الخميس، يونيو 20، 2013

جناية الأنظمة العلمانية على الأوقاف الإسلامية




لعله سيكون غريبا إذ نقول بأن هذا الموضوع إنما هو فرع عن الصراع الكبير بين الشرق والغرب، بين النظام الإسلامي والنظام العلماني، فللوهلة الأولى لا يبدو الأمر كذلك لكن بقليل من التعمق والنبش وراء ظواهر الأحداث يتبدى وجه الحقيقة المخبوء.

وإجمال ذلك أن الدولة المركزية هي بنت الفكرة العلمانية والمسار التاريخي الغربي، بينما المجتمع الفعال –والأوقاف من أبرز سماته- هو ابن الفكرة الإسلامية والمسار التاريخي الإسلامي، وأما التفصيل فإليك بيان ما يسمح به المقام.

***

فكرة الأوقاف وآثارها

إن الأوقاف من الابتكارات الحضارية الإسلامية، فلم يكن موجودا في العالم القديم إنفاق على أوجه الخير –اللهم إلا ما كان ينفق منه على المعابد وكهنتها، مما لا يمثل إلا جزءا ضئيلا من فكرة الأوقاف- حتى جاء الإسلام فأوقف رسول الله (ص) ثم أوقف صحابته جميعا أوقافا كثيرة، واستمر نمو مؤسسة الوقف في العالم الإسلامي لتشكل المصدر الذاتي الذي تمول الأمة به انطلاقتها الحضارية، فبما أوقف المسلمون من ممتلكاتهم توفرت أموال غزيرة أنفق بها على العلماء وطلبة العلم وإنشاء المدارس وعلى الجهاد وبناء الثغور وتحرير الأسرى وعلى الفقراء والضعفاء والمحتاجين وعلى تنمية البلدان بشق الأنهار وتعبيد الطرق وإنشاء الجسور ورعاية الحيوانات، وسائر ما يُمكن أن يُتَخَّيل من وجوه الخير ضربت فيه الأمة بسهم عبر مؤسسة الأوقاف.

ومن بين الآثار الكثيرة للوقف يهمنا التركيز على أثر استقلال مسار الأمة عن مسار السلطة، فلم يكن انهيار السلطة أو ضعفها السياسي والعسكري منعسكا على نمو الأمة الحضاري إلا قليلا، بل قد تسقط البلدان عسكريا ثم تأسر الغازين حضاريا وثقافيا كما حدث مع الصليبيين في الشام والنورمان في صقلية والإسبان في الأندلس والمغول في الشرق الإسلامي.

ونقف بالمشهد الإسلامي هنا، لنلقي نظرة مهمة على المشهد الغربي وتطوره التاريخي.

***

التطور الغربي إلى الدولة المركزية

حين تخلصت أوروبا من الكنيسة ومن أباطرة العصور الوسطى ومن الإقطاعيين، استبدلت بهم نموذجا آخر، ذلك هو "العلمانية" (بديلا عن الكنيسة) و"نظام الدولة المركزية" (بديلا عن نظام الإمبراطورية والإقطاع)، وكلا الأمرين –العلمانية ونظام الدولة المركزية- تابع للآخر، فلا بد لأي مجتمع من قيم حاكمة ومبادئ عليا، ثم لابد لهذه القيم والمبادئ من أناس يطبقونها ويحكمون بها، فكانت العلمانية هي المبدأ وكان نظام الدولة المركزية هو نموذج التطبيق.

فأين يكمن الضرر؟

يكمن في أن انتهاء وجود الإله من حياة البشر قد جعلهم عبيدا لأنفسهم وشهواتهم وأهواءهم، لا يؤمنون إلا بما ينفع ويضر بشكل مباشر واضح، وبهذا انتفى مبدأ الأخلاق والقيم العليا والمُثُل العظيمة التي انزوت مع الدين في جنبات الكنائس وصارت اختيارا شخصيا بحتا، ولهذا أنتج الغرب كل البشائع الإنسانية التي جعلته "أكبر مجرم في التاريخ"[1]، "وحينما سئل فاكيلاف هافل (رئيس جمهورية التشيك) عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، أجاب قائلا: هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري، فلم يعد الناس يحترمون ما يُدعى القيم الميتافيزيقية العليا، والتي تمثل شيئا أعلى مرتبة منهم، شيئا مفعما بالأسرار، وأنا لا أتحدث هنا بالضرورة عن إله شخصي، إذ إنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز، هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة للناس وأُفُقًا لهم ولكنها فقدت الآن، وتكمن المفارقة في أننا بفقداننا إياها نفقد سيطرتنا على المدنية التي أصبحت تسير بدون تحكم من جانبنا، فحينما أعلنت الإنسانية أنها الحاكم الأعلى للعالم، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعْدَه الإنساني"[2].

وهنا تحققت نبوءة توماس هوبز الذي "أعلن أن حالة الطبيعة (أي حالة الإنسان بعد انسحاب الإله من الكون) هي حالة من حرب الجميع ضد الجميع، فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وسيتم التعاقد الاجتماعي بين البشر لا بسبب فطرة خَيِّرة فيهم وإنما من فرط خوفهم وبسبب حب البقاء، فيُنَصِّبون الدولة التنين حاكما عليهم حتى يمكنهم أن يحققوا ولو قدرا ضئيلا من الطمأنينة"[3].

وهنا صارت الدولة في مكان الإله، بل هي -كما يقول هيجل- "الحلول الإلهي على الأرض"، وسيادتها هي السلطة المطلقة، وعلى الأفراد أن يخضعوا لهذه السلطة التي تحدد من الداخل إرادة الأفراد[4].

وصارت كفاءة الدولة تقاس بمدى قدرتها على السيطرة التامة على كافة ما يحدث على أرضها من أنشطة، ولم يختلف هذا بين مذهب ومذهب في الفكر الغربي "فالسيطرة على السكان مهمة أساسية لأي سلطة حكومية تهيمن عليها جماعات المصلحة، وعلى الرغم من أن القوتين الدوليتين في زمن الحرب الباردة (أمريكا والاتحاد السوفيتي) كانتا على طرفي نقيض... فإنهما اشتركتا في قوة السلطة المحلية عند تعاملهما مع قضية السيطرة على شعبيهما"[5].

وحين حلت الدولة محل الإله لم يكن لها لا علم الإله ولا رحمته ولا ارتفاعه عن النقائص، وحين حلَّ السياسيون والنخبة محل العلماء والمفتين لم يكن لهم لا تقوى العلماء ولا خشيتهم، بل دخل البشر في حكم البشر، فاستعبد البشرُ البشرَ فأذلهم وقهروهم، غير أن الأشكال تغيرت فصارت أكثر خداعا وتلوينا، وأشهر نمطين لهذا الخداع: الشيوعية والرأسمالية.

فأما الشيوعية فقد ادعت أنها سبيل العدالة الاجتماعية وضد الإقطاعيين والملوك المستبدين ولمنع احتكار السلع، ثم كان تطبيقها أعنف استبدادا من كل الملوك وأشرس من كل الإقطاعيين ولم يتحقق في ظلالها إلا العدالة في الفقر حيث صارت الشعوب فقيرة لا تجد الكفاف فيما تركزت الثروة في يد "الرفاق" الذين يحكمون باسم الشعب، ويقيمون المذابح والسجون باسم الشعب، ويتصرفون في مال الشعب بأهوائهم زاعمين أنه "إرادة الشعب"، وقد طُوِيت صفحة الشيوعية مخلفة وراءها سجلا من المذابح والحروب والفقر العام والفساد الكبير.

وأما الرأسمالية فقد ادعت أنها ضد الاحتكار الاقتصادي وضد الاستبداد السياسي، لكنها أنتجت أكبر المحتكرين ورعت ودعمت أكابر المستبدين، وهي تسيطر على الشعب عبر الإعلام والأموال، يظن الناس أنهم يختارون رؤساءهم وأنهم يغيرونهم كل فترة فيما تظل الحقيقة أنهم يدورون في مسرح يتحكم فيه رجال الأعمال الذين يتحكمون في الإعلام وفي الاقتصاد، فبالإعلام يخدعون الجماهير ويسوقون رجالهم للحكم، وبه وبالاقتصاد يتحكمون في السياسيين والبرلمانيين وصناع القرار[6].

***

حين جاءت "العلمانية" و"الدولة المركزية" إلينا

هذه الأزمة القائمة في الغرب حين زُرِعت في بلادنا كانت أسوأ وأشد فتكا وتدميرا!

فالعلمانية كانت رغبة شعبية ونتيجة طبيعية لانحرافات الكنيسة ولم تكن كذلك في بلادنا، ولذا غُرِست بالقهر والعسف والاستبداد، وكان لابد من وجود حكومات عسكرية تذيق الشعوب الويلات كي تتمكن من ترسيخ أمرها، وهذا الترسيخ لا يتم إلا بنظام الدولة المركزية الذي ينزع عن الأمة فاعليتها وترابطها وتماسكها ومصادر قوتها.

أثمر نظام الدولة المركزية في بلادنا أسوأ الثمر، فقد سيطرت الدولة على الأوقاف الخيرية التي هي تمويل الأمة لنفسها وحضارتها، وضربت الدولة نظام القبائل والعصبيات لحساب النزعة الفردية التي تجعل العلاقة قائمة بين الدولة والفرد على نحو ما هي بين الإله والعبد، ولنضرب مثالا على ذلك بمحمد علي الكبير أول من أدخل العلمانية والدولة المركزية في بلاد المسلمين.

لقد كسر محمد علي كافة ما يجعل المصريين أقواما ليكونوا بين يديه أفرادا على نحو ما تطمح الدولة المركزية أن ترى الناس أفرادا مواطنين لا تجمعات أو عائلات أو عشائر، ثم نزع منهم كل ما أمكنه من الأوقاف لتكون مصادر الأموال في يده فيمنح ويمنع فتذل له الرقاب جميعا.

وحين يؤرخ الشيخ محمد عبده لآثار محمد علي نراه يقول: "أخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه وهكذا حتى إذا سُحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدَع منها رأسًا يستتر فيه ضمير (أنا) واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من الأهلين وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفُس بعض أفرادها فلم يبقِ في البلاد رأسًا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه على أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يُبقِ في البلاد إلا آلات له يستعملهافي جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطبيعية من رأي وعزيمة واستقلال نفس ليصيّر البلاد المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده"، وفي جنايته على الأوقاف يقول الشيخ محمد عبده "نعم: أخذ ما كان للمساجد من الرزق وأبدلها بشيء من النقد يسمى فائض رزنامه لا يساوي جزءًا من الألف من إيراده. وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم (ربيع الأول 1320 = يونيو 1902) لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة"[7].

إنها المتلازمة الطبيعية بين العلمانية ونظام الدولة المركزية، حيث لا يُسمح أن تكون ثمة قوة في البلاد إلا قوة الدولة، ولقد كان الغرب آنئذ يبدو عملاقا كبيرا ساحرا يغري بالاقتداء به كل غافل عن كوامن القوة والنهضة في النظام الإسلامي، فكيف برجل عسكري ألباني لم يتكلم العربية حتى مات، لقد كان أجهل من أن يقتبس اقتباسا واعيا، وإنما جرت عملية صبغ مصر –كما يقول أرنولد توينبي- بالصبغة الغربية "أكثر شمولا من أي محاولة سعى إليها أو أنجزها السلاطين الأتراك"[8].

لقد كانت البداية باستيلاء محمد علي على ستمائة ألف فدان من الأرض الموقوفة وهي تمثل ثلث الأرض المزروعة في مصر والبالغة في ذلك الوقت مليونين من الفدادين[9]، ثم تطور الأمر عبر الزمان –بفعل الاستبداد ثم الاحتلال ثم الاستبداد- إلى أن "انقطع الوقف بشطريه: الأهلي والخيري، فالأهلي مقطوع بحكم القانون (الصادر 1953: أي في عهد عبد الناصر)، والخيري قُطع لما لوحظ من الانقطاع بين ذرية الواقف والوقف، والتصرف المطلق لوزارة الأوقاف في إدارته، بل لوحظ أن الذين وقفوا وكان لهم حق الرجوع، رجع كثيرون منهم عن أوقافهم"[10].

ووصل الحال بالأمة إلى أن تحكمت الدولة في المساجد ونظم التعليم ومنافذ الثقافة، وصار المواطن لا يستطيع أن يدرس أو يتعلم أو يقرأ أو يسمع إلا ما تريده الدولة أو تسمح به، وهو لا يستطيع أن يمارس نشاطا ولو خيريا إلا إذا سمحت الدولة، وصار العلماء في يد الدولة إن نطقوا بما أرادت أعطتهم الرواتب والمناصب وإلا أعطتهم المعتقلات والمشانق، ولا يستطيع الخطيب أن يخطب في الناس ولا أن يدرسهم ولا أن يقرئهم القرآن إلا بعد تصريح من الدولة، وصار الفقراء رهنا لدى الدولة إن كانت صالحة أسعفتهم وإن كانت فاسدة أهلكتهم، وصار طلاب العلم أسرى لدى الدولة إن كانت حريصة على العلم مهدت سبيله وخفضت تكاليفه وأنفقت عليه وإن كانت غير ذلك أفسدتهم... وهكذا صارت وجوه الحياة جميعها. فإذا استحضرنا حقيقة أن الذي حكمنا في عصور ما بعد الاحتلال كان على مذهب الغرب عرفنا أي مصيبة نزلت ببلادنا على يد أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتا.

***

الأوقاف تهديد للعلمانية والتبعية الغربية

لم يكن محمد علي أول من حاول السيطرة على الأوقاف، حاول ذلك بعض الحكام قبله مثل الظاهر بيبرس –في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وقت حاجته للمزيد من النفقة لمواجهة المغول والصليبيين- فوقف له الإمام النووي ومعه جمع من العلماء حتى ردَّه عن ذلك، وحاولها بعدئذ الظاهر برقوق –في أواخر القرن التاسع الهجري، ليستعيد لبيت المال الخاوي ما احتال الأمراء على وقفه تحصينا لأموالهم- فوقف له سراج الدين البلقيني وبرهان الدين بن جماعة وأكمل الدين وكان أقصى ما سمحوا له ما وُقِف على الأبناء ومنعوا عنه ما وُقِف للخير العام، وحاول ذلك والي مصر العثماني إبراهيم باشا القبودان –في القرن الثاني عشر الهجري، وبالتحديد (1121هـ = 1709م) - فتصدى له علماء المذاهب الأربعة، فبقيت الأوقاف على ما هي عليه، بل وعجز السلطان العثماني نفسه بعد ذلك بربع قرن (1148هـ = 1735م) عن مثل ذلك، ولئن أفلح الأمراء في التحايل على الاستيلاء على أموال الوقف إلا أن ذلك من الفساد الإجرائي الذي كان يمكن إصلاحه في كل وقت[11].

لكن الذي فشل فيه السلاطين والأمراء الكبار المجاهدون نجح فيه فيما بعد شراذم العسكر الذين وصلوا للحكم عبر انقلابات –خططت لها ودعمتها مخابرات دول الاحتلال- ولم يحققوا لأمتهم شيئا ذا بال، ذلك أن المظلة العلمانية ونظام الدولة المركزية نزعت من الأمة كل قوة لتضعها في يد الحاكم، ولم يعد ثمة علماء يستطيعون المواجهة بعد أن صاروا أجزاء من آلة الدولة، كما لم تعد ثمة قوى اجتماعية بعد أن صفيت عشائر الدولة أو سكتت رغبا أو رهبا.

ومن هنا تحكمت القوى العالمية في الأمة الإسلامية عبر التحكم في أنظمة الحكم، واختفت "الأمة" من معادلة الصراع، فنزل بنا من النكبات ما هو معروف مشهور طوال القرنين الماضيين.

إن الصراع الإسلامي الغربي متوقف في أهم وجوهه على قدرة الأمة على استعادة فاعليتها مرة أخرى، ونظام الوقف واحد من أهم هذه الوسائل التي تعيد الأمة إلى ساحة الفعل، وتعيد تمكينها من ثرواتها وتمويل نهضتها الحضارية.

 


[1] رجاء جارودي: وعود الإسلام، ترجمة: د. طوقان قرقوط، دار الرقي، بيروت، الطبعة الثانية، 1985م. ص19.
[2] د. عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، فبراير 2009م. ص219.
[3] السابق.
[4] جان بيار لوفيفر وبيار ماشيري: هيجل والمجتمع، ترجمة: منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ = 1993م. ص72، 73. وفيما يبدو من باقي كلام هيجل فإنه لم يتوقع وجود استبداد جديد من قِبَل الدولة، فلقد كان من المفتونين بالثورة الفرنسية ويحسب أنها شيء مثل "نهاية التاريخ".
[5] ناعوم تشومسكي: النظام العالمي، ترجمة: عاطف محمد عبد الحميد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010م. ص5.
[6] طالع في تفصيل هذا كتاب "السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية" للألمانية نورينا هيرتس، من إصدارات عالم المعرفة، الكويت، يناير 2007م.
[7] محمد عبده: آثار محمد علي في مصر، مجلة المنار 5/175 وما بعدها، وانظر: الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام، تحقيق: د. محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1414هـ = 1993م. 1/851.
[8] أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، المركز القومي للترجمة، 2011م. 3/313.
[9] الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، 3/344.
[10] تابع تطور قوانين الوقف في: محمد أبو زهرة: محاضرات في الوقف، معهد الدراسات العربية العالمية، 1959م. والاقتباس في المتن من ص46.
[11] محمد أبو زهرة: محاضرات في الوقف ص20 وما بعدها، د. محمد عمارة: هل الإسلام هو الحل، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1418هـ = 1998م. ص121، 122.

30 يونيو.. يوم له ما بعده

من الصعوبة بمكان تلخيص المشهد المصري الغزير المعلومات الكثيف الأحداث، وأصعب منه توقع نتائج المشهد الشديد السيولة المتعدد الأطراف، بل أزعم أنه لا أحد –لا في الداخل ولا في الخارج- يملك قدرة على توقع النتائج بدقة، وإنما لكل طرف ما يعتبره "خط أحمر" يحاول الدفع باتجاه ألا تصل الأحداث إليه!

أما الأهداف فلها شأن آخر، فإذا أهملنا كل ما يُقال إعلاميا من أهداف وغايات ودققنا فيما وراء السطور توصلنا إلى نتيجتين؛ المعارضة تريد إحداث أكبر موجة عنف دموية تجتاح البلاد –وخصوصا العاصمة المصرية، القاهرة- لإجبار الجيش على النزول مرة أخرى لحكم البلاد. وأما الإسلاميون فغاية ما يهمهم أن تعبر هذه الأيام بأقل قدر من الخسائر في الأرواح وبأقل قدر من التغيير في المعادلة السياسية القائمة.

(1)

المعارضة: مكوناتها وأهدافهم

المعارضة –ببساطة- هم نظام مبارك: رجاله وأدواته والمستفيدون منه. وأهدافهم –باختصار- هي إفشال المشروع الإسلامي وإسقاطه.

تتكون المعارضة –بالأساس- من ثلاث أعمدة: الأجهزة الأمنية، الكنيسة القبطية، العلمانيين.

أما الأجهزة الأمنية فإن تاريخها -الممتد منذ تكونت على يد الاحتلال البريطاني ثم في خدمة النظام العسكري العلماني في عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، وفي عهد الأخير عملت تلك الأجهزة بالتنسيق مع الأمريكان والإسرائيليين في برامج مكافحة "الإرهاب" – أورثها عقيدة راسخة وقناعة لا تهتز بأن المكان الطبيعي للإسلاميين هو السجون أو القبور، فكيف بوجود أحدهم في موقع رئيس الدولة؟! إن هذا يدمر البناء العقدي: الفكري والنفسي فضلا عن تدمير المستقبل المهني بإعادة ترتيب كل الأوراق والعلاقات والمهمات.

وأما الكنيسة القبطية فلقد كانت تتمتع طوال عهد مبارك بمزايا لم تعرفها طوال تاريخها، بل ولا تعرفها أقلية في أي مكان في العالم، وهي قد صارت بالفعل دولة فوق الدولة، حتى إن الدولة لَتُسَلِّم إلى الكنيسة من أسلم من الأقباط ولا يعرف لهم خبر بعدها، والدولة لا تعرف فضلا عن أن تراقب أو تتدخل في ميزانية الكنيسة والتمويلات، وللكنيسة على الأراضي المصرية أديرة ذات مساحات هائلة سُرِقت فيها عشرات الآلاف من الأفدنة دون أي تحرك من جانب الدولة، وللكنيسة وزراء ومحافظون، ويُعامل البابا على المستوى الرسمي والإعلامي بتبجيل وتوقير لا يُعامل به سوى رئيس الدولة وهو عمليا فوق النقد والمسائلة.. وكل هذا متهدد في ظل نظام محترم فضلا على أن يكون إسلاميا فوق ذلك.

وأما العلمانيون فهم أدوات الدولة في كل مكان، وهم الممسكون بمنافذ الثقافة والإعلام والصحافة والنشر، يسيطرون على المؤسسات والإصدارات والمؤتمرات والندوات والمهرجانات، ويحصدون جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية والأوسمة على اختلاف طبقاتها، ولأنهم أقلية منبوذة شعبيا لم ترتفع لمستوى النخبة إلا في ظل العلمانية العسكرية فإن وجود نظام إسلامي يعد تهديدا خطيرا لمكاسبهم المالية والمعنوية.

هذه الأعمدة الثلاث لم تكف عن محاربة الإسلاميين في أي وقت، في عهد مبارك وأثناء الثورة وفي المرحلة الانتقالية ومنذ فاز الرئيس مرسي بمنصب الرئاسة.. في كل موطن، كان هؤلاء في جانب وكان الإسلاميون في جانب آخر.

عملت جميع هذه الأجهزة في تنسيق وتناغم لإفشال وإسقاط مرسي باعتباره عنوان التجربة الإسلامية، فالأجهزة الأمنية تحرك أجنحتها في الشارع (استفادة من تجربة رومانيا قامت المخابرات المصرية بإنشاء تنظيم للبلطجية استعملته الدولة لتثبيت سلطتها في كل موطن يستدعي ذلك، وفي السنوات الأخيرة انتقلت إدارة هذا التنظيم إلى جهاز أمن الدولة) والقضاء والإعلام. وحيث أن الفساد استشرى في كل الأرجاء فإن كل فاسد في كل زاوية متخوف على مكاسبه من نظام مرسي الجديد كان جنديا في هذه المعركة سواءً أكان نظاميا أم متطوعا.. وهذا بخلاف نهر التمويل المتدفق من الأطراف الدولية التي تريد إفشال الثورة المصرية، بعضها أنظمة ملكية تنفر من فكرة الثورة وبعضها أنظمة تنفر من الإسلام ومشروعه، ونهر التمويل هذا بلغ المليارات من الأموال بخلاف الدعم السياسي والاقتصادي والإعلامي.

ولأن قوة الدولة الحقيقية هي جيشها، فإن تحريض الجيش على الإطاحة بالإسلاميين كان هو النغمة المتكررة والهدف الدائم والإلحاح المستمر، غير أن الجيش –لحساباته الخاصة- لم يُبْدِ كثير استجابة لفكرة الانقلاب العسكري، وإن لم تصدر عنه تصريحات قاطعة أيضا، فظلت التصريحات المراوغة تزيد من أملهم لكنها لا تشفي صدورهم، أما التصريحات العسكرية الواضحة فكانت "نحن على الحياد، نحن مع الشعب، لن نتدخل إلا في حالة سقوط الدولة" ثم صدر تصريح عن وزير الدفاع "من الأفضل للجميع الصبر على الوقوف في طابور الانتخابات لأن تدخل الجيش يعيد البلاد أربعين عاما إلى الوراء"، ومن هنا فَهِم القوم أن أمامهم خياران: الانتخابات أو إسقاط الدولة، وحيث أن الانتخابات ستسقطهم هم فلم يترددوا في اللجوء إلى خيار إسقاط الدولة ليتدخل الجيش بما يعيد ترتيب الحالة السياسية.

لم يعد الأمر سرا، المخطط –كما تأتي به التسريبات المتواترة- هو حالة واسعة من عنف شديد ودماء كثيرة، لإجبار الجيش على الانقلاب العسكري! وهذا العنف موجه بالأساس ضد الإسلاميين ورموزهم ليبلغ الإضعاف والإثخان فيهم أعظم الممكن والمستطاع.

هذه الأعمدة الثلاثة في المعارضة استطاعت –بالقصف الإعلامي والفساد المنتشر في جميع مرافق الدولة- اجتذاب قطاعات –يختلف الرأي في تقديرها- من الشعب، وهم يبتغون نزولا شعبيا هادرا ليتيسر نزول الجيش بأسرع وقت، وللتغطية على "أعمال العنف" بعنوان "الأعداد المليونية".

(2)

الإسلاميون

يظل الإسلاميون في خندق واحد وإن انفرد عنهم حزب النور –المنبثق عن المدرسة السلفية السكندرية- بجانب بعيد!

فوجيء الإسلاميون –منذ الثورة، لكن بعد تولي مرسي بشكل أوضح- بأربع مفاجآت قاسية:

الأولى: أن جميع خصومهم كافرون بالديمقراطية، وأن هذه الديمقراطية ليست إلا "صنما من العجوة" عبدوه فلما جاعوا أكلوه، وهذا بعد أن سلك الإسلاميون طريق الديمقراطية إما على سبيل القناعة أو على سبيل الاضطرار، وإذا بالمحاولات المستمرة لترسيخ أسلوب حكم جديد مفاده أن تحكم الأقلية على الأغلبية وأن تشاركها المناصب والمشورة والقرارات، وتم نحت مصطلح جديد هو "التوافق"، وبه يصير لكل ذي صوت إعلامي حق "الفيتو" على أي شيء لأنه لم يكن بـ "التوافق" ولم يحز "الإجماع الوطني".. وهنا كُسِر صنم الديمقراطية ونُصب صنم التوافق الوطني!

الثانية: أن الإعلام ليست له أي قواعد مهنية، ولا لديه حد أدنى من التزام الموضوعية، وأن غالبية الإعلاميين لا يخجلون من التحول بين الموقف ونقيضه، وأن الصوت العالي والتحريض هو سيد المشهد الوحيد، ومن المؤسف أنهم لم يكونوا مؤهلين لخوض معركة الإعلام لا إعلاميا ولا سياسيا ولا حتى قانونيا.

الثالثة: أن القضاء في حقيقته غير متقيد لا بقانون ولا بدستور، بل إن القاضي يتدخل في السياسة ويحكم في أعمال السيادة وهو وحده صاحب تحديد نطاق سلطته وسيادته، يحكم بما شاء ويفعل ما يريد، وقد انتهى المشهد إلى أن ما عجزت عنه دولة مبارك والمجلس العسكري نجح فيه الجناح القضائي الذي يصدر أقصى العقوبات على الإسلاميين بينما يصدر البراءات المتتالية على مبارك ورجاله.

الرابعة: أن الجيش –عمليًّا- لم يلتزم بكونه مؤسسة مهنية خاضعة للقيادة السياسية، بل إنه اعتبر نفسه طرفا محايدا لا يميل إلى هذا ولا إلى ذاك، وأن الرئيس المنتخب مثله مثل غيره، وأنهم على مسافة متساوية بينه وبين غيره، بل إن كثيرا من التصريحات تؤكد عدم خضوعه للرئيس المنتخب وبعضها يوحي بانتظار الانقلاب عليه كما قال رئيس الأركان "إذا احتاجنا الشعب سنكون خلال أقل من دقائق في الشارع".

وتحت القصف المتواصل الغزير تورط كثير من الإسلاميين –رغبة ورهبة- في ترسيخ خطر هذه المؤسسات من خلال التسليم بأنها خطوط حمر والاستسلام لشعارات "حرية التعبير خط أحمر"، "استقلال القضاء خط أحمر"، "الجيش خط أحمر".. حتى صارت المؤسسات كأنها آلهة لا تُسأل عما تفعل بل ولا ينبغي استقبال طعناتها إلا بالرضا والتبجيل!!

لم تفلح محاولات الإخوان ذوي المنهج الإصلاحي المتدرج البطيئ في تهدئة المعركة، فضلا عن إيقافها، ولم يكن التراجع ابتغاء التهدئة مورثا إلا مزيدا من العنف والشراسة، حتى وصل الحال إلى هذه اللحظة الحالية، وأخطر ما في هذه اللحظة تكرر الاعتداء على أصحاب المظهر الإسلامي: الملتحين والمنتقبات، وتكرار الاعتداء على المساجد وحرق مقرات الأحزاب الإسلامية.

لم يعد من شك في أن المعركة معركة وجود، وهي معركة صفرية، لا يمكن الوصول فيها إلى صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، إذ الإسلاميون فشلوا في تهدئة الأجواء باللين وتفويت الفرصة وسحب الذرائع حتى سقط منهم قتلى، وخصومهم وصلوا إلى لحظة اليقين بضعف الإسلاميين وأن استئصالهم أمر ممكن! وأن إسقاط الرئيس محمد مرسي هو الحد الأدنى من المطالب التي يرتفع سقفها حتى إعدامه في ميدان التحرير!!

(3)

الرئيس والرئاسة

لقد سقط حسني مبارك بينما بقي كل رجاله في أماكنهم، وإن دخول الرئيس مرسي إلى قصر الرئاسة كان أشبه بدخول اليتيم على مائدة اللئام، إن الرجل الذي لم يكن يحلم بغير الأمان لنفسه وأسرته صار مسؤولا عن إدارة بلد ضخم كمصر ذات ميراث ضخم ثقيل وتربص داخلي وخارجي غير مسبوق.. ويجب أن ينجز كل هذا بغير امتلاكه أي أدوات فاعلة.

ثم زاد الطين بلة حين حاول الرئيس الاستعانة بمستشارين من كافة التيارات الأخرى فكانوا شوكة في ظهره لا بابا لجمع الفرقاء حوله، فأحسنهم من استقال في لحظة الهدوء كالنائب محمود مكي بينما اختار بعضهم أحرج اللحظات للاستقالة وبإعلانها على الشاشات فكانت طعنة في ظهره، ومنهم من استقال اليوم ليجلس غدا مع جبهة الإنقاذ!!

أحرج ما يواجهه الرئيس مرسي هو افتقاده الولاء في الأجهزة الإدارية، خصوصا الأجهزة الأمنية التي لم يكن مسموحا للإسلاميين بمجرد الاقتراب منها، وبالتالي فنفوذ أوامره فيها غير متحقق لكثير من المعوقات، لذا فإن حركته في الدولة بمثابة السباحة ضد التيار لمحاولة الفهم أولا ثم التحكم في المفاصل ثانيا، ثم حل المشكلات ثالثا.. فإذا عرفنا أن الفساد في الجهاز الإداري للدولة هو عملية متراكمة عبر سنين طويلة حتى صارت كالأعراف والعادات تتحلى بمقاومة طبيعية ذاتية، عرفنا أي همٍّ ثقيل كان على كاهل هذا الرجل!

ثم إن تعمد المؤسسات المعادية –أبرزها الأجهزة الأمنية وأذرعها الإعلامية والقضائية- تعويقه وإيقاف حركته جعل الوضع يشبه المستحيل، لقد استطاع القضاء وحده إثارة مشكلات ضخمة، أبرزها إطالة الفترة الانتقالية وتعويق تكوين المؤسسات المنتخبة، وإيقاف قرارات الرئيس، والبراءات المتتالية لرجال نظام مبارك، واستطاع الإعلام تسويق خطاب كراهية شامل، واستطاعت زوايا الفساد في كل مكان أن تستفيد من كل هذا فيزيد التعويق وتزيد صعوبة الأوضاع.

الرئيس في هذه اللحظة لا يستطيع تقديم تنازلات حتى وإن رغب فيها، لقد فشلت دعواته للحوار وفشلت استعانته بمساعدين من كل التيارات ورُفضِت حتى عروضه لمنصب رئيس الوزراء على كثيرين، وأقل ما يقبل به خصومه الآن هو رحيله الفوري، وهو أمر لا يستطيع أن يفعله ولو أراد، إذ ما بعده أسوأ وأسوأ.

يعتمد الرئيس على من استطاع كسب ولائهم في بعض الأجنحة داخل الدولة، وعلى جماعة الإخوان ومن استطاع من الإسلاميين، وهو أقرب للتهدئة وتفويت الفرصة في 30 يونيو منه إلى المواجهة والحسم، خصوصا وأن عامل الحسم يستلزم سيطرة على جهاز الشرطة، وهو الجهاز الذي صار يعلن بصراحة عبر منافذه الإعلامية أنه لا يخضع للرئيس بل وتجاهر كثير من قطاعاته بالعداء وبالنزول لإسقاطه في هذا اليوم.. لا يُعرف بدقة مدى سيطرة الرئيس مرسي على جهاز الشرطة.

(4)

التوقعات

في اللحظة التي سيُقْرَأ فيها هذا المقال سيكون يوم 30/6 قد عبر، وجرت في النهر مياه كثيرة، ونسأل الله ألا تكون دماءا كثيرة، لكن الخلاصة أن جميع الأطراف لن تتوقف إلا في لحظة العجز، فالمعركة بالنسبة إلى الجميع وجودية، ولهذا فلن يدخر أحد وسعا في الهجوم أو وسعا في الدفاع، فالمهزوم اليوم هو المهزوم.

يتمنى الإخوان أن تكون الاستجابة الشعبية ضعيفة فينكشف أصحاب الفوضى والعنف، وسيكتفون بالدفاع عن أنفسهم ومقراتهم فقط حتى تعبر هذه الموجة وتضعف خصوصا ونحن في ذروة الصيف وعلى أبواب رمضان.. ولن يتحركوا للدفاع عن الرئيس إلا حينما لا يكون بديل غير هذا، وهم ينظمون مظاهرة حاشدة يوم 21 يونيو لبعث رسالة قوة إلى الداخل والخارج لينقطع ما قد يكون مخططا لدى بعض الجهات والأجنحة بأن حركة الاحتجاج يمكن المراهنة عليها أو أنها قد تصل إلى مبتغاها بسهولة.

بينما يتمنى قطاع كبير من الإسلاميين أن تشتعل المواجهة لتكون حاسمة قاطعة، يستفزهم ما حدث ويحدث من انتهاك لحرمات الله: المساجد، ومظاهر الإسلام، وخطاب الكفر والإلحاد لدى الخصوم، ولغة الكراهية في وسائل الإعلام.. ولهذا فإن استمرار حركة الاحتجاج العنيفة، أو إخراج بعض المشاهد المستفزة لانتهاك حرمة منتقبة أو متحجبة أو مسجد قد تكون شرارة لا يمكن إطفاؤها.

الشرارة التي لا يمكن إطفاؤها هي هدف وأمل الخصوم لجر الجيش للنزول لتغيير المعادلة السياسية بالانقلاب العسكري أو بأقل من ذلك، لكن حسابات الجيش تزيد المشهد تعقيدا، إذ نزوله في المناخ المحتقن المسلح يشبه النزول في بحر رمال شديد السيولة لا يملك أحد التحكم به وهو أمر خطير على بنيان الجيش نفسه ثم على كيان الدولة.

إنها ثلاثية: الوقت، القوة، الحسابات.

وهكذا، يتمنى الإخوان فوات الفرصة بأقل خسائر، ويتمنى خصومهم إطالة العنف بأكبر قدر من الخسائر، والعامل الحاسم هو حركة الشارع التي لا يمكن قياسها ولا التنبؤ بنتائجها على وجه الدقة!

على أننا إذا حاولنا الترجيح بين ما لدينا من المعطيات فإن الواقع يقول:

1.    من الخطورة بمكان إشعال بؤرة توتر في مصر بالنسبة للوضع الدولي، فالفوضى في مصر تنعكس انتعاشا على غزة وعلى حركة الجهاد في سوريا، ومن غير المطلوب –دوليا- أن تزيد السيولة في مصر عما هي عليه.
     
2.    من الخطورة بمكان أن يعيد الجيش نفسه إلى ساحة السياسة بعد التجربة المريرة التي عاناها في الفترة الانتقالية، خصوصا وأنه من غير المرجح أن يكون تدخله حاسما في إنهاء الوضع لصالح أحد الأطراف.
     
3.    يمثل مرسي الحد الأدنى لكثير من الأطراف: الإسلاميين والجيش والخارج، ليس بينهم من يرضى عنه كل الرضا لكن سقوطه يمثل أزمة لكل منهم، بينما لا يمثل خصومه الحد المطلوب لأي طرف، فمعسكر المعارضة متشتت متفرق لا يجمعهم إلا عداء مرسي والإسلاميين لكنهم شركاء متشاكسون وخلف كل منهم حلفاء متشاكسون.
     
لذا فالترجيح يؤيد بقاء مرسي إلا في حالة واحدة: سرعة إسقاطه، وهي حالة تبدو بعيدة جدا! والله أعلم!