بدأنا في المقال الماضي حديثا من
جراحات التاريخ العميقة التي لا تزال غير مشتهرة، وهي دور محمد علي باشا حاكم مصر
ومؤسس الدولة العسكرية العلمانية في إنشاء إسرائيل، وقد قسَّمنا مناقشة الأمر في
أربعة عناصر، نناقش في هذه السطور العنصر الأول منها وهو دوره في جذب وتسهيل تدفق
اليهود والنصارى على بيت المقدس، ودعم وجودهم وإقامتهم، مع إهانة وازدراء والإزراء
بأحوال المسلمين.
ما إن دخل إبراهيم باشا إلى بيت المقدس حتى أذاع أمرًا
عامًا، وجهه إلى قاضي القضاة وشيخ مسجد عمر والمفتي والنائب وسائر السلطات، أزال
به كل الضرائب التي كانت تؤخذ من الحجاج المسيحيين واليهود إلى بيت المقدس، هذا
نصه:
"في القدس معابد وأديرة وأماكن للحج تأتي إليها من
أبعد البلدان كل الشعوب المسيحية واليهودية من مختلف الطوائف الدينية. وكانت ترهق
هؤلاء الحجاج إلى الآن ضرائب ضخمة في أداء نذورهم وفرائض دينهم. ورغبة منا في
استئصال هذا العسف، نأمر كل متسلمي إيالة صيدا وسنجقيْ القدس ونابلس بإلغاء هذه
الضرائب على كل الطرق بلا استثناء. يقيم في أديرة القدس وكنائسها رهبان ومتعبدون
لقراءة الإنجيل وأداء الطقوس الدينية لمعتقداتهم. والعدل يقتضي أن تعفى من كل
الضرائب التي فرضتها عليها السلطات المحلية بشكل تعسفي. ولهذا نأمر بأن تلغى إلى
الأبد كل الضرائب التي تُجبى من أديرة ومعابد كل الشعوب المسيحية المقيمة في القدس
من يونانيين وفرنجة وأرمن وأقباط وغيرهم، وكذلك الضرائب القديمة والجديدة التي
يدفعها الشعب اليهودي. ومهما كانت الذريعة أو التسمية التي تؤخذ بها هذه الضرائب
هدية عادية وطوعية أو إلى خزينة الباشوات أو في مصلحة القضاة والمتسلمين والديوان
وما شابه ذلك، فإنها جميعا ممنوعة منعا باتا. وتلغى على حد سواء الكفارة التي تجبى
من المسيحيين عند دخول كنيسة قبر السيد المسيح أو عند التوجه إلى نهر الشريعة (الأردن).
وعليكم، ما إن نقرأ هذا البيورلدي (الأمر)، أن تسارعوا إلى تنفيذه كلمة كلمة،
وتوقفوا فورا جباية كل الضرائب المذكورة أعلاه وغيرها من الضرائب القائمة على
العادة وكل مطلب من أديرة القدس ومعابدها العائدة إلى مختلف الشعوب [الأديان]
المسيحية واليهودية، شأن الكفارات، كأمر مناف للقانون. بعد إعلان هذا الأمر
سيُعاقب بصرامة كل من يطلب أقل إتاوة من المعابد والأديرة المذكورة والحجاج"[1].
وطبقا لرواية قسطنطين بازيلي السفير الروسي في يافا –وهو
من أصل يوناني ومعجب بإبراهيم ومحمد علي- فقد أعلن إبراهيم باشا فيما بعد أن اليد
التي تأخذ نقودا من الحجاج في جبال اليهودية سوف تُقطع، وبالفعل قطع يد اثنين أو
ثلاثة، "فلم يعد أحد يجرؤ على انتهاك قانونه"[2].
وإلى هذا فقد وجَّه محمد علي إلى إصلاح أديرة رهبان
الروم في يافا وقيسارية، وبنى محجرا صحيا في يافا للحجاج الروم القادمين إلى بيت
المقدس، ثم وجه إلى شريف باشا بوجوب تقديم المساعدات الإدارية اللازمة لمدير الحجر
الصحي، وجعل ما يدفعه أولئك الحجاج تحت تصرف رهبان الروم والأرمن[3]، وهو إجراء يدل على حرصه أن يكون لهم استقلال مالي! وهو
أمر غريب على سياسة رجل يؤسس دولة حديثة ونظامه الاقتصادي احتكاري!!
ولم يكن أمر إبراهيم باشا خاصا ببيت المقدس وحده، بل كان
برنامجا لسياسة إبراهيم إزاء المسيحيين السوريين"، وكانت كلماته "تشكل
عصرا جديدا بالنسبة إلى المسيحيين في الشرق"[4].
انتعش وضع اليهود والنصارى الأجانب وغير الأجانب، وقد
أعيد ترميم وبناء كُنُسٍ جديدة[5]، بلغ عددها تسعة معابد لليهود وصفتها وثيقة بأنها
"أُنْشِأت من جديد بالقدس"[6]، وهذا أمر "لم يُعهد له نظير في الإمبراطورية
العثمانية أن يُمنح المسيحيون الحرية لتجديد معابدهم وأديرتهم في كل مكان، وحتى
لبناء الجديد منها دون أن يشتروا شهادات من المحكمة الإسلامية (إعلاما) بضرورة
أعمال التصليح والبناء ولا إذنا من السلطات المحلية"[7]، وقد وقع الخلاف أحيانا بين اليهود أنفسهم حول بناء
معابد جديدة أم استثمار الأماكن في بناء مساكن لاستيعاب اليهود المهاجرين
المتدفقين الذين لا يجدون مأوى لهم[8]. بمعنى أن بيت المقدس عانى يومذاك من فائض في المعابد
اليهودية وفائض في الهجرة اليهودية.
ومع كل هذا الاهتمام بمعابد وكنائس اليهود والنصارى فإن
المساجد تعرضت لاستفزازات قاهرة، فقد انتزعت بعض المساجد وحولتها إلى منازل
للعساكر "حتى المسلمين كادت تفقع مرايرهم" وهم عاجزن لا يستطيعون فعل شيء[9]، وهذا غيض من فيض إذ أن سياسة إبراهيم باشا تجاه
المسلمين وأهالي البلاد حافلة بالغرائب والفظائع غير أنه أمر لا يدخل في نطاق
بحثنا هذا.
كذلك فقد سُمِح لليهود والنصارى بما لم يكن لهم قبل ذلك
مثل زيارة قبر النبي يعقوب[10]، وهذا كله كان يعني انقلابا في خرائط القوى الاقتصادية
والاجتماعية والدينية في البلاد.
وفي النهاية أدت تدابير إبراهيم وإسقاطه أي ضرائب على
الحجاج الأجانب القادمين إلى القدس ثمارها، إذ "فتحت للحجاج الطريق إلى
فلسطين، ففي السنتين الثانية والثالثة من الحكم المصري بلغ عدد اليونانيين والأرمن
الذين توجهوا من كل المناطق التركية إلى القدس 10 آلاف شخص"[11]. ثم تضاعف هذا العدد في السنة التالية (1834م) وفيها
أمر إبراهيم بفتح "درفة الباب الثانية أي درفة باب القيامة لأن من عهد سيدنا عمر
الخطاب [هكذا[12]] لم انفتحت وأمر أن لا يكون غفار (خفر) في الدروب ولا ورقة
في باب القيامة وأن الزاير لا يحط (شيئاً) لا كلي ولا جزئي [أي: لا ضرائب] فبهذا السبب
اجتمع زوار كثير"[13].
وقد فتُحت هذه التسهيلات دون أي استعدادات أو إجراءات
تنظيمية، حتى أن الحجاج تزاحموا على كنيسة القيامة إلى درجة أن أهلك بعضهم بعضا،
وقُتِل منهم مائتين وكاد إبراهيم باشا نفسه أن يهلك لولا أن أُنْقِذ بصعوبة[14]. وهو ما يثير الحيرة والشك حول مغزى هذا الاستعجال في
إعطاء كل تلك التسهيلات التي لا تتحملها البنية التحتية للمدينة المقدسة.
لكن الأمر لم يقتصر على الحجاج فحسب، بل فُتِحت بيت
المقدس للأجانب ولو بغرض التنزه والسياحة، ثم تحميهم بمجموعات عسكرية، وهو أمر
اندهش له اليوناني الذي يعمل قنصلا لروسيا، ورأى فيه مجرد إهانة للمشاعر الدينية
للشعب بلا فائدة، يقول: "عوضا عن أن يقتصر الباشا على اللجم الحكيم لتعصب
الشعب، أهان بلا فائدة شعور الشعب الديني نفسه، وسُمِح للكثير من الرحالة
الأوروبيين بزيارة مسجد عمر في القدس الذي يعتبر قدس الإسلام الثاني بعد حرم مكة.
لا شيء كان في وسعه أن يثير وساوس أشد لدى سكان القدس المتعصبين. لقد نشج خدم مسجد
عمر المسنّون لهذا الانتهاك الذي لم يعهد له نظير من قبل في العالم الإسلامي، وفي
كل مرة عند زيارة الأجانب للمسجد كان على السلطات المحلية أن تحيط نفسها وضيوفها
بفصيلة عسكرية لدرء فورة التعصب في المشاهدين"[15].
ومما هو مثير للدهشة أن إبراهيم باشا وهو مهزوم ومنسحب
ومضطر لتسليم البلاد، جَمَعَ أعيان دمشق ليختاروا الحاكم الذي سيسلم له المدينة ثم
أعلن فيهم "ألا يمسوا النصارى واليهود بسوء، فإذا هم لم يرعوا أوامره يرتد
إليهم بقوة من جيشة ويحل بهم أشد العقاب"[16]!
أثمر كل هذا تضخما كبيرا في أعداد اليهود والنصارى
مقارنة بعدد المسلمين في مدينة بيت المقدس، وطبقا لإحصائية غربية فقد بلغ تعداد
سكانها في العام (1850م): 535 مسلمون، 3650 مسيحيون، 6000 يهود[17]. أي أن اليهود صاروا أغلبية ساحقة بينما صار المسلمون
أقلية صغيرة، من بعد ما كان المسلمون يشكلون ما بين 75 إلى 85% من سكان المدينة[18].
نشر في ساسة بوست
[1] قسطنطين
بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ترجمة: طارق معصراني، (موسكو:
دار التقدم، 1989م) ص114؛ داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام 1832م،
(القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014م)، ص35.
[3] أسد رستم،
المحفوظات الملكية المصرية، 3/134. (وثيقة رقم 4637 بتاريخ 16 ربيع الأول
1252هـ = 1 يونيو 1836م)
[5] مما يثير
الانتباه هنا أن استيلاء إبراهيم باشا على بيت المقدس كان بتاريخ (3 رجب 1247ه
= 8 ديسمبر 1831م)، ونجد وثيقة مؤرخة بـ
"أوائل رجب" فيها تصريح من قاضي بيت المقدس إلى حاخام اليهود برتميم
كنيس اليهود في بيت المقدس، أي أن ترميم معابد اليهود كان أولوية أولى لدى إبراهيم
سابقة حتى على تمكين سلطته في باقي أنحاء الشام، إذ لم تكن عكا قد سقطت أمامه بعد،
وهي في ذلك الوقت عاصمة الإقليم ومركز قوته، وفيها الجزار باشا وجيشه.
انظر الوثيقة في: أسد رستم، المحفوظات
الملكية المصرية، 1/136، (وثيقة رقم 364).
[6] أسد رستم،
المحفوظات الملكية المصرية، 4/296 وما بعدها، (وثيقة رقم 6206 بتاريخ
بتاريخ 4 محرم 1256هـ)، 4/385 (وثيقة رقم 6341 بتاريخ 16 ربيع الآخر 1256هـ).
[7] قسطنطين
بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص162. وينبغي لفت النظر إلى ما
أشار إليه المؤلف نفسه من أن التقييدات القانونية إنما كانت في حالة تشابك القضية
بين المقدسات الإسلامية والمسيحية واليهودية خصوصا في بيت المقدس، أما ما كان شأنا
داخليا بين أهل الدين الواحد فلم يكن يحتاج لهذه التقييدات.
[8] كارين
أرمسترونج، القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد
عناني، (القاهرة: سطور، 1998م)، ص564.
[9] مجهول، مذكرات
تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا، تحقيق وتقديم: أحمد غسان سبانو،
(نسخة إلكترونية)، ص66.
[12] كتاب مذكرات
تاريخية هو مصدر معاصر في غاية الأهمية لكنه مجهول المؤلف، ويكثر في عبارته
العامية الدمشقية والأسلوب اللغوي الركيك، ولذا ننبه أننا لم نتدخل في العبارة إلا
حيث يتحتم التوضيح بين معقوفين [ ]، مع إضافة بعض التشكيل وعلامات الترقيم عند
الضرورة.
[16] داود
بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص185؛ قسطنيطن بازيلي، سورية وفلسطين تحت
الحكم العثماني، ص259.
[18] بحسب ورقة
بحثية قدمها الباحث التركي د. مصطفى أوكسوز في مؤتمر "العثمانيون وبيت
المقدس" السادس عشر، والذي انعقد في اسطنبول (ديسمبر 2016م).
السلام عليكم
ردحذف