الأحد، أبريل 18، 2010

رشيد رضا.. ودروس في الإصلاح السياسي

يُعد الإمام رشيد رضا من أبرز وأشهر الرواد الإصلاحيين الإسلاميين في القرن العشرين، وقد كان الرجل خلاصة متميزة لعملاقين قبله، عملاق الثورة والإيقاظ جمال الدين الأفغاني، وعملاق تحرير الدين من الخرافات والشعوذات والمثبطات محمد عبده.

ثم أضاف رشيد رضا إلى هذين غزارة علم واطلاع على التراث الفقهي والحديثي وفهم لنصوصه بأكثر مما وُجد في شيخيه. ولقد كان الرجل من عمالقة الفكر كما كان من عمالقة الحركة، وإن كان مشهورا أكثر في جانبه الفكري فيما لا يُعرف تاريخه الحركي في مساندة الحركات والثورات ومتابعة شؤون المسلمين في سائر بقاع الأرض.

ومما لا يُنتبه إليه في تراث رشيد رضا، خصوصا في تفسير المنار وبشكل أخص في مجلة المنار، أنه يُعدّ في طائفة المؤرخين لأواخر العصر العثماني وعصر سقوط الخلافة الإسلامية، ففي عام 1924م (عام سقوط الخلافة) كان رشيد رضا في فترة نضوجه وتوهجه العلمي، فهو في هذا الحين كان في الستين من عمره، ومن ثم فقد شهد في حياته تدهور الحال حتى السقوط، ثم هو لم يشهده كأي فرد في عصره، بل شهده متابعا يقظا حريصا متحرقا ومتألما، وصارخا بما كتب وبما استطاع أن يفعل، ما جعل كتاباته –خاصة في مجلة المنار- مصدرا قيّما لتحليل هذه الفترة، بل ربما قلت بأنها المصدر الأكثر قيمة، لأن التاريخ العثماني بعدئذ وقع بين يدي كاره يريد تشويهه في مقابل منحاز يريد رد التشويه ودفع المطاعن وتلميع صورة الخلافة العثمانية ولو في آخر أيامها.

امتلأت مجلة المنار، ومقالات رشيد رضا بالدعوة للإصلاح، ومحاولة إيقاف التدهور وتجنب السقوط، وفي مقالاته ما أحسب أن كل مصلح يعيش في زمن تدهور هو بحاجة إلى أن يقرأها، لأن الرجل لم يكن يهتم بالتفنيد ورد المطاعن والأكاذيب الدولية قدر ما كان يهتم بالطريق إلى العمل والإصلاح.

حلل رشيد رضا وضع الخلافة العثمانية أمام دول أوروبا، ثم حدد نقطة الضعف، ثم قدم وسيلة الإصلاح، ثم ذكر تجربة واقعية حية، ثم رد على شبهات السياسيين الجبناء التي تتكرر دائما لإنقاذ سياسة كل حاكم جبان أو ضعيف، ثم توقع مسار التاريخ، وقد كان ما توقعه فعلا.

قال الإمام رشيد رضا:

"إننا نرى دول أوربا عابثة في كل حين باستقلال الدولة، ففي كل حادثة لهم أوامر تُطاع ومناهي تُجتنب، والدولة راضية، وكل ما تجنيه من الظفر في بعض الأحيان لا يخرج عن مراوغة في تنفيذ بعض الأوامر أو إرجائها، وكلما تم للدولة ضرب من ضروب هذا الظفر الوهمي هتف المغرورون مع الغارين: نحن أصحاب السياسة المثلى والكلمة العليا، فإذا انتهى أجل الإرجاء، وحل اليأس محل الرجاء، سكتوا واجمين. أو خادعوا أنفسهم معتذرين.

يقول الأوربيون: إن الذي أذل تركيا وذللها لهم هو ظلمها لمَن ليس على دينها من رعيتها لا سيما النصارى: ولنا أن نقول: إن وجدنا سامعًا: إذا كانت هذه الدولة تظلم المخالفين لها في الدين فلماذا يهرب اليهود من مشرق أوربا (روسيا) ومغربها (أسبانيا) إلى بلادها؟ أمن المعقول أن يهرب الناس من ظل العدل إلى هاجرة الظلم؟ وإذا زعمتم أنها تظلم النصارى خاصة فكيف يعقل أن تظلم المخالف الذي يجد أنصارًا أقوياء ينتقمون له، وتدع من لا ولي له ونصير؟ وإذا كانت أوربا تعبث باستقلال الدولة وتقتات عليها في سياستها الداخلية حبًّا بالعدل بالمظلومين، فما بال هذه الرحمة لا تحرك لهم عاطفة على اليهود الذين يستحر القتل فيهم بأيدي النصارى لأنهم يهود؟ ليس موقفنا مع أوروبا موقف جدال وحجاج، ولكنه موقف قوة وضعف فالقوة تفعل والضعف ينفعل.

لماذا كنا ضعفاء وعندنا جيش يشهد له الأعداء بأنه في مقدمة جيوش الأمم الحربية بسالة وشجاعة وتدريبًا؟ يقول قوم: إن ضعفنا محصور في قلة المال، ونقول: إن عند الدولة من الذخائر ما يساعد على كل عمل تريده، وعندها من موارد الثروة ما إن أحسنت استغلاله واستعماله كانت من أغنى الدول. ويقول آخرون: إن ضعفنا محصور في الجهل دون سواه، ونقول إن الأمة جاهلة ولكن عند الدولة من الرجال من لا ينقصهم شيء من علوم الإدارة والسياسة، والصواب أن ضعفنا كله معلول لعلة واحدة وهي السلطة المطلقة.

صاحب السلطة المطلقة أقدر على الإصلاح إذا هو عَلِم وأراد، ولكنه قلما يريد. ولم نر أمة من الأمم صلح حالها وارتفع شأنها بسرعة كالأمة اليابانية التي نهضت بهمة عاهلها (الميكادو) على أنها هي الأمة الوحيدة التي ارتقت بملكها وسائر الأمم المرتقية إنما نهضت بأنفسها، وأصلحت حال حكامها وأوقفتهم عن حدودهم

قد بينا في السنة الأولى أركان الإصلاح التي يجب على الدولة العلية إقامتها بعد بيان أسباب الضعف ومناشئ الخلل من تاريخ الدولة الرسمي (تاريخ جودت باشا)، ويعتذر بعض الناس عن السلطان بأن مداراة دول أوربا في الخارج ومناهضة حزب الترك الأحرار في الداخل لم يدعا له وقتًا يصرفه في إصلاح المملكة. ونقول في الجواب: أما حزب الأحرار فالصادقون من أهله تؤمن غائلتهم بمجرد الشروع في الإصلاح، والمحتالون على المناصب والرواتب علاجهم الإعراض عنهم وعدم المبالاة بهم مهما قالوا وفعلوا.

وأما دول أوربا فلا مفر من عدوانها وافتئاتها على الدولة وعبثها باستقلالها في بلادها إلا بالقوة. فأول عمل يجب على السلطان وجوبًا فوريًّا هو الإسراع بإصلاح القوة البحرية، وزيادة القوة البرية حتى تكون القوتان في المكانة الأولى، ولا أستحيي أن أقول: إنه يجب أن يكون قصده في عمله هذا إلى جعل قوة الدولة في البر والبحر كقوة دولة فرنسا سواء. ولا يمكن القصد إلى هذا العمل العظيم إلا بعد السماح ببيع تلك الكنوز من ذخائر الملوك الذهبية والجوهرية إلا ما كان أثرًا تاريخيًّا يفيد بقاؤه العلم. فإذا أنف السلطان من بيع تلك القناطير المقنطرة من أواني الذهب والفضة ومن الجواهر التي لا صناعة فيها يضن بها التاريخ، وكان لا يجد المال لهذا الإصلاح إلا ببيعها فإن دولته ستفقدها من يوم من الأيام، ويكون قد أبى بيعها بعز الدولة لبيعها بذُلّها وهوانها (لا قدر الله تعالى).

ومن الناس من يزعم أن دول أوربا لا تمكن السلطان والدولة من زيادة القوة وإبلاغها درجة الكمال، فإذا هي شعرت بأنه يقوي البحرية ويعمم التعليم العسكري في الولايات فإنها لا تمهله أن تقتسم بلاده وتعجله بحل عقدة المسألة الشرقية.

ونحن نقول: إذا كان من الثابت عند السلطان أن أوربا لا تمكنه من الإصلاح ؛ لأنها تريد أن تحتج بالخلل على تمزيق الدولة وتقطيعها قطعًا يسهل عليها ابتلاعها، وأنه إذا حاول تقوية دولته لتتمكن من الاستقلال ظاهرًا وباطنًا، فإن دولها تتفق حينئذ على الإيقاع بها مرة واحدة، فأي مرجح للرضى بالتقطيع إربًا إربًا على الاستبسال والتعرض لإحدى الحُسنيين: حفظ الاستقلال أو موتة الأبطال؟” (مجلة المنار 6/428 وما بعدها).

إن في الكلام عِبَرًا كثيرةً أخرى، والمهموم بالإصلاح أولى بالوقوف عندها وتأملها واستخراج ما تسمح به عبقريته وتجربته، وهو –لاشك- أكثر مما سمحت به المساحة المرصودة للكتابة.


نشر في الألوكة