الأحد، سبتمبر 19، 2010

هيجل والإخوان وعرفات وعبد القدير خان والمشايخ!

أين هيجل يأتي ليشهد نظريته الجدلية تتحقق في أسخف صورها؟

كان هيجل صاحب نظرية تقول بأن التاريخ ذو غرض كامن، وأن ثمة عقل يدفع مسار التاريخ نحو وجهة عقلانية، ودلل على ذلك بنظريته الجدلية التي تقول بأن الأفكار تلد من داخلها الأفكار النقيضة لها ثم ينشأ صراع بين الفكرة الجديدة وأمها القديمة فينتج عن الصراع فكرة ثالثة، ثم ما تلبث هذه الثالثة أن تلد نقيضتها ثم تصارعها ثم يلد صراعهما فكرة أخرى ... وهكذا.

نظرية هيجل هذه واقعية ولديها القدرة التفسيرية لكثير من الحوادث التاريخية بالفعل، غير أن المشهد المصري والعربي والإسلامي في هذه اللحظة يعطي لها زخما جديدا، هو في الغاية من السخف والمأساوية..

حين بدأ حسن البنا تكوين جماعة الإخوان المسلمين، كان في صلب أحلامه وأحلام من اتبعه أن تكون الجماعة هي القوة الشعبية الأولى في مصر، بل في مصر والعالم العربي والإسلامي أيضا.. وبعد نصف قرن من موت البنا تحقق هذا الجزء من حلمه، وصار الإخوان القوة الشعبية الأولى –أو حتى الوحيدة- في مصر.. ولكن..؟

حين عكف البروفيسور عبد القدير خان على أبحاثه التي يطورها ليصنع قنبلة نووية باكستانية، كان في صلب أحلامه أنها ستكون معادل الردع أمام العدو القديم المقيم "الهند"، كما ستكون القنبلة الإسلامية، التي يفخر بها المسلمون ويتطلعون إليها في مشارق الأرض ومغاربها.. ثم تحققت أحلام عبد القدير خان وهو حي.. ولكن..؟؟

حين حلم ياسر عرفات بأن يعترف العالم بمنظمة التحرير الفلسطينية كان يأمل أن تتحول المنظمة إلى كيان شرعي يعبر عن الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة وفي الشتات، أن يكون للمنظمة هيئات مستقرة في الداخل، ومكاتب إعلامية وسياسية أو حتى سفارات في الخارج، أن تستطيع المنظمة إصدار قرارات وأن يكون لها جهاز أمني وإداري، وأن يستطيع من خلال الهيئة المعترف بها عالميا أن يتحدث ويقرر ويناور وهو واقف على أرض صلبة.. وكان له ما حلم به .. ولكن..؟

حين حلم الإسلاميون بأن تكون لهم قنوات وشاشات يستطيعون من خلالها الوصول إلى القرى والنجوع، ومقاومة سيل الإعلام السافل الخليع الذي –ولأول مرة في التاريخ الإسلامي- جعل العاهرات والعاريات والسافلات مواضع القدوة والمثل، وأسوأ منه أن جعل الشرفاء الأطهار إرهابيين، والطغاة المستبدين أهل الفخامة والجلالة والسمو.. كانوا يحلمون بأن تكون ثمة قنوات تنقل الحق إلى الناس، وتنقل الناس إلى الحق، وتساهم في إصلاح حال هذه الأمة.. ولكن..؟

كل هذا تحقق.. ولكن...

حدث ما لم يكن يتوقعه أحد.. ما لم يحسب له أحد حسابا..

ففي اللحظة التي وصل كل فريق إلى حلمه، ورأى هو والناسُ معه بأنه قد اكتسب ميزة جديدة، وومكسبا جديدا، ونقطة قوة جديدة.. في هذه اللحظة انهارت الآمال والأمنيات، وإذ بالأحلام التي هي وسائل تتحول إلى غايات.. ثم تحولت إلى نقاط ضعف.. ثم صار الحفاظ عليها هو هدف المرحلة (وكل مرحلة).. ثم غابت الغايات النهائية وذهبت في مسالك النسيان..

الإخوان المسلمون.. صاروا التنظيم الأكبر والأكثر شعبية في مصر، لكنه تنظيم مقصوص الجناحان، لا يملك أن يحل ولا أن يربط، يتلقى الضربات في صمت وربما ابتسام، تُفرض عليه المواقف السياسية بشكل عملي، ولا يستطيع أن يتجاوز الإطار المسموح له بالتحرك فيه.. لماذا؟ .. لأنه يحافظ على التنظيم، وعلى الجماعة..

فبدلا من أن يكون التنظيم والجماعة وسيلة يتحقق بها هدف الإصلاح، تحول الهدف ليكون الحفاظ على التنظيم نفسه وليتأجل هدف الإصلاح.. ثم تدور عليهم لعبة القط والفأر، فالتنظيم الشعبي الكبير الذي لا يملك شيئا أمام النظام صار –بعد السنين- لا يريد شيئا إلا الحفاظ على التنظيم، وصارت أعظم أمانيه أن يُعترف به رسميا وأن يرفع عنه لقب "المحظورة"..

وصار لزاما عليه أن يفهم المسار السياسي جيدا ليستطيع التعامل معه، وصارت الانتخابات "رسالة" حتى لقد أدت به لعبة السياسة إلى مواقف غير أخلاقية، ولا أبالغ لو قلت مواقف فاضحة، ولا مثال أوضح من ملف الأقباط؛ فالإخوان يتجنبون هذا الملف تماما لأنه ملف ملغوم سياسيا، والكلام فيه يهدد الجماعة ولا يحقق هدف "الحفاظ على التنظيم".. ولذا تصمت الجماعة تماما في موضوع وفاء قسطنطين، ثم تصمت تماما في أحداث مسرحية الإسكندرية والتي وقعت بسببها اشتباكات لما أثارته من تحقير للإسلام والمسلمين، ثم الموقف الأخير وهو السكوت التام والغيبوبة الكبرى إزاء موضوع كاميليا شحاتة، ولا كأن مصر هي عقر دار "كبرى الحركات الإسلامية"..

يا حسرة على الإخوان.. لقد تحولت نقطة قوتهم إلى نقطة ضعف.. هل كان حسن البنا أو أي من أتباعه يتوقع مثل هذه النتيجة؟

نفس الأمر لم يتوقع عبد القدير خان حين أخرج القنبلة النووية الباكستانية، ما كان ليتخيل أن سيأتي برفيز مشرف رئيسا لباكستان ليقول بأن مضطر للتعامل مع الأمريكان والرضوخ لهم حفاظا على القنبلة النووية التي تمثل قيمة استراتيجية يجب الحفاظ عليها مهما كانت التنازلات..

لقد تحولت القنبلة النووية من نقطة قوة إلى نقطة ضعف.. ويا حسرة على باكستان..

وعرفات.. وما أدراك ما عرفات؟

النموذج الأمثل في هذه القصة، لقد أعطوه المنظمة واعترفوا بها، ولكنهم أمسكوه منها، فصار يهذي تائها في مسالك المفاوضات التي لم تنته، ثم إذا أتى رجل لا يتحمل الدوران وليس له مثل صبر عرفات –أعني شارون- ضرب المنظمة بحذائه وحبسه في مقر المقاطعة ثم قتله..

ولقد بذل عرفات في الحفاظ على "مكتسبات" المرحلة الفائتة، وفي التمسك بالمنظمة ما جعله يواجه أبناء شعبه بالقتل والاعتقال والتعذيب، وعمل شرطيا للعدو حتى حقق ما لم يكن العدو يستطيع أن يحققه.. وهكذا، لما نسي هدفه من المنظمة، وصار هدفه المنظمة نفسها.. خسرها وخسر نفسه وخسر هدفه.. وذهب إلى مزبلة التاريخ راضيا غير مرضي عنه.

ثم القنوات الإسلامية.. حلم الإسلاميين الأثير منذ ظهر التلفاز الذي استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، وصار مأوى لحزب الشيطان.. جاءت القنوات الإسلامية، بدأت ضعيفة مهزوزة ضئيلة الإمكانيات شاحبة الصورة، لكن إخلاص العاملين عليها، وشيوخها، وحرصهم على تبليغ كلمة الله جعلها تلامس القلوب وتدخل البيوت وتثير كوامن الخير التي ظن الناس –وكثير من الدعاة- أنها انتهت إلى غير عودة..

وصار الأثر بعد حين ثمارا يانعة، حتى من كان يحرم التلفاز قال بأن القنوات فعلت في سنة ما كنا لا نستطيع أن نفعله في عشرين سنة من المساجد، ثم دارت العجلة.. ولما رأى المخلصون وأصحاب الأموال أن القنوات الإسلامية تجارة رابحة تكاثرت القنوات وانتشرت، تكاثرت كذلك البرامج الدينية في القنوات التي كان قد استحوذ عليها الشيطان فأنساها ذكر الله..

لقد صار للإسلاميين إعلام قوي.. رغم كل هفواته وزلاته، ومن ذا الذي حاز الكمال!!

ثم .. إذا بنقطة القوة تتحول إلى نقطة ضعف، تدريجيا نسي الشيوخ أن القنوات وسيلة إيصال للحق، فصارت القنوات هدفا بحد ذاتها.. وكما حافظ الإخوان على تنظيمهم، ومشرف على قنبلته، وعرفات على منظمته، حافظ الشيوخ على قنواتهم.. فتجنبوا الملفات الملغومة التي لا ترضي ولي الأمر، ولو كانت من صميم الدين..

حرب لبنان، ثم حرب غزة، ثم كاميليا شحاتة.. صمت وسكون تتناثر على جانبية كلمات يملؤها الحياء ويكسوها التلميح، ظاهرها بعض الحق وباطنها كل التخاذل والتراجع والتولي يوم الزحف.. وإذ بنا بعدما توقعنا أن تخوض القنوات الإسلامية حربا لتحرير المسلمة المفتونة في دينها، التي أسلمت إلى من يسومها سوء العذاب ولو أسفرت المعركة عن إغلاق القنوات.. (أليست الشهادة غاية المجاهد في سبيل الله؟).. إذ بنا نرى القنوات تتولى يوم الزحف .. اللهم إلا قناة الخليجية!

نقاط القوة .. صارت نقاط ضعف، والمكتسبات صارت فتنة! وعاد المجاهدون –بعد جهاد السنين- بخفي حنين، ولست أدري ما يكون نفع هذه القنوات ولا هذه التنظيمات التي تدعو إلى الله، ثم إذا استجيب لها فدخل الناس في دين الله تركوهم يُفتنون في دينهم ويُعادون إلى الشرك وعبادة غير الله؟؟؟

إن مثل الذين ذهبت أهدافهم وتضخمت وسائلهم كمثل أهل الجارية، فقد رُوي أن قوما حمقى ماتت لهم جارية فأتوا رجلا يسألونه كفنا، فقال: ما عندي الآن شيء، فقالوا له: نعود إليك بعد شهر فيكون قد تيسر عندك الكفن!