محمد إلهامي[1]
بعد أيام تحل
ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير)، ومن السنن الحسنة التي سنها الشباب على الانترنت هو
إحياء هذه الذكرى ونشر سيرة الأندلس، تلك القطعة المقطوعة من قلب كل مسلم، وذلك
الاسم الذي يثير الدموع حتى بعد سقوطه بأكثر من خمسة قرون!
وقد اخترت أن
أكتب في شيء من مخترعات وابتكارات الأندلس ليعرف الشباب مدى ما بلغته الحضارة
الإسلامية في الأندلس، واكتفيت من ذلك بخمسة لئلا يطول المقال الذي بلغ أكثر من
ألف كلمة، وهذا غاية ما يطيقه قارئ الانترنت.
***
1. بِيلَتَيْ طليطلة
والبيلة هي
حوض النافورة، وكان المهندس الفلكي الأندلسي عبد الرحمن الزرقال قد صنع حوضي
نافورة داخل تجويف من الزجاج على نهر تاجُه في طليطلة، والعجيب في هذين الحوضين
أنهما يمتلئان بالماء بنفس حساب التقويم القمري. بمعنى أنه إذا كان القمر هلالا
وليدا يكون الماء فيهما بنسبة (1: 30) ثم تظل زيادة الماء فيهما متناسبة مع القمر
حتى إذا صار القمر بدرا كاملا يكون الحوضان قد امتلآ بالماء، ثم يبدأ القمر في
النقصان فيبدأ منسوب الماء في النقصان حتى إذا اختفى القمر وصار محاقا لم يعد في
الحوضين ماء.
يقول المقري:
"وإذا تَكَلَّف أحدٌ حين تنقصان أن يملأهما وجلب لهما الماء ابتلعتا ذلك من حينهما
حتى لا يبقى فيهما إلا ما كان فيهما في تلك الساعة، وكذا لو تكلف عند امتلائهما إفراغهما
ولم يبق فيهما شيئا ثم رفع يده عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين ... ولم
تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى دمرهم الله طليلة فأراد الفنش (ألفونسو السادس)
أن يعلم حركاتهما فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها الماء وكيف الحركة
فيهما فقلعت فبطلت حركتهما"[2].
***
2. مجلس المأمون بن ذي النون
وهو ملك
طليطلة في عصر ملوك الطوائف، وقد بلغ مجلسه في حديقة قصره الفاخر مبلغا أسطوريا..
كان مجلس
المأمون في قبة مجوفة في وسط بحيرة، ويحف البحيرة نوافير على هيئة الأسود التي
تقذف بالماء من أفواهها إلى البحيرة وتتركز عليها الأضواء التي يعكسها سطح الماء
فكأن المشهد قادم من عالم الخيال، وأقوى ما في المشهد هذه القبة المجوفة في وسط
البحيرة، إذ صممها المهندسون بحيث يرتفع الماء إلى سطحها ثم ينسكب من حولها بصفة
مستمرة فتصير كأنها قبة من الماء المنسدل عليها من كل النواحي فيكون مجلس المأمون
داخل هذه القبة دون أن تصيبه قطرات الماء[3].
***
3. طريقة التعليم المعجزة
نعرف جميعا
قصة هيلين كيلر، الملقبة بمعجزة الإنسانية، تلك الفتاة العمياء الصماء البكماء
التي استطاعت معلمتها آن سوليفان أن تبدأ معها مسيرة التعليم من خلال كتابة الحروف
على يدها وتجسيمها في مجسمات تلمسها هيلين حتى تتعرف عليها ... إلى آخر القصة
المعروفة.
من المدهش أنك
تجد هذه الطريقة ذاتها قبل هيلين كيلر بثمانية قرون كاملة، في الأندلس، وذلك ما
يرويه لنا الإمام ابن حزم في لفتة عابرة، في كتابه "التقريب لحد المنطق"
فيقول:
"أخبرني مؤدبي
أحمد بن محمد بن عبد الوارث رحمه الله أن أباه صَوَّر لمولود كان له أعمى وأكمه حروف
الهجاء أجراما من قِير، ثم أَلْمَسَه إياها حتى وقف على صورها بعقله وحسه، ثم أَلْمَسَه
تراكبها وقيام الأشياء منها حتى تشكل الخط وكيف يُسْتبان الكتاب ويُقْرأ في نفسه، ورفع
بذلك عنه غصة عظيمة، وأما الألوان فلا سبيل إلى ذلك فيها"[4].
ويتضح من النص
أن بين ابن حزم وبين والد مؤدبه ثلاثة أجيال، أي نحو أربعين عاما على الأقل، أي أن
ذلك كان في نهاية القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي.
***
4. قاعة السفراء (بهو قمارش)
وهي جزء من
قصر المتزين في مدينة الحمراء –عاصمة غرناطة- بناه يوسف الأول، وصممت هذه القاعة
لإلقاء الروعة والرهبة –معا- في نفوس الزائرين، خصوصا من سفراء القشتالين والممالك
النصرانية، وما يزال شعور الرهبة والروعة باقٍ حتى عصرنا هذا في نفوس من يزوره.
ليس في القاعة
شبر لا تنسال منه الزخارف والنقوش البديعة، حتى كأنه انفجار بصري أخاذ، ورغم أن
الألوان الأصلية قد ذهبت الآن إلا أن تصورها يلقي في النفس مشهدا أسطوريا آسرا، وتعلو
القاعة قبة مهيبة مهولة –بارتفاع 23 مترا- كأنها تمثل منبعا لفيضان الزخارف السيال
من كل ركن في هذه القاعة.
كانت القاعة
جزءا من برج المتزين، الذي كان الأعلى في محيطه، والحمراء نفسها إنما هي بناء عال
فوق جبال سيرانيفادا المطلة على غرناطة، أي أن القاعة تشرف على غرناطة.. وبهذا
الاعتبار فقد صمم المهندسون نوافذها في جهاتها كلها، وجعلوا مجلس السلطان في منتصف
القاعة تحت القبة المهيبة، فيكون الداخل إليه كأنما يجد نفسه فجأة فوق العالم،
أينما اتجه ببصره رأى عبر النوافذ غرناطة تحت قدميه في مشهد بانورامي يجتمع فيه
التوجس والانبهار، ثم يزداد التأثير بفيضان الزخارف في كل ركن، ثم يكتمل بمجلس
السلطان وأبهته وزينته، والذي يبدو –وهو في هذا الموضع- وكأنه يملك غرناطة ببصره
ويهيمن عليها بسلطانه.
وهذا بخلاف
مجموعة من النوافذ العلوية الصغيرة (التي تسمى قمريات، ومنها جاء اسم قمارش) المصممة
بدقة والتي تتسرب منها أشعة الشمس لتنعكس فتصنع من الزخارف وألوانها عالما ساحرا
خلابا.
***
5. مجلس أنس
يصف الشاعر
ابن حمديس الصقلي مجلس أنس وخمر، ولا شك أننا ننقله لما فيه من الطرافة والإبداع
في الصناعة لا إقرارا للخمر، ونحن لا ندري على وجه التحديد هل كان هذا مجلس ملوك
فتكون هذه التقنية فيه نادرة اختصت بالملوك أم أحد الأغنياء فتكون هذه التقنية
متوفرة شائعة.. لكن المعروف أن هذا الشاعر كان في زمن ملوك الطوائف وله مدائح في
المعتمد بن عباد ملك إشبيلية، وعاصر محنته وخلعه ونفيه إلى أغمات.
كان مجلس
السقي هذا دائري، صُنِع فيه مجرى للماء بحيث يجلس القوم على أطرافه، ويقف عند أول
الدائرة الخدم الذين يحملون أنواع الخمر، فينادي من يريد الشراب على أحدهم (الذي
يحمل نوعا بعينه من الخمر) فيضع له الخادم الكأس في الماء فيجري به الماء حتى
صاحبه، فإذا فرغ من الكأس أعاده مرة أخرى إلى الماء الذي يواصل جريانه حتى يعود
إلى الخادم.
ولا ريب أن
هذه التقنية كانت لها تطبيقات أخرى في حياة المسلمين، لكن الذي عرفناها منه كان
مجلس الخمر هذا.. يقول ابن حمديس:
وساقيةٍ تسقي الندامى بمدّها .. كؤوساً من الصهباءِ
طاغيةَ السُّكْرِ
يعوَّمُ فيها كلّ جامٍ كأنما .. تَضَمّنَ روح
الشمس في جسد البدر
إذا قَصَدَتْ منّا نديماً زجاجةٌ .. تناولها
رفقاً بأنمله العشر
فيشربُ منها سكرةً عِنبِيَّةً .. تنّومُ عينَ
الصحو منه وما يدري
ويُرسلها في مائها فيُعيدها .. إلى راحتي ساقٍ
على حكمه تجري
جعلنا على شُرْبِ العُقَارِ سَمَاعَنَا ..
لحوناً تغنّيها الطيورُ بلا شعر
وساقينا ماءٌ ينيل بلا يدٍ .. ومشروبُنَا نارٌ
تضيء بلا جمر
سقانا مسرّاتٍ فكان جزاؤه .. عليها لدينا أنْ
سقيناه للبحر
كأنا على شطِ الخليج مدائن .. تسافرُ فيما بيننا
سُفُنُ الخمر
وما العيش إلاّ في تطرّفِ لذةٍ .. وخلعِ عذارٍ
فيه مستحسنُ العذر
***