اقرأ أولا:
قال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه : ” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ” . فإذا كان هذا قول الخليفة في وقت لم تكن فيه الدولة تملك من وسائل التأثير على الناس ولا مثقال ذرة مما أصبحت تملكه الدولة الآن من وسائل إعلام ، ومؤسسات تنفيذية تستطيع انتظام حياة الناس فيما يشبه النظام الآلي ، وبحيث يصبح الخروج من هذه المنظومة – إن أمكن – خروجا على القانون وعلى الشرعية وعلى النظام .. فما بالنا بما يمكن أن تفعل هذه السلطة في حياة الناس ؟
ولم نسأل ؟ وقد عشنا لنرى ما تستطيع الدولة أن تفعله بسطوتها ، حتى ليمكن أن يُدعم الفساد بل الإلحاد من بيت مال المسلمين ، وتستطيع صناعة القوانين التي تجعل الحرام بالاتفاق كالربا منظومة اقتصادية تحمى بقوة السلطان وتتحكم بحياة الناس .. بل رأينا كيف أن “الدول الإسلامية” في هذه الأيام تحاصر المجاهدين وتمنع عنهم الغذاء والدواء ليس إلا خدمة لليهود والصليبيين .. والإطالة في رصد الكوارث التي سببها انحراف الدولة في العصر الحديث ليس مجديا فالكل يرى والكل يعلم .
وإذن .. فكيف يكون طريق الإصلاح ؟
وهل يمكن استلهام نفس الطرق ونفس الأساليب ، ونفس الاجتهادات الفقهية “لعلماء قرون ما قبل الدولة المركزية” – إن صح التعبير – في صياغة أحكام واجتهادات لما بعد وجود هذه الدولة ؟
وإذان .. لدينا مجتمع إسلامي مشوه ، حائر بين انتمائه الإسلامي العميق ، لكن ضغط الواقع بمنظوماته الحديدية يجعل التناقضات والتشوهات ظاهرة للعيان ، ويجعل من التلفيق بين هذا الانتماء وبين الاستجابة لضغوط الواقع أمرا حتميا .. فإذا حاولنا أن نتفهم مصدر كل هذه الحيرة ومن أين تأتي ضغوط الواقع فلن نجد إلا هذا الشئ الذي ظهر منذ ثلاثة قرون فقط “الدولة المركزية” .. ومن أسف أنها ظهرت في وقت وافق تخلفنا ونكبتنا وانتقال القيادة من بين أيدينا إلى الغرب – العدو التاريخي للشرق – فكان ان استغلها الغرب كما يفعل كل عدو فوضعنا تحت حمايته وتهديد بوارجه في عصر الاستعمار ، ثم تحت حكم عملائه وصنائعه من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا ، ولكن قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس .
والأمة التي صنعت حضارتها بنفسها وبجهودها الشعبية وقت أن كانت الدولة قوية أو ضعيفة ، لا تستطيع الآن أن تنهض أبدا ، فحكامها أول من يستعد لضربها وإن لم يفعلوا طواعية فعلوا بأمر الأسياد . بل حتى المشروعات الاقتصادية التي لا تدور في فلك الغرب ويخشى منها على مصالح الدول الكبرى ( أو الوسطاء والمحتكرين في الدول الصغرى ) لا تتردد الجهات صاحبة المصلحة في تصفيتها .
فأي أمل يبقى في طريق النهوض الشعبي ، أو في محاولة إصلاح المجتمع من داخله ؟
هل حان الآن لمراجعة قاعدة الإمام البنا – رحمه الله – حول ” الفرد المسلم ، ثم البيت المسلم ، ثم المجتمع المسلم ، ثم الحكومة المسلمة … ” ؟ هل نستطيع في ظل هذه الدولة المركزية أن يصنع “المجتمع المسلم” حكومة مسلمة ؟
وهذا لو وصلنا بالأساس إلى هذا “المجتمع المسلم” ، المجتمع الذي يستطيع أن يدافع عن الإسلام باعتبارها قضيته هو ومصيره هو .. فهل يمكن الوصول لمرحلة المجتمع المسلم وفوق الجميع دولة مركزية تملك وسائل التأثير وقوة القانون ، فضلا عن وحشية الاستبداد وشراسة القمع ؟ .. وهي بما تملك من وسائل استطاعت أن تصل بنا إلى مرحلة المجتمع المسلم المشوه ، والذي أبسط ما فيه تلفيق الفتاة بين حجابها والموضة ، وأبشع مافيه أن يعجز الملايين عن كسر الحصار عن أشقاء لهم يموتون جوعا ومرضا أمام أعينهم .
( بالمناسبة : لا يوجد دليل واحد على أن الإمام البنا اعتمد على طريقة المجتمع وحده في هذا التغيير ، وإنما تبني هذه القاعدة وحدها من بين كل كلامه ومواقفه أمر اضطرت إليه الحركة الإسلامية لكي تدفع عن نفسها تهمة العنف ، وتؤكد اعتمادها الأسلوب السلمي في التغيير ، ولكن .. من يرضى ؟ )
وهل يدلنا أحد على نجاح هذه النظرية ( البيت المسلم الذي سيؤدي إلى المجتمع المسلم والذي سيؤدي إلى الحكومة المسلمة ) في أي تجربة من تجارب الشعوب في العصر الحديث تحت سلطان الدولة المركزية ؟ .. ربما استقر بنا المطاف إلى العكس تماما ، فإن الحكومة الباطشة تستطيع تسويق فكرها بإعلامها وسلطانها فتصنع مجتمعا على نمطها وله صبغتها ، والمجتمع بدوره يصبغ هذا على البيوت والأسر .
صدق أحد الدعاة إذ قال : كنا نظن – في السبعينات – أن الجيل القادم هو جيل النصر والتمكين ، فإذ بنا نجد أن الخلل تسرب إلى أبناء هذا الجيل نفسه . هذا هو عين ماحدث فعلا ، والحركات الإسلامية باختلاف أطيافها فوجئت هي نفسها بأن أبناءها يتفلتون منها ويدخل إليهم فساد المجتمع المحيط فبدل أن يكونوا جيل النصر والتمكين كانوا مرحلة أخرى في تعثر المسيرة الإسلامية ، ومن وحي الواقع أستطيع أن أقرر أن أكثر العناصر الفاعلة في الحركات الإسلامية ليسوا هم أبناء الإسلاميون القدامى بل هم العناصر التي أتت من خارج بيوت الإسلاميين .
والخلاصة في هذه النقطة أن البيوت المسلمة لم تصنع مجتمعا مسلما ، بقدر ما صنعت المجتمعات المشوهة بيوتا مشوهة .. ولا يمنع هذا أن الصحوة الإسلامية في انتشار ، لكنه أيضا انتشار يشوبه التشوه الفكري أو الأخلاقي كما ذكرنا من قبل .
وأوضح منه أن المجتمعات المسلمة لم تصل إلى الحكومات المسلمة أبدا ، رغم أنه لا ينافس الإسلام شئ ولا فكرة ولا أحد في أرض العرب والمسلمين ، وأي انتخابات (شبه) نزيهة تجعل الإسلاميين في المراكز الأولى ، وقد أصبح هذا من الحقائق التي يعرفها كل أحد .. وكل إنتاج المجتمع المسلم في سياق الحكومة المسلمة تمثل في ثلاث حالات لا رابع لها :
1) وصول للحكم عبر انتخابات نزيهة في بلاد غير مؤثرة أو لايمكن أن تهدد أمن القوى الكبرى ( تركيا مثلا )
2) وصول لجزء من الحكم في دول ملكية إما غير مؤثرة وإما مؤثرة لكن السلطات كلها تتجمع في يد الملك أو الأمير والحكومة كلها كزينة المجلس ( الكويت / المغرب / الأردن … )
3) وصول للحكم في ظرف استثنائي وبخطأ في الحسابات الدولية ( حماس في فلسطين )
وباقي البلاد ، ورغم الصحوة الإسلامية فيها لا تخطئها العين ، إلا أن الإسلاميين في السجون أو في المنافي أو لا توجد انتخابات ولا فرصة ليعبر الناس اختياراتهم .
أما إن وصل الإسلاميون للسلطة بالشكل السلمي ولم يكونوا واحدا من الحالات السابقة فلا مناص من ضربهم وتصفيتهم ( بداية من عدنان مندريس وحتى أربكان في تركيا ، مرورا بباكستان ، وحتى تجربة الجزائر ) .. ولا أوضح من تجربة حماس التي تنحت الآن في الصخر أسطورتها الفريدة . وتكتب في نفس الوقت قصة شعب عظيم يعض على الألم والجراح ويصبر على الجوع والخوف ولا يعطي الدنية في دينه ولا في وطنه .
إن تجربة حماس تنبئنا متى يمكن أن يعتمد الإسلاميون على المجتمع وعلى الشعب ، فإن الشعب الفلسطيني البطل لم يكن ليمكنه أن يضع حماس في الحكم ، لكنه يستطيع – وسائر شعوبنا العربية والمسلمة – أن يقف بكل قواه خلف حماس حين تصل للحكم ولو مات جوعا وألما .
وكذا تجربة حزب الله ، تستطيع أن تجد المراة العجوز تقف على أطلال بيتها أو على جثة وليدها وتقول : هذا فداء المقاومة والسيد حسن ، لكن لا يستطيع كل جمهور حزب الله على امتداد العالم العربي والإسلامي أن يضعوه في السلطة ، أو أن ينزعوا من السلطة أمثال السنيورة وجعجع وجنبلاط .
وكلا التجربتين – حماس وحزب الله – اضطرتا أن تستخدما سلاح المقاومة في الداخل ، وبه وحده تم تطهير غزة والوصول لحل المشكلة الللبنانية التي تعبت فيها الأقلام والكتب والوفود والبعوث حتى لقد أهلك عمرو موسى أحذيته جميعا دون حل !!
الشاهد : هل يمكن للمجتمع الإسلامي أن يصنع الحكومة المسلمة ؟ وإذا لم يكن صنعها ، غالبا ، وقت أن كانت الدولة بسيطة التأثير والنفوذ ، فهل يستطيع هذا بعد أن صارت الدولة متغولة ومتوحشة إلى هذا الحد ؟
أو دعونا نصوغ السؤال بشكل أكثر “تطرفا” : هل يصنع المجتمع المسلم حكومة مسلمة ؟ أم تصنع الحكومة المسلمة مجتمعا مسلما ؟
ودعونا نختم بهذا الجزء من السيرة لعله يعطينا عبرة .
لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم إقامة المجتمع المسلم في مكة ، وقد ” حاول الرسول – صلى الله عليه وسلم – جاهدا أن يقنع أهل مكة بأن قبولهم للحق لن يحرمهم ذرة من الخير الذي متعوا به ، فأبى الظالمون إلا كفورا ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
ومن هنا اشتبك سادة مكة في حرب مع الإسلام ، اعتبروها دفاعا عن كيانهم المادي ووضعهم الاقتصادي إلى جانب ما هنالك من عوامل أخرى ” (1)
ولم يستطع النبي إقامة لا المجتمع المسلم ولا الدولة المسلمة في مكة برغم أنه أقام البيت المسلم .
بينما تفسر السيدة عائشة كيف هيأ الله المدينة لرسوله ، بمعركة بعاث التي أكلت رؤوس القبيلتين الكبريين في المدينة الأوس والخزرج ولم يبق من الكبار أحد إلا عبد الله بن سلول . تقول : ” كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا ، قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام “(2)
فإلى متى تحب الحركات الإسلامية ان تظل أسيرة المرحلة المكية ؟
———————
(1) فقه السيرة للشيخ الغزالي ص 111 . ط دار الشروق
(2) رواه البخاري