السبت، ديسمبر 08، 2007

معاوية والتوريث مرة أخرى 3/3

يعتبر هذا الجزء الثالث متمما للفكرة وموضحا لها ، ومجيبا عن بعض الملاحظات التي تلقيتها ردا على الموضوع من بدايته .

وليسمح لي القارئ بأن أخبره ببداية الموضوع :

منذ سنوات ويلوح في الأفق نية توريث مصر لجمال مبارك من بعد مبارك الأب .. لم يكن صعبا أن يتوقع أي أحد دفاع المنافقين وكلاب الحكومة وحشرات الإعلام الرسمي عن هذا التوريث ، وسيتحدثون عن مصلحة الوطن والمرحلة الحرجة والحساسة ، ولربما انكشفت وجوه طالما تغطت بالمعارضة مثل مصطفى بكري مثلا الذي دافع من قبل عن توريث سوريا لبشار الأسد وتحدث أيضا عن مصلحة البلد وأنها موزعة بين عرقيات وطوائف ولم يكن بد من التوريث ، والناصريين - إلا قليل منهم - أدعياء شرف .. ومصطفى بكري يعتبر مثالا واضحا للحالة التي تندفع في الهجوم والمعارضة ولكنها ترحب بأن تتلقى الدعم من القذافي أو ممن يدفع حتى لو كان زين العابدين بن علي .. وانتظروا يوم توريث القذافي لابنه سيف الإسلام .

لم يكن ذلك يمثل خطرا .. ليس في مصر أحد - تقريبا - إلا ويعرف فعل المنافقين ، وما كان المنافقون يوما يستحقون بذل جهد لبيان نفاقهم وكذبهم ، والمصريون - رغم كل شئ - شعب جيد الفهم وهو يعبر عن فهمه هذا بالسخرية اللاذعة والنكتة القبيحة - أحيانا - .

الخطر ظهر في شئ جديد ، في صوت جديد من المعارضة انطلق قويا صارخا هادرا ، تمثله جريدة الدستور بقيادة إبراهيم عيسى ، مثل ظهور هذا الصوت متنفسا جديدا رفع من سقف النقد وحدة المعارضة في كل مصر ، وإبراهيم عيسى وأمثاله أشخاص حتى الآن لا يُشك في حرصهم وإخلاصهم ووطنيتهم قيد شعرة .. رغم كثير من علامات استفهام تتقافز كل حين .

مع استمرار إبراهيم عيسى في الكتابة بنفس الحدة والجرأة والقوة صار رمزا ، وبدأ يظهر نَفَسه الشيعي الواضح ، أنا هنا لا أتهم ولا أشكك ، لكن الحقيقة بوضوح أن إبراهيم عيسى يميل إلى الشيعة وإن لم يصرح بهذا وإن لم يبدر منه نحو أبي بكر وعمر أية إساءة صريحة - هناك بعض التلميحات الضمنية لكن دعنا نحسن الظن ونقول إنه سبق قلم أو زلة لسان أو حتى أشياء غير مقصودة ويمكن أن تؤول على محمل حسن - لكن هجومه على معاوية وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، وهجومه على صحيح البخاري والتشكيك فيه ، وأسلوب مقالاته عن الحسين وكربلاء ، ثم كتابه رجال بعد الرسول وحلقاته التلفزيونية على دريم ( رجال بعد الرسول - وفاطمة وعائشة - والفهرس ) .. كل هذا لا يدع مجالا للشك أبدا في انحيازه إلى الفهم الشيعي .

يمكن أن يفسر كل هذا في إطار المؤامرة بصناعة رمز شيعي .. وهو تفسير يجيب فعلا عن علامات استفهام كثيرة أهمها مثلا : كيف تصدر وتستمر جريدة بمثل درجة المعارضة هذه في مصر مبارك ؟ ولماذا ارتفع الآن في مصر السنية أصوات شيعية وأصبحت تحظى بظهور إعلامي يثير الريبة ؟ وكتب الشيعة التي تزيد وتنتشر .. إلخ .

ولا يمكن أن يتم هذا في مصر بدون رعاية من أمريكا ، فمصر التي تسيطر عليها المخابرات الأمريكية من الرأس وحتى القدم - كما قال بوبو وود وارد نقلا عن مصادر في CIA - لا يمكن أن تتم فيها حركة بمثل هذا الوضوح بدون أن يكون اللاعب الأساسي صاحب التخطيط هو الأمريكان .

إن هذا التفسير - الذي أطرحه الآن كنوع من التفكير بصوت عال ولا أتبناه إلى هذه اللحظة - هو ما يفسر وجود واستمرار جريدة الدستور ، ووجود واستمرار إبراهيم عيسى .

لم يكن صعبا - في تلك الأجواء - أن تتخيل شخصا كإبراهيم عيسى ( وأعيد التكرار أني لا أشك في إخلاصه أو وطنيته ولا أعتبر بالضرورة أنه يعلم بأنه جزء من لعبة ) وهو الصوت القوي المسموع ماذا يمكن - بهذا الفكر - أن يقول في لحظة التوريث .. سيقول ولاشك في معاوية مالم يقله مالك في الخمر .

وجدت بداية لهذا الكلام في مقاله بالدستور الأسبوعي بتاريخ 11/10/2006 إذ كان هدف المقال هو سب المغيرة بن شعبة على اعتبار أنه صاحب فكرة التوريث وهو من أوحى بها إلى معاوية ويزيد رغبة في أن يبقيه معاوية واليا على الكوفة ، وفي إطار هذا الهجوم حكى القصة المعروفة عن اتهام المغيرة بالزنا وهي القصة التي تحكي كتب التاريخ تفاصيلها بما يبرئ المغيرة ويخلي ساحته .. لكنه رواها بما يوحي أن الصحابي المغيرة بن شعبة كان يزني في الطريق العام ويراه الناس حال الزنا ، وطال هجومه - بالتبعية - سيدنا عمر لأنه ، في رأي عيسيى ، ظل يحاصر شهود الزنا حتى أربكهم وتراجع أحدهم عن شهادته فتمت براءة المغيرة .. وادعى - كذبا وزورا - أنه ينقل عن الطبري وابن كثير .. وهو ما دفعني لأوضح كذبه المتعمد في مقال إبراهيم عيسى ينتحر ، ثم كان لابد من بيان أنه لا علاقة أبدا بين فكرة التوريث وبين المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - في مقال هل كان المغيرة صاحب فكرة التوريث ؟ .

ولكن بما أن الموضوع طرح فعلا ولو قبل وقته فكان من الواجب حتما أن تكتب القراءة الموضوعية لحدث التوريث نفسه ، بما يحقق نزاهة المؤرخ المحايد وسيثبت - وقتها - أن معاوية رضي الله عنه لم يكن يورث الخلافة طمعا في شهوة الحكم له ولأولاده بل لأن ذلك ما تفرضه اللحظة فعلا وما يحقق مصلحة الأمة .. ولست أدعي بالطبع أني صاحب أي سبق في هذا اللهم إلا البحث في الوقائع والاستنباط من بعضها ومحاولة قراءة بعض حوادث التاريخ من هذه الزاوية ، وأنا في كل هذا طفل أتقلب على ما تركه الشوامخ من كتابات .

انظر : هل كان معاوية مجرما حين ورث الخلافة ليزيد ؟

وهذا المقال هو الذي تلقيت عليه ردودا وملاحظات وتعليقات وجدت نفسي مضطرا إزاءها لإعادة بيان وتوضيح بعض الأفكار .. فكان الجزء الأول لخصت فيه ماسبق ، ثم الجزء الثاني لبيان بعض الوقائع التاريخية المنفصلة تماما عن معاوية والأمويين سواء بالزمان أو بالنسب التي تثبت كذلك أن قانون العصبية كان هو قانون هذه الأيام .. وهذا الجزء الثالث وألأخير بإذن الله .

****

1- مالهدف من هذه المقالات ؟

* هذه المقالات لها هدفان :

الأول : هو إظهار فضل سيدنا معاوية - رضي الله عنه - ونفي الهمة عنه وشرح الظروف والملابسات التي حكمت لحظة التوريث .. وهذه قضية تاريخية يمكن الحديث عنها في أي وقت وبمناسبة أو بدون .

أما الثاني : وهو الذي فرض التوقيت فهو إثبات أنه لا علاقة أبدا بين التوريث الذي يراد له أن يتم في مصر في القرن الخامس عشر الهجري ، وبين ما تم من توريث في عام 60 هجرية .. لا الزمان هو الزمان ، ولا الظروف هي الظروف ، ولا الدوافع هي الدواقع ، ولا مقارنة بين صحابي وملك عظيم وبين ديكتاتور مشكوك أصلا في ولائه للوطن والأمة ، ومقطوع - لا مشكوك - بأنه مصلحة البلاد لا تمثل عنده أولوية .

وبإثبات عدم العلاقة نفهم التاريخ أولا ، ثم ينتفي مبرر المنافقين ، ويتنفي كذلك - وهو الأهم - مُستند المعارضين سواء كانوا شيعة أو سنة أو علمانيين أو لادينيين .. ولكل منهم في سب معاوية غرض ، فإن اختلفت أغراضهم فقد اجتمعوا في تلك النقطة .

وإني لأدري أن ما أكتبه ليس مشهورا أو منتشرا أو له جمهور عريض ليحقق تلك الأهداف ، ولكن حسبي أن هذا ما أستطيعه ، وهو الذي سأسأل عنه أمام الله .

2- كلامك هذا يؤكد نظرة بعض العلمانيين بأن عصر الخلافة الراشدة فلتة لن تتكرر .

لا يمكنني ولا يمكن لأي مسلم الادعاء بأن عصر الخلافة لن يتكرر ، كيف ولدينا الحديث الصحيح ” تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على مناهج نبوة ” .

الذي قلته صريحا في كلامي أن عصر الخلافة الراشدة كان عصر استثنائيا بالنسبة لهذا الوقت من التاريخ ، وهو لهذا يصلح لأن يكون أفقا ترنو إليه كل العصور اللاحقة ، وحيث أنه ثبت بالوقائع التاريخية أن مسألة العصبية هذه كانت قانونا يحكم العلاقة بين الجميع ، وثبت بالواقع كذلك أن هذا لم يعد موجودا في عصرنا الحديث - ولللإنصاف : ما عدا بعض المناطق والدول - فإن تحقيق الشورى وتداول السلطة السلمي وتولية الأكفأ هو ما يجب أن يكون وما يجب أن نجاهد لأجله .

بل يمكنني أن أتقدم خطوة للأمام فأقول :

إن عصر الخلافة الراشدة لظروف زمانه ومكانه لم يستطع أن يُشرك كل الدولة الإسلامية في اختيار الخليفة ، واقتصر هذا الاختيار على العاصمة والتي كانت المدينة المنورة ، وهذا كان أفضل المتاح وقتها ، ولم يكن من الممكن أبدا استطلاع رأي الجيوش الإسلامية والتي تبعد عن مقر الخلافة شهورا ولا حتى الولاة الذين يحكمون الأمصار .

إنه لا عاقل يقول استنادا لهذا الواقع التاريخي بحرمان الناس في المحافظات والأقاليم الآن من المشاركة في الانتخابات لأن الخلافة الراشدة لم تفعل هذا ، فالخلافة الراشدة أقرت مبدأ الشورى والاختيار السلمي وتولية الأمر للأكفأ ولم تستطع أن تحقق انتخابا يشمل كل الدولة الإسلامية ، ومجنون من يطلب منها ذلك وأشد منه جنونا من بنتقدها لظرف خارج عن إمكانيات العصر .

لقد وصل إلى خالد بن الوليد قائد جيش الشام خبر وفاة أبي بكر وتولية عمر وعزله هو عن قيادة الجيش في رسالة واحدة ومع رسول واحد هو أبو عبيدة بن الجراح القائد الجديد .. فهل لم يكن خالد بن الوليد مثلا أهل لكي يُستشار وينتخب ويدلي برأيه فيمن يكون الخليفة الجديد ؟؟ بالطبع لا .. ولكن واقع الأمر أدى إلى هذا .. أدى إلى أن تكون الشورى محصورة في أهل العاصمة ، ولا يجوز الآن في عصرنا الحديث أن نقف عند هذا ونوقف التطور والتاريخ .

عصر الخلافة الراشدة أثبت وقرر مبادئ الشورى وتولية الأمر للأكفأ .. والوسائل متروكة لأهل كل عصر .

3- بدا من كلامك أن الإسلام يقر التوريث .

دعونا الآن من كلامي فلست أهلا للفتوى بحال ، ولكن في ظل ما أفهمه وما قلته أنفي أن أكون قلت هذا .

ما أفهمه أن الإسلام يقر مصلحة الأمة ، فإذا لم تكن هذه المصلحة متحققة إلا بالتوريث في لحظة معينة وظروف معينة فأستطيع القول أن الإسلام يقر هذا التصرف في هذه اللحظة ، لأن الإسلام منهج واقعي وليس مثاليا وهو منهج نعرف من أحكامه وقواعده ” دفع المضار مقدم على جلب المنافع ” و ” رتكاب أهون الضررين ” ونعرف منه ” مقاصد الشريعة ” و ” اعتبار المآلات في الحكم على الأعمال ” .. إلخ

ولذلك فإن المسلم ليس مطالبا بغباء أن يفعل المثالي ولو أهلك نفسه وأهله دونه ، بل توازنات الواقع معتبرة في الأحكام فيجوز له أكل الميتة ولحم الخنزير إن لم يجد غيرهما مثلا .. وهذه واقعية الإسلام ومرونة أحكامه .. ثم إن كل هذا يجوز أن نختلف فيه ونتناقش حوله ، لكن الدليل الأوضح والأظهر والقاطع لكل حجة هو سكوت الصحابة وكبار التابعين عن هذا - فيما عدا اثنين - وهم خير القرون كما قال رسول الله فيهم ، ولا يُظن فيهم إلا الخير ، ولا يتوقع أنهم سكتوا على “منكر” كانوا يستطيعون تغييره ، أو سكتوا على “خير” كان يمكنهم فعل ما هو أفضل منه .

إن في هذا لدليل على أن ما تم كان أفضل حل متاح وقتها ، ولا يمكن أن نسير خلف روايات مكذوبة توحي بأن الساكتين سكتوا خوفا من السيف والقتل ، فتلك تهمة ننزه عنها صحابة رسول الله وكبار التابعين ، وهم الذين ما بخلوا يوما بقطرة دم واحدة لصالح عزة الإسلام والمسلمين .

4- بدا من كلامك أنه لم يكن هناك حل آخر .

نعم ، قصدت أن اقول إنه لم يكن هناك حل آخر ” أفضل ” ، ومن رأى حلا أفضل فليخبرنا به ، ثم ليجب عن تفسير كل ماذكرناه حول قوة العصبية وكيف كان يمكن معالجة هذا الوضع .

ثم عليه وهو يفكر أن يحترم التاريخ ويحترم العمالقة أطراف الحدث - وهم الصحابة والتابعين - ، ليعلم أن الأمر لم يكن سهلا بسيطا كشأن حل مسألة رياضية .

إن إنسان كل عصر يأتي بعد بضعة أيام ليراجع قرارا اتخذه قبل أيام ، أو كما قال الثعالبي - فيما معناه - : ” لا يكتب كاتب شيئا في يومه إلا أحب في غده أن يغير منه فيقول لو قدمت هذا لكان أحسن ، ولو أخرت هذا لكان أفضل … ” ، فهل إنسان كهذا يستطيع أن يفكر في حل لمشكلة قبل 15 قرنا ، كان أطرافها أفذاذ الأمة وخير قرونها ؟؟

5- فعل الصحابي معرض للصواب والخطأ فهو ليس بمعصوم .

وما قلت غير هذا .. لكن الغباء كله والظلم كله والتجني كله أن نرفع هذا الشعار لنصم كل تصرف لم يعجبنا أو لم نرتح له بأنه خطأ .

الصحابي ليس بمعصوم ، هذا حق ، ولكن ليس معنى هذا أنه مخطئ على طول الخط لا يعرف له الصواب طريقا .. إذا قلنا إن معاوية ليس بمعصوم فلا يجرنا هذا إلى أن حياته كانت مجموعة من الأخطاء ، ولا تفسر كل أفعاله تحت راية ” عدم العصمة ” .

كل تصرف يحلل وحده ، ويوزن وحده ، ويفسر في سياقه التاريخي والمكاني ، وفي حالة الصحابي يظلل بحسن الظن .. ثم يكون الحكم على التصرف بالصحة أو الخطأ .. فإن كنا نناقش موضوع ” التوريث تحديدا ” فإن تخطئتنا لفعل ” التوريث ” نفسه يجرنا لرمي كل الجيل بالخطأ ، وهذا في حقهم جميعا محال .

انتهى بحمد الله .

معاوية والتوريث مرة أخرى 2/3

اقرأ أولا: معاوية والتوريث مرة أخرى 1/3

1) يوسف بن تاشفين

في النصف الأول من القرن الخامس الهجري كانت منطقة المغرب قد تحولت إلى قبليات تتكاثر بينها النزاعات والصراعات ، حتى ذهب زعيم ” جدالة ” – أكبر قبائل المغرب – إلى الحج ، وعاد من تلك الرحلة بالشيخ عبد الله بن ياسين لكي يفقه الناس في أمر دينهم الذي كاد أن يندثر من كثرة ما ظهر من شركيات ومن زاعمي النبوة وليعود المغرب قوة إسلامية واحدة .

اصطدمت محاولات الشيخ عبد الله بن ياسين بالواقع على الأرض فلم يفلح بل ضرب وأهين ثم طرد من المغرب ، وبدلا من أن يعد الشيخ إلى بيته وحلقة درسه اتجه جنوبا إلى مصب نهر السنغال وهناك بدأ في تكوين ” الجيل المنشود ” ، وبدأ هذا من الصفر فأقام خيمة على جزيرة عند الماء وظل يجمع إلى هذا الرباط من يرضى بالدعوة وفي تلك الخيمة تتم التربية والإعداد تماما كما بدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – من دار الأرقم بن أبي الأرقم .

ومن هذه الخيمة أو الرباط انبعثت إلى الوجود ” دولة المرابطين ” والتي تم على يدها توحيد المغرب بل وتوحيد المغرب والأندلس بعد أن أنقذت الوجود الإسلامي في الأندلس وأخرت انهياره قرونا في الملحمة الخالدة ، معركة الزلاقة .

وإذا ذكرت دولة المرابطين فلابد أن يذكر معها اسم قائدها الفذ وزعيمها الرباني وصاحب توسعها وعصرها الذهبي وقائد الزلاقة أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين .

عندما بدأت دولة المرابطين على يد الشيخ عبد الله بن ياسين كان زعيمها السياسي هو يحيى بن إبراهيم الجدالي ، زعيم جدالة والقائد الذي أتى بالشيخ ابن ياسين إلى المغرب ، ثم لما توفى إبراهيم تولى الرئاسة من بعده يحيى بن عمر اللمتوني ، وقد كان ذلك باختيار الشيخ ابن ياسين .. ومالبث أن توفي يحيى فقاد المرابطين بعده أبو بكر بن عمر اللمتوني .. ثم انطلق أبو بكر ليواصل دعوة القبائل السودانية إلى الإسلام فترك على زعامة المرابطين ابن عمه يوسف بن تاشفين .

لقد انتقلت السلطة في كل تلك المراحل انتقالا سلميا بسيطا بالاختيار الفردي والرضا من الناس حتى أنها انتقلت من ” جدالي ” إلى ” لمتوني ” وقد كانت قبيلتي جدالة ولمتونة أكبر القبائل المغربية المتصارعة والمتعادية فيما قبل التوحد الذي حققته دعوة الشيخ عبد الله بن ياسين تحت راية الدولة المرابطية .

وتحت قيادة يوسف بن تاشفين انتقلت دولة المرابطين نقلة هائلة ، فلقد تمكن ابن تاشفين من بناء دولة في غاية القوة توحدت تحتها كل بلاد المغرب ، بل واستنجد بها أهل الأندلس فحكمت المغرب والأندلس معا ، وعاش يوسف ابن تاشفين مائة عام – بالتقويم الهجري – ( 400 هـ - 500 هـ ) ولما قاربته الوفاة كان الآتي .

لقد اتسعت الدولة اتساعا رهيبا وصارت تتمدد على المغرب والأندلس فحدث أن استشار ابن تاشفين قادته واستقروا على أن يتولى الأمر من بعده ابنه الأمير علي ، فكتب الأمر بولاية العهد وبايعت له الأمصار وتولى الحكم فعلا بعد انتقال ابن تاشفين إلى ربه .

لقد كان اتساع الدولة وقوتها وبناء حضارتها عاملا جديدا لم يواجه الزعماء من قبل ، وإذا كان انتقال السلطة تم سلميا فيما قبل فإنه قد تم وقت أن كانت الدولة محدودة الرقعة حول خيام المرابطين ، ووقت أن كانت الدولة في مرحلة ” الوازع الديني ” – بتعبير ابن خلدون - .. أما وأن الدولة قد صارت تتمدد من الأندلس شمالا حتى مناطق جنوب المغرب ، فما كان من حل إلا بتولية العهد أو بـ ” التوريث ” .

لقد اندهشت حينما كتب المؤرخ الفذ د. علي الصلابي نفس هذا الكلام في حق يوسف ابن تاشفين في كتابه ” دولة المرابطين ” فإنه رأى بان ما حدث كان الحل الذي تفرضه الظروف ، في حين أنه هو انتقد معاوية – رضي الله عنه – في نفس الموقف وقال بان معاوية كان يملك بذكائه أن يقر نظاما يتجنب الفتن دون أن يكون وراثيا ، وأن يستعمل عصبة بني أمية في أن تعمل على توطيد الحكم لمن يختاره المسلمون .

وهو كلام قاله كذلك العالم الجليل الشيخ رشيد رضا من قبل .. ومع إجلالي لكليهما إلا أن هذا الحل لم يكن يتفق وواقع العصر الذي اشتدت فيه العصبية وقل فيه وازع الدين ، ولن تجد من يضع قوته ويهدف نحره للقتل حفاظا على مُلك أحد وهو يرى نفسه أقوى منه وأقدر ، بل ويستطيع فعلا أن يحوز الملك بماله من عصبية .

ذلك كان يوسف بن تاشفين ..

2) وصلاح الدين ..

ربما كنت في حاجة للتعريف بيوسف بن تاشفين ، ولا أظن أني في حاجة للتعريف بصلاح الدين ، ودعك مما يقوله بعض الشيعة – ممن علا صوتهم أخيرا – عن البطل من أكاذيب .

فيما قبل صلاح الدين كان عماد الدين زنكي قد بدأ رحلة الجهاد لتحرير بيت المقدس ، ولما قُتل عماد الدين لم يجد آل أيوب - وكانوا عضد عماد الدين وقواد جيشه – حلا إلا بأن يتولى الأمر من بعد عماد الدين ولده نور الدين الذي لقب فيما بعد بـ ” الملك العادل ” .

واستمر الملك العادل نور الدين في رحلة الجهاد وحقق فتوحات باهرة ، وتأخر إنجابه للولد ، حتى أنجب ولدا .. لم يكن من شك لدى أحد في أن هذا الولد سيرث ملك أبيه ، وتسمى الولد بـ ” الصالح إسماعيل ” .

لننتبه إلى أن هذا كان في وجود رجل في مثل كفاءة صلاح الدين ، لكنه – ياقراء – واقع ذلك العصر وتلك هي قوانينه .

وقد قلنا سابقا إنه لو رمينا كل ملك ورّث ولده بنقيصة حب الدنيا وشهوة السلطان فسننجر حتما إلى أن نسب نبي الله داود ن الذي ورثه ولده سليمان – عليهما السلام - . فإذا كان نظام العهد بالولاية ووراثة الولد قد ساد في وجود أولئك الأبطال الأفذاذ الربانيين فيجب أن نستنتج أن العصر لم يكن ليصلح فيه نظام غير هذا .

ثم توفي نور الدين ومازال ولده الصالح إسماعيل صغيرا .. فماذا حدث ؟

استطاع الطفل – بتأثير بعض القادة – أن يقف حجر عثرة ضد استمرار مسيرة الجهاد الإسلامي ، وكاد ما أنفقه عماد الدين ونور الدين يضيع هباءا أمام لحظة حماقة من بعض القادة ، لم يكن لهم سلاح إلا هذا الفتى ” الصالح إسماعيل ” ، وهذا الفتى لا يملك إلا أنه ولد لنور الدين .

وبعد أن توحدت مصر والشام في عهد نور الدين وما بقي إلا الانطلاق نحو بيت المقدس إذا بالصالح إسماعيل يشعل حربا ضد صلاح الدين ويتعصب له أهل حلب – معقل آل زنكي – ويحاربون من ؟؟ .. يحاربون صلاح الدين فاتح مصر والقائم بأمرها .

ولولا وجود صلاح الدين وانتصاره وإمساكه بزمام الوحدة التي كادت تنفصم بين مصر والشام لكانت كل سنين الجهاد ضاعت هباءا وعدنا من جديد لنقطة الصفر حيث تشرذم الشام وتفككها وانفصالها عن مصر ، ونكون بحاجة لعماد الدين ونور الدين من جديد ليعيدا الوحدة .

كل هذا الخطر كان متحققا لمجرد أن طفلا من نسل الملك كان يملك عواطف الناس وعصبتهم ويملك أن يحركهم لحرب ، وضد بطل كصلاح الدين .. ألا يبين هذا كيف كان قانون العصبية والملك في تلك العصور ؟؟

ثم نأتي لصلاح الدين ..

لن نر شيئا جديدا في مسألة نظام الملك ، رغم مآثره الباهرة فيما سوى ذلك .. تماما كعمر بن عبد العزيز استطاع تغيير الكثير والكثير ، وما استطاع أن يعيد الأمر شورى ، وكان يتمنى أن يتولاها بعده محمد بن القاسم .

لقد تولى الحكم بعد صلاح الدين أولاده كذلك .. وكان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك .

وصلاح الدين نفسه لم يستطع توحيد مصر والشام وإنهاء الدولة الشيعية ( الفاطمية ) بسهولة إلا لأن خليفتها الأخير العاضد لم يكن له نسل يطالبون بحقهم في ملك أبيهم .

فاستفاد صلاح الدين من قانون العصبية هذا في توحيد مصر والشام ، وعانى منه الكثير يوم أن كانت المواجهة مع الصالح إسماعيل .

3)

الحكم المستنصر وابنه والمنصور

وتلك لقطة من تاريخ الأندلس ستتشابه كثيرا مع مشهد نور الدين وولده الصالح إسماعيل .

كان ذلك في أواخر القرن الرابع الهجري .

في تاريخ الأندلس ملك عظيم اسمه ( عبد الرحمن الناصر ) حكم الأندلس خمسين عاما نقلها في تلك الخمسين من ضعف وفرقة وتناحر إلى دولة واحدة قوية مرهوبة الجانب عظيمة الحضارة ، وهو الذي كتب إليه ملك السويد في رسالة ” خادمكم المطيع ” وقد كان يرجوه أن يتعهد ابنته بالتعليم والرعاية .

لما مات الناصر تولى الأمر من بعده ولده المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن ، وسار على سيرة أبيه وحافظ على المملكة القوية الواحدة وكان ملكا ومؤرخا ومثقفا وإذا ذكر المستنصر ذكر معه إضافاته التاريخية للمكتبة الأموية .

المستنصر أيضا تأخر إنجابه للولد ، ثم أنجب ولدا – عبد الرحمن – مالبث أن مات في حياته ، ثم مالبث أن رزق بـ ” هشام ” .. مات المستنصر وهشام لم يبلغ الحلم .

وكادت تلك الدولة ان تضيع مع وجود الطفل على رأسها ، لولا أن وُجد قائد عظيم فذ يلمع اسمه في التاريخ واسمه محمد بن أبي عامر الذي تلقب فما بعد بـ ” الملك المنصور ” .

المنصور ابن أبي عامر قائد يعتبر فلتة تاريخية لكن عليه مآخذ في تقواه ، يمكن أن نقرب الصورة لو شبهناه بمحمد علي الكبير .. مع فارق ضخم لصالح المنصور ، فالرجل صنع دولة قوية مهيبة وفي عصره كانت ذروة أمجاد الأندلس وأكبر أتساع لرقعتها لكنه لم يكن بتقوى أو عدل صلاح الدين أو نور الدين بل كان تعامله في نظام الملك أقرب إلى الملوك منه إلى الربانيين .

منذ مات الحكم المستنصر بدأت المؤامرات حول الفتي هشام ، وببراعة استطاع المنصور بن أبي عامر الحفاظ على الخلافة ، ثم استخلصها لنفسه فكان هو الملك على الحقيقة ، وليس لهشام إلا الاسم والدعاء في الخطبة والصك على النقود .

الإنجازات التي حققها المنصور بن أبي عامر لم يسبق إليها أحد ، وقلنا إن عصره كان ذروة الأمجاد وأقام للناس العدل ونشر العلم والحضارة وكان جهاده مرتين في العام وغزا أكثر من ستين غزوة لم يهزم في واحدة منها أبدا ، فأمّن الناس من الخطر الداخلي والخارجي وتحققت رفاهية فريدة لأهل الأندلس وقتها .. وغير هذا كثير ، ولكن …

بالرغم كل ما فعله المنصور نقم عليه الناس عزله للخليفة هشام عنهم ، هشام هذا الذي لم ير منه الناس شيئا ولا فعل لهم شيئا ولا حقق لهم شيئا .. ولا يملك من الدنيا إلا أنه الأموي سليل الخلفاء .. حتى اضطر المنصور إلى أن يخرجه للناس في موكب وسار هو في ركابه وكان هتاف الناس لهشام كما لو كان بطلا مقداما .

فانظر – أيها القارئ – كيف كان مجرد الانتماء للبيت الأموي يملك به الفتي القلوب ، ولو لم يكن له مأثرة واحدة .

وكيف لم يكن المنصور يحظى بعصبية من الناس – بعد كل ما فعل – لأنه ليس أكثر من حاجب الخليفة ومدبر دولته والقائم على رعايته ؟؟


4) المنصور مرة أخرى .


وإذا كنا نستطيع أن نقول إن وجود المنصور أنقذ الأندلس من عيوب نظام التوريث ومنع انهيار الدولة الكبيرة حينما سيطر على الحكم وأداره بمهارته الكبيرة .. فإنه هو أيضا من أزال النظام نفسه ، ولما أزيل النظام لم يلبث أن أدى هذا إلى ضعف الأندلس وتفرقها ودخولها عصر ملوك الطوائف .

والذي حدث هو أن المنصور عهد بالحجابة من بعده لولده .. ومن بعد ولده اضطربت كل الأندلس .

فثار الأمويون لاسترجاع خلافتهم لتكون خالصة بأيديهم ، وثارت قبائل العرب التي وضعتهم توازانات المنصور ليكونوا العدة في جيش الحضرة – أحد جيوش الخلافة - ، وثار الطامعون من كل صنف .

وثورة تتلوها ثورة في أيام تنبئ عن أن نظام الخلافة نفسه انتهى ، واختفى الخليفة الأموي هشام بن الحكم المستنصر ، واضطربت عاصمة الأندلس ” قرطبة ” فثار كل قوي في مدينته فأمسكها وحكمها ، وتفتتت الأندلس إلى طوائف ، على كل طائفة منها واحد يتسمى بأسماء الملك ويتلقب بألقاب الخلافة ، حتى قال فيهم الشاعر ابن رشيق أبياته المشهورة :

مما يزهدني في أرض أندلس ** ألقاب معتصم فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها ** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

ويمكن للمؤرخ أن يحمل المنصور بن أبي عامر عاقبة هذا التفكك حيث أنه أول من قلب نظام الملك .

ذلك مشهد آخر يدل دلالة أكيدة على أن نظام التوريث كان هو النظام الأسلم لتلك الفترات من التاريخ .


5) بنو عباد وشبيه هشام

واستمرارا في الحكاية ، سنجد إن عصر ملوك الطوائف تميزت فيه مملكة إشبيلية التي كان يحكمها بنو عباد ، وهي المملكة التي كانت تحاول – طول عصر ملوك الطوائف – أن تحكم كل الأندلس .

ولأجل أن تجد شرعية لهذه الغاية ، أحضرت رجلا شبيها بـ ” هشام بن الحكم ” الخليفة الأموي الأخير الذي حكم باسمه المنصور بن أبي عامر وكانت قصة حياته درامية بائسة تصلح لعمل روائي ، وادعت أنه الخليفة هشام وأنها تحكم باسمه .. ساعد على تصديق هذا اختفاء هشام بن الحكم وهو الاختفاء الذي أدى إلى كثير من الشائعات والقصص التي يختلقها الناس لمن يحبونهم .

وباسم الخليفة المزعوم – شبيه هشام – حكم بنو عباد مملكة إشبيلية وكانوا أقوى مملكة .

حتى أقوى مملكة كانت في حاجة إلى أي رجل ينتمي للبيت الأموي .

———————–

* تلك بعض لقطات من عصور مختلفة لمجرد ضرب المثال ، وراعيت أن يكون أطرافها من الأبطال والصالحين أو القادة الأفذاذ ليكون فهم قانون العصبية أوضح وأظهر .. والاستقصاء شئ يطول .

* في المقال القادم والأخير بإذن الله سيكون الرد على الملاحظات وتفصيل بعض الأمور .

معاوية والتوريث مرة أخرى 1/3

منذ كتبت موضوع “ هل كان معاوية مجرما حين عهد بالخلافة ليزيد ” وأنا أتلقى عليه ردودا وملاحظات منها ما كُتب على المدونة ومنها ما وصلني على البريد الإلكتروني ومنها ما قيل لي مشافهة .. وهو موضوع ، وإن لم يتيسر له النشر - كما توقعت - على ما أعلم ، إلا أن الله كتب له الانتقال على مواقع ومنتديات ومدونات أخرى أكثرها غيّر العنوان اتساقا مع رؤيته .

حتى كان الأمس الذي وجدت فيه قَدَرا رد من أخي الحبيب ورفيق الدراسة والسكن المهندس وليد الشاذلي على منتدى موقع قصة الإسلام ، فأثار هذا الرد كتابة “ذيل” للموضوع ، والذيل تسمية يعرفها المشتغلون بالتاريخ وهي ترادف كلمة ” ملحق ” بتعبيرات العصر الحديث ، ثم كان أن رفض الموقع تسجيل دخولي - لخلل فيه - وكذلك سيتناول ردي مالم يتناوله أخي وليد .. فقلت : أضعه في المدونة .

1)

كان ملخص فكرة المقال الأصلي كالآتي :

1- محاولة فهم تاريخ الصحابة تختلف عن غيرها في أننا نعرف أن الصحابة هم خير الناس عند الله - بعد الأنبياء - وبالتالي فإن تفسيرنا لتاريخهم يجب أن يحمل الحد الأقصى من حسن الظن ، دون أن يحول هذا من أن نناقش تاريخهم ونعرف من الذي أصاب ومن الذي أخطأ فهم بشر يتناولهم الحطأ ولا عصمة إلا للأنبياء .

2- من واجب الباحث في قضية التوريث - تحديدا - أن يفكك الحوادث لينظر إلى ” التوريث ” بتجرد ونزاهة ، وهذا لا يتأتى لو أن الباحث استصحب معه حين النظر في مسألة التوريث ماكان من فتنة بين عليّ ومعاوية قبل عشرين سنة من التوريث ، أو ما حدث بعد التوريث من استشهاد الحسين رضي الله عنه وموقعة الحرة .

3- شهادة التاريخ تقول بأن كل البشر إلى ما قبل مائتي سنة لم يتوصلوا إلى نظام حكم أفضل من ” التوريث ” حيث كانت تتولى الكم عائلة أو قبيلة ويطرد الملك فيها بالوراثة .. ولم تنشأ حضارة إلا في ظل هذا النظام ، بل ولم تنشأ امبراطورية على مر التاريخ إلا تحت هذا النوع من الحكم .. والفترات التي لم يوجد فيها هذا الحكم الوراثي كانت أحد نوعين : إما ديمقراطية على رقعة محدودة من الأرض مثلما كان في مدن اليونان القديمة وفي عصر الخلافة الراشدة ، وهذا النوع يختفي حين تتسع الامبراطورية ، وإما فترات اضطراب ينتج عنها ضعف الدولة وتمزقها مثلما كان عصر المماليك إذ لم يكن هناك حاكم إلا الذي يستطيع قتل الحاكم ثم يحكم مكانه .. وتتوالى متسلسلة قتل الحاكم ليصعد التابع فيصير حاكما فيقتله تابع له .. وهكذا .

4- شهادة التاريخ هذه تثبت أن فترة الخلافة الراشدة كانت استثناءا في مسار التاريخ البشري ، وهي تصلح لأن تكون دائما أفقا ترنو إليه الشعوب وتحاول تحقيقه بما يستجد في يدها من وسائل ، وهذا الاستثناء هو ما يسميه حكيم التاريخ ابن خلدون بقوله : كانوا - أي الراشدين - حين لم تحدث طبيعة المُلك وكان الوازع دينيا .. ويستنتج ببراعة عز نظيرها قوله هذا من كلمة علّ رضي الله عنها لما سأله واحد من الناس : لم تحدث الفتن على عهدك ولم تكن على عهد أبي بكر وعمر ، قال علىّ : لأنهما كانا واليين على مثلي وأنا وال على مثلك . يقول ابن خلدون ” يشير إلى وازع الدين ” .

5- وليس نظام التوريث سببا للتخلف والتراجع الذي حدث للأمة فالواقع أن الأمة بنت حضارتها في ظل هذا النظام واتسعت - كما لم تفعل أمة من قبل - تحت هذا الحكم الوراثي ، ولسنا بدعا من الأمم في هذا ، فالواقع أن الأمم التي احتلتنا وقهرتنا وهزمتنا كان يحكمها أيضا النظام الملكي وقت أن هزمتنا واحتلت بلادنا .

6- وضربنا على هذا أمثلة من التاريخ كثيرة ، بطول التاريخ وبعرضه .. أي بالسرد ثم بالوقوف والتأمل في لحظة التوريث نفسها ..

7- فسرد التاريخ يقول بأن العصبية كانت عاملا قويا بل الأقوى في تلك الفترة إلى الحد الذي فسّر به الصديق أبو بكر حديث النبي ” الخلافة في قريش ” بأن قريشا ” هم أوسط العرب نسباً وداراً ” ، وكانت العصبية نفسها هي التي وضعها الأنصار في بالهم حين خافوا أن يتولى الأمر قرشي ينتقم من الأنصار لما كان منهم من قتل القرشيين في غزوات النبي .

8- وتعصب بنو سعد لمجرم منهم وكانوا على استعداد لمحاربة أم المؤمنين وزوجة النبي واثنان من العشرة المبشرين بالجنة وتجمعوا في 6 آلاف رجل ، واستعدوا لهذه الحرب ، فانظر كيف كان الوازع العصبي قويا حتى على الوازع الديني .

9- واستنتجنا من الاختلاف بين موقف عمر - رضي الله عنه - لما رفض تماما أن يتولى الخلافة أحد من قومه ، وبين موقف علي - رضي الله عنه - الذي لم يجد غضاضة في أن يتولى الخلافة من بعده ابنه الحسن ، وبين الموقفين سبعة عشر عاما حافلة بما جرى للناس من نقص الوازع الديني - بتعبير ابن خلدون - وباتساع الامبراطورية الإسلامية .

10- وقلنا إن عصبية معاوية كانت أقوى وأنفع له مع أنه كان يطلب القصاص لدم عثمان ولم يكن يطلب الخلافة ، على عكس عصبية عليّ التي كان يزداد تفرقها عنه يوما بعد يوم مع أنها كانت تحمل عبء الخلافة .

11- لقد كانت عصبة بني أمية هي الأقوى وهي الأقدر على تولي الخلافة والحفاظ عليها ، وثبت هذا عبر تاريخها كله واستطاعت تلك العصبة أن تستعيد الخلافة من يد ابن الزبير الذي دانت له كل الأمصار - ما عدا قطعة من الشام - فما استطاع أن يحافظ عليها بل ظلت تتساقط على يد بني أمية حتى قُتل ، وقد تخلى عنه بعض بنوه !.. ثم فيما تلا هذا من ثورات ضد الأمويين .

12- وقد كانت العصبية في ذلك الزمان من القوة بحيث لم يستطع سليمان بن عبد الملك تغيير نظام الحكم وإعطائه لعمر بن عبد العزيز إلا بالحيلة ، ثم ما استطاع عمر بن عبد العزيز أن يغير نظام العهد بالحكم وصرح بهذا فعلا فقال : ” لو كان لي من الامر شيء ما عدوت بها القاسم بن محمد ” .

13- وما أدل ولا أوضح ولا أسطع على قوة العصبية من تمكن عبد الرحمن بن معاوية من إقامة دولة أموية بالأندلس ولم يكن يملك إلا نسبه للبيت الأموي ، هذا النسب هو الذي استطاع به أن يجمع به العصبيات ثم يحكم الأندلس .

14 - وإذا لم يعارض فكرة التوريث هذه إلا اثنين فقط : الحسين وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - فإن الأولى أن نفهم أنها كانت حلا أمثلا لتجنب الفتن بين المسلمين .

هذا ملخص ما كان في المقال السابق ، وقد كان التذكير به ضروريا لندخل إلى الجديد في الموضوع والذي أثاره عندي الردود والملاحظات .


اقرأ:

معاوية والتوريث مرة أخرى 2/3

معاوية والتوريث مرة أخرى 3/3

———————–

** أعتذر لكل إخواني الكرام والزوار عن التوقف - مؤقتا بإذن الله - عن كتابة ” تبسيط أصول الفقه ” وذلك حيث أني في سفر وليس بيدي المراجع والمصادر .. ولا الوقت .. وهذا السفر هو من متطلبات عنوان المرحلة ، وعسى من يسامحني في التوقف أن يسامحني كذلك في عدم التفاعل مع الردود .. بارك الله بكل من استوقف من عمره لحظات ليمنحني فيها ردا ، وذلك والله عندي كبير .. وبارك الله بكل من قرأ وضن بلحيظات عمره أن يضيعها في الرد فذلك ما أرضى به ولا أحزن له .. إنما مالا أرضى به ويحزنني أن ينساني أيهما ولو بدعاء لا يزيد عن كلمة .

** ذلك الموضوع بدأت في كتابته منذ ثلاثة أسابيع وانتهيت من جزئه الأول اليوم .. وفي تلك الأسابيع كنت أتذكر الحديث : ” اغتنم خمسا قبل خمس : … وفراغك قبل شغلك “