الجمعة، ديسمبر 30، 2016

قبل أن تسقط القاهرة

تدور الأيام لتعود ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير 1492م)، ويتجدد معها الألم التاريخي الموصول بسقوط البقعة التي أشرقت بالإسلام فكان لها في تاريخ الحضارة صفحة لم تكن لها لا قبل الإسلام ولا بعده، وقد يثور الخيال: ترى هل كان الأندلسي الذي يعيش في قرطبة زمن عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر والمنصور بن أبي عامر يتصور أن يخرج الإسلام من الأندلس؟! لا ريب أنه أمرٌ بعيدٌ لا يخطر بالبال، ولكنه حصل، وأقرب منه الآن أن يتصور الواحد في زماننا الآن: سقوط القاهرة!

لعل كثيرا من الناس لا ينتبه إلى أن السقوط أمام العدو الأجنبي سبقته مرحلة أخرى، أهم ملامح هذه المرحلة هو وجود حكم مستبد في الداخل وهو تابع ذليل للعدو الأجنبي، فالطغاة شرط الغزاة، إذ المستبد يمهد الطريق لتسليم البلاد للأجنبي، وهو يبيع منها بالقطعة قبل أن يأكلها العدو بالجملة، ويقدم التنازل طلبا للرضا متوهما أنه بهذا يحفظ عرشه لنفسه، وفي هذا الزمن يستولي الحكام على أموال الناس بشتى أنواع الضرائب والمكوس، ويتفننون في هذا ويخترعون، حتى يصير على كل نشاط ضريبة!! ثم يذهب معظم هذا إلى العدو على صورة الهدايا والجزية (أو ما يسمى في زماننا الآن: التزامات دولية).

ولقد وصف ابن حزم، وهو أندلسي عاش في زمن ملوك الطوائف، أولئك الحكام وأفعالهم بقوله "هي جزية على رءوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهرة وضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل، يرسم على كل رأس، وعلى كل خلية شيء ما، وقبالات ما، تؤدى على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد. هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار ونقض شرائع الإسلام وحل عراه عروة عروة، وإحداث دين جديد، والتخلي من الله عز وجل. والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم، ... وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه"[1].

أضف إلى هذا أن أولئك الحكام يستعينون بالأجنبي على أخيهم المسلم ولو كان من أرحامهم، ونحن نستطيع أن ننقل من نصوص هذه الاتفاقيات عبارات مخزية فاضحة، فهذا يوسف بن المولى يقود تمردا على ملك غرناطة محمد بن الأيسر مستعينا بملك قشتالة، وذلك قبل سقوط غرناطة بستين سنة، فيُكتب في الاتفاقية التي عقدت بينهما قبل المساعدة هذه العبارات[2]:

"مولانا السلطان المعظم دون جوان، سلطان قشتالة وليون، الذي هو رأس اشبانية، فاستعنَّا بحزمته ونصرته، وكبير سلطانه، وجئنا له بالخضوع... وهو بجيش عظيم وقدرة كبيرة، ليكون مولانا السلطان المذكور عونا لنا على أخذ الملك من يديه محمد الأيسر... وأن نكونوا نحن عوضا منه في الملك، خُدَّاما ومتاعا لمولانا السلطان صاحب قشتالة، بمعاونته وحزمته، وبما أظهر علينا من جاهه وإحسانه ونصرته... فنحن نشهد على أنفسنا أننا خداما لمولانا السلطان صاحب قشتالة من الآن إلى ما يأتي بعد، مَلَكْنا المُلك أو لم نملكوه، وخدمتنا له بِنِيَّتنا وقدر استطاعتنا في جميع الأمور بعضها وكلها، ونشرط ونشهد على أنفسنا أننا إذا تمهد لنا ملكنا، ودخلنا دار ملكنا الكريم، أن نحرر جميع الأسارى الذين بملكنا من النصارى في حضرتنا العلية، وجميع بلادنا النصرية[3]... ونشترط أداء عشرين ألف دينار من الذهب العين البلدي الوازن في كل سنة، موصلة ليدي مولانا السلطان حيث ما يكون من بلاده ومواضعه وحصونه، حتى يستقر بيده الكريمة مع من نستثيقوه ونطمئنوا فيه من خدامنا وقوادنا. ونشترط ونشهد على أنفسنا معاونة مولانا السلطان بألف فارس وخمسمائة فارس مسلحون من فرساننا بمرتبنا ونعمتنا، نوجهوهم له للموضع الذي يحتاجهم فيه من بلاده لمحاربة من يريد محاربته ومعاندته ومنازعته، نصارى كانوا أو مسلمون، ونشرط ونشهد على أنفسنا أنه إذا احتاجنا لمخاطبتنا فنتوجه إليه بأنفسنا وجيوشنا إلى الكُرتس[4] الذي يكون فيه في البلاد والمواضع... ونشهد ونشرط على أنفسنا مهمى توجه نصرانيا أصليا إلى خدمتنا فنردوه إلى مولانا صاحب قشتالة لأقرب وقت، ولا سبيل له إلى أن يقيم معنا بوجه ولا بحال، بل نردوه بكتابنا لمولانا السلطان يقع نظره الجميل فيه. فهذا الشروط كلها نشترطوا بها على أنفسنا، ونلزموا أنفسنا ما يلزم في كل ما قلناه، ونحلف أننا نوفوا بما قلنا على أتم الكمال، الذي يرضاه مولانا السلطان صاحب قشتالة، فنقولوا بالله الذي لا إلاه إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، وبحق محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبحق القرآن العظيم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"[5].

وحين يأتي الاحتلال لا يبحث الحكام الذين ملكوا البلاد ونهبوا أموالها واستعبدوا ناسها إلا عن مصالحهم الخاصة، فهم يسلمونها للأجنبي المحتل طمعا في النجاة بأنفسهم، وقد أورد مؤرخ زمن سقوط غرناطة في كتابه "نبذة العصر" أن مفاوضات سرية كانت قائمة بين أمير غرناطة ورجال بلاطه وبين فرناندو، مفادها أن يسعى أمير غرناطة لإقناع أهلها بالاستسلام والاتفاق على تسليم المدينة، وقد كان أمير غرناطة يريد الاستسلام ولكنه يخشى من أهل غرناطة، ولهذا أوقف فرناندو الغارات مع تشديد الحصار[6]، ولنا أن نتصور طبيعة حرب يخوضها أمير بهذه النية في التسليم، ولنا أن نتصور كذلك ما لو كان مكانه أمير مناضل يعزم على الدفاع عن قلعة الإسلام الأخيرة في الأندلس.

وقد كان مؤرخ الأندلس الفذ محمد عبد الله عنان يرتاب في هذه الرواية إلى أن ثبت له صحتها باطلاعه على وثائق اكتُشِفت من تلك الفترة، وتبين أنه في نفس اللحظة التي عُقدت فيها معاهدة تسليم غرناطة كانت معاهدة سرية أخرى تُعقد ويُمنح فيها أمير غرناطة وأسرته ورجال حاشيته "منحا خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها"، ثم إنهم منذ بدأت الأحداث الأخيرة سعى أمير غرناطة ورجاله في بيع أملاكهم"[7].

هذه صفحة من التاريخ يجب أن نقرأها لنتفهم منها صفحتنا في هذا الحاضر، قبل أن تكون صفحتنا هذه شبيهة في تاريخ الزمن بصفحة سقوط الأندلس!

إن ما يحدث في القاهرة الآن شيء مروع، شيئ يذهب بالأبصار إلى مصير السقوط الأندلسي، فنحن لا نزال منذ حكمنا العسكر والبلاد تنقص شيئا فشيئا، خسرنا السودان وغزة وسيناء ومؤخرا جزر تيران وصنافير (لا لصالح السعودية كما يوهموننا، بل لصالح إسرائيل بمال سعودي ولتدخل السعودية في مهمة حماية أمن إسرائيل طبقا لإلزامات كامب ديفيد) وحقول الغاز في المتوسط، فضلا عن خسران السيادة في قلب القاهرة، والتزام قطاعات الدبلوماسية الخارجية والاقتصاد والتصنيع والإعلام والتعليم بالإرادة الأمريكية الإسرائيلية، ثم ضرب كافة مقومات المقاومة في المجتمع، وتدمير تماسكه الاجتماعي!

إن نظرة عابرة لما يفعله العسكر في مصر تدل على شيء واحد: إنما هو تمهيد البلاد حتى تأتي اللحظة التي يستلمها فيه الاحتلال بنفسه!

ترى هل سيكتب التاريخ أننا الآن في زمان ما قبل سقوط القاهرة؟!!




[1] ابن حزم، رسائل ابن حزم، تحقيق: د. إحسان عباس، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية، 1981م)، 3/176 (رسالة: التلخيص لوجوه التخليص).
[2] نحن ننقل نصا من الوثيقة على ما فيه من ركاكة وأخطاء في القواعد والإملاء.
[3] أي جميع مملكة غرناطة، وليس فقط الأسرى النصارى في مدينة غرناطة.
[4] الكورتس هو المجلس الذي يحضره رؤساء الولايات التابعة للمملكة، فحضوره هو اعتراف بأنه والٍ في مملكة اسبانيا تابع للملك خوان وليس ندًّا أو ملكا مستقلا.
[5] انظر النص الكامل للوثيقة في: محمد عبد الله عنان، وثيقة أندلسية قشتالية من القرن التاسع الهجري، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد الثاني، 1954م، ص38 وما بعدها.
[6] مجهول، نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر، ضبطه وعلق عليه: ألفريد البستاني، ط1 (بورسعيد: مكتبة الثقافة الدينية، 2002م)، ص123.
[7] محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ط4 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1997م)، 7/241، 242.

الخميس، ديسمبر 29، 2016

كيف سهل محمد علي باشا تدفق اليهود على فلسطين

بدأنا في المقال الماضي حديثا من جراحات التاريخ العميقة التي لا تزال غير مشتهرة، وهي دور محمد علي باشا حاكم مصر ومؤسس الدولة العسكرية العلمانية في إنشاء إسرائيل، وقد قسَّمنا مناقشة الأمر في أربعة عناصر، نناقش في هذه السطور العنصر الأول منها وهو دوره في جذب وتسهيل تدفق اليهود والنصارى على بيت المقدس، ودعم وجودهم وإقامتهم، مع إهانة وازدراء والإزراء بأحوال المسلمين.

ما إن دخل إبراهيم باشا إلى بيت المقدس حتى أذاع أمرًا عامًا، وجهه إلى قاضي القضاة وشيخ مسجد عمر والمفتي والنائب وسائر السلطات، أزال به كل الضرائب التي كانت تؤخذ من الحجاج المسيحيين واليهود إلى بيت المقدس، هذا نصه:

"في القدس معابد وأديرة وأماكن للحج تأتي إليها من أبعد البلدان كل الشعوب المسيحية واليهودية من مختلف الطوائف الدينية. وكانت ترهق هؤلاء الحجاج إلى الآن ضرائب ضخمة في أداء نذورهم وفرائض دينهم. ورغبة منا في استئصال هذا العسف، نأمر كل متسلمي إيالة صيدا وسنجقيْ القدس ونابلس بإلغاء هذه الضرائب على كل الطرق بلا استثناء. يقيم في أديرة القدس وكنائسها رهبان ومتعبدون لقراءة الإنجيل وأداء الطقوس الدينية لمعتقداتهم. والعدل يقتضي أن تعفى من كل الضرائب التي فرضتها عليها السلطات المحلية بشكل تعسفي. ولهذا نأمر بأن تلغى إلى الأبد كل الضرائب التي تُجبى من أديرة ومعابد كل الشعوب المسيحية المقيمة في القدس من يونانيين وفرنجة وأرمن وأقباط وغيرهم، وكذلك الضرائب القديمة والجديدة التي يدفعها الشعب اليهودي. ومهما كانت الذريعة أو التسمية التي تؤخذ بها هذه الضرائب هدية عادية وطوعية أو إلى خزينة الباشوات أو في مصلحة القضاة والمتسلمين والديوان وما شابه ذلك، فإنها جميعا ممنوعة منعا باتا. وتلغى على حد سواء الكفارة التي تجبى من المسيحيين عند دخول كنيسة قبر السيد المسيح أو عند التوجه إلى نهر الشريعة (الأردن). وعليكم، ما إن نقرأ هذا البيورلدي (الأمر)، أن تسارعوا إلى تنفيذه كلمة كلمة، وتوقفوا فورا جباية كل الضرائب المذكورة أعلاه وغيرها من الضرائب القائمة على العادة وكل مطلب من أديرة القدس ومعابدها العائدة إلى مختلف الشعوب [الأديان] المسيحية واليهودية، شأن الكفارات، كأمر مناف للقانون. بعد إعلان هذا الأمر سيُعاقب بصرامة كل من يطلب أقل إتاوة من المعابد والأديرة المذكورة والحجاج"[1].

وطبقا لرواية قسطنطين بازيلي السفير الروسي في يافا –وهو من أصل يوناني ومعجب بإبراهيم ومحمد علي- فقد أعلن إبراهيم باشا فيما بعد أن اليد التي تأخذ نقودا من الحجاج في جبال اليهودية سوف تُقطع، وبالفعل قطع يد اثنين أو ثلاثة، "فلم يعد أحد يجرؤ على انتهاك قانونه"[2].

وإلى هذا فقد وجَّه محمد علي إلى إصلاح أديرة رهبان الروم في يافا وقيسارية، وبنى محجرا صحيا في يافا للحجاج الروم القادمين إلى بيت المقدس، ثم وجه إلى شريف باشا بوجوب تقديم المساعدات الإدارية اللازمة لمدير الحجر الصحي، وجعل ما يدفعه أولئك الحجاج تحت تصرف رهبان الروم والأرمن[3]، وهو إجراء يدل على حرصه أن يكون لهم استقلال مالي! وهو أمر غريب على سياسة رجل يؤسس دولة حديثة ونظامه الاقتصادي احتكاري!!

ولم يكن أمر إبراهيم باشا خاصا ببيت المقدس وحده، بل كان برنامجا لسياسة إبراهيم إزاء المسيحيين السوريين"، وكانت كلماته "تشكل عصرا جديدا بالنسبة إلى المسيحيين في الشرق"[4].

انتعش وضع اليهود والنصارى الأجانب وغير الأجانب، وقد أعيد ترميم وبناء كُنُسٍ جديدة[5]، بلغ عددها تسعة معابد لليهود وصفتها وثيقة بأنها "أُنْشِأت من جديد بالقدس"[6]، وهذا أمر "لم يُعهد له نظير في الإمبراطورية العثمانية أن يُمنح المسيحيون الحرية لتجديد معابدهم وأديرتهم في كل مكان، وحتى لبناء الجديد منها دون أن يشتروا شهادات من المحكمة الإسلامية (إعلاما) بضرورة أعمال التصليح والبناء ولا إذنا من السلطات المحلية"[7]، وقد وقع الخلاف أحيانا بين اليهود أنفسهم حول بناء معابد جديدة أم استثمار الأماكن في بناء مساكن لاستيعاب اليهود المهاجرين المتدفقين الذين لا يجدون مأوى لهم[8]. بمعنى أن بيت المقدس عانى يومذاك من فائض في المعابد اليهودية وفائض في الهجرة اليهودية.

ومع كل هذا الاهتمام بمعابد وكنائس اليهود والنصارى فإن المساجد تعرضت لاستفزازات قاهرة، فقد انتزعت بعض المساجد وحولتها إلى منازل للعساكر "حتى المسلمين كادت تفقع مرايرهم" وهم عاجزن لا يستطيعون فعل شيء[9]، وهذا غيض من فيض إذ أن سياسة إبراهيم باشا تجاه المسلمين وأهالي البلاد حافلة بالغرائب والفظائع غير أنه أمر لا يدخل في نطاق بحثنا هذا.

كذلك فقد سُمِح لليهود والنصارى بما لم يكن لهم قبل ذلك مثل زيارة قبر النبي يعقوب[10]، وهذا كله كان يعني انقلابا في خرائط القوى الاقتصادية والاجتماعية والدينية في البلاد.

وفي النهاية أدت تدابير إبراهيم وإسقاطه أي ضرائب على الحجاج الأجانب القادمين إلى القدس ثمارها، إذ "فتحت للحجاج الطريق إلى فلسطين، ففي السنتين الثانية والثالثة من الحكم المصري بلغ عدد اليونانيين والأرمن الذين توجهوا من كل المناطق التركية إلى القدس 10 آلاف شخص"[11]. ثم تضاعف هذا العدد في السنة التالية (1834م) وفيها أمر إبراهيم بفتح "درفة الباب الثانية أي درفة باب القيامة لأن من عهد سيدنا عمر الخطاب [هكذا[12]] لم انفتحت وأمر أن لا يكون غفار (خفر) في الدروب ولا ورقة في باب القيامة وأن الزاير لا يحط (شيئاً) لا كلي ولا جزئي [أي: لا ضرائب] فبهذا السبب اجتمع زوار كثير"[13].

وقد فتُحت هذه التسهيلات دون أي استعدادات أو إجراءات تنظيمية، حتى أن الحجاج تزاحموا على كنيسة القيامة إلى درجة أن أهلك بعضهم بعضا، وقُتِل منهم مائتين وكاد إبراهيم باشا نفسه أن يهلك لولا أن أُنْقِذ بصعوبة[14]. وهو ما يثير الحيرة والشك حول مغزى هذا الاستعجال في إعطاء كل تلك التسهيلات التي لا تتحملها البنية التحتية للمدينة المقدسة.

لكن الأمر لم يقتصر على الحجاج فحسب، بل فُتِحت بيت المقدس للأجانب ولو بغرض التنزه والسياحة، ثم تحميهم بمجموعات عسكرية، وهو أمر اندهش له اليوناني الذي يعمل قنصلا لروسيا، ورأى فيه مجرد إهانة للمشاعر الدينية للشعب بلا فائدة، يقول: "عوضا عن أن يقتصر الباشا على اللجم الحكيم لتعصب الشعب، أهان بلا فائدة شعور الشعب الديني نفسه، وسُمِح للكثير من الرحالة الأوروبيين بزيارة مسجد عمر في القدس الذي يعتبر قدس الإسلام الثاني بعد حرم مكة. لا شيء كان في وسعه أن يثير وساوس أشد لدى سكان القدس المتعصبين. لقد نشج خدم مسجد عمر المسنّون لهذا الانتهاك الذي لم يعهد له نظير من قبل في العالم الإسلامي، وفي كل مرة عند زيارة الأجانب للمسجد كان على السلطات المحلية أن تحيط نفسها وضيوفها بفصيلة عسكرية لدرء فورة التعصب في المشاهدين"[15].

ومما هو مثير للدهشة أن إبراهيم باشا وهو مهزوم ومنسحب ومضطر لتسليم البلاد، جَمَعَ أعيان دمشق ليختاروا الحاكم الذي سيسلم له المدينة ثم أعلن فيهم "ألا يمسوا النصارى واليهود بسوء، فإذا هم لم يرعوا أوامره يرتد إليهم بقوة من جيشة ويحل بهم أشد العقاب"[16]!

أثمر كل هذا تضخما كبيرا في أعداد اليهود والنصارى مقارنة بعدد المسلمين في مدينة بيت المقدس، وطبقا لإحصائية غربية فقد بلغ تعداد سكانها في العام (1850م): 535 مسلمون، 3650 مسيحيون، 6000 يهود[17]. أي أن اليهود صاروا أغلبية ساحقة بينما صار المسلمون أقلية صغيرة، من بعد ما كان المسلمون يشكلون ما بين 75 إلى 85% من سكان المدينة[18].

نشر في ساسة بوست



[1] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ترجمة: طارق معصراني، (موسكو: دار التقدم، 1989م) ص114؛ داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام 1832م، (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014م)، ص35.
[2] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص116.
[3] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 3/134. (وثيقة رقم 4637 بتاريخ 16 ربيع الأول 1252هـ = 1 يونيو 1836م)
[4] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص115، 162.
[5] مما يثير الانتباه هنا أن استيلاء إبراهيم باشا على بيت المقدس كان بتاريخ (3 رجب 1247ه =  8 ديسمبر 1831م)، ونجد وثيقة مؤرخة بـ "أوائل رجب" فيها تصريح من قاضي بيت المقدس إلى حاخام اليهود برتميم كنيس اليهود في بيت المقدس، أي أن ترميم معابد اليهود كان أولوية أولى لدى إبراهيم سابقة حتى على تمكين سلطته في باقي أنحاء الشام، إذ لم تكن عكا قد سقطت أمامه بعد، وهي في ذلك الوقت عاصمة الإقليم ومركز قوته، وفيها الجزار باشا وجيشه.
انظر الوثيقة في: أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 1/136، (وثيقة رقم 364).
[6] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/296 وما بعدها، (وثيقة رقم 6206 بتاريخ بتاريخ 4 محرم 1256هـ)، 4/385 (وثيقة رقم 6341 بتاريخ 16 ربيع الآخر 1256هـ).
[7] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص162. وينبغي لفت النظر إلى ما أشار إليه المؤلف نفسه من أن التقييدات القانونية إنما كانت في حالة تشابك القضية بين المقدسات الإسلامية والمسيحية واليهودية خصوصا في بيت المقدس، أما ما كان شأنا داخليا بين أهل الدين الواحد فلم يكن يحتاج لهذه التقييدات.
[8] كارين أرمسترونج، القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني، (القاهرة: سطور، 1998م)، ص564.
[9] مجهول، مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا، تحقيق وتقديم: أحمد غسان سبانو، (نسخة إلكترونية)، ص66.
[10] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 2/326، (وثيقة رقم 3015 بتاريخ محرم 1249هـ).
[11] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص117.
[12] كتاب مذكرات تاريخية هو مصدر معاصر في غاية الأهمية لكنه مجهول المؤلف، ويكثر في عبارته العامية الدمشقية والأسلوب اللغوي الركيك، ولذا ننبه أننا لم نتدخل في العبارة إلا حيث يتحتم التوضيح بين معقوفين [ ]، مع إضافة بعض التشكيل وعلامات الترقيم عند الضرورة.
[13] مجهول، مذكرات تاريخية، ص69.
[14] مجهول، مذكرات تاريخية، ص70.
[15] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص165.
[16] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص185؛ قسطنيطن بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص259.
[17] كارين أرمسترونج، القدس، ص567.
[18] بحسب ورقة بحثية قدمها الباحث التركي د. مصطفى أوكسوز في مؤتمر "العثمانيون وبيت المقدس" السادس عشر، والذي انعقد في اسطنبول (ديسمبر 2016م).

الأربعاء، ديسمبر 28، 2016

في محاولة فهم الشعب المصري

نضع اليوم الكتاب الرابع في سلسلة "مكتبة الثائر المصري"، وهي المكتبة التي نرى أنه ينبغي على ثوار مصر أن يستوعبوها في كفاحهم ضد الانقلاب العسكري، وكنا ذكرنا أنها أربعة أقسام: قسم في تجارب الثورات الناجحة أو الفاشلة، وقسم في علم الاجتماع السياسي، وقسم في خصائص الشعب المصري، وقسم في العلوم العسكرية والأمنية.

وفي المقالات السابقة وضعنا خلاصات ثلاثة كتب في قسم التجارب الناجحة والفاشلة، فاستعرضنا:

§       تجربة تأسيس حركة حماس على لسان زعيمها الشيخ الشهيد أحمد ياسين في جزئين: الأول، الثاني.
§       وتجربة مقاومة الانقلاب العسكري الفاشلة في الجزائر على لسان مؤرخ الجهاديين ومنظرهم أبي مصعب السوري في ثلاثة أجزاء: الأول، الثاني، الثالث.
§       وتجربة النظام الخاص للإخوان المسلمين على لسان مؤرخه والقيادي فيه محمود الصباغ في خمسة أجزاء: الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس.
واليوم نفتح كتابا جديدا في قسم "خصائص الشعب المصري" هو "ماذا حدث للمصريين عبر نصف قرن" لأستاذ الاقتصاد الشهير جلال أمين، لنقدم خلاصاته ضمن مهمة فهم نفسية وتطور الشعب المصري، والاستفادة من هذا الفهم في صياغة الخطاب والحركة الثورية.

وللكتاب عدد من الميزات منها تخصص مؤلفه في موضوعه وشهرته فيه، ثم ما لأسلوبه من سلاسة وعذوبة، ثم إن المؤلف من عائلة استطاعت البقاء على سطح الحالة الاجتماعية رغم انحدارها من عائلة بسيطة، فمن يقرأ مذكرات أحمد أمين (والد المؤلف) يرى انتقال عائلته من ملاك أرض فقراء هاجروا تحت ضغط الظروف العصيبة ثم سكنوا حارة، ثم أتاح التعليم للابن المجتهد أن يكون من كبار أدباء عصره فتغير الوضع الاجتماعي لهم، وفي هذا الوضع الجديد نشأ المؤلف، واستطاع الحفاظ على مكانة مرموقة وإن نزل مستوى الفكر والأدب كله في مصر مع حقبة العسكر (وهو أمر لمسه المؤلف بلطف رغم شدة أهميته، إذ هو في النهاية ضمن النخبة العلمانية التي لا يمكن لها النمو ولا البقاء إلا في ظل حكم يحرس العلمانية ولو بالديكتاتورية، إلا أنه لم يفرط كثيرا في شرفه ليصير ضمن أبواق النظام). كذلك فللكتاب بعض العيوب أهمها أنه ذاتي وانطباعي ومصبوغ بالتفسير الاقتصادي لحركة التاريخ الاجتماعي، وكونه في الأصل سلسلة مقالات.

ونعيد التأكيد أن هذه الخلاصات تحتاج القراءة بعناية فهي تركيز شديد التكثيف، كما أنها لا تغني عن قراءة الأصل لمن أراد استيعابا أعمق، كما أننا لا نوافق بالضرورة على كل ما فيها، فهي في النهاية رؤية فرد وإن حرصنا على أن يكون متخصصا بارعا في الأمر الذي ننقل فيه عنه.

خلاصات الكتاب:

1. "الحراك الاجتماعي" هو المؤثر الأكبر على تطور المجتمع المصري، ومعناه "ما يطرأ على المركز النسبي للطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة صعودا وهبوطا"، وهو ظاهرة شديدة الصلة ببعض أقوى النوازع الاجتماعية كالرغبة في التفوق والرغبة في اكتساب الاحترام. وفي نصف القرن هذا (1945 – 1995) شهد المجتمع المصري أعلى حراك اجتماعي في التاريخ الحديث.

2. كان المجتمع المصري متماسكا على صورة طبقة من كبار الملاك الزراعيين، وشريحة محدودة من أصحاب رؤوس الأموال الصناعية والتجارية، أولئك على رأس المجتمع، بينما باقي الشعب من العمال والفلاحين. ثم بدأت هذه التركيبة تتغير منذ الأربعينات مع إتاحة مجانية التعليم قبل الجامعي وإتاحة الالتحاق بالكليات العسكرية للجميع، وهو ما أدى إلى قيام ثورة يوليو وتدشين حكم العسكر، وهو الحكم الذي جاء بمزيد من القوانين التي ساهمت في تغيير هذه الصورة كمدّ مجانية التعليم حتى الجامعة، وقوانين الإصلاح الزراعي، والتأميم، والتزام الدولة بتعيين الخريجيين مما ضخَّم طبقة الموظفين، وكان أكبر اختلال في هذه الصورة هو هيمنة العسكر ونموهم الهائل اقتصاديا واجتماعيا مهما كانت بدايتهم الطبقية.

كانت محصلة كل هذا الترقي السريع لمستوى واسع من طبقة صغار الملاك والعمال والانهيار السريع لطبقة الملاك ورؤوس المال الصناعية والتجارية.

3. ثم جاءت السبعينات فتغير توجه النظام فظهرت صورة جديدة، إذ تخلى النظام عن التوسع الاقتصادي، فقلل هذا من فرص العمل والترقي، وظهرت منذ (1974) ظاهرتا: الهجرة والتضخم، وهما من أكثر الظواهر أثرا في واقع المصريين.

4. لم يكن المصريون يحبون الهجرة، وكانت الدولة تعالج زيادة السكان بمزيد من الزراعة ومشاريع الري، فلما انحسرت الفرص في السبعينات كانت الطفرة النفطية تظهر في الخليج، فاندفعت موجات من العمال الزراعيين والحرفيين والبنائين والمدرسين فغلبوا وهيمنوا على فئة الهجرة التي كانت تقتصر على الأطباء والمهندسين ونحوهم. ولم تعد الهجرة مستقرا نهائيا كما كان من قبل، بل صار أولئك يعملون ويرجعون، وبهذا فتحت الهجرة بابا لصعود سريع أمام شرائح واسعة من المجتمع المصري، وفتحت كذلك نمطا استهلاكيا ومترفا.

5. تخلي النظام عن التوسع في الصناعة والزراعة مع هيمنة الطبقة العسكرية مع الأموال المتدفقة من الهجرة مع عائدات قناة السويس مع النمط الاستهلاكي أدى إلى نمو حجم الأموال في البلد دون نمو حقيقي في الإنتاج، وهذا هو "التضخم"، وقد أحدث هذا التضخم تقلبا عنيفا في المركز النسبي الطبقي، إذ صار يضغط على أصحاب الدخل للبحث عن وسائل أخرى للتربح للمحافظة على وضعهم الاجتماعي أو التربح من فرص جديدة ظهرت بفعل الأنماط الاستهلاكية وأنماط الاستثمار الجديدة.

6. إن تخلي النظام عن الاستثمار في الزراعة والصناعة لحساب فروع غير منتجة أنتج اختلالا في الإنتاج وفي مجتمع العمال أيضا، وقد أنعش هذا الاقتصاد غير الإنتاجي، مما جعل أموالا ضخمة تذهب في السلع الاستهلاكية والترفيهية أو مشروعات أسرع عائدا وأقل مخاطرة، وأسفر عن زيادة الهجرة من الريف إلى المدينة مما ضغط على الدولة لتنفق ميزانيتها في الطرق والكباري دون التوسع الزراعي والصناعي، وهو ما أنتج ليس تدهورا في الحرف والصناعات فحسب وإنما خللا في قطاع العمالة. وزاد الطين بلة أن أصحاب السلطة هم أنفسهم أصحاب الثروة الكبرى، وهم من يصدرون قوانين الضرائب ذات الثغرات التي تتيح لهم التهرب منها.

7. أسفر هذا كله عن طبقة من الأثرياء الجدد ليس لهم أي ولاء للدولة، فهم قد كوّنوا ثروتهم من القطاع الخدمي كالسمسرة والمضاربة وتأجير الشقق المفروشة، أو كونوها من هجرتهم إلى الخارج، وهذه الأنشطة -التي هيمنت على الاقتصاد وتأثرت بها الفئات الأوسع في المجتمع- بذرت في هذا المجتمع قيم الشطارة والسرعة وانتهاز الفرص على حساب قيم الكرامة والالتزام بالكلمة والصدق والأمانة لتصبح قيما معيقة للصعود. فكان أن ظهرت أنواع جديدة من الجرائم كالعمارات الجديدة المبنية بالغش، وسرقة المال العام، والرشوة، وقتل الأبوين استعجالا للميراث، فالجريمة هي أفضل نشاط اقتصادي غير إنتاجي تحقق الثروة بأسرع وقت.

8. يضغط كل هذا على روابط الأسرة حتى يفككها، فالزواج صار من وسائل الترقي والصعود، وربما تزوج اثنان تقاربا في المستوى ولكن تباعدا في أصل النشأة والتفكير فينهدم البيت، والوالد تحت ضغط التضخم يعجز عن ملاحقة طلبات أولاده ذوي الطموح، ويجنح الأولاد للتمرد، ويستسلم الآباء وتنهار مكانتهم.


إلى هنا انتهت المساحة، ونواصل في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

الجمعة، ديسمبر 23، 2016

محنة الفقه السياسي

اشتعل الجدل في الساحة الإسلامية عقب قتل السفير الروسي في تركيا، وكان النصيب الأكبر من هذا الجدل في نقاش ما إن كان قتله جائزا أم لا، وفاضت الأقلام، ثم فاضت الاتهامات، وبقي أن نرصد بعض الدلالات في هذا الجدل.

1. لقد فشلت عصور التحديث والعلمانية في إنهاء ارتباط المسلمين بتراثهم الفقهي، ربما أجلتها وعطلتها، وبالرغم من تغييب الدين عن المجال العام، إلا أن حركات المقاومة عبر هذين القرنين من هيمنة العلمانية انبعثت من هذا الدين واسترشدت دائما بأصولها الدينية، حتى بدا واضحا أن تمنيات "تجاوز الأيديولوجيا" لم تكن إلا أوهاما وخرافات، وبدا أن العصر القادم هو "ثأر الله" كما يسميه جيل كيبل، إذ العودة إلى الدين يمثل ظاهرة في حركة المجتمعات المعاصرة.

2. لكن عصور العلمانية والتحديث طرحت العديد من التحديات التي لا تزال تمثل عقبة كبيرة في طريق الاجتهاد الفقهي المعاصر، وهذه التحديات لها ثلاثة مستويات كلها متشابك مع الآخر أخذ بعنانه متحد به اتحادا لا ينفك عنه، على هذا النحو:

§       لقد غيَّر نمط الدولة الحديثة كثيرا من الأحوال التي بنى عليها الفقهاء قديما أحكامهم واجتهاداتهم، لا سيما في مسائل العلاقة بين السلطة والمجتمع، وما صارت تملكه السلطة من احتكار القوة، وما تتمتع به من فارق قوة هائل بينها وبني عموم الناس، وما تهيمن عليه من مساحات كانت متروكة للمجتمع فيما مضى.

§       ثم إن زيادة الترابط الحاصل الآن بين الدول بعد ثورة الاتصالات والمواصلات حتى وصل إلى نظام عالمي ذي مؤسسات متحكمة طرح مزيدا من الحوادث والنوازل والعلاقات والتوازنات التي لم تكن متصورة في ذهن الفقيه قديما (وليس هذا بقادح فيه، فلا يُطلب من أحد أن يفكر في مسائل لم يعرفها).

§       ثم هذا الحال المعروف من الاستضعاف العام في الأمة كلها، حتى لا توجد فيها سلطة مستقلة ولا عاصمة آمنة وليس من بلد إسلامي يملك قراره منفردا، بل عامة الدول بين محتل مباشرة أو محتل بالوكالة، أو في حال من الضعف تجعله عاجزا عن القيام بواجبات الإمامة قديما، وعامة كتب الفقه ومصادره كُتبت في أزمان ليس فيها هذا الضعف والعجز العام، ولا هذا التفتت الكبير، ولذلك فكثير من المسائل التي تبدو مشتبهة هي في حقيقتها مختلفة عند التعمق في فهم آراء الفقهاء وتصورهم لها في أزمانهم.

وكل واحد من هذه الثلاثة، فضلا عن اجتماعها معا مؤثر في تنزيل الحكم على الواقع المعاصر.

3. وتزيد المأساة في أن العلماء صاروا معزولين عن عالم السياسة، وهذه العزلة التي طالت لنحو القرنين من الزمن أثمرت ضعفا عاما في العلم بالواقع الذي لا بد منه لتنزيل حكم الشرع عليه، ولذا فالفقهاء في باب السياسة هم أندر أهل الفقه في زماننا هذا، وحتى الحركات الإسلامية التي نهضت لمقاومة العلمانية لم تُخرج من يسد هذه الثغرة.

وقبل ثمانية قرون كتب ابن خلدون في مقدمته فصلا بعنوان "في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها" ذكر فيه أن العالِم المنعزل بعلمه عن شأن السياسة يتعامل مع المسألة تعاملا رياضيا نظريا، لأنه تمرَّن أن يجرد المسألة في صورة نظرية عامة ثم يُفرِّع منها الفروع، وهو إذا فعل ذلك فإنه يشتبه عنده ما ظاهره التشابه بينما يغفل عن الفروق التي يدركها السياسي، بل ربما أدركها العامي الذي لم يتكوَّن عقله على هذه الصورة الرياضية الهندسية التي تنحو إلى التجريد والتأصيل.

كتب ابن خلدون هذا، وهو الفقيه المالكي الذي تولى القضاء وعمل بالسياسة ومارس السفارة، في زمن لم يكن تعقيد شأن السياسة فيه شيئا من واقع هذا الشأن.. فكيف يمكن أن نقول الآن؟!

والقصد: أن العلم المعزول عن السياسة يفسد العلم والسياسة معا!

4. وإذا افترضنا أننا استطعنا ردم هذه الفجوات الهائلة فيظل الأمر في شأن النوازل غير مقتصر على الوصول إلى حكم فقهي صحيح في نفسه، بل الفتوى لا بد لها من اعتبار المآلات وحسابات المصالح والمفاسد، وهي أمور تقديرية لا ينفرد بها الساسة وحدهم ولا العلماء وحدهم، بل لا بد قبل هذا من عمل المتخصصين الذي يشرح الحال ويتوقع المآل ويعطي البدائل.

5. كل الذي سبق لا يعني بحال إهمال المدونة الفقهية الإسلامية، فالإيمان بأن الإسلام دين الله وأنه صالح لكل زمان ومكان وأن الله قد أتم دينه، كل هذا يقتضي بطبيعة الحال الانطلاق من أصول هذا الدين، ولا يمكن بناء اجتهاد على هذه الأصول إلا بالتشبع من المدونة الفقهية وتراثها الغني الواسع الثري، وإن الشهادة بثراء الفقه واشتماله على الحلول للمشكلات المعاصرة أمرٌ نطق به حتى المستشرقون وسُجِّل في مؤتمرات قانونية دولية، والكلام في هذا طويل وهو معروف مشهور.

والقصد أنه لا يمكن إنشاء اجتهاد معاصر إلا باستيعاب النهر الكبير من الفقه القديم حيث عملت ملايين العقول على تحقيق النصوص وتمحيصها والموازنة بينها وإقامة النظريات الفقهية في ضبط الأصول والمقاصد والمراتب والفروق. ومجرد التفكير في إهمال هذا التراث العريض يعني القبول بالذوبان في الحضارة المعاصرة المهيمنة.

إن هذا التراث الفقهي هو القاعدة الصلبة التي يتأسس عليها بناء النموذج الحضاري الإسلامي المعاصر، ويمكننا –بنظرة تبسيطية- أن نقسم الفقهاء إلى نوعين: نوعٌ يحاول تطويع الفقه للواقع، ونوع يحاول تطويع الواقع للفقه، وبقدر ما يبدو الأول من أهل التيسير بقدر ما يُخشى من منهجه الاستسلام والذوبان في النظام المعاصر المخالف للإسلام، ثم بقدر ما يبدو الثاني من أهل التشدد بقدر ما يُخشى منه العزلة عن واقعه، إلا أن الثاني أثبت من الأول في سياق التأسيس للنموذج الحضاري الإسلامي، والأول أثبت من الثاني في إيجاد الوسائل المعاصرة لهذا النموذج الإسلامي، والمنطقة بينهما رمادية ودقيقة ولا يقف فيها إلا الجهابذة ونادرٌ ما هم.

6.  إن الفقه كائن حيٌّ، ينمو بمخالطة الواقع والتصدي لمسائله، وبقدر ما استطاعت الأنظمة إبعاد الفقيه عن المجال العام بقدر ما ركد الفقه في الكتب والزوايا ولم يعد يُنتج الجديد، والبلاد التي انتهى فيها القضاء الشرعي غاب عن الفقهاء فيها ما هو من أخصِّ خصائص البيوت، فكيف بأمر السياسة الذي ما إن يتناوله الفقيه حتى تُفتح له أفواه السجون أو تنصب له أعواد المشانق؟!

إلا أن هذا لم يحل المسألة، إذ انسداد الباب أمام الفقه السياسي يفجر الموقف ولا يحله، إذ أن إبعاد العلماء عن الاجتهاد المعاصر يفتح الباب للحركيين والعمليين، ولو كانوا شبابا صغير السن قليل التجربة ضعيف العلم لا يمتلك سوى بندقية ولا يرى أبعد من فوهتها.

إن الثورة على الظلم طبيعة بشرية، وإغلاق أبواب الإصلاح يدفع بالناس إلى كسرها، ولا تزال السلطة تظلم وتتحرى الظلم حتى لا يبقى إلا أن تنفجر الأمور وتنفلت، وساعتئذ لا يجدي في المسألة قول عالم يراه الثائر عالم سلطة أو جبان أو عاجز عن فهم الواقع.

ومن هذا الواقع مسائل كثيرة تختص بأهل الذمة وأهل الحرب والمعاهَدين والمستأمنين وتولي غير المسلمين المناصب العليا، والمشاركة في ظل هذه الأنظمة بالانتخاب أو الترشح وأحكام العاملين في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وغيرها الكثير.


وهذه المسائل إن لم يفتح العلماء بابها باجتهاد معاصر فإن الواقع سيكسره ثم يهرع العلماء لمحاولة ترقيع ما كُسِر أو حتى الاكتفاء بإدانته.