو نصف قطر دائرة البركة.

وبهذا تكون الدائرة التي مركزها المسجد الأقصى وحافتها المسجد الحرام هي دائرة البركة الكبرى المذكورة في آية سورة الإسراء.

يضيف المؤلف، ولا يمنع هذا من رسم دوائر أصغر منها، لأن منطقة بيت المقدس لها فضائل خصوصيات أخرى وردت في العديد من الأحاديث والآثار، وكذلك منطقة الشام لها خصوصيات أخرى وردت في آحاديث وآثار أخرى، ومن ثَمَّ قام المؤلف بتقسيم دائرة البركة الكبيرة هذه إلى دائرتين أصغر منها.

الدائرة الأولى: وهي مركز إشعاع البركة الأقوى المنطلق من بيت المقدس، ويشمل إقليم بيت المقدس.

والدائرة الثانية: التي هي متوسطة في البركة، وهي أبعد قليلا، تشمل منطقة مصر والشام وجزيرة قبرص في البحر المتوسط.

وما إن تم هذا الرسم وجرى توقيع هذه الدوائر على الخريطة حتى بدأت تظهر نتائج مثيرة للتأمل، وهي النتائج التي تحتاج مجهود المؤرخين وأساتذة العلاقات الدولية في البحث وراءها وتعميقها لتكوين النظرية الجيوسياسة الخاصة ببيت المقدس.

من خلال مجهود بحثي تاريخي، توصل الدكتور خالد عبد الفتاح العويسي، مدرس التاريخ بجامعة ماردين، وهو ابن المؤلف، إلى رسم إقليم بيت المقدس، الذي يمثل الدائرة الأولى من البركة، الدائرة الضيقة الصغيرة التي ينطبق عليها أحاديث وآثار فضائل بيت المقدس. وعلى مجهوده هذا تم اعتماد مساحة الدائرة الأولى.

يمكن بمجهود تاريخي بسيط إثبات الارتباط التاريخي القوي بين مصر والشام، وأنهما يمثلان جناحان لقوة الأمة، وعبر التاريخ الإسلامي كان اتحاد مصر والشام في دولة واحدة يمثل لحظة من لحظات قوة الأمة، كما كان انفصالهما في حكمين مختلفين هو من لحظات ضعف الأمة، هذا أمر يمكن لباحث التاريخ استدعاءه بسهولة، وهو يمثل ركنا ركينا من النظرية الجيوسياسة للعالم الإسلامي.

لكن النتائج الجديدة التي جاءت بها النظرية، وهي التي تدعو للدهشة والتأمل، كانت أعمق من هذه النظرة السريعة: لقد أظهرت دوائر الرسم أن المسافة بين بيت المقدس وحلب هي نفسها المسافة بين بيت المقدس والإسكندرية، أي أن الإسكندرية وحلب هما على حافة نفس الدائرة المرسومة من مركز بيت المقدس. وهو ما يعني حسب النظرية أن كمية البركة الواصلة إليهما من بيت المقدس متساوية، وهو ما يعني حسب النظرية أيضا أنهما بأهمية واحدة في الوزن الجيوسياسي في النظرية العامة للأمة.

باستدعاء التاريخ هنا سنرى أن المدينتين كليهما كانتا من معاقل الجهاد في العديد من فترات تاريخ الأمة، ثم من معاقل الثقل المالي الاقتصادي في العديد من الفترات أيضا.. ومما يلفت النظر أن بداية تحرير الشام في عصر الدولة الزنكية كان في حلب، وبداية تحرير مصر في نفس العصر كان من الإسكندرية بمجهود صلاح الدين وأسد الدين شيركوه. لن نمضي الآن وراء الاستنتاج فإنما المقصود هنا التعريف بما قد يأتي من نتائج مدهشة.

وعلى ذات الغرار فإن من أعجب النتائج أيضا أن المسافة بين بيت المقدس والمدينة المنورة هي ذات المسافة بينها وبين أنقرة. ولقد كانت أنقرة (التي تضم في جنباتها مدينة عمورية القديمة) هي المدينة الثانية المقدسة لدى الإمبراطورية البيزنطية، ولذلك أرادها المعتصم بالفتح ليثأر من غارة الروم في وقته، وسمي فتحها بفتح الفتوح في القصيدة الشهيرة لأبي تمام "السيف أصدق إنباء من الكتب"، كما أن المدينة المنورة هي المدينة الثانية المقدسة في الإسلام.

كذلك فإن المسافة بين بيت المقدس ومكة هي ذات المسافة بينها وبين اسطنبول، اسطنبول التي هي القسطنطينية والتي هي المدينة المقدسة الأولى للإمبراطورية البيزنطية، والتي بشر النبي بفتحها وكان فتحها عملا غير مجرى التاريخ كله، حتى عرف فاتحها بالسلطان الفاتح. كما أن مكة هي المدينة المقدسة الأولى في الإسلام.

يجادل المؤلف، صاحب النظرية، بأن موقع المدينة من خط البركة هو نفسه موقعها من الوزن الجيوسياسي للأمة، ولذلك أخد في تتبع مواقع المدن وخرج بنتائج تستحق التأمل والتدبر، وهي للوهلة الأولى مثيرة ومدهشة، وتلفت النظر إلى بعض المدن الواقعة على خطوط استراتيجية مهمة، كما ستعيد لفت النظر إلى تاريخ بعض المدن المغمور المطمور، ليعاد فهم العلاقة بين السيطرة على هذه المدن.

لا ريب ستثير النظرية من الدهشة بقدر ما ستثير من الخلاف، ولكن المقصود هنا هو التعريف بها ولفت النظر إليها، عسى أن يساعد هذا علماء الأمة ومفكريها والحريصين عليها في إطار سعيهم لفهم سنن الحياة ومسار التاريخ وقوانين الجغرافيا وموازين العلاقات الدولية.



الاثنين، أغسطس 05، 2019

ضرورات الحركات


ما من صاحب هم وحرص على هذه الأمة إلا وهو يحاول إدراك السر الذي ينقل من حال الضعف والهزيمة إلى حال العز والنصر، فتراه لا يجلس مجلسا ولا يفتح كتابا ولا يحضر ندوة ولا يستمع إلى متكلم إلا وهو يحاول أن يفتش في كل ذلك عن طريق الحل. هذا السعي من أدلة الهمَّ ولعله من أدلة الصدق مع الله.

وفي هذا الحال يثار التفتيش في التجارب التاريخية، مع أنه لن يمكن تكرار تجربة تاريخية بحذافيرها أبدا، فالزمن نفسه جزء من تغير المشكلات وتغير الأوضاع، ومع ذلك يظل المسلم يحاول دائما استخلاص السنن والقواعد العامة التي لا تتبدل مع تغير الزمن.

ونحن المسلمون ننظر أول ما ننظر إلى تجربة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فقط لكونها أنجح تجربة تاريخية بشرية على الإطلاق وبشهادة غير المسلمين من المؤرخين والباحثين، بل لأن الاقتداء بالنبي أمرٌ شرعي، أُمِرنا به في الكتاب والسنة، وإن كثيرا من تجارب الملوك والزعماء الأقوياء الناجحين لا يجوز لنا الاقتداء بها، فكم كان ثمن نجاح كثير من الزعماء دماء ملايين الناس وخراب المدن والبلاد!

إذا نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحاولنا أن نرى ما هي الإمكانيات والأدوات التي كانت بيده عند لحظة بدئه الدعوة، وكيف عمل صلى الله عليه وسلم على امتلاك ما لم يكن معه، فلعل ذلك أن يكون واجب الوقت.

وما سأكتبه هنا إنما هي قراءة سريعة عجلى لهذا الأمر، وهي جهد المُقِلّ المُقَصِّر الكسير، ويظل الواجب الأكبر على علماء السيرة والتاريخ أن يبذلوا لأمتهم هذا العلم، فلعل كلمة من هنا مع كلمة من هناك، فتحا يأتي به هذا مع فتح يأتينا من ذلك، فيكون ذلك أول الشرر، وسبيل الهداية لقوم يبحثون عن عمل وينقصهم بعض العلم.

1. أول الأمر فكرة ورسالة، وحي ألقاه الله لنبيه، فأول الأمر هو هذه الفكرة والرسالة الدينية الصافية، بدونها ما كان ليحدث شيء على الإطلاق.

2. وثاني الأمر إيمان عميق راسخ أصيل لا يتزعزع ولا يتردد، إيمان بهذا الدين، وبصلاحيته لهذه الحياة في كل زمان ومكان، وبقدرته على إصلاح حياة الناس وإنقاذهم دائما وأبدا، إيمانٌ يختلط باللحم والدم والعظم، يجري في العروق وينبض في القلوب، إيمانٌ لا تستطيع قوة أن تنتزعه أو أن تصرف عن العمل له، التخلي عن الإيمان بالرسالة يساوي التخلي عن الحياة، إيمانٌ عبر عنه النبي في قوله: "أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم. قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة".

3. شخصية عظيمة موهوبة، تملك مؤهلات القيادة، تستطيع أن تجمع إليها العقول والقلوب، قائد يملك أن يفصح عن فكرته، شديد الصلة والارتباط بربه، يعرف مداخل الناس وله فيهم فراسة ونظر ورأي، رجلٌ على قدر المهمة.

سيقول قائل: أين هذا القائد؟

وأجيب: إنها والله لمعضلة حقا، لكن أمة تبلغ أكثر من مليار ونصف يستحيل ألا تحتوي على هذا الرجل، ربما تفرزه الأحداث فيجب عندها أن تكون القوى والجهود في ظهره ومن خلفه، وأن تخلص النفوس من حظ نفسها وتتجرد لله ولمصلحة الأمة، فأن نكون ذيولا في الحق خير لنا من أن نكون رؤوسا في الباطل، وهو خير لنا في الدنيا، فأن نسوق للزعيم المسلم دابته خير من أن نرعى خنازير الكافر الذي سيحتلنا ويذلنا.

ربما تفرزه الأحداث، وربما نحتاج أن نبحث عنه بعينٍ أخرى كما كان طالوت في أمة بني إسرائيل المهزومة، كان بينهم وكانوا يبحثون عن قيادة، مقاييسهم كانت تحجبه عن عيونهم، ولما جاءهم خبر السماء بأنه القائد المصطفى من الله استنكروا هذا الاصطفاء (تعسا لأمة مهزومة ترفض نخبتها القائد المصطفى من الله استكبارا وعلوا، لهذا هُزِموا واستُذِلُّوا)، نحتاج أن نبحث عن كل كفاءة وطاقة وموهبة ونوسع لها ما استطعنا سبيل الارتقاء، وما أكثر قادة أمتنا الذين نصروها وأعزها فكانت مسيرة حياتهم فصولا من تقديم المخلصين لهم والتعريف بهم.
[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2015/01/blog-post_3.html]

4. رجالٌ أكفاء على قدر المهمة، رجال صالحون في أنفسهم، فعَّالون في مجتمعهم، رجال يتشربون الفكرة والرسالة حتى تبلغ منهم مبلغ اللحم والدم والعظم، وهم مع ذلك أهل كفاءة وفعالية، ونحن إذا نظرنا في الذين دعاهم النبي أول أمره لوجدناهم شخصيات متميزة في نفسها، أبو بكر أمة وحده، وهو فوق معدنه الأصيل النفيس، رجل تاجر صاحب أموال قادر على التمويل والإسناد، نسابة يعرف خريطة قبائل قريش، مؤرخ يعرف أيام قريش، مركز علاقات عامة "يألف ويؤلف"، وبمجرد ما آمن التقط ستة من كل قريش، فكانوا من العشرة المبشرين بالجنة ومن أعمدة الإسلام الكبرى، انظر مدى الخبرة والدقة والفراسة في معادن الناس. وعلي بن أبي طالب صبي فتى مستقل بنفسه قوي الشخصية يؤمن بدين يخالف دين قومه، وسيرته تدل على مبلغ قوته وشجاعته مع ذكائه ومقدرته. وخديجة، هي فوق معدنها النفيس امرأة مستقلة صاحبة قرارها، تدير تجارة وأموالا، تتاجر تجارة عالمية، ولا يخرجها هذا عن معنى الشرف والعفة والنزاهة، ولا يخرجها فيما بعد عن حسن التبعل للزوج واللين له، وإنها لموهبة وحزم وقوة. ثم فتش في كتب السيرة عن عثمان وأبي عبيدة وطلحة وزيد وسعد، كل واحدٍ منهم كان مع كونه شابا مستقل الرأي والنظر، معروف القدر والأثر.

والحركة الإسلامية الآن لا تدعو للإسلام من جديد، بل واجبها أن تنتقي الكفاءات المؤثرة، ولا تستكثر من الضعفاء والهزالي والكسالى الذين ما دخلوا حركة إلا أثقلوها وجعلوها منتفخة بلا أثر، بل إن حقيقة نكبتنا المعاصرة أن غالب جسد الحركة الإسلامية ليس أهلا للمهمات، بل وصل أولئك إلى مواقع القيادة فساقوا أتباعهم إلى المذبحة وقدموهم غنيمة باردة. يجب أن تكون الدعوة والانتقاء لمن يضيف إليها ولا يكون عالة عليها، دعوة للمؤثر الكفء الفعال مهما كان سبيل دعوته صعبا ومجهدا، وهي دعوة تستهدف نخبة الناس، ومراكز القوى والتأثير في المجتمع، والناظر في الخريطة القبلية للمسلمين الأوائل يشعر أنه انتقاء مقصود من أفضل نخبة الشباب في القبائل العليا لمجتمع قريش.

الحركة تنتقي، ولكنها لا ترفض من أقبل إليها مهما ضعفت إمكانياته ولا تصرفه (وهذا هو موضع عتاب الله لنبيه في ابن أم مكتوم، عاتبه الله في الانصراف عن الذي أقبل، لا في أنه دعا سادة القوم). إننا نؤمن بقول نبينا "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" وسنستعين بهؤلاء في الدعاء فكم فيهم من مستجاب الدعوة، ونتقرب إلى الله بخدمتهم ورعايتهم والنظر في أحوالهم، لكن حديثنا الآن عن مسارات العمل وما تحتاجه من كفاءات.
[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2017/11/blog-post_25.html]

5. تربية إيمانية مكثفة لهذه النخبة المختارة من الرجال، تربية تستهدف الارتقاء بأرواحهم وعقولهم بما ينزع عنهم شوائب الجاهلية ويجعلهم خالصين لهذا الدين. فَرَضَ الله على المسلمين قيام الليل كله أو نصفه أو ثلثه سنة كاملة (أربع ساعات قيام ليل بحد أدنى، يوميا، لمدة سنة، ثم نزل التخفيف). لا بد للحركة من برنامج إيماني قاسٍ لكوادرها الأساسية. إن أولئك الذين خاضوا هذه التجربة الإيمانية صاروا أعمدة الإسلام، أسقطوا ملك فارس والروم، وجاءت كنوز المملكتين بين أيديهم فلم يغتروا ولم ينهزموا ولم يتحولوا، كان رصيد الإيمان الذي امتزج بروحهم قد رفعها عن هذا، وكم رأينا في التاريخ وفي حياتنا من تخطفته أنواع الترهيب وشدة التكاليف، ثم رأينا من صمد في الشدة ولكن زل في الرخاء فزاغ وضل وبدَّل الدين حرصا على سلطة ومال بعدما صمد للسلخ والتعذيب. نسأل الله لأنفسنا ولجميع المسلمين الثبات على طريقه.

6. حماية سياسية، مثل التي وفَّرتها بنو هاشم وزعيمها أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا كان الأنبياء يُبعثون في أشراف أقوامهم، وكان النبي يُبعث في "ثروة" (مَنَعة) من قومه، وذلك حتى تقوى الدعوة ويشتد عودها وتستقل بحماية نفسها، وسيرة الدعوات أنها تستفيد من واقع المجتمع الذي تريد تغييره، وتوظفها لمصلحتها، فيجب أن تقصد الدعوة مواضع الحماية وعصبيات القبائل ومراكز القوى لتحتمي بقوتها ومكانتها، ولهذا يجب عليها أن تعرف خريطة مجتمعها جيدا قبل أن تبدأ الحركة. وفي الوقت الحاضر ربما يجب الاجتهاد في مسألة مراكز القوى العالمية، وإلى أي مدى يمكن الاستفادة منها، وكيف يمكن ذلك؟.. هذا عملٌ نضعه بين أيدي السادة العلماء.
[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2013/12/blog-post_11.html]

7. عاصمة مؤثرة، إن العمل في الأطراف والهوامش أسهل كثيرا، ونتائجه أسرع كثيرا، ولكنها أيضا: أضعف كثيرا، بينما العمل في العواصم أصعب كثيرا، ونتائجه أبطأ كثيرا، ولكن النجاح فيها يغير التاريخ. لقد بُعِث النبي في مكة وهي عاصمة العرب، وظل فيها عشرة أعوام يحاول أن يهتدي سادتها لكي يتبعهم العرب، فلما أبوا ولم يعد من أمل، ذهب إلى العاصمة الثانية: الطائف، ولما وجد صدودا لا إمكان معه لمحاولة أخرى، بدأ بعرض نفسه على القبائل حتى وجد الأنصار، ثم كانت المرحلة المدنية صراعا مع العاصمة المكية نفسها، حتى فُتِحت، ولما فُتِحت أقبلت جزيرة العرب مسلمة! تنجح الثورة طالما سيطرت على العاصمة، ينجح الاحتلال إن سيطر على العاصمة، يبقى النظام طالما سيطر على العاصمة، يفشل الاحتلال طالما لم يدخل العاصمة، العاصمة قادرة على استعادة الأطراف مهما ضعفت زمنا ولو طال، وبعض الثورات والتمردات استمرت خمسين سنة ثم ذبلت لما لم تنجح في السيطرة على العاصمة.
[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2016/08/blog-post_20.html]
[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2018/02/blog-post_56.html]

8. خطة واضحة، خطة البحث عن أرض تكون أرضا للدعوة، خطة تحول الدعوة إلى دولة، لقد كانت الفترة المكية فترة البحث عن دولة، استمرت المحاولة في مكة ما بقيت حماية بني هاشم وأبي طالب، فلما كُسِرت هذه الحماية بموت أبي طالب، و/أو لما بدا أن أهل مكة لن يؤمنوا، ذهب النبي إلى الطائف، ثم عرض نفسه على القبائل، وقبل من هذه القبائل حمايتها ولو داخل البلدة فحسب كما كانت بيعته للأنصار "وأن تحموني مما تحمون منه أنفسكم وأبناءكم"، ولو لم يؤمن الأنصار لطاف النبي على قبائل أخرى وأخرى حتى يجد له أرضا تنصره ليبلغ منها رسالة ربه، ولتكون أرض الدعوة وليكون أهلها أنصاره وحزبه. إن الوصول إلى الاستقلال بأرض لإقامة الدولة من بعد الدعوة كانت خطوة في طريق كل حركة ناجحة، سواءٌ أكان ذلك بتنفيذ ثورة، أو انقلاب، أو الاستقلال بناحية، ويظل الصراع دائما حول السيطرة على العاصمة التي تعني نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد.

وهذه الخطة يجب أن يستخلص لها أهل كل مكان ما يناسب وضعهم، إذ هي حصيلة النظر في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والأمن والسياسة، وبدون وجود رؤية كهذه يستحيل أن تحقق الحركة نجاحا، لأنها تصير كالتائه الذي لا يدري ماذا يفعل، يتحرك بالانطباع الانفعالي اللحظي، تحت ضغط الظرف والضرورة، يوظفه الأقوياء من حوله في صراعاتهم، ويدفع هو ثمنها كاملة دون أن يربح شيئا.
[اقرأ: http://melhamy.blogspot.com/2015/05/blog-post_4.html]
[اقرأ: http://melhamy.blogspot.com/2018/02/blog-post_56.html]

9. كفاح مرير مستمر، وتلك سنة الدعوات والحركات والدول والإمبراطوريات، نشاط لا يهدأ وجهاد لا ينقطع، وتحديات يتلو بعضها بعضا، ولا تستقر الدنيا لأحد، ولا تستقر على حال، ولقد كان هذا الأمر معلنا منذ اللحظة الأولى للدعوة (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، وقالها النبي لزوجه "مضى عهد النوم يا خديجة"، فمن كفاح لزرع الدعوة وغرسها في مكة، إلى كفاح لإيجاد الأرض والأنصار لها، إلى كفاح لإنشاء الدولة في المدينة، إلى كفاح لحمايتها وتثبيتها، إلى كفاح للفتح ونشر الدعوة، وراحة المؤمن –كما يقول الإمام أحمد- عند أول قدم يضعها في الجنة، لن تصل الحركة إلى مرحلة تتنسم فيها عبير الراحة، صراع يتصل فيه العدو من الشرطي الذي يراقب المسجد في القرية إلى رأس النظام العالمي الذي يراقب "التهديد الإسلامي" القادم، ومن نوازل زماننا أن هذا الخط بين شرطي القرية ورأس النظام العالمي قد صار متصلا ومتينا وسريعا، حتى كأنه عدو واحد في جسد واحد، إذا تهدد شرطي القرية تداعى له جسد النظام العالمي بالحمى والسهر. وتلك نازلة تحتاج اجتهادا في النظر ثم اجتهادا في العمل، تحتاج فوق مجرد الذكاء والحكمة واقتناص الفرصة، قوة أعصاب فولاذية في الصبر والتحمل وترتيب الأولويات وتحييد الأعداء وتسكين هذا وترغيب ذاك وتهدئة ذلك وتطمين أولئك. صراعٌ ما أصعبه على الضعيف المقهور.

لهذا فالواقعية شعار المراحل كلها، والواقعية ضد التهور وضد التنازل، وهي في الواقع تكاد تكون شعرة لا يدركها غير الحكيم الحصيف الذي جمع إلى الذكاء القوة، ولم يختر نبينا أن يتصارع مع جهتين في وقت واحد أبدا، فإذا اجتمعوا سعى في تفريقهم، ولو ببذل بعض المال وبعض التنازل.
[اقرأ: https://www.fb.com/mohammad.elhamy/posts/10152723798661615]

وفي النهاية فإن مهمتنا –على صعوبتها الشديدة- أسهل كثيرا فنحن لا نبعث أمة، ولا نبنيها من جديد، بل ننفض عنها الغبار ونزيل طبقة الصدأ، إنما نُذَكِّر بمعاني الدين التي هي عميقة في النفوس وفي الأرواح، فوق أننا إذا أحسنا الفقه في الدين علمنا أنه الرحمة للعالمين، وبقي أن نحسن عرضه والدعوة إليه، فكم من مظلوم مقهور لا يعرفه، فإذا عرفه آمن به وأخلص له.
الحركة الإسلامية ليست بديلا عن المجتمع، هي له كالمغناطيس لبرادة الحديد، تجمع طاقاته وتنظمها، ليست جزءا متعاليا على الناس، فكم في الناس من هو أحسن وأفضل من أفراد الحركة الإسلامية، إلا أنهم لظرف ما كانوا خارجها، الحركة الإسلامية ليست بديلا عن المؤسسات الدينية ولا وظيفتها أن تقدم العلم الشرعي، بل وظيفتها أن تجد الطريقة لتحريك هذه المؤسسات الدينية والاستفادة منها وبعثها واستثمار طاقتها. الحركة الإسلامية بنت الأمة والأمة حاضنتها، نمط التعالي والعزلة بل والتكفير نمطٌ مدمر للحركة الإسلامية نفسها. وقد كانت الأمة أسبق من الحركات إلى الثورات، وبذل الأمة في الثورات أوسع وأعظم من بذل الحركات. الحركة الإسلامية روح تسري في الأمة لتعيد تنشيط ما خمل منها.
[اقرأ: https://www.fb.com/mohammad.elhamy/posts/10156137185031615]