السبت، أغسطس 27، 2011

قال التاريخ عن حكم العسكر

"لما توقفت الفتوحات، وقلَّ الغزو، وضَعُف الخلفاء، وذهبت هيبة السلطة اختلف الأمر تماما، إذ لم يعد هناك جند للجهاد، وبدأت حركات التمرد تحدث... كَثُر عدد هؤلاء الجند مع الزمن، وقوي نفوذهم لأنهم أصبحوا عصا الحاكم التي يضرب بها خصومه، وأصبح مركز قادتهم عظيما لأنهم وحدهم يستطيعون أن يوطدوا الأمن، ويُخضعوا أية قوة مهما علت، ثم غلبوا على أمر الخليفة نفسه حتى قتلوا الخليفة المتوكل على الله عام 247 هـ، وأصبح الخلفاء بعدئذ ألعوبة بأيديهم يعزلون من شاءوا ويقتلون من شاءوا ويُمثلون بمن شاءوا، واستمر ذلك حتى جاء البويهيون فسيطروا على السلطة كعسكريين، وكذلك أتى السلاجقة بعدهم، ولم يختلفوا عنهم من حيث الصفة، هؤلاء الجند أمرهم واحد سواء أكانوا عربا أم فُرْسًا أم تُرْكًا، هم عسكريون، فالأمر ليس مقتصرا على جنس أو خاصا به، فالجندي الذي رُبِّيَ تربية عسكرية، وعاش مع السيف والرمح وتعامل معهما، هو غير الذي يسوس الأمور، ويدبر الشؤون، يلين لشخص ويقسو على آخر، يستعمل الحمة ويضع كل شيء في موضعه، والجندي الذي يعيش في الثكنات، ويكون على أهبة القتال في كل وقت، ويخوض غمار المعارك حسب الأوامر التي تُعطى إليه هو غير الذي يحيا بين أهله، يخطط للمعركة من وجهة نظر سياسية، ويبحث في النتائج وما تؤدي إليه، وإن الذي يحيا حياة قاسية قد يحقد على أولئك الذين يعيشون حياة المترفين فيعمل ضدهم ويحاول أن يسلبهم ذلك، فإذا تم له سار على ما كانوا عليه.. وهذا ما يكون من العسكريين في كل وقت، وهذا التسلط العسكري على الحكم العباسي في عصره الثاني هو الذي أضعف الدولة لا لأن هؤلاء العسكريين ينتمون إلى شعب غير الشعب العربي كما يدعي دعاة العصبية العربية. وعندما خضعت الدولة للعسكريين، وسيطر الجند على مقدراتها بدأ أمرها يضعف، وشأنها ينحط، وهذا الأمر دائم، وقد يكتسب مع سيطرة العسكريين بعض الدعاية الخارجية، والهيبة المصطنعة، ولكنه أمر ظاهري ولا يلبث أن ينهار بعد زوال حكم الطاغية أو مع أول معركة وإن كانت صغيرة، لأن الشعب الذي أُذِلَّ لا يمكن أن يُقاتَل به، والفرد الذي جُوِّع لا يُمكنه أن يتحرك ويضحي بأوامر الذين جوعوه".

[المؤرخ السوري محمود شاكر: موسوعة التاريخ الإسلامي 5/24، 25 – متحدثا عن سيطرة الجند الأتراك على الدولة العباسية – صدر هذا الجزء قبل عشرين سنة 1991م]

***

وأكاد أجزم بأن المؤرخ محمود شاكر لم يقرأ كتاب الأيام الحاسمة وحصادها والتي روى فيها حسن العشماوي حديثا دار بينه وبين جمال عبد الناصر:

"جمال: إن الشعب المصري في رخاء.. وقد أثبت التاريخ لي أن هذا الشعب يثور أو يؤيد الثورات وهو في رخاء... أما إذا شغل بضيق الحال وشح الرزق انشغل عن الثورة.

حسن: أتعني أنك ستحرمه رخاء الحال لتضمن بقاءه تحت سيطرتك؟

جمال: لا.. لا طبعا... لم أقصد ذلك.. يا لك من خبيث في تحليل أقوالي" ثم يضحكان.

غير أن جمال عبد الناصر فعل ما توقعه حسن العشماوي الذي قضى بقية عمره هاربا في قصة هروب شديدة التأثير يمكن الاطلاع عليها في كتاب "مذكرات هارب".

***

وفَسَّر أستاذنا الراحل العظيم الفذ الكبير محمد جلال كشك نكسة الحضارة الإسلامية في كتابه (طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية) "وعجزها عن إنجاز الثورة الصناعية، وقد كانت منها قاب قوسين أو أدنى في منتصف القرن الحادي عشر. فَسَّرْتُ ذلك بالحروب الصليبية والاجتياح المغولي، وقلت إن من أخطر نتائج هذا الحدث تراجع طبقة المثقفين والتجار وتولي العكسر مقاليد الأمور في العالم الاسلامي تحت مبرر أولوية الدفاع عن الوجود، ولو على حساب الحضارة والتمدين أو التقدم. وهكذا تجمد المجتمع، وتحول المثقف من دور المفكر المحاور المطور للمجتمع، إلى نديم أو فقيه السلطان الذي يبرر ويحلل وينظر لحكم العسكر ثم حكمتهم! وتتابع التراجع والانهيار، وحتى عندما جاءت الهبة العثمانية التي رفعت راية المسلمين على أسوار فينا، ورغم المستوى الثقافي الرفيع الذي كان لأوائل سلاطينهم إلا أنهم بحكم الروح العسكرية التي كانت تسيطر على العالم الاسلامي كله رأوا الخطر عليهم من ظهور قيادة مدنية تركية لا شك أنها وحدها كانت القادرة على إقامة المجتمع التجاري المنفتح، والسفر إلى أعالي البحار لمزاحمة تجار غرب أوروبا في العالم الجديد، ثم إنجاز الثورة الصناعية الكبري. لكن سلاطين آل عثمان استمروا في الاتجاه نفسه الذي بدأه الأيوبيون، عندما فرضوا العسكر على الرعية ولم تكن الانكشارية التي اعتمدوا عليها وسلطوها على المجتمع المدني إلا مماليك الدولة العثمانية الذين حموها بسيوفهم وإخلاصهم، ومدوا حدودها في جميع أنحاء المعمورة أو الثلاث قارات المعروفة وقتها. وفي الوقت نفسه قضوا على فرصتها في دخول العصر الحديث، ثم كانوا أعجز عن أن يخلقوا حضارة وأقوى من أن يرغموا على قبولها!

ومن دلالات التاريخ أنه كما كانت الحروب الصليبية هي التي دفعت طبقة العسكر إلى الصدارة في المجتمع الاسلامي وما ترتب على ذلك من ضياع فرصته في العصر الرأسمالي ـ الصناعي، فإن الحرب نفسها أحدثت العكس تماماً في أوروبا إذ خلصت المجتمع المدني من العسكر (ذبح عسكر المسلمين فرسان أوروبا، فحرروا عدوهم التاريخي!) واستعان ملوك أوروبا من ثم بالمثقف والتاجر في بناء الأوطان الموحدة والمجتمع المدني، ثم حضارة العصر الصناعي أو النظام الرأسمالي الذي استخدم العسكر لبناء الامبراطورية ولم يستخدمه العسكر".

[لدي الطبعة الثانية من الكتاب، وهي صادرة في عام 1974م]

***

حديث التاريخ طويل، غير أن ثمة موقفين هما أقدم ما يُعرف في هذا السياق..

الأول: حين ألقى موسى عصاه فالتقمت ما ألقاه السحرة من الحبال والعصي، أُلقي السحرة ساجدين.. غير أن الجند الذين شهدوا الموقف هم الذين قاموا بتعذيب السحرة حتى الموت!

والثاني: حين انشق البحر طريقا صلبا بين جبلين أمام موسى، كان الضلال قد استولى على قلب فرعون فانطلق خلف بني إسرائيل دون أن يفقه المعجزة ولا حتى أن يتردد أمامها خائفا.. وكذلك فعل جيشه!

قال تعالى (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)

نشر في: شبكة رصد الإخبارية

الثلاثاء، أغسطس 23، 2011

جولة في كتاب "بحرية" للجغرافي العثماني بيري ريس



ذكرنا في المقال السابق كيف اكُتشف كتاب "بحرية" الذي يعد ذروة ما وصل إلينا من التطور الجغرافي البحري للتراث الإسلامي، والذي ألفه أمير الحرب والبحر، قائد الأسطول العثماني والخبير الجغرافي والبحري محيي الدين بيري ريس (أو رئيس)، وفي هذا المقال نأخذ جولة مبسطة في كتاب "بحرية" بغية تقريب تراثنا الحضاري لعامة القراء الفضلاء.
***
بدأ كتاب "بحرية" بمقدمة شعرية طويلة، ثم جاء متن الكتاب على نهج بسيط، يبدأ أولاً بوضع الخريطة للمنطقة، ثم يبدأ في وصف الخريطة. وقد بدأ الكتاب من غاليبولي ثم استمر يزحف جغرافيًّا عبر ساحل البحر المتوسط.
كتب بيري ريس المقدمة الشعرية للكتاب بأسلوب تركي سهل وبسيط، وقسمها إلى خمسين فصلاً، بمعدل 15 بيتًا في الصفحة، تدور هذه الأقسام حول فكرتين أساسيتين، فالأقسام الأولى الثمانية عن تاريخ المخطوط والمهارات التي يحتاج إليها الملاحون كالخبرة والاستعداد الفطري في هذه المهنة والمشكلات الملاحية والمعرفة بالجغرافيا الملاحية ومقدمة في استخدام البوصلة والإسطرلاب والخرائط، وعرض موجز عن تاريخ البحار وعرض لبعضها مثل منابع النيل وزنزبار وبحر عدن والمحيط الهندي وبحر الصين والمحيط الأطلنطي[1].
أما الأقسام الخمسة عشر الباقية فيتحدث فيها عن الاكتشافات الأوروبية الحديثة في القرنين الخامس والسادس عشر الميلادي حتى وصولهم إلى جنوب إفريقيا واكتشافهم لطريق رأس الرجاء الصالح، ثم توغلهم شرقًا ومرورهم بمناطق المسلمين حتى وصلوا إلى غرب الهند، كما أخذوا يهددون المناطق الإسلامية المقدسة. كما أوضح في مقدمته الشعرية بأن البرتغاليين تقدموا أكثر باتجاه الشرق حتى وصلوا إلى مضيق ملقا، وأهم ما في هذه المقدمة الشعرية أنه وصف الطريق الذي كان البرتغاليون يسلكونه من لشبونة إلى الهند، وكيف أن البرتغاليين تجنبوا المياه الحارة وحالات السكون على شواطئ إفريقيا الغربية، وقدرتهم الكبيرة على تحديد مواقع سفنهم في المياه المفتوحة، ونجاحهم في الاعتماد على حركة الرياح للوصول إلى شواطئ إفريقيا الغربية ومن ثم لاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح. وفي القسم الثالث عشر من المقدمة وإلى آخرها أشار بيري ريس إلى جغرافية بحار العالم مضيفًا هنا وهناك معلومات متفرقة عن آخر المعلومات التي حصل عليها من الملاحين الأوروبيين، كما وصف حقائق جغرافية عن المحيط الهندي والتي كانت معروفة من قبل البحارة المسلمين، أما عن الخليج العربي فقد أورد له فصلاً كاملاً، وأشار إلى أبرز الجزر الموجودة فيه، بل وتحدث عن صيد اللؤلؤ في المنطقة، كما أوضح بأن البرتغاليين سيطروا على جزيرة هرمز، وسيطروا على الحركة التجارية[2].
واشتملت المقدمة أيضًا على حياة بيري ريس "وكيف أن السلطان بايزيد خان كلفه بخدمة الدولة سنة 900هـ = 1494م، ومن بعد ذلك كتب عن أسفاره ورحلاته، وما حققه من انتصارات منذ خروجه من منزله حتى التحاقه رسميًّا بالأسطول الهمايوني، واستنادًا إلى الشواهد التي ذكرها، وسرد تفصيلات ما حدث معه، يؤكد أن هذا الكتاب يتحدث عن الرحلات البحرية حتى سنة 932هـ = 1525م"[3].
وهذا يشير إلى أننا بإزاء كتاب لا يتحدث عن وصف البحار كما يتحدث الرحالة، بل هو حديث علمي في الملاحة وأساليبها وأدواتها، وعن جغرافيا البحار، كما هو حديث سياسي تاريخي عن أثر الاكتشافات البحرية في قلب موازين المعارك والمخططات على الساحة الدولية، ثم لا ينسى أن يشير إلى جوانب اقتصادية أيضًا كما في ذكره "صيد اللؤلؤ" في خليج هرمز.
وتنتهي المقدمة بقصيدة طويلة أشبه بخاتمة في مائة بيت يعرض فيها المؤلف للأسباب التي حدت به لوضع المسودة الثانية للكتاب[4]، وتتمثل هذه الأهداف في:
1. وضع كتاب تذكاري في علم البحار والملاحة في سواحل ومواني وجزر البحر المتوسط، لأنه حتى هذا التاريخ لم يقم أحد بمثل هذا العمل.
2. تتبع أعمال المرحوم الغازي كمال ريس وتوضيح أعمال الغازين المسلمين ممن كانت لهم مع الكفار مناوشات بحرية.
3. وضع كتيب إرشادي للملاحين المسلمين، وذكر سواحل الجزر المأهولة مع ذكر أعاصير ورياح كل منطقة على حدة.
4. ونوَّه بيري ريس بأنه قام بهذا العمل ووضع الخرائط المختلفة باستشارة بعض ذوي الخبرة والدراية بهذا العلم، ويُضيف بأنه جعل الخرائط المختلفة واضحة وسهلة الاستعمال، وقال: إنه بفضل الخرائط المرفقة يستطيع الشخص أن يُبحر ويتجوَّل بين جزر البحر المتوسط دونما حاجة ماسة لدليل أو مرشد يدله إلى الطريق، وهذا ليس بالأمر الهين[5].
وصياغة بيري ريس هذه المقدمة العلمية الطويلة في قصيدة شعرية تجعله امتدادًا للظاهرة العلمية الإسلامية التي كانت تصوغ العلوم في قالب شعري؛ ليسهل حفظ قواعد العلم، وقد حفل التاريخ العلمي للحضارة الإسلامية بأراجيز علمية؛ مثل: متن الشاطبية "حرز الأماني" في قراءات القرآن الكريم للإمام الشاطبي، وألفية ابن مالك في النحو، وألفية العراقي ثم ألفية السيوطي في علم الحديث، وأرجوزة أبان بن عبد الحميد في الفقه، وأرجوزة لسان الدين بن الخطيب "رقم الحلل في نظم الدول" في التاريخ الإسلامي، وثمة أراجيز في العلوم البحتة كأرجوزة ابن الطفيل في الطب (7700 بيت)[6]، وابن أبي الرجال في الفلك وغيرهم كثير.
"التعديل الذي أُجري في المسودة الثانية للمصنف يمس قبل كل شيء الخارطات التي زيد في عددها بشكل كبير؛ ففي المسودة الأولى حظي كل قسم من الأقسام المائة والثلاثين (130) بخارطته الخاصة به، أما في النسخة الموسعة فإن عدد الخارطات ارتفع إلى مائتين وعشرة خارطة (210)، بخلاف خارطات أخرى ذات طابع مستقل... ويتضح هذا بصورة خاصة من مثال البحر الأدرياتيكي؛ حيث تنفرد الفصول الستة المكرسة له (من الثامن والخمسين إلى الثالث والستين) باثنين وأربعين خارطة، وتبدو هذه الزيادة -أيضًا- في أقسام أخرى؛ فالنيل مثلاً (الفصلان الثامن والتسعون والتاسع والتسعون) يفوز هنا بلا أقل من عشر خارطات"[7].
ثم يختم بيري ريس كتابه بخاتمة شعرية أخرى تقع في 92 بيتًا يُصَرِّح فيها بحبه للبحر وسعادته بجولاته فيه[8].
في هذا الكتاب نرى بيري ريس في وجهه الذي كان مزيجًا من عدة وجوه، كل وجه فيها منفردًا قادر على الإشارة إلى مكانة هذا الرجل، فهو الرحالة الذي جاب الأقطار وكانت عينه تعمل كالعدسة التي تلتقط وصف الجبال والطرق والوديان وحياة الناس وطرائق معيشتهم، وهو -أيضًا- البحارة الماهر، بل أمير البحار الذي يتحدث عنها في السلم وفي العلم وفي الحرب، فيكتب عنها بروح الرحالة المتذوق، ويرصدها بروح العالم الباحث المتمكن، ويركب أهوالها ويستفيد من تفاصيلها ومرافئها وخلجانها بروح القائد العسكري البحري المجاهد الخبير بفنون الحرب في البحر.
نموذج خريطة القاهرة

تتمتع خرائط بيري ريس، لا سيما التي رسمها عبر مشاهداته، بدقة لافتة للنظر، ويتبدى ذلك على سبيل المثال من خريطته التي رسمها لمصر وساحلها، ففي "الفتح العثماني لمصر، رسم الرئيس بيري خريطة لمصب نهر النيل"[9]. ونأخذ على سبيل المثال خارطته التي رسم فيها القاهرة لنلحظ مدى الإجادة والدقة.




تشير البوصلة في هذه الخريطة إلى أنها "مقلوبة"، فجهة الشمال فيها إلى أسفل الخريطة، وكلما اتجهنا إلى الأعلى فإننا نتوغل في الجنوب، وإذا بدأنا من أقصى الجنوب (أعلى الخريطة) سنجد مسار نهر النيل الآتي من الجنوب، وتبدأ الخريطة عند "بول تومروت" –كما تبدو على الخريطة- على يسار النيل وهي النطق العثماني لـ "بولاق الدكرور"[10]، ثم تليها "ترسة"، وهي الآن "ترسا" التابعة لمحافظة الجيزة بمصر، ويقابلها على الجانب الآخر من النيل "زاوية" التي هي الآن تابعة لـ "شبرامنت"؛ إذ كانت تُعرف قديمًا بـ "زاوية أبو مُسَلَّم"[11]، ثم "جزة" وهي "الجيزة" وتبدو الأهرامات الثلاثة بوضوح على الخريطة، وإلى الشمال منها منطقة "نبابة" وهي "إمبابة" حاليًا، وحولها رسم أربع نخلات تشير إلى طبيعة الأرض، ويقابل إمبابة على الساحل الشرقي للنيل "بولاق"، ثم مساحة من النخيل حتى نصل إلى سور القاهرة، التي تبدو مكتظة بالسكان، وتظهر فيها قلعة صلاح الدين التي كانت مركز الحكم في مصر، كما تظهر في الخريطة منطقة شبرا "شوبرا" ومصر القديمة "مصر عتيق"، ومقام الإمام الشافعي، وجبل المقطم "جبل مقطم" القابع في أقصى الشرق.
وتبدو الخريطة حافلة بكثير من التفاصيل، كالنخيل والمباني، والمساجد الموجودة في قلب القرى، والأضرحة، والمباني المتفرقة، حتى أن القاهرة المكتظة في الخريطة يظهر بها الشارع الرئيسي الموصل من باب الفتوح في الشمال إلى القلعة، ويظهر بوضوح "سور مجرى العيون".
وإذا نظرنا إلى الخريطة فإننا نعدّ أربع قرى ذكرت بدون اسم، ثلاثة منها على الساحل الغربي للنيل؛ فسنرى إلى الشمال من الجيزة قرية لم يُسَمِّها، ثم قرية أخرى إلى الشمال من إمبابة، ثم قرية أخرى إلى الشمال منها، وواحدة في أقصى الشمال الغربي من الخريطة، ومثل هذا نراه كثيرًا عند بيري ريس، خصوصًا في خريطته الثانية للعالم، فهو حين لا يصل إلى المعلومة كاملة يضع ما وصل إليه ويترك الباقي فراغًا، وهذه "أدلة أخرى تكشف عن التفكير العلمي لبيري رئيس"[12].
***
لا يزال يمكن قول الكثير عن هذا المؤلف وعن أهميته في التأريخ البحري، وفي التراث الإسلامي، ولعل في السطور السابقة كفاية في مجال الإشارة ولفت الأنظار إليه..
ونسأل الله أن يهيئ لأمتنا من يعيد بعث تراثها المجهول والمقبور إلى الحياة مرة أخرى، وعندها سنكتشف أنفسنا من جديد!

[1] كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي، نقله إلى العربية صلاح الدين عثمان هاشم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، جامعة الدول العربية، 2/591، د. فيصل الكندري: الملاح والجغرافي بيري ريس، سلسلة رسائل جغرافية، الجمعية الجغرافية الكويتية، الطبعة الأولى، شعبان 1420 هـ = 1999 م. ص19.
([2]) د. فيصل الكندري: الملاح والجغرافي بيري ريس ص19، 20.
([3]) عزيز سامح التر: الأتراك العثمانيون في إفريقيا الشمالية، ترجمة: د. محمود علي عامر، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1409 هـ = 1989م، ص40.
([4]) كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي 2/591.
[5] د. فيصل الكندري: الملاح والجغرافي بيري ريس ص21.
[6] موجودة في مكتبة القرويين بفاس برقم (3158)، كما أشار إلى ذلك الزركلي. انظر: الزركلي: الأعلام 6/249.
[7] كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي 2/591.
[8] د. فيصل الكندري: الملاح والجغرافي بيري ريس ص22.
([9]) د. محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص469.
[10] ذلك هو الموضع القديم لقرية بولاق الدكرور، والتي نقل موضعها بعد قرار الخديو إسماعيل (1863 م) بتحويل مجرى النيل إلى الشرق، فابتعد النيل عن بولاق القديمة، ثم أمر الخديو إسماعيل عام (1868 م) بهدم مساكن هذه القرية وتعويض أهلها، فمكان "بولاق الدكرور" القائم الآن ليس هو المكان القديم. انظر: محمد رمزي: القاموس الجغرافي للبلاد المصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م. 4/10.
[11] محمد رمزي: القاموس الجغرافي للبلاد المصرية 4/15.
[12] د. أكمل الدين إحسان أوغلو: المؤسسات التعليمية والعلمية عند العثمانيين (منشور بكتاب الدولة العثمانية تاريخ وحضارة بإشراف د. أكمل الدين إحسان أوغلو، ترجمة صالح سعداوي – اسطنبول، 1999م) 2/498.

الاثنين، أغسطس 22، 2011

عشت لحظة إنزال العلم!

حتى لحظة كتابة هذه السطور لا تزال الفرحة تغالب العقل..

لقد نزل العلم الصهيوني من على النيل، وبدا كأن النيل أشرق في قلب الليل، وهدرت الحناجر بالتكبير والصيحات والتهليل، وكادت الفرحة تذهب ببعض العقول، فالشعب ما يزال لا يصدق أنه استطاع إنزال العلم وإزالة شيء من العار الذي كلله نحو أربعين سنة!

أفاضت كل وسائل الإعلام في الوصف والتحليل ما يجعل من واجبي الآن أن أنقل بعض المشاهد الفرعية التي لم ينتبه لها أحد.

1. تعلقت الأبصار بأحمد الشحات، وقد انتبهت له وهو في الطابق الثالث من المبنى، وإني لأشهد أن هذا الشعب –كما سائر الأمة الإسلامية المباركة- هو إسلامي لحما ودما وروحا وعقلا، لقد تعلقت الأبصار بأحمد الشحات وتعلقت القلوب بالله، واستمر الدعاء والتضرع لله أن يحميه وينجيه، وكلما بدا أنه تمكن من تسلق طابق كلما ارتفع التكبير والتهليل، وارتفعت الدعوات.. إذا سقط أحمد فلم يكن يملك له أحد شيئا، لأن أسفل العمارة التي يتسلقها محاصر تماما بقوات الأمن والجماهير ممنوعة من الوصول إلى هذه النقطة تماما.. وقد رأيت كثيرا ممن حولي يدعون ودموعهم تنهمر، لا سيما من النساء والفتيات، حتى فعلها البطل! البطل حقا.. وكان موقفا عرفت فيه كيف أن واحدا فقط قد يغير من معادلة المشهد كله، ولهذا أقول لكل قارئ: لا تحتقر نفسك أو مجهودك.

2. ما لم يصوره الإعلام هو لحظة السجود الجماعي التي سجدها الناس في لحظتين: لحظة إنزال العلم الإسرائيلي، ولحظة خروج أحمد الشحات سالما على الأعناق.. هكذا يعبر المصريون عن فرحتهم، ولا عزاء لمن يريد أن ينزعهم من انتمائهم!

2. كان الحصار الأمني المحكم للسفارة يجعل كل الطرق أمام إنزال العلم مسدودة، فلم يجد الشباب إلا تسليط الألعاب النارية على العلم وكلهم أمل في إحراقه بمثل هذه الوسيلة البدائية، ولو على سبيل الرمز، وعلى طول المحاولات غير الناجحة (العلم على ارتفاع 22 طابق) لم يفقد الشباب إصرارهم، بل لما أُنزل العلم، ظلوا حتى الصباح يصوبون هذه الألعاب نحو السفارة، كأنما لا يريدون أن يهنأ أحد فيها بلحظة هدوء.

3. أذهلتني فتاة في الثلاثينيات، تبدو من إحدى المناطق الشعبية، في غاية البساطة، ظلت تهتف: "اتنحى النهار ده.. اتنحى النهار ده"، وهي تقصد المخلوع غير المأسوف عليه.. هذا الهتاف العبقري الذي اعتبر إنزال العلم هو لحظة التنحي الحقيقي لحسني مبارك يكشف كيف أن ضمير هذه الأمة يحتوي على وعي هائل يستطيع التعبير عنه في بساطة لا يدركها أصحاب التحليل والتنظير القابعون على الفضائيات!

4. بعض الناس كادت عقولهم تطير من الفرحة، شاب وقف في منتصف الطريق وهو يصرخ لكل سيارة عابرة: أنزلنا العلم.. المصريون فعلوها.. أنزلنا العلم.. أنزلنا العلم! هذا الشاب الذي وُلِد وعاش في ظل السلام والصداقة مع إسرائيل يعبر اليوم عن حقيقة معدنه، ويثبت أن زرع الأعضاء الغريبة والثقافات الغريبة قسرا إنما هي عملية فاشلة، تنفق فيها الأموال والمجهودات ثم لا تصل إلى شيء.. مصداقا لقول الله تعالى (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يُحشرون).

حاولت أن أضع نفسي مكان الإسرائيلي، الذي ينظر من علٍ إلى هذه الجموع التي تنطق بكراهيته وتريد طرده، بعد أربعين سنة من السلام المفروض عليهم والمحروس بالقهر والكبت والاستبداد، فلم أر ما يعبر عن شعوره غير "الحسرة" الواردة في الآية.. فإنا وإياه على انتظار ما بعدها (ثم يُغلبون)!

5. على أن هذا الشاب وغيره يعبر عن الطاقات المكبوتة التي لم يُتح لها من قبل أن تنطق.. وطوال الليل وحتى الصباح كان الشباب يتذكرون كيف أن أحدا لم يكن يستطيع من قبل أن يتفوه بلفظ أمام السفارة وإلا كان مصيره القتل أو الاعتقال بلا رحمة ولا أمل في الخروج.. إن الاستبداد يعيش على قتل الإنسان، وعلى سحق طاقاته، وأكثر ما يخشى الاستبداد أن تنطلق هذه الطاقات من النفوس، فإنها تزلزل عرشه.. ورحم الله عبد الرحمن الكواكبي في رائعته الخالدة "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" فقد شرح هذا المعنى في خير عبارة!

6. إن من يحكموننا لا يستحقوننا.. والشعوب دائما متقدمة في مواقفها على من يحكمها، ولعل بشائر الثورات العربية تكون تباشير فجر التغيير الذي يؤول إلى أن تحكم هذه الأمة نفسها بنفسها، وأن تختار من يحكمها ليعبر عنها تعبيرا حقيقيا، وعليه: فلا بد لكل مخلص من السعي في استكمال الثورات، وإنه حقا كما قيل: للثائر فرحتان يفرحهما: فرحة عند سقوط الطاغوت، وفرحة عند استكمال التحول إلى دولة العدل والحرية!

7. "الاحتلال دائما غبي، لأنه لم ينتصر محتل على الشعب أبدا".. من كان عند السفارة يعلم أن إسرائيل لا مستقبل لها.. والعاقل فيهم هو من سيفكر في الهروب من هذه المعركة الخاسرة!

8. على كل فرحتنا بما حدث من الشعب عند السفارة، إلا أن هذا لا يعمينا عن أشياء أخرى مهمة: الطرد الرسمي للسفير الإسرائيلي من مصر، المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة، الثوار الليبيون الذين يوشكون على حسم المعركة، الثوار السوريون الذين يقدمون المثل المذهل الأسطوري ويكتبون التاريخ حقا، الثوار اليمنيون الذين صمدوا صمود أهل الإيمان "الإيمان يماني والحكمة يمانية".

***

(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون)

نشر في: مفكرة الإسلام