الجمعة، أكتوبر 26، 2012

صديقي عمرو عزت، لا تنظر كثيرا في المرآة


بيني وبين الصديق عمرو عزت نقاشات منذ زمن يمكن أن نصفه بالطويل، منذ زمن المدونات.. سيظل عمرو من بين الأقلام التي أتمتع بأسلوبها وأنفر من أفكارها، كل مقالاته تقريبا تراودني في الرد عليها، ورغم أني دائما ما أقاوم استفزازها لأسباب عامة وخاصة.. إلا أن مقاله "السجل السلفي" استطاع استفزازي.. فهنيئا لك يا عمرو!

صديقي عمرو يكتب أسلوبا نصف ساخر، وهو الأسلوب الذي يريح صاحبه من عناء انتقاء الألفاظ والتعبيرات الجادة، وهو ما قد يصنع مشكلات أو يُظهر عوار الفكرة، فيكون الأسلوب الساخر نوعا من المراوغة والمناورة، وهي تنطلي عامة على القارئ السريع!

المركز عند عمرو هو الآتي: نحن شعب مختلف، نعيش في دولة، على الدولة أن تكون محايدة تجاه كل رعيتها، الدولة ينبغي أن تكون بلا هوية، وبالتالي بلا رسالة، عليها أن ترعى شؤون مواطنيها لتحقق لهم مستوى أفضل من الراحة والرفاهية في ظل العدل الاجتماعي (عمرو –لمن لا يعرفه- يساري).

عمرو متحمس لهذه الأفكار التي أثبتت التجربة البشرية أنها الأفضل في التعايش –هكذا يقول- فهي خلاصة التجارب الإنسانية التي أنفق فيها كثيرون أعمارهم، وهي جديرة بأن نعتمدها لتكون حياتنا أفضل!

***

لن أعتبر نفسي في بحث علمي لكي أدلل على كل ما أقول بعبارة من كلمات عمرو في مقال من مقالاته، وأسأل الله ألا تدعو الحاجة لهذا (ذلك أن سجالا بيني وبينه قد ينفتح بعد هذا المقال، وأرجو ألا يطول!)، بل سأعتبر نفسي في إطار الرد العام على الفكرة المركزية!

صديقي عمرو وضع صورته مع بطاقته وهو ينظر في المرآة.. وهو بالتأكيد لم ير في المرآة إلا نفسه وبطاقته! وبهذا صار لدينا عَمْران وبطاقتان! ولعله –وهذا مزاح- أراد تكثير نفسه ليناسب المقال المكتوب! ذلك أن المقال تحدث عن أن مصر زاخرة بالاختلافات الدينية (طوائف يهودية، طوائف مسيحية، طوائف إسلامية، ملحدون بلا دين، أديان أخرى).. وقد اجتهد في تسميتها حتى ليُخَيَّل لمن لا يعرف مصر أن ثمة أقلية إسلامية تحكم هذا "المتحف" قهرًا!.. ولهذا فهو يقول بأن من التعسف والتخلف والتجبر اعتبار مصر ذات هوية، واختار –كعادته في الكتابة- نموذجا من الناس له تصريح ليفرغ فيه وفي تصريحة شحنة الغضب.. والأفكار!


***

ورغم أن عمرو نظر في المرآة ورأى نفسه مكررا، ورغم أنه ذكر كل الطوائف التي خطرت بباله –وإن كانوا أفرادا معدودين- إلا أنه لم يستطع أن ينفي أن كل هؤلاء (المكررين والمحشدوين) لا يمثلون سوى أقلية في هذه الأرض.. وبالتالي فعمرو لا يحفل بمقاييس الديمقراطية لتسوية الوضع، فهي ليست في صالحه، بل يريد أن يجعل فكرته فكرة فوق الديمقراطية، أو بمعنى آخر "فكرة حاكمة للديمقراطية".. تلك الفكرة هي علمانية الدولة التي ينبغي أن تكون بلا انحياز وبلا هوية، وبالتالي بلا رؤية وبلا رسالة!

لا بأس يا عمرو..

سأطرح لديك فكرة أخرى!

ثمة إسلامي، لم ينظر في المرآة، بل ينظر في الواقع رأى نفسه كثيرا كثيرا كثيرا.. نحو 94% من الإحصاء الديني، يفوز في كل انتخابات، وهو يرى أنه يفوز لأنه يحمل راية الشريعة ويعد الناس بالسعي لتحكيمها، والناس ينتخبونه بالفعل!

هو لا يستسلم لحدود سايكس بيكو، لا يراها بداية التاريخ ولا نهاية المطاف، هو يشعر بأنها تمثل لحظة تاريخية حافلة بالعار والهزيمة، لقد تمكن الأعداء من تقسيم الأمة الواحدة إلى دويلات.. لا تستغرب، هو ما يزال يعيش في الماضي، يراه كان خيرا من الحاضر، وهدفه هو إعادة توحيد هذه الأمة الواسعة لتكون دولة واحدة، على رأسها حاكم واحد، يسميه "الخليفة.. أمير المؤمنين"!

أفهم أنه لا يعجبك ولا تقبل أفكاره، ولكنه أيضا.. موجود! وربما يكون موجودا أكثر منك عند مصنع الكراسي في إمبابة، لا أحسب أنك تحتاج من تسأله عنه ليدلك عليه!

وعلى هذا يا صديقي عمرو.. فهو يرى أنه صاحب فكرة، صاحب دين، وبالتالي صاحب انحياز وصاحب رسالة، يضايقه جدا أن عشرات الملايين مجبورون على التنازل عن غاياتهم لأن بعض المئات أو الآلاف أو حتى الملايين لديهم فكرة أن الدولة ينبغي أن تكون محايدة وبلا انحياز وبلا رسالة!

هو يقدم لك التطمينات بإسهال في كل يوم، موجز هذه التطمينات أن تلك الأقليات لم تجد –عبر التاريخ- أرضا أسمح ولا أخصب من هذه الأرض ليعيشوا فيها ويساهموا في بناء حضارتها، ربما تطميناته لا تكفيك.. ليس هذا هو المهم الآن، المهم أن هذا هو آخر ما يستطيع تقديمه لأنه يرى هذا دينه الذي يؤمن به، والذي هو مضطر لتطبيقه وإلا سيخلد في النار.. إنه يا صديقي عمرو يخاف جدا من الخلود في النار!!

هو يقبل بمقاييس الديمقراطية، ربما لأنه على ثقة أنها في صالحه، وربما لأنه يقبلها حقا، دعنا الآن لا نفتش في نواياه ونتعامل مع ظاهره.. لعلك توافقني أن التفتيش في النوايا شيء سيء!

وثمة منهم –أي من هؤلاء الإسلاميين- من يضع فكرة حاكمة فوق الديمقراطية، كما تفعل أنت بالضبط، ولكنه يسميها الشريعة/ الحلال والحرام/ القرآن... إلخ في حين أنت مهتم أكثر بحقوق الإنسان ووثائقه وتجارب الإنسانية (هو يرى أنها تجارب الغرب لا الإنسانية، وأن الإنسانية لم تُسْتَشر فيها، ولم تساهم في صياغتها، وأن الغرب نفسه لا يحترمها ولا يتردد في طحنها عند تناقضها مع مصالحه)..

وهنا نصل إلى مرحلة حرجة.. ترى ماذا نفعل؟!

إذا أردنا أن يبقى الصراع مصريا خالصا، وسلميا خالصا، فأمامك يا صديقي نضال حتى تستطيع كسب المجتمع إلى صفك لتغيير الميزان الديمقراطي لصالحك! وإذا لم نُرِد واستجار بعضكم بجيوش العالم المتقدم فإن بعضنا سيستجير بـ "المجاهدين" من بين الأمة الواسعة التي –هي أيضا- ما زالت لم تستسلم لمقدس سايكس بيكو!

أنت ترى الشعب بلا هوية.. لا بأس!

لكني أراه ذا هوية! وأراه ذا هوية إسلامية.. وكل هؤلاء الذين ذكرتهم –وإن نظروا في المرآة وتكرروا- لا يخدشون هوية هذه الأغلبية!

أنت ترى الدولة كيانا صامتا محايدا.. وأنا لا أراها كذلك.. بل أراها ذات ماضٍ وانحياز، وبالتالي ذات رؤية ورسالة وأهداف.. وأعتنق ما قاله رجل عراقي من البصرة -اسمه أبو الحسن الماوردي مات قبل ألف سنة- أن من واجبات الحاكم "حراسة الدين وسياسة الدنيا"!

قل لي ماذا نفعل يا صديقي عمرو؟!

أنا لا أرتاح لما تسميه أنت "ضمانات أوسع للحريات والحقوق ويحترم التعدد والتنوع"، وأتوجس منه خيفة، وأرى أن تحت كل كلمة من هذه يختبئ معنى يخالف ديني! أنا –بالمناسبة- حين أذهب إلى مكان أكون فيه أقلية ألتزم بقوانينهم، فهم غير مستعدين لتغيير قوانينهم من أجلي، أو لأنها لا ترضيني، حتى وإن كانت أحيانا في صميم شؤوني الشخصية، ولهذا فإنني إن لم استطع التعايش مع قوانينهم ولم يكن لدي من الصبر والنضال لتغييرها أذهب عنهم بعيدا!

ولست بالطبع أدعوك للذهاب بعيدا، أدعوك فقط لئلا تجرني خلفك لأن مفهومك للحرية يقول بأنك الأصح وبأنني المتخلف الذي لم أفقه بعد تجارب البشرية التي أنتجت مواثيق حقوق الإنسان! اهنأ بتقدمك وحضارتك وفلسفاتك، وهذه الأسماء الطويلة التي قرأت لها (أنت مثقف جدا يا عمرو!) ولكن دعني أعش حياتي كما أريدها وأفهمها، أنا وسائر هذه الملايين التي تريد الشريعة وتنتخب ممثليها كما تحسبهم!

أكرر أنني أرى الشريعة الإسلامية تضمن حقوق غير المسلمين، وعلى ما بين الطوائف الإسلامية من خلافات في التفاصيل –وهي الخلافات الموجودة في كل فكر- إلا أن آخر ما يرضيني أقل مما يرضيك.. فماذا نفعل؟

إن لم نحتكم للشعب، ونقبل إرادته، ونسعى لتغييره إلى ما نريد.. فإني أرى المستقبل مظلما جدا! مظلمٌ بما هو أكثر مما قد تظنه "ظلاما" حين تطبق الشريعة على غير المسلمين!

***

لم يعجبني تلمحيك لطبيب الأسنان، وحريته، وحرية ابنه في اختيار الكلية، ولم يعجبني أسلوبك في التقليل من شأنه.. واعلم أن لدى كل إنسان ما قد يؤخذ من حياته الشخصية فيشهر به فيها! فأرجوك.. أرجوك بشدة.. ألا تعامل الناس في صميم حياتهم الشخصية بهذا الأسلوب!

صديقي عمرو!

لمرة أخرى.. لا تنظر كثيرا في المرآة!

الثلاثاء، أكتوبر 23، 2012

تهذيب "ملاحظات عاجلة حول مسودة الدستور" للدكتور محمد بريك



كتبه: د. محمد بريك - هذَّبَه: محمد إلهامي

المتون القوية والكتابات النافعة هي التي تجد لها عناية بين الباحثين، فثمة من يشرحها، وثمة من يختصرها ويهذبها، وثمة من يكتب حواشيه عليها، وثمة من ينظمها شعرا لتخلد مادتها ويسهل هضمها.
وقد كانت كتابات الأخ الكريم والأستاذ الفاضل محمد بريك –وهو الباحث في العلاقات المدنية العسكرية بجامعة ريدنج من أنفس ما كُتِب في الموضوع منذ أعقاب الثورة المصرية وحتى اللحظة، وقد استأذنته في تبسيط ما أراه نافعا منها بتخليصها من المصطلحات الأكاديمية ومن الإسهاب فأذن لي مشكورا، وهذا هو التهذيب الأول لمقاله "ملاحظات عاجلة حول مسودة الدستور" الذي نشره على جزأين[1]، وهو مقال قيّم نحب أن تنتشر فكرته بأوسع مما تقتضي صياغته البحثية الرصينة.. فإلى نص التهذيب.

***

لا يُنشئ الدستور وضعا سياسيا جديدا بقدر ما يكشف عن موازين القوى السياسية، ولهذا فإن التحليل السياسي للواقع ضروري لإدراك مدى جودة الدستور وتلبيته لمتطلبات الوطن من حيث الأولويات والمخاوف التي تفرضها المرحلة الحالية والخبرة التاريخية.

على أننا سنتجاوز هذا التحفظ لنقدم قراءة لمسودة الدستور في شقين؛ الأول: النظام السياسي وصلاحيات الرئيس، والثاني: وضع المؤسسة العسكرية. باعتبارهما مجال تخصصي الذي أملك ما أكتبه فيهما!

(1)

أولا: النظام السياسي

ثمة ثلاث أنواع من الأنظمة: النظام الرئاسي الذي يكون رئيس الجمهورية صاحب الصلاحيات الأوسع، والنظام البرلماني وفيه تكون الصلاحيات لرئيس الحكومة، والنظام المختلط (البرلماسي) حيث يتقاسم الرئيس ورئيس الحكومة الصلاحيات، وعادة ما يكون الرئيس مختصا بالسياسة الخارجية والأمن القومي بينما يختص رئيس الحكومة بالتنمية والسياسة الداخلية.

وفي هذا السياق نرصد ملاحظتين على مسودة الدستور:

1. لا يوجد بالمسودة توزيع واضح للاختصاصات: إذ يظهر أن الرئيس هو المسؤول الأول بالدولة وله تفويض غيره، لكن اختصاصاته غير واضحة خصوصا والمادة (156) تزيد الأمر غموضا وهي تنص على "يضع الرئيس السياسات العامة للدولة، ويشرف على تنفيذها، بالاشتراك مع الحكومة".

2. صلاحيات الرئيس قريبة جدا من النظام الرئاسي: وذلك من خلال أربع مواد

أ. مادة (145) التي تعطي الرئيس حق تشكيل الحكومة دون أن تلزمه باختيار واحد من حزب الأغلبية البرلمانية، فإن رفض البرلمان برنامج الحكومة يحاول الرئيس مرة أخرى، فإن رُفِض فإما أن يقبل باقتراحات من مجلس الشعب أو يقوم هو بحل البرلمان ودون استفتاء في هذه الحالة (!!) [وهذه المادة تناقش حالة مختلفة عن الحالة التي تناقشها المادة (129) والتي تُلزِم الرئيس باستفتاء شعبي قبل إقدامه على حل البرلمان، بدليل أن المادة (145) لا تناقش ما إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بالرفض]

ولا يمكن اعتبار هذه المادة بهذا الشكل نظاما مختلطا (برلماسيا) بل هي نظام رئاسي، فهي تجعل البرلمان (وحزب الأغلبية) أضعف موقفا من الرئيس في حال الخلاف.

ب. مادة (149) التي تنص على أن "للرئيس حق تعيين الموظفين العسكريين بالدولة وحق عزلها"، وهو أمر مخالف للعرف الديمقراطي ومخالف للنظام البرلماسي، فالوظائف العسكرية تحديدا يجب أن يمنع الرئيس من الاستفراد بها لئلا يصبغها بلونه السياسي (كما في تجربتنا المصرية)، فيمتلكها إن كانت المؤسسة ضعيفة أو يرضخ لها وتفرض نفسها عليه إن كانت قوية (كما في باكستان)، والنظام الأمريكي (وهو برلماسي أقرب للرئاسي) يفرض ضرورة تصديق مجلس الشيوخ على الترقيات العسكرية دون القيادية.

جـ. مادة (183) التي تعطي للرئيس حق تعيين أعضاء ورئيس المحكمة الدستورية العليا ولاتشترط تصديق البرلمان! وهذه تحاكي صلاحيات مبارك ولا يوجد حتى في النظام الأمريكي (الرئاسي) الذي يشترط موافقة البرلمان.

د. مادة لم أجدها في المسودة ولكن تحدث عنها رئيس لجنة الأمن القومي بالجمعية التأسيسية في برنامج يسري فودة (حلقتان متتاليتان) عن أحقية الرئيس في استدعاء القوات المسلحة لحفظ الأمن الداخلي بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني. (فإما أنها غابت عن ناظري فأرجو من يرشدني إليها، وإما لم تُكتب في هذه المسودة وستكتب لاحقا، وإما أُلْغِيت.. وإلغاؤها هذا أخطر ما في الموضوع لأن هذه المادة هي موطن الاستبداد ومفتاحه وهي مما يجب أن تكتب في الدستور ولا تترك للقانون –فالقانون تغييره سهل- أو للمزاج، فهي التي تسمح للرئيس باستعمال الجيش في ضبط الوضع الداخلي لصالحه، ولا بد أن يكون مثل هذا القرار مناصفة بين الرئيس وبين أغلبية برلمانية مريحة وليس توافقا بينه وبين الجيش كما تقول المادة، بل ربما يجب اشتراط موافقة رأس السلطة القضائية (وخصوصا في حالة غياب البرلمان) كي لا نصطدم باستبداد جديد خصوصا ومؤسساتنا لم تتدرب بعد على التمييز والفصل بين ماهو مهني وماهو سيادي.

واعتبارا لما سبق فإنه من التدليس والتحريف وصف هذا النظام بالبرلماسي، بل هو رئاسي صريح، ولا بأس أن تضع التأسيسية نظاما كهذا شرط أن تكون صريحة في وصفه وأن تشرح منطقها في هذا، فالفصائل السياسية في مصر تكاد لا تتفق على شيء إلا على أن يكون النظام برلماسيا.

(2)

وضع المؤسسة العسكرية

ثمة أربعة أمور مهمة يجب لفت النظر إليها قبل الخوض في هذه المسألة:

أولا: أنتجت حالة الجهل بـ "علم العلاقات المدنية العسكرية" في بلادنا حالة من التشوش على التصور نفسه حتى ظهر في بلادنا من يرى ضرورة استقلال القوات المسلحة أو ضرورة انفرادها بميزانيتها وسريتها وما إلى ذلك.. وهذه أمور منقرضة في الدول التي تخلصت من الحكم العسكري منذ عقود.

ثانيا: أن مرحلة التحول الديمقراطي هي أكثر المراحل خطورة وحساسية بالنسبة للعلاقات المدنية العسكرية، ولهذا يجب أن نفهم أربعة قواعد حاكمة وأساسية في النظام الديمقراطي:

1. حتمية الفصل التام بين العسكريين وبين المنافسة على أي سلطة.

2. أي تدخل للعسكريين في الحياة المدنية –حتى في غير مجال السلطة- ممنوع، اللهم إلا في حالة طارئة ومؤقتة (ليست كوتة ثابتة مثلا في التعيينات المدنية، أو وضع اقتصادي مستقل ودائم) وتحت إشراف مدني كامل وباتزان بين السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية) حتى لاتستخدم الجيش إحدى السلطات أو الفصائل لتحقيق أهداف سياسية.

 3. تشترك المؤسسة العسكرية –مع بقية مؤسسات الدولة- في صياغة الأمن القومي بتعريف التهديدات ووضع الاستراتيجيات تحت سيطرة كاملة للمدنيين.

 4. تنفرد المؤسسة العسكرية بإدارة الشؤون التفصيلية والفنية الخاصة بالجيش باعتبارها مؤسسة مهنية محترفة وليست سلطة، ولذلك فهي كمؤسسة خاضعة للسلطة المدنية التي يجب أن تحقق التوازن بين السلطات الثلاث (تشريعية وتنفيذية وقضائية) بحيث لا يمكن نشوء أجنحة تحالف وصراع تكون المؤسسة العسكرية حاضرة فيها.
وفي مراحل التحول الديمقراطي تظهر مشكلة أن المؤسسة العسكرية تعيق هذا التحول وتحافظ على مصالحها القديمة وفسادها الذي استقر في العهد القديم ويكون لديها تصور بالاستقلال والوصاية على الدولة، وبالتالي فهي تمثل طرفا في الصراع السياسي، كما أنها لو استسلمت للتحول الديمقراطي فإن إعادة الهيكلة وبناء الأعراف الجديدة –خصوصا في ظل سيطرة فصيل- قد يضر بها لنقص الخبرة الفنية.

والعلاج يكون عبر مرحلتين؛ الأولى: الانتقال حيث تُفرض السيطرة المدينة بوضوح تام في الدستور باعتباره وثيقة حاكمة وممتدة وتُمنع المؤسسة العسكرية من أي تدخل في صناعة السياسة. والثانية: التثبيت حيث يُعاد تشكيل الأدوار والعقيدة القتالية وضبط المعايير السائدة.. وهكذا.

وتعتبر حالة الثورة مفيدة في كونها تسمح بفرض الهيمنة المدنية بشكل أسرع.

ثالثا: لقد ساهمت كثير من العوامل في منع الاصطدام المباشر بين الجيش والثورة، منها طبيعة الجيش المصري غير الطائفي ولا المرتزق، ومنها موقفه هو من النظام والتوريث، ومنها الموقف الأمريكي صاحب المعونة المؤثرة والذي حسم موقفه بالتخلي عن النظام، ولهذا كان المسار متجها لاحتواء الثورة لتنتج شكلا ديمقراطيا مع الإبقاء على جوهر سياسة مبارك، وفي هذه الحالة يكون الجيش هو الوصي والحارس على استمرار هذه السياسة، ويكون محتاجا لوضع دستوري مناسب يمكنه من الانقلاب كلما مست السلطة المدنية هذه الخطوط الحمر كما كان نموذج "مجلس الأمن القومي التركي" الذي كان وصيا وحارسا على علمانية تركيا. ومن المهم أن نعلم أن 30% من حالات التحول الديمقراطية (من 74 حتى 99) وقعت في هذا الفخ، وأصبحت الديمقراطية مجرد شكل بينما جوهر النظام بيد العسكر.. لهذا، فبالرغم أن إزاحة طنطاوي وعنان خطوة إيجابية إلا أنها لا تعني خضوع العسكر للدولة المدنية، بل الأهم هو وضع المؤسسة العسكرية في الدستور، وهنا تكمن المفارقة للأسف!

رابعا: النقاش حول وضعية المؤسسة العسكرية في الدستور ليس إلا عنصرا مهما في قائمة طويلة تشمل مدى تماسك هذه المؤسسة وشبكة علاقاتها ورغبتها في الخضوع للسلطة المدنية وارتباطاتها الخارجية وحالة السلطة المدنية والتوجهات الشعبية والعامل الخارجي، ويجب أن ندرك أن المؤسسة العسكرية قد تكون ذات نفوذ بالغ ولو لم يُكتب ذلك في الدستور ولو لم يكن ثمة مجلس للأمن الوطني كما هي حالة باكستان، وهي الحالة المُفَضَّلة أمريكيا! لكن لا بد من انتهاز اللحظة الثورية والضغط ما استطعنا في سبيل تقرير الهيمنة المدنية، وفي هذه اللحظة يكون واجب الوقت هو مناقشة هذا الشق الدستوري.

وفي الشق الدستوري ينبغي أن يفعل الدستور ثلاثة أمور:

1. إقرار تبعية العسكريين للسلطات المدنية؛ فالسلطة التنفيذية هي بمثابة قيادة سياسية، والسلطة التشريعية هي التي تضع التشريع وتراقب الموازنة وتشارك في تعيين القيادات، والسلطة القضائية هي المهيمنة على النظام القضائي في الوطن بحيث أن القضاء المدني هو الأعلى والمهيمن على القضاء العسكري.

2. منع أي وصاية للمؤسسة العسكرية في الحياة المدنية، سواء بشكل مباشر أو عبر مجلس دفاع وطني ذي أغلبية عسكرية له قرارات إلزامية على الرئيس أو البرلمان.

3. إخضاع شؤون العسكريين للسلطة المدنية، فإن لم يكن هذا ممكنا في الوقت الحالي فلتُتْرك للقانون ولا تُكْتَب في الدستور، فتغيير القانون فيما بعد أسهل من تغيير الدستور، فلا نكون وضعنا عقبة كبرى أمامنا في المستقبل بتحصين هذه المواد دستوريا.

تجربتان عمليتان:

1. مقارنة مسودة الدستور بالدساتير المصرية السابقة، وسيتضح أنها الأكثر انتكاسا وكارثية من بين الدساتير المصرية فيما يخص العلاقات المدنية العسكرية، وهذا على النحو التالي:

[دستور 1954] مادة (185) - "ينشأ مجلس للدفاع الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويبين القانون نظامه واختصاصه، ويستشار هذا المجلس في اتخاذ التدابير الدفاعية وفي إعلان الحرب وعقد الصلح".

[دستور 1971] مادة (182) - "ينشأ مجلس يسمى "مجلس الدفاع الوطني" ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويختص بالنظر في الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، ويبين القانون اختصاصاته الأخرى". {لاحظ التطور من كونه مجلسا استشاريا إلى كونه –وحده- الناظر في شؤون الأمن القومي، وبهذا صار سلطة مستقلة}

[مسودة الدستور 14 أكتوبر] مادة (196) - "ينشأ مجلس للدفاع الوطنى ، يتولى رئيس الجمهورية رئاسته ، ويضم فى عضويته رئيسى مجلسى البرلمان ورئيس الوزراء ، ووزراء الدفاع والخارجية والمالية والداخلية ورئيس المخابرات العامة ورئيس أركان القوات المسلحة وقادة القوات البحرية والجوية والدفاع الجوى ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة ومدير إدارة المخابرات العسكرية والاستطلاع. و(يختص بالنظر) فى الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها ، ومناقشة موازنة القوات المسلحة على أن تدرج رقما واحداً فى ميزانية الدولة ، ويجب أخذ رأيه فى مشروعات القوانين المتعلقة بالقوات المسلحة".

وليس صعبا أن ندرك حجم التحول الهائل في المادة، وكيف يُراد لوضع بعينه ولتشكيل بعينه أن يظل مُحَصّنًا دستوريا (لمدة عشر سنوات على الأقل كما تقول المادة 220).. وسنناقش تفصيل هذا الوضع الكارثي ولكن بعد التجربة الثانية.

2. مقارنة ما جاء في المسودة بوثيقة السلمي المُعَدَّلة وقانون مجلس الدفاع الوطني (الذي أصدره طنطاوي في نفس يوم الإعلان الدستوري المكمّل ولم يلغه مرسي حين ألغى الإعلان!)

[مسودة السلمي المعدّلة] "وأن ينشأ مجلس يسمى مجلس الدفاع والأمن القومي الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويختص بالنظر في الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، كما يختص بنظر ميزانية القوات المسلحة، على أن يتم إدراجها رقما واحدا في موازنة الدولة، ويحدد القانون تشكيل مجلس الدفاع والأمن القومي واختصاصاته الأخرى، ويعلن رئيس الجمهورية الحرب بعد أخذ رأي مجلس الدفاع والأمن القومي وموافقة مجلس الشعب"

 قانون مجلس الدفاع الوطني الصادر بتاريخ 18 يونيو 2012
http://www.masrawy.com/news/egypt/politics/2012/june/18/5117654.aspx

 سنجد تقاربا يصل لدرجة المطابقة في بعض التعبيرات. وتقارب من تشكيل مجلس الدفاع الوطني لطنطاوي مع تخفيض العسكريين قليلا!

وبهذا يحصل العسكر على ما أرادوه بالفعل منذ وثيقة السلمي وأقل قليلا جدا مما أراده طنطاوي في الإعلان الدستوري المكمل، وصار ما يريدونه موجودا كدستور محصن لمدة عشر سنوات!!

ثم نأتي للملاحظات التفصيلية:

* المادة (198) بالمسودة تقرّ الجمع بين القيادتين العسكرية والسياسية في شخص وزير الدفاع الذي هو منصب سياسي وفي ذات الوقت القائد العام للقوات المسلحة، وهذا الجمع نشأ مع مجاملة عبد الناصر لعبد الحكيم عامر وهو ما أورثنا النكبات العسكرية المتتالية، فالأصل ألا يؤثر الوضع السياسي على العسكري.

فإن كان الرئيس أقوى من وزير الدفاع، فإن التداخل بين السياسي والعسكري يؤدي إلى انحراف الجيش وتأثره بالتقلبات السياسية بل وأحيانا يفرض الرئيس تقديرا عسكريا على الجيش (كما حدث في الثغرة 1973 – الخلاف بين السادات والشاذلي).

وإن كان الرئيس أضعف من وزير الدفاع، فهذا يؤدي إلى عسكرة الدولة سواء على مستوى التفكير البعيد وصياغة الأمن القومي (تسمى عسكرة الاستراتيجية)، أو على المستوى القريب بحيث يسود النمط العسكري في إدارة السياسة وهو ما يخصم من قدرة الدولة على الاستخدام الأمثل للجيش (تكتكة الاستراتيجية).

إننا نحتاج أن تدرك المؤسسة العسكرية بذاتها أهمية الفصل بين المدني والعسكري، ونحتاج فترة يكون الحل العملي أن ينشأ وزير دفاع مدني (عسكري سابق) حتى تتوافر القدرات الفنية عند المدنيين، وستبقى وزارة الدفاع ذات العنصر المدني فترة من الزمن تحاول أن تطوّر نفسها وهيمنتها على القوات المسلحة وقد تصل الفترة لعقد كامل (كما في تجارب أسبانيا وأمريكا اللاتينية) .. ولكن - إن لم تقبل المؤسسة العسكرية الآن فقد تقبل غدا أو بعد عام حين تدرك أهمية الفصل في ظل نظام سياسي ديمقراطي متقلب.. أما الكارثة فهي أن نثبت الوضع القائم البائس ونحصنه دستوريا فنقطع الطريق على محاولات الإصلاح.

* مجلس الدفاع الوطني - مادة 196 ، ومادة 152

نشأت فكرة مجلس الأمن القومي في العالم حين بات ضروريا وجود متخصصين يقدمون الخبرة الفنية لصانع القرار السياسي ويضعون أمامه الخيارات المتاحة ليختار من بينها، ولهذا فثمة شروط ثلاثة لهذا المجلس في النظام الديمقراطي:

1. أن يكون استشاريا.

2. وتكون أغلبيته من المدنيين.

3. وغير مرتبط بسلسلة القيادة العسكرية أو السياسية (أي ليست له سلطة إصدار أوامر)[2].

ومنذ تشكل مجلس الدفاع الوطني المصري (1968م) كان صوريا مشكلا من: الرئيس ووزراء الوزارات السيادية والخدمية الهامة (ليس فيه محل لرئيس البرلمان لأنه معين للسلطة التنفيذية) ووزير الدفاع ومدير المخابرات، ويمكن للرئيس توسيع قاعدة حضوره.

وفي نص المسودة نجد أن التشكيل عبارة عن:سبعة عسكريين، ستة مدنيين منهم الرئيس، مدير المخابرات (عسكري في الحالة المصرية)، وزير الداخلية (مسئول أمني). ولئن كانت بعض التجارب (تركيا مثلا) استطاع فيها العسكريون قهر السلطة المدينة رغم التعادل بين المدنيين والعسكريين في مجلس الأمن القومي التركي، فكيف يكون الحال في مصر خصوصا وأغلب ما يناقشه المجلس هي أمور عسكرية بما يجعل العسكر أعلى يدا حتى ولو كانوا بذات العدد؟!

إن صلاحيات مجلس الدفاع الوطني في المسودة هي أسوأ من الصلاحيات التي نصت عليها وثيقة السلمي المعدّلة، فقد زاد فيها أخذ رأي المجلس في بعث القوات للخارج، وتحصين هذا التشكيل دستوريا.

وأما صلاحيات المجلس فهي:

 - اختصاصه وحده بالنظر في شئون تأمين البلاد وسلامتها.

- لا رقابة برلمانية على الموازنة (الاحتياجات المالية لعام قادم) ولا الميزانية (إنفاق العام الماضي)، وحين تذهب الموازنة رقما واحدا للبرلمان فهو لايستطيع أن يناقشها ولا أن يحدد كونها مناسبة وعادلة أو شملها الفساد في التقدير والإنفاق.

- أن يؤخذ رأي المجلس في التشريعات الخاصة به، ويؤخذ رأيه في الحرب وإرسال القوات المسلحة للخارج.. ولأن "أخذ الرأي" أمر يجري بطبيعة الحال، فإن النص على "أخذ الرأي" يفضي إلى الوصاية، كما كان في الحالة التركية[3].

وبعد كل هذا لا بد من التذكير بخطورة احتكار الرئيس لتعيين القيادات العسكرية في معزل عن البرلمان، كما ناقشناه في أول المقال، والخطر الثاني هو هذه "المادة الكارثة" في حضورها وغيابها معا بخصوص حق استدعاء الجيش لحفظ الأمن الداخلي.

كذلك فإن ثمة مادة لم أعلق عليها لأنها مبهمة ونحتاج أن نرى المذكرة التفسيرية لها: مادة أن هناك مجلس أعلى للقوات المسلحة، والغامض هو من يكون (رئيس) هذا المجلس، لأنه لو كان القائد العام ووزير الدفاع فهذا كابوس! ولا أدري ما فائدة النص على هذا دستوريا إن كان رئيس الجمهورية هو رئيس هذا المجلس، لأن القيادة العامة للقوات المسلحة تتسمى تلقائيا باسم (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) حين يحضرها الرئيس!

الخلاصة

 وضعية المؤسسة العسكرية بالدستور هي عثرة ديمقراطية ضخمة في سبيل تحول ديمقراطي، ومسودة الدستور للأسف هي نتاج تفاهمات بائسة واعتبارات فئوية سقيمة.

ربما يكون موقف الإخوان مفهوما من هذه الوضعية منذ عام كامل،، ولكن لماذا تقبل بعض القوى والرموز المدنية بهذه الوضعية؟! أقول لكم - خوفا من سيطرة الإخوان على الجيش. ولكن الفقر المعرفي في هذه المساحة حرم هذه القوى من إدراك وسائل أكثر ديمقراطية لمنع تسييس الجيش واختراقه، كجعل المسائل الهامة (سواء قرارات أو سياسات أو تعيينات) يشترط لها أغلبية ثلثي البرلمان، وإشراك السلطة القضائية في مسألة استدعاء الجيش للوضع الداخلي، أو في فترة غياب البرلمان.

                                                                                               نشر في رابطة النهضة والإصلاح


[3] في هذا الرابط نصوص مجلس الأمن القومي التركي قبل وبعد أردوغان ويتبين بوضوح كيف استغل أردوغان ضغط الاتحاد الأوروبي ليحول المجلس إلى استشاري فقط.