الأربعاء، يوليو 14، 2010

ماذا يريد أن يقول الدكتور عصام العريان

المقال الأخير للدكتور عصام العريان في الدستور المصرية (12/7/2010) ليس طبيعيا، فلا هذه لهجة الإخوان ولا هي لهجة الدكتور عصام العريان نفسه، وقد بدا المقال كما لو كان كاتبه ثوريا ثائرا يعلن ما قبل البيان رقم (1)، ويحضر لمرحلة انقلابية .. هكذا علانية!!

سرد الدكتور عصام كثيرا من الحقائق الواقعة بلهجة “هل وصلنا إلى مرحلة …”، ” هل نجح النظام في …”، “المعارضة في حالة تشرذم”، “الشباب لا يثق بالأحزاب الرسمية”… وهكذا. ولا بأس، فلكل أن يستخدم من التعبيرات ما يراه مُبينا عن المعنى الذي أراد، غير أن هذه الصياغات الجديدة –في الخطاب الإخواني- لحقائق قديمة، ثم بهذه الحدة والوضوح والرفض والثورة، أمر لافت للنظر معبر عن شيء جديد في الصورة.

قد يبدو مقال د. عصام دعوة للتوقيع على بيان المطالب السبعة لجمعية التغيير، فهو قد حشد هذه التعبيرات والصياغات الخطابية ليبدو التوقيع على البيان وكأنه “واجب الوقت” الذي لا ينفع واجب غيره، ولمرة أخرى لا بأس، وكاتب هذه السطور من الموقعين على البيان والمتحمسين له، إلا أن المقال لم يتوقف عند هذه الدعوة ولا هذا هو الذي لفت نظري فيه.

ما لفت نظري وبشدة هو دعوته الواضحة لـ “فرض إرادة المصريين في الانتخابات، والتصدي لتزويرها بكل الطرق والحشود، ابتداء من منع الأمن من التدخل في الانتخابات بالاتصالات المباشرة والحوارات المستمرة وصولا إلي فرض وجود المندوبين قانونيا وعمليا داخل لجان التصويت، وتنظيم وصول المواطنين إلي الصناديق وحمايتهم أثناء التصويت، والاحتشاد المستمر طوال يوم الانتخابات وحتي إعلان النتائج من كل الشعب المصري لفرض إرادته ليكون يوم الانتخاب علي مستوي مصر هو يوم الاشتباك العادل مع المزورين والبلطجية وتحالف الفساد والاستبداد وإجبار مؤسسات الدولة علي احترام الدستور والقانون وإجبار النظام علي احترام إرادة الأمة”.

هذه الفقرة “الصدامية” جديدة تماما على الخطاب الإخواني، تماما تماما تماما، وهي جديدة على خطاب الدكتور عصام أيضا، وبرغم أن كاتب هذه السطور يؤيدها تماما، إلا أن هذا التأييد لا يمنعنا من إغفال بعض الأمور المهمة.

الأمر الأول: أن النظام لن يستجيب لهذه المطالب السبعة، ولن يفكر في إجراء انتخابات نزيهة لمرة أخرى، ولقد كان درس 2005 في مصر وفلسطين درسا مؤثرا للنظم المعتدلة عربيا وللأمريكان أنفسهم، وغاية ما يطلبون الآن التخلص من هذه النتائج التي تحولت إلى كابوس يبدو أنه لن ينتهي في فلسطين، وإلى شوكة تزال بالتدريج في مصر منذ تعديلات الدستور وانتخابات المحليات ومجلس الشورى. ومن لا يستفد من هذه الدروس فيقرأ فيها نية النظام للانتخابات القادمة فإنما هو “يُهَرِّج”.

الأمر الثاني: أن الدكتور البرادعي والمطالبون معه بالتغيير مالم يكونوا يملكون أدوات ضغط فاعلة على النظام فهم يُعرضون أنفسهم لنكسة أو نكبة جديدة، قد يكون من هذه الأدوات ماهو خارجي.. لا بأس، أما الاعتماد فحسب على “مناشدة الناس” ليتحركوا، فدليلٌ على قلة اعتبار وقراءة للتاريخ، للتاريخ المصري على الأقل، وتاريخ الثورات الشعبية التي أثمرت عن تغيير حقيقي. يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا؛ المصريون –على الأقل- لم يثوروا إلا بشرطين: وجود عدو “أجنبي” ثم وجود قائد وطني، وحيث لا وجود للعدو “الأجنبي” فلا يتوقعنَّ أحد ثورة شعبية.

الأمر الثالث: أنه لا يمكن الفصل بين مقال الدكتور عصام العريان وبين موقعه في تنظيم الجماعة، وهنا ينشأ احتمالان لا أجد لهما ثالثا.

- فإما أن هذا الخطاب هو تغيير في سياسة الجماعة من المسالمة إلى “الاشتباك”، وهو عندي أضعفهما، فالقيادات الإخوانية الحالية تتفق على أنه لا صدام مع النظام، فهم لا يريدون ولا يفضلون أن يخوضوا معركة هم فيها الطرف الأضعف الذي لا ظهير له من قوة داخلية أو إسناد خارجي، وهم إن أرادوا فميزان الواقع يثبت أنهم لا يستطيعون، وغاية ما فعله الإخوان طوال فترة الحراك السابقة تمثل في المظاهرات الحاشدة التي لا تخلو من ترتيب مع الجهات الأمنية. وهو ترتيب منطلق من “الحفاظ على الجماعة وعدم تعريض مكتسباتها الواقعية العملية إلى الخطر”.

- وإما أنه رسالة خفية إلى النظام، وهذا طبيعي ومعتاد بين كل الحركات السياسية وخصومها بل وحلفائها، ومعناه في هذه الحالة أن من الأفضل للجميع أن يسمح النظام بانتخابات حرة نزيهة، وتكون مقاعد المعارضة فيها مضمونة، فهذا يسمح للنظام بالاحتفاظ بأغلبيته العددية كما يسمح للإخوان بوجود صوت لهم في المجلس يعبر عن وجودهم في الشارع ويؤكد أنهم حقيقة قائمة لم تتراجع شعبيتها ولم تختف من الساحة السياسية مثلما أريد لها أن تختفي من المحليات والشورى. والحق أن الدكتور عصام لا يفتأ يبعث برسائل من هذا النوع ولكن النظام في الغالب ما يُعرض عنها.

الاحتمال الأول وهو إرادة الصدام مع النظام بالشكل الوارد في مقال الدكتور عصام احتمال لا يدعمه الواقع، فمن المنظور الإخواني لن تجد أحدا “يشتبك” مع النظام و”يجبر” الدولة ومؤسساتها و”يحشد” الناس إلا أفراد الإخوان أنفسهم، لا يمكن للقيادة الإخوانية أن تعتمد على أحد آخر، خصوصا وأن الواقع يقول بأن الشباب المتحمسون للتغيير هم فعلا كثير ولكنهم شراذم، لا يمكن أن تتفق معهم اتفاقا واضحا فضلا عن أن ترتب معهم خوض “اشتباك عادل” مع النظام، فإذا أضفنا إلى هذا أن هؤلاء الشباب الكثيرون لا يبادلون الإخوان ودا بود لاختلاف الأطراف في التحركات الاحتجاجية طوال السنوات الست الماضية فعلينا أن نتوقع استبعاد قيام ترتيب على أمر بهذا الحجم.

وأما المعارضة الفاعلة فهم –رغم كل احترامنا- أصحاب ياقات بيضاء، أو من بياض البلد –بالتعبير التاريخي- وحولهم قليل من الشباب، يستوي في هذا حزب الغد و6 إبريل والجمعية الوطنية للتغيير والاشتراكيون الثوريون وحركة حشد وغيرهم. أي أن صلب “الاشتباك العادل” مع النظام سيكون من شباب الإخوان، وعند هذه النتيجة تحديدا فيمكننا ببساطة توقع أن القيادة الإخوانية لن تخوض مثل هذا الاشتباك الذي يتحملون فيه المغارم وحدهم ويتشاركون فيه المغانم مع كل هذه الحركات الصغيرة.

وأما الاحتمال الثاني، وهو أن المقال ليس إلا رسالة باطنة للنظام، ترشده من طرف خفي إلى خريطة طريق، ليكرر فيها تجربة 2005 التي تضمن له الإمساك بخيسوط اللعبة كما تضمن للمعارضة صوتا موجودا، فهو احتمال ممكن، احتمال لا يحتاج إلا لقارئ نصف ذكي أو ربع ذكي في النظام، فيفوت على كل هذه الحركات اشتعال معركة قد تنتج عنها ما لم يحسب له حساب –وهذه نقطة بالغة الأهمية في نظام لا يعشق غير الاستقرار والسكون- فيسمح بانتخابات شبه نزيهة يفلت منها معارضون إلى مجلس الشعب، يشاغبونه ويحتويهم ويضايقونه ويكبتهم، إلا أنه سيكسب استقرارا نسبيا للشارع وهدوءا نسبيا لحركات التغيير واحتواء كاملا لتيار الإخوان، ما يجعله يفكر –في أجواء أكثر هدوءا- في مشاريعه الحيوية في المرحلة القادمة.

هذا الاحتمال يستبعد تماما وجود صفقة بين الإخوان والنظام، فالصفقة بينهما في هذه اللحظة خسارة فادحة للإخوان أخلاقيا –وهذا واضح- وسياسيا؛ إذ هم يراهنون على الجواد المكسور والنظام الذي اقتربت نهايته ودنا وقت رحيله. غير أنه يمكن للصفقة أن تتم “عمليا” بوجود هامش من النزاهة في العملية الانتخابية، وهو قرار بيد النظام.

يبقى احتمال أخير، وهو الأرجح عندي، ذلك هو أن لا يقرأ النظام رسالة الدكتور عصام، فيصنع الانتخابات كما فعل في انتخابات مجلس الشورى، وهنا يكون الإخوان في مأزق فهم لن يخاطروا بالاشتباك والتضحية بشبابهم وأبنائهم، وحينها يكون “الاشتباك العادل” الذي نادى به الدكتور عصام العريان مجرد مناورة سياسية فشلت في تحقيق هدفها.

الخميس، يوليو 08، 2010

أمي متعددة المواهب

نعم هي أمي، والحمد لله أني من أبنائها، امرأة متعددة المواهب، ذكية حاضرة الذهن قوية الذاكرة، لها علم بالفقه والأدب والشعر والطب، ولها رأي في السياسة والشأن العام، بل لقد كانت على رأس جيش مقاتل ذات يوم.. إنها أمي، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

حبيبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الطاهرة المطهرة، التي دافع عنها ربها بكلامه الخالد ورسالته للعالمين فكان المشكك فيها كافراً لأنه كذب بآيات الله تعالى، أي منزلة بلغتها امرأة كتلك التي بلغتها أمي عائشة؟؟

كانت – رضي الله عنها- مصدراً لسنة النبي داخل بيته وفي أموره الخاصة، كما كانت مصدراً لما سوى ذلك، ربما يصح أن نلقبها بـ “الصحافية الأولى في الإسلام”، حيث العين اللماحة والذاكرة الحاضرة. لقد كانت أكثر نساء النبي روايةً عنه، كانت عالمة وتفتي ويسألها كبار الصحابة؛ روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: ” ما أشكل علينا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً “[2].

ويشهد واحد من كبار التابعين وهو محمد بن شهاب الزهري فيقول “لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل”[3] وكان عروة بن الزبير يقول: “ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة”[4].

وكانت -رضي الله عنها- ذات أدب غزير، وذات قدرة ملحوظة على استحضار الشعر والاستشهاد به، يشهد لها ابن أختها عروة بن الزبير حين سُئل عن غزارة معرفته بالشعر، قيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله! فقال: ما روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شئ إلا أنشدت فيه شعراً[5].

والمطالع للتاريخ الإسلامي يجد هذا بارزاً عندها، فعندما كان أبوها أبو بكر الصديق يحتضر استحضرت قول الشاعر:

لَعَمْرُك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا احشرجت يوماً وضاق بها الصدر[6]

وقالت حين بلغها مقتل أخيها محمد بن أبي بكر:

وكنا كنَدماني جزيمة حقبة *** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وحين بلغها استشهاد علي بن أبي طالب قالت:
فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قرَّ عينًا بالإياب المسافر

وكانت بليغة إلى الحد الذي قال في شأنها معاوية بن أبي سفيان: “والله ما سمعت خطيبا -ليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من عائشة”[7].

ثم إنها بعد الحديث والفقه والشعر كانت كذلك عالمة بالطب، حتى إن ابن أختها عروة بن الزبير قال لها يا أمتاه، لا أعجب من فقهك؛ أقول: زوجة نبي الله وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس؛ أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو ومن أين هو، أو ما هو؟! قال: فضربت على منكبه، وقالت: أي عرية، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يسقم في آخر عمره وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت له الانعات، وكنت أعالجها له، فمن ثم[8].

وهي –بعد كل هذا- ذات شخصية قيادية مؤثرة، وذات رأي في السياسة والشأن العام، ومشاركتها معروفة ومشهورة، في اجتهادها بالخروج على رأس جيش لمحاربة قاتلي عثمان رضي الله عنه، الأمر الذي استطاع أهل أصحاب الفتنة أن يحولوه إلى حرب داخلية في موقعة الجمل.

بهذه المواهب المتعددة قال فيها صلى الله عليه وسلم ” فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ”[9].

———————-

[2] رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه الالباني في مشكاة المصابيح برقم 6185

[3] ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب ص920

[4] السابق ص920

[5]السابق ص920

[6] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/196

[7] ابن عساكر: تاريخ دمشق 59/153

[8] الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 182

[9] متفق عليه

مسار المسيري وقطبية سيد قطب

عبد الوهاب المسيري مسار.. بينما سيد قطب قطبية.. ما معنى هذا؟

يكاد يكون ميراث الأستاذ العلامة الكبير عبد الوهاب المسيري محصورا في ساحتين: دراسة اليهودية والصهيونية، ونقد الحضارة الغربية المادية. فالساحة الأولى ساحة فكر وتاريخ ومقارنة أديان، وأما الساحة الثانية فهي كل شيء: تاريخ وفكر وسياسة وفن ورياضة ونظم ومنتجات مادية وثقافية وما إلى ذلك. أما ميراث الأستاذ الكبير العَلَم الشهيد –بإذن الله- سيد قطب فساحتان أيضا: الأدب والنقد، والفكر الإسلامي.

كلاهما نقد الحضارة الغربية نقدا قاسيا، فهما يلتقيان في هذا، ثم إنهما يلتقيان كذلك في “حتمية” أن تكون ثمة “مرجعية متجاوزة للإنسان”.. ثم يلتقيان عند أن تكون هذه المرجعية هي “الله”… لكن هل هذا يعني أن “الجاهلية” التي حاربها سيد قطب هي نفسها “المادية / الحداثية/ التفكيكية” التي نقدها المسيري؟

أحسب أن من قال بهذا بَهَرَه –للحظة- مواطن اتفاق الرجلين، فخرج بهذا الاستنتاج.. ولكن مهلا..

سيد قطب لم يبحث عن نقد الحضارة الغربية من داخلها، ولا غاص في أعماق فلسفتها وجوهرها الفكري، إنما هو رأى ثمارها التي لم يقبلها وحكم بمرارتها وعدم صلاحيتها للإنسان، فبحث عن منطلق آخر فكان هو الإسلام.. ثم، وفي إطار شرحه لهذا الإسلام، وجد ما يمكن أن يقوله عن الفارق بين الحضارة الغربية والإسلام. أي أن كل الحضارة الغربية كانت بالنسبة له عقبة من ضمن العقبات التي احتاج أن يجلوها أو يجوزها وهو يشرح الإسلام ويعرضه ويقدمه باعتباره البديل. ولاشك أنها كانت عقبة كبرى وواحدة من العقبات الرئيسية في طريقه.

كان طبيعيا -في هذا الوضع- أن يكون النقد حارا جدا، وهو نقد لا يتوقف عند بيان المشكلة والمساويء، بل يتجاوز هذا سريعا سريعا سريعا إلى تقديم الحل.. الحل المتمثل في الإسلام.. الإسلام الذي يأمر بكذا وينهى عن كذا.. يعني: الإسلام العملي الحركي.

وعند نقطة “الإسلام العملي الحركي” تستثار السلطات الحاكمة، والمفكرين من التيارات المخالفة، والفقهاء سواء منهم من رضي بالقول أو خالف فيه، والحركات الإسلامية سواء منها من رضي بهذا الكلام أو من لم يرض به.

بينما المسيري سياق آخر، فهو لم يعد من منتصف الطريق ليبحث عن منطلق آخر، بل إنه مدَّ بصره إلى نهاية الطريق فوجدها مظلمة، وهو يروي أن أحد المواقف الفارقة في حياته كانت حينما كان يحاضر في الجامعة عن فكر الاستنارة الغربية ومناقبها وعقلانيتها، ثم كانت المحاضرة التالية عن قصيدة تشاؤمية ألفها ت. س. إليوت بعنوان “الأرض الخراب”، فتساءل في لحظة نور: كيف يمكن أن تؤدي حضارة الاستنارة والعقلانية إلى هذا الخراب؟؟

وهنا، عاد ينظر في الطريق نفسه، في بداياته ومساره وطبائعه، وبمزيد من التدقيق أدرك أين المشكلة؟ إنها في تلك المادية المسيطرة التي احتكرت كل المفاهيم السائدة، بداية من تكوين تصور عن الكون والإنسان وطبيعة الحياة، وحتى المنتجات الترفيهية البسيطة، وما بين هذين شلالات متواصلة من النظم والمؤسسات والأعمال الفكرية والفنية والأدبية.. كل هذا يسير بوحي من الفكر المادي، فيُنتج حضارة تحمل بصمة المادية، ثم تبدأ العجلة اللانهائية فالإنتاج يطور الأفكار ثم الأفكار تطور الإنتاج وهكذا.. حتى نصل إلى العدمية والعبثية وما بعد الحداثة، وهي المرحلة التي صك لها المسيري مصطلحة العبقري “السيولة” حيث لا يحتفظ أي شيء بأي نوع من التماسك أو القداسة أو الأهمية أو القيمة.

فسيد قطب هجر المسار كله إلى مسار جديد، وأما المسيري فنظر إلى المسار نفسه وأخذ في رصده وتحليله وتتبع مظان المشكلة. ولذا ففي مجال نقد الحضارة الغربية نجد المسيري أقوى وأبرع وأكثر تفصيلا ولا نجده كذلك في مجال التعبير عن الفكر الإسلامي، ففي هذا المجال نجد سيد قطب هو الأقوى والأبرع والأكثر تفصيلا.

ومن آثار هذا أن “المادية” التي حاربها المسيري لا تساوي “الجاهلية” التي حاربها سيد قطب، فـ”جاهلية” سيد قطب لم تتوقف فقط عن المادية التي نقدها المسيري، بل كان من “الجاهلية” عند سيد قطب أن ينحرف الناس المسلمون عن “الإسلام” أو حتى عن “توحيد الحاكمية”.. وأن يقبلو بـ “أي نظام غير إسلامي”. وكل هذه أشياء لا علاقة لها -تقريبا- بالمادية التي نقدها المسيري. ولو كان الرجلان في زمان آخر لربما نشب بينهما الصراع حول “البديل المقترح” برغم اتفاقهما في “الواقع المرفوض”.

إن المسيري حين ينقد الحضارة الغربية فإنها يستبدلها بـ “الإنسان”، وصحيح أن المسار انتهى بالمسيري إلى إنسان علماني جزئي [أرى أن العلمانية الجزئية في فكر المسيري هي هي الفكرة الإسلامية، أي أنه بتحرير المعاني التي وراء المصطلحات لن نجد فرقا بين المسلم والعلماني الجزئي عند المسيري.. لهذا حديث آخر].. لكن الصحيح أيضا أن مسار المسيري لم يكن إلا في الجانب الفكري بينما كان مسار سيد قطب أكثر تنوعا وشمولا.

وهذا ما لم يكن منه بد، فسيد قطب الذي تصدى لتفسير القرآن الذي لا يتوقف عند مسار الفكر فحسب، ما كان يوسعه أن يتوقف عند الجانب الفكري فقط، بل هو مدفوع –وراء الآيات- إلى جوانب العبادة والمعاملة والفقه والتشريع، ولئن كان قطب يعود بأغلب ما في الآيات إلى أصولها الكلية أو بتعبيره هو “التصور الإسلامي” فإنها تظل عودة إلى الفكر عبر روافد عديدة: روافد من العبادة والمعاملة والفقه والسيرة وغيرها.

وهنا يفترق مسار المسيري عن مسار قطب، ولنأخذ مثالا بسيطا وساذجا ولكن حسبنا أنه يبين الفارق:

“الحجاب”.. شيء يمكن ببساطة أن يتجاوزه المسيري وفكر المسيري ولا يحفل له ولا يتوقف عنده، فهو في النهاية شيء لا يعرقل مسيرة “الإنسان”. أما عند سيد قطب فالحجاب قرار نازل من عند الله، ومجرد التوقف بالتفكير في قبوله أو رده هو “الجاهلية” بعينها.

المسيري مسار، وسيد قطب قطبية..

ربما كان ذلك “تفذلكا” بالألفاظ لكنه ليس بعيدا عما أريد قوله؛ فالإنسانية التي هي مقابل المادية إنما هي فكر واسع وفسيح، وبوسعنا أن نلتقط من بين كل فلاسفة العالم حتى في الغرب “إنسانيون” –لو صح التعبير- .. فهذا مسار واسع.

أما سيد قطب، فقد وضع أقطابا: الإسلام في مقابل الجاهلية، حكم الله أو حكم الطاغوت، التصور الرباني أو الأنظمة الوضعية.. وهكذا.

وهذه ليست مقارنة تفضيلية بقدر ما هي توضيحية، فالرجلين يمثلان تكاملا لا تضادا؛ المسيري مقدمة وسيد قطب نتيجة، هذا يهدم بناء الفكر الغربي وينادي بفكرة الإنسان، ثم هذا يبدأ من فكرة الإنسان فيطورها ليصل بها إلى الإسلام وهو أرقى مرحلة في الفكر الإنساني بل هو الفكر الوحيد الذي يصنع حقا إنسانية الإنسان.

***

ربما شابه هذا الموقف في وجه منه موقفا قديما، الغزالي وابن تيمية، أما الغزالي فهو حجة الإسلام الفيلسوف الكبير، عقل عبقري مدهش غاص في بحار الفلسفة ثم خرج منها نحو الإسلام وكتب كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة” لكنه -كما يقول العلامة أبو الحسن الندوي- علقت به بعض من آثار هذه الفلسفة فوقعت به في هنات. بينما ابن تيمية، شيخ الإسلام وأحد أعظم شخصياته عبر كل التاريخ، دخل إلى بحار الفلسفة وهو صاحب موقف إسلامي، فلم يكن دخوله محايدا كدخول الغزالي، ولم يكن نقده للفسلفة نقد رجل من داخل المسار كنقد الغزالي، ولذا كان ابن تيمية الأكثر أصالة والأمتن فقها والأغزر علما بالتفاصيل. ولا ينقص هذا من قدر حجة الإسلام الغزالي شيئا، وقد صنع تكاملهما بناء فكريا متينا. فالغزالي هدم الفلسفة وكتب كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”، فنقد مسار الفلاسفة وأفكارهم، وأما ابن تيمية فهو وإن نقد الفلاسفة إلا أنه كان ينقدها عرضا في طريق شرحه لـ “منهاج السنة النبوية” ودعوته إلى “اقتضاء الصراط المستقيم”.

ومن هذا الوجه، يكون المسيري امتدادا للغزالي، ويكون سيد قطب امتدادا لابن تيمية.