الأربعاء، يوليو 26، 2017

عجائب الفتوحات الإسلامية

هذا هو المقال الخامس والأخير من سلسلة "معجزة الفتوحات الإسلامية"، والتي التزمنا فيها بإثبات كل عناصرها من كلام المستشرقين والمؤرخين الغربيين، ومنهم من كان متعصبا مبغضا للإسلام وأهله.

(اقرأ: المقال الأول، الثاني، الثالث، الرابع)

ولهذه السلسة أكثر من غرض، إلا أن غرضها الرئيسي في وقتنا هذا أن نؤسس لحقيقة أن أحدا من الناس لم يكن له مثل رحمتنا وحلمنا بالبشر، وأن نبينا كان رحمة للعالمين وكانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس، وها نحن نعيش في عصر استضعاف يأكل فيه الجميع من لحومنا ويشربون من دمائنا ولا ثمة مغيث ولا ناصر، بل ولا أغاثتنا شعارات الإنسانية والحرية في شيء، وليس الحل –كما يسوق أعداؤنا وعملاؤه في بلادنا- أن نلقي السلاح وننبذ الإرهاب ونؤمن بالتعايش ونطلب السلام.. لم يكن هذا يوما حل ولن يكون، بل الحل في أن نمتلك القوة ونشهر السيوف ونقتص ممن ظلمنا ونقاوم من احتل ديارنا أو استبد بنا. ونحن حين نفعل لن نكون مثلهم ولن نتخلق بأخلاقهم، فكذلك كنا حين امتلكنا القوة وكنا على رأس الحضارة، ولم يستطيعوا عبر تاريخهم أن يُلزمونا أخلاقهم وطباعهم، فكنا أحلم منتصر وأشرف غالب.

لو كنا مثلهم لما نطق هؤلاء بشيء مما سردناه عبر المقالات الماضية، إنما أجبرتهم أخلاقنا والحقيقة التاريخية على أن يعترفوا بما كرهوا، وأول طريق عودتنا لما كنا فيه أن نثق بأنفسنا ورسالتنا ونفقه طبيعة ديننا وسنة أجدادنا الفاتحين، أولئك القوم الذين لم يقبلوا العار والقهر والضعف، فلما غلبوا لم يكونوا طغاة جبارين.

لن ننتصر إن غلبتنا الهزيمة النفسية وشاع فينا قول من يدعونا نحن إلى ترك الإرهاب أو يدعونا إلى السلام والتعايش ونحن المقتولين في كل مكان! مثل هذا هو نفسه نتيجة الاحتلال الغالب على النفوس والعقول حتى صار يرى الحق باطلا والباطل حقا!

في هذا المقال الأخير سنختم بذكر بعض عجائب الفتوحات الإسلامية، وهي جديرة أن تكون حاضرة في الأذهان دائما، وإن كلا منها ليستحق أن يفرد ببحث خاص، إلا أن المقام لا يتسع لغير الإشارة السريعة العابرة، كلٌ منها إعجاز تاريخي في نفسه، خرق بها العادة التاريخية في توسع الأمم وانتشارها وأخلاقها إن غلبت وانتصرت.

1. انهيار ميزان القوة لصالح الخصوم

أجمل هذا الأمرَ المستشرقُ الأمريكي اليهودي المتعصب، وأحد المعروفين بالعداء للإسلام، برنارد لويس[1]، إذ قال: "خلافا لبناة الإمبراطوريات الآخرين، لم يكن لدى العرب أي وسيلة خاصة تكتيكية أو فنية من شأنها أن تعلهم يتفوقون على خصومهم، فلم يكن عندهم ما يشبه الكتيبة المقدونية أو الفيلق الروماني أو جياد غزاة أمريكا الـ conquistedores أو القوة النارية للمستعمرين (الغربيين). بل إنهم، باعتبارهم دخلاء جاءوا ليهاجموا الإمبراطوريتين العظيمتين في ذلك الوقت، كانوا –على العكس- يعانون من نقص في المهارات والتسلح، وكذلك في العدد، ولم تكن لديهم خبرة قتالية في تشكيلات كبيرة. وفي الأيام الأولى لم تكن لديهم معدات الحصار ولا أسلحة الحصار، ومن ثم كان كل ما يمكنهم هو أن يطوقوا المدن المحصنة لا أن يحاصروها. ولم يكن لديهم أي أسطول. وحتى في البر لم يكن يوجد لديهم ما يقابل سلاح الفرسان المدرع والكتائب cotophracts الموجودة لدى بيزنطة وبلاد الفرس"[2].

فتح في التسامح

كانت الفتوحات الإسلامية آية في رحمة الغالبين، ويعدُّ كتاب "الدعوة إلى الإسلام" للمستشرق الإنجليزي الشهير توماس أرنولد[3] وثيقة تاريخية كبرى في شأن انتشار الإسلام في كافة أنحاء الأرض، على أخلاق المسلمين وسماحتهم ورحمتهم بأهل البلاد المفتوحة في كل الأنحاء شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، وقد تمكن المؤلف لإجادته العديد من اللغات –ومنها لغات قديمة- من الرجوع إلى وثائق قديمة على ألسنة زعماء الشعوب المفتوحة تشهد بأن الفتح الإسلامي كان خارقا للعادة التاريخية في سائر التوسعات الإمبراطورية الأخرى التي تزخر بأنباء المذابح أثناء الفتوح ثم بأنباء الإذلال والاستعباد بعد تمكن السلطان.

وقد استخلص أرنولد بعد تطواف طويلة وأمثلة عديدة هذه الخلاصة، يقول: "من هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن ذلك التسامح، الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار، وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"[4].

وعزا كثير من المستشرقين انتشار الإسلام ورسوخه في البلاد المفتوحة إلى هذا التسامح، منهم الكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي، يقول: "خير دليل على العلاقة الطيبة السلمية بين المسلمين وأصحاب البلاد المفتوحة، أن جميع هذه البلاد (ما عدا إسبانيا) ظلت أمينة للإسلام من القرن السابع إلى القرن الرابع عشر"[5].

وذلك أمر يخالف تماما سيرة الغالبين في المغلوبين! على نحو ما يقول جوستاف لوبون: "كان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا مثل دينهم"[6].

المفتوحون الفاتحون

وهذا من أعجب ما وقع في الفتوحات الإسلامية، ولم تعرفه سير الأمم الأخرى، إذ سجل التاريخ أن أقواما من أهل البلاد المفتوحة ساعدوا عن طواعية واختيار ومودة الفاتحين في استكمال فتوحهم، بل –وهذا هو المدهش- أن بعضهم قد تحول إلى الفاتح الذي يقود الجيش الإسلامي لفتح البلاد التي تليه.

ولا بأس أن نأخذ دليليْن فقط: دليلا من الشرق، وآخر من الغرب. فأما دليل الشرق فهو ما فعله أهل بخارى وخوارزم –وهم من الترك- وما بذلوه من مساعدة وعون حربي للقائد قتيبة بن مسلم الباهلي[7]. وأما دليل الغرب فهو أن فاتح الأندلس (طارق بن زياد) مغربي من الأمازيغ! وهو أمر لا نعرفه في غير التاريخ الإسلامي.

الفتح بالدعوة والبيان

 كذلك فإن رقعة الإسلام ليست هي الرقعة التي فُتِحت بالجهاد والسيف، بل ما تزال مساحة عظيمة من ديار الإسلام تدين به ولم تبلغها جيوشه، وقد أفرد المؤرخ المعروف د. حسين مؤنس دراسة لهذا الأمر فجعل عنوانها "الإسلام الفاتح"، وقال فيها: "أعدت النظر في المصور الجغرافي (للأرض) لأرى ما فتحنا بجهادنا وما فتح الإسلام بنفسه بالحكمة والموعظة الحسنة فخشعت نفسي، لأنني وجدت أن الإسلام فتح بنفسه أضعاف ما فتحنا، وأن دعوة الحق في تاريخنا كانت أمضى من كل سلاح، حتى البلاد التي خضنا المعارك لندخلها كان الإسلام هو الذي فتح قلوب أهلها واستقر فيها، وجعل بلادهم دياره"[8]، ثم ينتهي إلى القول "أصدق وصف يُطلق على الإسلام في هذا المقام هو أنه دين طيار، ينتقل من إنسان إلى إنسان ومن أمة لأمة في سهولة ويسر كأن له أجنحة قدسية تحمله وتجري به مجرى الريح، وإنك لتنظر إلى خارطة الأرض وتتأمل مدى انتشار الإسلام فتتعجب من سعته، ويزداد عجبك عندما تتبين أن ثلث هذه المساحة فحسب هي التي فتحتها الدول ودخلت الجيوش فيها بالإسلام، أما الباقي فقد دخلها الإسلام وملأ قلوب أهلها دون جهد منظم أو سياسة مرسومة لذلك"[9].

وإن قيمة دراسة د. مؤنس في كونها تفصيلا لما هو معروف بالإجمال، وهو ما شهد به عدد من المستشرقين من قبله، منهم جوستاف لوبون الذي قال: "لم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يوما فيوما مع أن الإنجليز، الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر، يجهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى. ولم يكن القرآن أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط... ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر"[10].

وهكذا نخلص من هذه السلسلة إلى حقيقة تاريخية لا مراء فيها، وهي أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت واحدة من مظاهر الإعجاز التاريخي لهذه الأمة الإسلامية، وهي ظاهرة خارقة لما جرت عليه عادة التاريخ في انتشار الأمم، وهو أمر لم نستدل على شيء منه إلا بأقوال المؤرخين والمستشرقين من غير المسلمين.




[1] برنارد لويس (1916 - ... ) مستشرق أمريكي يهودي متعصب، ومن أبرز خبراء الاستشراق، ويعده الكثيرون آخر جيل الاستشراق القديم، وقد طال عمره حتى تجاوز الآن مائة عام وواحد، وكان من أساتذة جامعة برنستون عش الاستشراق، وله دراسات كثيرة مشهورة في حقل التاريخ والسياسة الإسلامية.
[2] برنارد لويس، السياسة والحرب، ضمن "تراث الإسلام"، بإشراف شاخت وبوزوروث 1/212.
[3] توماس أرنولد (1864 - 1930م) من أشهر المستشرقين البريطانيين، أمضى في الهند عشر سنوات، وعمل أستاذا للفلسفة بجامعة لاهور، وكان من خبراء وزارة الخارجية البريطانية وعضوا بتحرير دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت في ليدن، وعمل أستاذا زائرا بالجامعة المصرية، وعرف بكتابه "الدعوة إلى الإسلام" لما فيه من مجهود ضخم هائل وإثبات لانتشار الإسلام بالدعوة وتسامح الفاتحين المسلمين.
[4] تومارس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص70.
[5] ر. ف. بودلي، الرسول، ص93.
[6] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص605.
[7] الطبري، تاريخ الطبري، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 4/15.
[8] د. حسين مؤنس، الإسلام الفاتح، ط1 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1987م)، ص4.
[9]  د. حسين مؤنس، الإسلام الفاتح، ص18.
[10] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص128، 129.

الخميس، يوليو 20، 2017

بهذا شهد الغربيون.. الفتوح الإسلامية انطلاقة حضارية

لم تكن الفتوحات الإسلامية الخارقة السرعة مجرد هيمنة عسكرية، بل لقد كانت انطلاقة حضارية أيضا! وهو واحد من إعجازاتها التاريخية التي نناقشها في تلك السطور القادمة، وكنا قد تناولنا جوانب منه في ثلاث مقالات سابقة (الأول، الثاني، الثالث)، ولا زلنا عند منهجنا في تبيين إعجازات الفتوح الإسلامية من كلام المستشرقين والمؤرخين الغربيين وحدهم.

لقد تفنن المستشرق الإيطالي المعروف فرانشيسكو جابرييلي في وصف هذا حين قال: "بين تاريخ العرب المظلم قبل ظهور محمد، وبين توسعاتهم المثيرة للإعجاب، تقف حقيقة الإسلام العظيمة، بالعقيدة الجديدة"[1]، ويفصل هذا بقوله: "وُلد الإسلام في منطقة من أكثر مناطق العالم القديم بدائية وتخلفا، ولكنه سرعان ما تجاوز حدوده وتطور من ظاهرة محلية وعامل داخلي في حياة الأمة العربية إلى عقيدة كونية وقوة عالمية، وذلك في عملية لا يزال المؤرخون يختلفون حولها حتى اليوم. إنها بالنسبة لأولئك الذين يدرسون الديناميكية الغامضة لهذه العملية، لا تعد شرقية ولا غربية، كما لا يُمكن إعطاؤها أي تحديد جغرافي أو ثقافي. إنها فقط القوة العجيبة التي تشع من العقيدة الجديدة، ومن الدولة التي أقامتها هذه العقيدة، والتي نَمَتْ في كل اتجاه، وأنتجت حضارة موحدة إلى حد يدعو إلى الدهشة، وذلك رغم الاختلاف الشديد بين البيئات والمستويات الثقافية التي ازدهرت عليها"[2].

وبعبارة أحلى يردد إدوارد بروي هذا المعنى في قوله: "وانجلى غبار الفتح وصلصلة السلاح عن إمبراطورية جديدة ولا أوسع، وعن حضارة ولا أسطع، وعن مدنية ولا أروع، عوَّل عليها الغرب في تطوره الصاعد ورقيه البناء، بعد أن نفخ الإسلام في قسم موات من التراث الإنساني القديم روحا جديدة عادت معه إليه الحياة، فنبض وشعّ وسرى"[3].

ويفسر مؤلفا "التاريخ الكامل للعالم" هذا بأن غزوات العرب لم تكن مثل غزوات البرابرة الذين أرادوا دائما أن يكونوا صورة من المتفوقين عليهم حضاريا، يقولان: "لم يكن برابرة الشمال يمارسون إلا ديانات "ضعيفة". وإن كانوا قد ساهموا في انتحار الإمبراطورية، فإن فكرتهم الوحيدة كانت تتمثل في أن يصيروا روما (أو صينيين في الشرق). أما العرب فكان لهم دين "قوي"... ولم يكونوا يريدون أن يصيروا روما، إنما أرادوا صنع عالم جديد. إذن فقد كان عملهم أدوم"، ويضيفان: "كان الفرسان المسلمون يبدون أنهم لا يُقهرون، كما أنهم لم يكونوا يجلبون معهم الفوضى وإنما نظاما جديدا"[4].

ولقد تكرر أن استعصت أمم على تغيير لغاتها وثقافتها وحضارتها على غزاتها من قبل ثم لم تلبث أن اعتنقت الإسلام فاستبدلت بذلك كله حضارة الإسلام ولغته العربية، يقول الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جوستاف لوبون[5]: "ما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، ونعد من الواضح خاصة أمر مصر التي لم يوفق فاتحوها من الفرس والإغريق والرومان أن يقلبوا الحضارة الفرعونية القديمة فيها وأن يقيموا حضارتهم مقامها"[6].

مَثَلُ الفتوحات الإسلامية كاللمسة الساحرة التي تحيي الحضارات، هكذا قال مؤرخ الحضارة ول ديورانت: "استعادت مصر تحت حكم المسلمين مجدها الفرعوني؛ كما استعادت تونس ومرَّاكش بزعامة العرب ما كان لهما من حكومة منظمة؛ وازدهرت مدائن القيروان وبالرمو وفاس إلى حين، أما إسبانيا في عهد العرب فقد وصلت إلى الذروة في تاريخ الحضارة؛ ولما حكم المُغُل المسلمون بلاد الهند فيما بعد شادوا كما يشيد الجبابرة، وأبدعوا كما يبدع الصُيَّاغ"[7].

وحتى المناطق التي خرجت عن الدولة الإسلامية لا تزال آثار الإسلام فيها باقية شاهدة وإن تطاول العهد وتباعد الزمن، ولو أخذنا مثالا واحدا من الأندلس التي مضى على خروج الإسلام منها خمسة قرون فسنرى –كما يقول المستشرق الإسباني أميركو كاسترو[8]- أن "أغلب المتخصصين يعرفون أن صدى الإسلام ظل باقيا في الآثار التي خلفها في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة، وكذلك العديد من المدن الأخرى قليلة الأهمية في هذا المقام، أما فيما يتعلق باللغة فهناك الآلاف من الألفاظ والمصطلحات العربية التي ما زال بعضها حيا، بينما عفا الزمان على بعضها الآخر، كما أن الأدب استلهم المصادر العربية، ووضح هذا الإلهام في قواعد الكهنوت، فمن خلال هذا الكتاب انتشرت في إسبانيا المسيحية وأوربا -ابتداء من القرن الثالث عشر- ثلاث وثلاثون حكاية ذات أصول مشرقية... وعندما نفكر في الشخصية الإسبانية لا يمكننا أن نباعد جانبا تسعة قرون من النسيج الاجتماعي الإسلامي المسيحي"[9].

ونختم هذا الإعجاز بمقولة المستشرق الفرنسي لويس سيديو[10]، حيث أراد تفسير الانطلاقة الحضارية التي صنعها المسلمون في البلاد التي نزلوها، فنقل عن هبمولد أن السر فيها هو التسامح الإسلامي، يقول همبولد: "والعرب كانوا ذوي نشاط منقطع النظير، وهذا النشاط هو آية دور ممتاز في تاريخ الدنيا، والعرب على عكس بني إسرائيل ذوي التعصب وعدم التسامح كانوا راغبين في مصاهرة الأمم المغلوبة من غير جحود بخُلُقهم القومي وذكريات وطنهم الأصلي"، وبعد أن أنهى دراسته التي استعرضت تاريخ العرب وحضارتهم قال فيما يشبه الخلاصة أن الحضارة الإسلامية لم تتوقف مع الانهيار السياسي العسكري للسلطة، وهو آية أن الانطلاقة الحضارية لم تكن فعل سلطة قاهرة بل طبيعة مجتمع ومنهج حياة، يقول:

"ما انفك المشرق يحترق منذ أوائل القرن الحادي عشر من الميلاد فأسفرت فتوح محمود الغزنوي، وغارة الأتراك السلجوقيين، والحروب الصليبية، وهدم السلطان الأيوبي الأول صلاح الدين لخلافة القاهرة (1171م)، وهدم الخان المغولي هولاكو لخلافة بغداد (1258) عن تغيير عميق في الوضع السياسي بآسيا. ما فتئ العلم يكون ثابت الخطوة مع ذلك، وما فتئ حَمَلَتُه محافظين على أمانته مع ذلك... فبينما كانت خلافة المشرق تفقد أجمل ولاياتها بالتتابع كان الغالبون يدينون بالطاعة لتفوق المغلوبين الثقافي؛ فيدرسون كتبهم ويستضيئون بنورهم... حقًّا إنه لمنظر رائع أن ترى انتصار سلطان حضارة العرب على همجية فاتحي الشمال أولئك الذين انقضوا على آسيا الغربية والجنوبية"[11].

هكذا ثبت، وبشهادة شاهد من أهلها، أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت خيرا للبلاد ورفعة للناس وإنقاذا لهم من ظلمات الجهل والتخلف والتعصب والهمجية، وإدخالا لهم في مرحلة أخرى من الحضارة الزاهرة.



[1] فرانشيسكو جابرييلي، محمد والفتوحات الإسلامية، تعريب وتقديم وتعليق: د. عبد الجبار ناجي، ط1 (بغداد: المركز الأكاديمي للأبحاث، 2011م)، ص179.
[2] فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: شاخت وبوزوروث 1/85.
[3] إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "تاريخ الحضارات العام" بإشراف: موريس كروزيه، 3/109.
[4] جان كلود بارو وغيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم، ترجمة: لحسن عيساني، (دبي: مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بيروت: دار الفارابي، 2008)، ص91، 92، 94.
[5] جوستاف لوبون (1841 - 1921م) مستشرق وفيلسوف وعالم اجتماع فرنسي مشهور، وهو صاحب نظرية "القطيع" الشهيرة في علم الاجتماع، وله اهتمام واسع بالحضارات وكتب عن حضارة الهند وحضارة العرب، وأرخ للثورة الفرنسية، وعرف في العالم الإسلامي بكتابه "حضارة العرب" الذي كان من أوائل الدراسات الغربية المنصفة المتوسعة في العصر الحديث.
[6] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000م)، ص605.
[7] ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران، (بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ)، 13/261.
[8] أميركو كاسترو (1885 - 1972م)، من أبرز النقاد الإسبان ومن أبرز تلاميذ المستشرق الإسباني الكبير منديث بيدال، عمل بجامعات مدريد وبرنستون، وهو من المدرسة التي أنصفت التاريخ الإسلامي في إسبانيا، وينصب اهتمامه على اللغة والأدب والثقافة.
[9] أميركو كاسترو، إسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود، ترجمة: علي إبراهيم منوفي، ط1 (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003م). ص63.
[10] لويس سيديو (1808 - 1875م)، مستشرق ومحقق، ولد وتوفي بباريس، وكان مدرسا للتاريخ في كلية بوربون، أشهر نشراته كتاب "جامع المبادئ والغايات في الآلات الفلكية" لأبي الحسن علي المراكشي، مع ترجمة فرنسية، وأشهر مؤلفاته "تاريخ العرب العام".
[11] لويس سيديو، تاريخ العرب العام، ترجمة: عادل زعيتر، ط2 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1969م)، ص332، 352، 353.

الأربعاء، يوليو 12، 2017

المعركة الفاصلة للحركة الإسلامية

فيما يبدو انكسرت حدة الهجوم على قطر بتوقيع تلك الاتفاقية الثنائية بينها وبين الأمريكان لوقف "تمويل الإرهاب". كانت نغمة "تمويل الإرهاب" هي العنصر المتكرر في كل التصريحات السياسية الصادرة عن العواصم العالمية، ولا يحتاج فهم المقصود إلى تحليل بل لقد حملته وثيقة المطالب بوضوح، فالمقصود بها هي الأصوات الإعلامية المعارضة للانقلاب العسكري في مصر وللنغمة السعودية الإماراتية التي يُراد لها أن تهيمن وتسود على عقول العرب! وما يُفهم من بين السطور ولا يُقال بوضوح هو وقف تمويل قطر للإسلاميين في مصر أو ليبيا أو بعض الفصائل السورية، وقبلهم جميعا: التوقف عن دعم حماس!

لا أحد يدري بعد مدى الصمود أو التراجع القطري في هذا الملف، إلا أنه على كل حال مناسبة لفتح الكلام في موضوع هذا المقال! مستئذنا القارئ الكريم في التوقف مؤقتا عن سلسلة "إعجاز الفتوحات الإسلامية بأقلام غربية"[1].

تدفع قطر وتركيا ثمن وقوفهما مع الثورات العربية، وهو الثمن الذي صار فادحا حين راهنوا على الجواد الخاسر الذي كُسِرت ساقه (الإسلاميون)، كلاهما وضع كل طاقته بما استطاع في دعم تلك التجارب، إلا أن التجربة الأهم والتي كان فشلها قاصمة الظهر هي الثورة المصرية.

اكتشف القطريون والأتراك بعد وقت، أن الإخوان لم يكونوا على مستوى الحدث، لكن الوقت الذي مضى كان قد أنشأ أقطابا ومحاور جديدة في المنطقة لم يكن ممكنا إزالتها ببساطة.

مشكلة قطر وتركيا معا هي ذلك الخناق الاستراتيجي، الدولتان بلا عمق استراتيجي، تركيا تعاني من حدود ملتهبة تطوقها، بعض اللهيب موروث من زمن العثمانيين وبعضه موروث من زمن القوميين (وقد فصلت هذا في دراسة سابقة)، وقطر تقع في مساحة ضيقة مخنوقة بين إيران والسعودية والإمارات (البحرين ليست إلا تابعا للسعودية)، والعداء التاريخي القديم بين القطريين والإماراتيين (القواسم تحديدا) زادت اتجاهات السياسة المعاصرة من رسوخه وتعمقه، والتخوف القطري الدائم من السعودية تعزز بمحاولات انقلاب متكررة على آل ثاني دفعهم إلى الاحتماء بالأمريكان، وتبدو إيران رغم العداء القومي والمذهبي والسياسي أعقل القوم وأدناهم إلى التفاهم، إلا أنه تفاهم موقوت لا ينتصر على الجذور التاريخية ولا على الأطماع المستقبلية. وفي تلك الحال لا تملك قطر سوى المال والإعلام، لا تملك سوى القوة الناعمة، بدونها لا وزن بل ولا وجود لقطر على ساحة السياسة، وهنا تجري المعركة!

لذلك كله مثَّل نجاح الثورة في مصر قوة هائلة يمكن أن تفيد منها تركيا وقطر، بل الواقع أن وجود مصر في مثل تلك المعادلة يغير خريطة المحاور الإقليمية كلها، وبقدر ما حاولت الدولتان التقاط تلك الفرصة الثمينة واستثمارها، بقدر ما كانت الخسارة فيها ضربة قوية، وأدت لتراجعات حادة في سياسات الدولتين! كانت مصر –على بُعدها الجغرافي، وأزمتها الاقتصادية- عمقا استراتيجيا قويا لتركيا وقطر.

والآن.. كيف ينبغي أن نفكر؟!

تبدو مطالبة القطريين والأتراك بمزيد دعم للمعارضة المصرية نوعا من الحماقة، وعلى الجهة الأخرى تبدو مطالبتهما بالتسليم ورفع اليد والاعتراف بالسيسي أشد جنونا لاعتبارات كثيرة، فمشروع السيسي لا يمكن له أن يلتقي بمصالح تركيا وقطر بحال بل هو نقيضها التام، ولم يتورع السيسي عن إطلاق كلابه الإعلاميين على السعودية لنهشها رغم كل ما فعلت له حين بدا منها بعض بعض التغير، ولقد ابتلع ابن سلمان هذا النهش بعبارته السخيفة المكشوفة "تقصد الإعلام الإخونجي!" رغم أن الإعلام الإخونجي يتعامل مع السعودية كخط أحمر. وهكذا كان أداء قيادات الإخوان وخياراتهم كالفخ المحكم والمأزق المغلق الذي يُوقع الحلفاء والداعمين في مسار التقدم فيه مهلكة، والتراجع عنه مهلكة أشد.

بقليل من تشغيل الخيال يمكننا أن نرى أن انقلاب الأوضاع في مصر كفيل بإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة كلها، في غزة وليبيا والسودان وسوريا وتركيا وقطر، وبقدر ما تبدو الأمور في مصر كبقعة من البنزين القابل للاشتعال بقدر ما تفتقد الشرارة التي يحرص الجميع على ألا تشتعل، ولهذا تستعمل السلطة كل وسائل البطش الممكنة بلا رحمة، وله يُراد إسكات كل صوت ثوري حتى ولو كان موقعا على الانترنت.

لو تصورنا أن الأمة واحدة، ولها زعيم واحد، ونحن في نفس ظروفنا الآن لتصورنا مباشرة أنه سيستعمل كل طاقة الأمة في تغيير الوضع بمصر، ذلك التغيير الذي سيمثل مفتاحا لبقية التغيرات، أو على الأقل متنفسا لأطراف كثيرة تعاني من الاختناق، فلا تزال مصر واحدة من أهم عواصم العالم الإسلامي والتغيير فيها يضرب بآثاره في سائر الأنحاء.

والعواصم من قواعد التاريخ، فالعاصمة هي قلب الدولة ومن يسيطر عليها يظل حاكم الدولة، وتنجح الثورة إن سيطرت على العاصمة، وتفشل إن لم تفعل، ولقد بُعث النبي في مكة "أم القرى" وعاصمة العرب، وحرص على إسلامها لأنه مفتاح إسلام العرب، ولما هاجر كانت مكة هي قلب معاركه وهدفها، ولما فُتِحت مكة أقبل العرب يدخلون في دين الله أفواجا، حتى سمي العام التاسع للهجرة (العام التالي للفتح) بعام الوفود.

ماذا يمنع الحركة الإسلامية أن توجه كل طاقتها للمعركة المصرية، باعتبارها العاصمة الثقيلة التي قد تغير هذا الواقع البائس؟ إن الحركة الإسلامية الواسعة المجهود والطاقة والمنتشرة عبر العالم تنفق الكثير من تلك الطاقة في معارك جزئية صغيرة وفي أنشطة دعوية مغمورة قليلة التأثير، أو حتى عظيمة التأثير لكنها لا تُقارن بما نتكلم فيه. فضلا عن تلك الطاقات الهائلة المعطلة في بلاد لا هي حبلى بثورات ولا حبلى بأمل قريب للحركة الإسلامية نفسها.

إن انطلاقة الجهود الإسلامية المعطلة أو المنصرفة إلى الجزئيات نحو المعركة المصرية قد يغير الكثير، وهو بقدر ما يوفر كثيرا من الجهد ومن الحرج على حلفاء يُحاصرون الآن ويدفعون الثمن بقدر ما يوفر أوراقا جديدة لأولئك الحلفاء في معاركهم على المدى القريب والمتوسط أيضا.

لقد كانت الهجرة فرضا على المسلمين في مرحلة المدينة المنورة، كانت الأمة تحتاج كل طاقاتها في معركة واحدة، ما كان للجهود أن تتشتت وتتناثر، ولقد اعْتُبِر من لم يهاجر غير داخل في ولاية المسلمين، حتى إذا تغير الوضع وفُتِحت مكة "عاصمة العرب" تغير التكليف الشرعي وقال النبي "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية".

نعم.. بقدر ما تبدو المعركة في مصر تعاني من أزمة خانقة، بقدر ما يبدو أنها المفتاح لحل مشكلات أكبر بكثير، وهو قدر مصر ومسؤوليتها ورسالتها، وهو ما فهمه الأوروبيون منذ الحملة الصليبية الخامسة وحتى الآن، فمن تلك اللحظة لم تكن الحملات تستهدف الشام حيث كنيسة القيامة ومهد المسيح، بل تستهدف مصر، وحين هُزِم الصليبيون كلفت الكنيسة المؤرخ الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللوا بكتابة تاريخ للحروب الصليبية فكتب تاريخا طويلا في 13 مجلدا، وكان من توصياته أن الغرب إن فكر في احتلال الشرق مرة أخرى فليبدأ من مصر لأنها القادرة على إمداد الشام بالمال والرجال، وهي النصيحة التي استمعت لها أوروبا فجاء نابليون بعدها إلى مصر ثم الشام، وتلاه الإنجليز باحتلال مصر ثم الشام، ولا تزال المعركة حول مصر والشام هي المعركة الحضارية التي يتحدد بها مصير العالم.

والسؤال التالي: إذا لم يكن للحركة الإسلامية رأس يمكن أن توجه طاقاتها كلها في اتجاه واحد، فهل يمكن أن ينبري لهذا النداء من يستشعر تلك المسؤولية فيصرف طاقته وطاقة من يستطيع استثارتهم نحو تلك المعركة؟!

قديما قال إبراهيم لما قال له ربه (وأذِّن في الناس بالحج) قال عليه السلام: وما يفعل صوتي؟ قال: عليك الأذان وعلينا البلاغ!

اللهم هذا الأذان.. وأنت المستعان، وعليك التكلان.




[1] راجع المقالات الثلاثة المنشورة: الأول، الثاني، الثالث.

الأربعاء، يوليو 05، 2017

دهشة المؤرخين الغربيين من الفتوحات الإسلامية

لقد ذكرنا في المقاليْن السابقين (الأول، الثاني) كيف كانت الفتوحات الإسلامية معجزة تاريخية مخالفة لما جرت عليه العادة التاريخية في فتوحات الأمم، وأن من أهم ما تميزت به الفتوحات هو كونها سريعة راسخة، فقد اكتسحت الأراضي بسرعة ثم رسخت فيها بعمق.

ولهذا ما يكاد المؤرخون يسجلون هذه الفتوحات إلا وتغلبهم الدهشة من تلك السيرة، وهكذا انتشر بينهم العجب حتى ليشعر المرء أحيانا أنهم يتفننون في وصفهم للفتوحات الإسلامية ليأتوا في وصفها بما لم يقله غيرهم:

فيصفها الفيلسوف الشهير برتراند رسل[1] بأنها خارقة لكل مألوف فيقول: "يبدأ العصر الإسلامي بالهجرة، سنة 622م، ومات محمد [صلى الله عليه وسلم] بعدها بعشر سنوات؛ فبدأت الفتوحات العربية بعد موته مباشرة، وسارت بسرعة خارقة لكل مألوف"[2].

ويصفها مؤرخ الفلسفة إميل برهييه[3] بأنها أمرٌ صاعقٌ، يقول: "تحددت مصائر الغرب في العصر الوسيط جزئيا بالفتح العربي الذي امتد من الهند إلى إسبانيا وتقدَّم وصولا إلى جنوبي إيطاليا والجزر اليونانية ليقيم ما يشبه الحاجز بين أوروبا وآسيا؛ وليس يجهل أحد كيف انبسطت في قرن واحد (ابتداء من سنة 635) هيمنة العرب على نحو صاعق، فلم تتوقف، وقد خارت قواها المتقدمة إلا عند أبواب بواتييه [شمال فرنسا] سنة 732 والتركستان الصيني سنة 751. وقد حمل العرب معهم لغة وديانة صارتا منذئذ لغة وديانة لأصقاع شاسعة"[4].

ويصفها الباحث الأمريكي مايكل هارت بأنها "أعظم غزوات عرفتها البشرية"، يقول: "استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية، فاتسعت الأرض تحت أقدام المسلمين من شمالي شبه الجزيرة العربية وشملت الإمبراطورية الفارسية على عهد الساسانيين وإلى الشمال الغربي واكتسحت بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكان العرب أقل بكثير جدا من كل هذه الدول التي غزوها وانتصروا عليها... ورغم ذلك فقد استطاع هؤلاء البدوء المؤمنون بالله وكتابه ورسوله أن يقيموا إمبراطورية واسعة ممتدة من حدود الهند حتى المحيط الأطلسي. وهي أعظم إمبراطورية أقيمت في التاريخ حتى اليوم"[5].

ويصفها المستشرق الأمريكي فيليب حتي بأنها شيء من الجنون: "لو تجرأ أحدهم على التنبؤ في أوائل القرن السابع المسيحي بظهور قوة لم يسبق لها نظير تقوم في مجاهل الجزيرة العربية التي لم يكن لها قبلا شأن تاريخي، وتدفع بنفسها على الدولتين العالميتين الوحيدتين في ذلك العصر، فتحلّ محل الواحدة –الساسانية- وتجرد الأخرى –البيزنطية- من أغنى ولاياتها، أقول: لو تجرأ أحد على مثل هذه النبوءة لعدّه الناس مجنونا"[6].

ويصفها المؤرخ والمفكر البريطاني إ. ه. جومبريتش[7] بالنار المنتشرة، يقول: "بدا كأن الناس قد أصيبوا بالشلل في مواجهة هذه الحماسة الدينية الجامحة. وفي خلال ست سنوات من وفاة محمد [صلى الله عليه وسلم]، كان العرب قد حققوا فتوحات في فلسطين وبلاد الفرس، كما كدسوا كميات ضخمة من الغنائم. بعض جيوش العرب الأخرى هاجمت مصر... وفي خلال أربع سنوات كانت قد سقطت في يد الجيوش. لاقت مدينة الإسكندرية العظيمة المصير نفسه. تنقلت الإمبراطورية العربية من قوة إلى قوة، تنتشر نيرانها من مكة وفي كل الاتجاهات. وكأن محمدا قد ألقى شرارة متوهجة على الخريطة"[8].

ويصفها المستشرق الإيطالي فرانشسكو جابرييلي[9] بأنها أمر لم يسبق له مثيل، يقول: "كانت انتصار الإسلام في مرحلته الأصلية تلك، إقامة للإمبراطورية العربية، وكان توسعا لشعب كان حتى ذلك الحين حبيس إرثه الصحراوي، امتد على قارتين، واتسم بطاقة ونجاح لم يسبق لهما مثيل"[10].

ويصفها المستشرق البريطاني الخبير مونتجمري وات[11] بالمذهلة، يقول: "كان الفتح العربي، بين سنتي 711 – 716م مفاجأة مذهلة لسكان إسبانيا. أما العرب أنفسهم، فلم يكن اجتياح إسبانيا في نظرهم سوى مرحلة من عملية التوسع الكبرى. كانت مرحلة عظيمة الفائدة وناجحة جدا، ولقد تحقق النجاح بسرعة قصوى... لم يكن التقدم هنا تدريجيا، بل في سلسلة من الوثبات كانت تتخللها فترات من الهدوء والتوطيد"[12].

ويصفها جاك ريسلر بالباهرة، يقول: "تقوم انتصارات العرب الباهرة على أمور متنوعة، يكمن أهمها في الروح الأخلاقية الرفيعة التي كانوا يستمدونها من الدين الجديد؛ فقد كان الإسلام قد علمهم الشجاعة وازدراء الموت اللذين جعلاهم أشداء لا يُقهرون. إلى هذه الفضائل الأخلاقية ينبغي تُضاف تقنية حربية كانت تحترم تشكيل وحدة القبيلة"[13].

ويصفها المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديل[14] بالمهيبة المدهشة، يقول: "هذه الفتوحات التي يبدو ذكرها مهيبا ومدهشا، لا بد من معرفتها لأنها هي التي سمحت للإسلام بالانطلاق كدين عالمي انتشرت معه بذات الوقت وتنامت الحضارة المرتبطة به. عندها ظهر المجتمع العربي الإسلامي الذي كان مكان ازدهاره امبراطورية متعربة ومسلمة. ولكن الظاهرة التي يمثلها هذا المجتمع وهذه الحضارة، لم تكن إلا لتذهل العديد من المؤرخين: كيف استطاعت حركة بمثل هذه الضخامة وبمثل هذه السرعة أن تكون ممكنة؟"[15]، ويتابع بقوله: "النجاح الذي لاقته هذه الغزوات... يدل ويفسر كيف تضخمت الحركة بهذه السرعة. ويبقى إذن، أن نفسر كيف استطاع فرسان رُحَّل، ذوو أسلحة خفيفة، وبسرعة عجيبة، النجاح في الاستيلاء على قسم من آسيا، وعلى إفريقيا الشمالية وإسبانيا، وفي احتلال القسم الأبر من الممتلكات البيزنطية –بما فيها الأناضول الذي تعرض من ذل الحين، وحتى أسوار القسطنطينية لعدة غزوات- ثم القضاء تماما على الإمبراطورية الساسانية التي قُتِل ملكها الأخير بعد انهزام جيوشه بصورة نهائية"[16].

ويقول ألبرت حوراني[17] أن التغيير كان مفاجئا وغير متوقع، يقول: "عند نهاية حكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (634 – 644م) كانت قد فُتحت الجزيرة العربية كلها وجزء من الإمبراطورية الساسانية والولايات السورية والمصرية من الإمبراطورية البيزنطية ولم تلبث بقية أراضي الامبراطورية الساسانية أن فتحت هي الأخرى. وفي غضون سنوات قليلة بعد ذلك كانت الحدود السياسية للشرق الأدنة قد تغيرت، وانتقل مركز الحياة السياسية من أراضي الهلال الخصيب الغنية والآهلة بالسكان إلى مدينة صغيرة قابعة على طرف العالم الغني ذي الثقافة العالية، وقد كان التغير مفاجئا وغير متوقع بحيث يحتاج إلى شرح"[18].

وفي المقال القادم بإذن الله سنواصل استعراضنا لما قاله المستشرقون والمؤرخون الغربيون عن عجائب الفتوحات الإسلامية لنفتح بابا آخر هو: أن تلك الفتوحات لم تكن فقط حركة غزو واحتلال بل كانت انطلاقة حضارية للمناطق التي وصلتها.




[1] برتراند رسل (1872 – 1970م) من أشهر فلاسفة العصر الحديث، ومن مؤرخي الفلسفة، له إسهام كبير في تطوير المنطق الرياضي، عُرف بمواقفه الداعية للسلام ونزع السلاح النووي، نال جائزة نوبل 1950.
[2] برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010م). 2/181.
[3] إميل برهييه (1876 – 1952م) فيلسوف فرنسي، تخرج من السوربون، اهتم بالفلسفة الكلاسيكية وتاريخ الفلسفة، ووضع تاريخا واسعا للفلسفة، وهو من أشهر أتباع الفيلسوف الفرنسي الشهير برجسون.
[4] إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة، بدون تاريخ)، 3/115.
[5] مايكل هارت، الخالدون مائة، ص15، 16.
[6] فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، ص61.
[7] إ. ه. جومبريتش (1909 – 2001م)، مؤرخ ومفكر بريطاني، نمساوي المولد، له العديد من المؤلفات في تاريخ الفن والثقافة.
[8] إ. ه. جومبريتش، مختصر تاريخ العالم، ترجمة د. ابتهال الخطيب، سلسلة عالم المعرفة 400، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مايو 2013م)، ص164.
[9] فرانشسكو جابرييلي (1904 – 1997م) كبير أساتذة اللغة العربية وآدابها في جامعة روما، برز في دراسة الشعر العربي وتحقيق نصوص التراث الإسلامي، ومقارنة النصرانية بالإسلام، وهو مترجم للعديد من نصوص الفكر الإسلامي إلى الإيطالية، انتخب عضوا مراسلا في المجمع العربي بدمشق وغيرها.
[10] فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: شاخت وبوزوروث 1/88.
[11] مونتجمري وات (1909 - 2006م) مستشرق بريطاني قدير، وكان عميدا لقسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرا، عرف بكتابيه في السيرة "محمد في مكة" و"محمد في المدينة" وهما من أقوى وأعمق ما كتب المستشرقون في السيرة ويدلان على مجهوده ودأبه العظيم، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى في التاريخ الإسلامي والعلاقة بين الإسلام والمسيحية.
[12] مونتجمري وات، في تاريخ إسبانيا الإسلامية، ترجمة: د. محمد رضا المصري، ط2 (بيروت: شركة المطبوعات، بيروت، 1998م)، ص20.
[13] جاك ريسلر، الحضارة العربية، ص46.
[14] دومينيك سورديل (1921 – 2014م) فرنسي، متخصص في تاريخ الحضارة الإسلامية، أستاذ مقيم في المعهد الفرنسي بدمشق سابقًا، وأستاذ في جامعة السوربون بباريس، ومدير مجلة الدراسات الإسلامية.
[15] دومينيك سورديل، الإسلام: العقيدة السياسة الحضارة، ترجمة: سليم قندلفت، ط2 (دمشق: دار حوران، 2003م)، ص35.
[16] السابق ص37.
[17] ألبرت حوراني (1915 – 1993م) مؤرخ بريطاني من أصل لبناني، أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد، ودرَّس في جامعات بنسلفانيا وشيكاغو وهارفارد، عرف لدى قراء العربية بكتابه المهم "الفكر العربي في عصر النهضة"، وتسود كتبه لغة هادئة وبحث جاد وعميق.
[18] ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية، ترجمة: أسعد صقر، ط1 (دمشق، دار طلاس، 1997م)، ص56.