الجمعة، ديسمبر 16، 2016

وعند الثورة يتذكر الحكام الدين

لا زلنا في دروس الثورة العباسية التي استعرضناها في سلسلة المقالات الماضية[1]، واليوم موعدنا مع درس جديد، وهو لجوء الحاكم إلى الدين وعلمائه للنجاة من الثورة عليه!

ببصيرة السياسي الحاذق أدرك نصر بن سيار أن خطر أبي مسلم هو الخطر الأكبر في بلاده، وأنه من الممكن تجميد وتأجيل كل الخلافات والصراعات إلا هذا الخطر المجهول، فالدعوة الهاشمية الغامضة التي كان يلمحها سرا، ولا يستطيع الإمساك بخيوطها قد صارت قوة كبرى، وهي ليست من جنس الحركات التي يمكن التفاهم معها بالأموال أو الولايات؛ بل هي دعوة تطلب أمر الخلافة نفسه، ثم إنه ليس في حالة تسمح له بمحاربتها وحده، وخراسان منقسمة عليه، وجيشه لا يكاد يخرج من نزاع حتى يدخل في آخر، فلا طاقة له بهذه الدعوة الفتية الجديدة، لكل هذا ولغيره بدأ نصر بن سيار منذ تلك اللحظة في إرسال استغاثاته ومناشداته.

فأرسل إلى الخليفة مروان بن محمد قائلا:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... فيوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام
فإن لم تطفئوها تجن حربا ... مشمرة يشيب لها الغلام
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام
ففري عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السلام[2]

على أن مروان، في الواقع، لم يكن غافلا؛ ولكنه كان مشغولا بقمع ثورات العراق والجزيرة والحجاز واليمن ومصر، التي تكالبت عليه من كل جهة[3]، وقد وصلته هذه الرسالة وهو يخمد ثورة أهل حمص[4]، فرد عليه بقوله: "الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فاحسم الثؤلول[5] قبلك"[6].

فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة، والي الأمويين على العراق، وهو الذي ترجع إليه أمور خراسان، قائلا:
أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبينت أن لا خير في الكذب
بأن خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغب
فإن يطرن ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهب[7]

فقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة؛ وليس عندي رجل. وكانت العلاقة بين الرجلين سيئة ومضطربة، لذا لم يفكر في إنجاده متعللا باحتياجه إلى من لديه من الجنود لمواجهة ثورات الخوارج في العراق[8].

وأرسل نصر استغاثة أخرى إلى مروان بن محمد ولم يكن مصيرها أفضل من سابقاتها[9].

وبالموازاة مع هذه الرسائل اجتهد نصر بن سيار ليمنع تحالفا قد يكون بين الكرماني ومن وراءه من اليمانية وبين أبي مسلم، ثم خاف أكثر من ذلك أن ينضم الربعية إلى هذا الحلف فيكون الأمر قد انتهى تقريبا وصار بلا قوة، ولئن كانت العداوة مشتعلة بينه وبين الكرماني زعيم اليمانية؛ فلقد سارع أولا إلى محاولة تحييد الربعية، فأنشد يقول:
أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا ... حربا يحرق في حافاتها الحطب
ما بالكم تلقحون الحرب بينكمو ... كأن أهل الحجا عن فعلكم غيب
وتتركون عدوا قد أظلكمو ... مما تأشب لا دين ولا حسب
ليسوا إلى عرب منا فنعرفهم ... ولا صميم الموالي إن هم نسبوا
قدما يدينون دينا ما سمعت به ... عن الرسول ولم تنزل به الكتب
فمن يكن سائلا عن أصل دينهم ... فإن دينهمو أن تقتل العرب[10]

مواجهة نصر بن سيار للدعوة العباسية

بعد الفشل على المستوى السياسي، مستوى الزعماء، توجه نصر بن سيار إلى المستوى الشعبي؛ إذ بعث نصر بن سيار إلى المتفقهين والقراء والنساك، ومن كان معارضا للحروب الداخلية بين نصر والكرماني، وقال: إنكم كرهتم مشاهدتنا في حربنا هذه، وزعمتم أنها فتنة القاتل والمقتول فيها في النار، فلم نردد عليكم رأيكم في ذلك، وهذا حدث قد ظهر بحضرتكم: هذه المسودة وهي تدعو إلى غير ملتنا وقد أظهروا غير سنتنا، وليسوا من أهل قبلتنا يعبدون السنانير (أي: القطط)، ويعبدون الرءوس، علوج وأغتام[11] وعبيد وسُقَّاط العرب والموالي. فهلموا فلنتعاون على إطفاء نائرتهم وقمع ضلالتهم، ولكم أن نعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه وسنة العمرين بعده». فأجابوه إلى مظاهرته على حرب أبي مسلم والجد معه في ذلك، وتنفير الناس منه[12].

إنها سيرة المستبدين في كل زمان، ألا يحفلوا بعلماء الدين ولا يلقوا لهم بالا؛ حتى إذا وقعوا في أزمة سارعوا إليهم: أن أنقذوا الأمة والبلاد، ولكم علينا إن انتهت الفتنة أن نحكم بشرع الله. وعلى الجانب الآخر فلا شك أن في المتفقهين والنساك من لا يدرك أمور السياسة؛ لا سيما إن صور له الأمر على أنها فتنة تسيل فيها دماء المسلمين، فهو يسارع إلى إطفاء هذه الفتنة دون أن يعمل جهده في تبين وجه الحق فيها، وقد رأينا في عالمنا المعاصر كيف يستخدم الطغاة المستبدون بعض العلماء في إخماد الثورات الشعبية؛ باعتبارها فتنة تهدد البلاد والعباد، وتسيل فيها الدماء، وكذبوا: فما هدد بلادنا ودمرها وأسال دماء أهلها إلا هم أنفسهم!

أقلقت هذه الدعاية بالتحديد العباسيين، وخشوا من تأثيرها البالغ، ولم ينزل بأبي مسلم غم كما نزل به في هذا الحين؛ إذ الطعن في العقيدة أنفذ في النفوس من غيره، فسارع أبو مسلم لجمع أهل الرأي من النقباء وطرح الأمر عليهم فاقترح أسلم بن أبي سلام أن يجمع أبو مسلم أهل المعسكر جميعا، ثم ينادي فيهم أنه يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإقامة الحق والعدل، وأنه يبايع على ذلك هو وجميع أهل الدعوة، وبهذا تنتهي دعاية نصر بن سيار بأنهم على غير ملة الإسلام، واتفقوا على هذا الرأي، فنادى أبو مسلم بأن يجتمع أهل المعسكر جميعا صباح الغد لأمر مهم، وبلغ أمر الدعوة نصر بن سيار فبعث جواسيس إلى معسكر العباسيين لاستطلاع الأمر، ولما جاء الصباح نادى أبو مسلم: «يا معشر المسلمين بلغنا أن نصر بن سيار جمع قوما فخبرهم بأنكم على غير دين الإسلام، وأنكم تستحلون المحارم، ولا تعملون بكتاب الله ولا سنة نبيه، يريد بذلك ليطفئ نوركم، ويؤلب عليكم الناس، وقد كان الإمام أمرنا وتوالت كتبه إلينا بأن ندعو الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بذلك، وإظهار العدل، وإنكار الجور، وأن أبايع الناس على ذلك، وأنا أول من بايع على كتاب الله تعالى وسنة نبي الله والعمل بالحق والعدل ودفع الظلم عن الضعفاء، وأخذ الحق من الأقوياء، خذ بيعتي يا أبا محمد» (سليمان بن كثير). فأخذ بيعته، وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتفين بما أعطيت من نفسك؟ قال: نعم. ثم تتابع أهل الدعوة على البيعة حتى شمل كل من في المعسكر، وقد فوجئ القراء والنساك بهذا؛ فأمسكوا عن الطعن في العباسيين وفي أبي مسلم؛ بل إن منهم من انحاز إليهم، وفشل تدبير نصر بن سيار[13].

ومع هذا الفشل لجأ نصر بن سيار إلى الحوار، فأرسل رجلين من بني ليث ومن باهلة إلى أبي مسلم لسؤاله عن هذه الدعوة، وقد اندهش الرسولان حين علما بأنهم يقيمون الصلاة وقالا: «والله ما كنا نحسبكم تصلون ... كان يقال لنا: إنكم لا تصلون وإنكم تعبدون السنانير. فلما رأيناك (أبا مسلم) تصلي ورأينا السنور مهينا لديكم؛ علمنا أن ما قيل فيكم باطل». وأحضر أبو مسلم كبار الدعوة وعلى رأسهم سليمان بن كثير لمجلس المناظرة، وبين أنه يدعو لدعوة الحق على كتاب الله وسنة نبيه وعلى المبايعة للرضا من آل محمد، فحاولا معرفة زعيم هذه الدعوة من آل البيت فلم يمكنهما؛ بل قال لهما أبو مسلم: «إن أجبتمانا ووثقتما له وأعطيتمانا ما نطمئن إليه منكما جمعنا بينكما وبينه، فأما أن ندلكما على صاحبنا وأنتما مقيمان على باطلكما فلا». وأظهر لهما الزهد والتواضع وتجرد من الأحساب والأنساب، وأعلن أن نسبه هو الدين وأن حسبه هو نصرة آل البيت لا غير، وبهذا ارتفع بدعوته فوق العصبيات والقبليات، فعاد الرجلان إلى نصر بن سيار يخبرانه بأن عدوه هذه المرة إنما هو داهية[14]!

وفي رواية عند الطبري أن العباسيين أسروا جماعة من أتباع الأمويين؛ ومنهم مولى لنصر بن سيار نفسه، فأمر أبو مسلم أن يعالج مولى نصر من جراحه، ويحسن إليه، ثم دعاه إليه فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالما، وأعطنا عهد الله ألا تحاربنا وألا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت. فاختار الرجوع إلى مولاه، وقال أبو مسلم: إن هذا سيرد عنكم أهل الورع والصلاح؛ فإنا عندهم على غير الإسلام. فلما قدم على نصر بن سيار قال نصر: لا مرحبا بك، والله ما ظننت استبقاك القوم إلا ليتخذوك حجة علينا. فقال: فهو والله ما ظننت وقد استحلفوني ألا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيرا ويدعون إلى ولاية رسول الله، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو، ولولا أنك مولاي أعتقتني من الرق ما رجعت إليك، ولأقمت معهم. والحال نفسه تكرر مع أسرى لسرية من جيش نصر بن سيار آذت أهل قرية طوسان، فاستغاثوا بأبي مسلم؛ فأرسل إليهم سرية هزمتهم وأسرت منهم، فداوى جرحاهم ثم أفرج عنهم[15].

ثم أرسل إليهم رجلا آخر واعظا فصيحا اسمه حية، وكان ممن استجاب لدعوة العباسيين، ثم انفصل عنهم، ولم تكن هذه المرة مثل السابقة تقصد الفهم والتعرف على هذه الدعوة؛ بل كانت هجومية؛ حتى لقد أوصى نصر حية بأن يسائله عن انحياز العبيد إليه، وهل يرضى هروبهم من مواليهم، وعن تجاوزات وقعت من أصحاب الدعوة في مدن نسا وطالقان وآمل، وعن انحيازه لقبائل اليمانية في اتهام له بالحزبية والعصبية والقبلية؛ التي لا تتفق مع دعوة الإسلام، وقد أفاض حية في عرض هذه العيوب بأسلوب فصيح إلا أن أبا مسلم رد عليه بكلام قليل موجز؛ لكنه بليغ كذلك، قال: "أما العبيد فلسنا نكره أحدا منهم، فمن أراد مولاه فشأنه، وإن أنفذتم أحكامنا حكمنا بينهم وبين مواليهم بالحق، وأما أهل نسا وطالقان وآمل، فإن الذي كان منهم لم يكن عن رأينا ولا بأمرنا؛ ولكنهم أمة أريد ظلمهم وسفك دمائهم فامتنعوا؛ فلا حجة عليهم ... ونعم أمرني الإمام أن أنزل في أهل اليمن وأتألف ربيعة، ولا أدع نصيبي من صالحي مضر"[16].

وبهذا نفى عن نفسه تهمة العصبية، وذنب تحريض الموالي على الهرب من مواليهم، والمسئولية عما فعل أهل الدعوة من تجاوزات مع التماس العذر لهم وتبرئتهم من الذنب باعتبار أنهم الذين أريد الاعتداء عليهم ولم يبدءوا بالعداوة.
ولما شاعت هذه الإجابة السديدة بين الناس؛ زاد هذا في إقبال العبيد عليه؛ حتى بلغوا سبعة آلاف، فكان يكرمهم ويعطي الواحد منهم ثلاثة دراهم يوميا، ثم زادت إلى أربعة، وكذلك زاد إقبال اليمانية إما رغبة في الدعوة، وإما طلبا للثأر من نصر بن سيار، وكذلك إقبال الناس من ربيعة، وإقبال العديد من مضر أيضا[17].

وعلى هذا فشل نصر بن سيار في هذا الأسلوب أيضا! وصار استيلاء العباسيين على خراسان مسألة وقت.

نشر في ساسة بوست



[2] خليفة بن خياط: تاريخ خليفة ص115، وابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 221، وابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 2/ 275.
[3] د. فاروق عمر: الثورة العباسية ص101.
[4] الدينوري: الأخبار الطوال ص357.
[5] الثؤلول: بثر صغير صلب مستدير بقدر الحمصة أو أصغر منها يشبه الخراريج يظهر في الجسم.
[6] الطبري: تاريخ الطبري 4/ 314، وابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 2/ 275.
[7]  البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 133.
[8] البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 133، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 315.
[9] الدينوري: الأخبار الطوال ص360.
[10]  البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 132، والدينوري: الأخبار الطوال ص361، وابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 221.
[11] أغتام: جمع غتمي، وهو الذي لا يفصح شيئا.
[12] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص290.
[13] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص290 - 293.
[14] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص281 - 283.
[15] الطبري: تاريخ الطبري 4/ 309، 313.
[16] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص284، 285.
[17] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص285، والطبري: تاريخ الطبري 7/ 366.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق