الخميس، ديسمبر 31، 2015

أعظم دروس النكبة الأندلسية

لئن كنا نحتاج إلى التاريخ لنتذكر به كيف كنا أمة عظيمة في ظل طوفان الهجوم والتغريب والتشويه، فنحن نحتاج إليه في ذات الوقت لندرك سنن الله في كونه وقوانين الاجتماع والصراع. ولا ينبغي أن يصرفنا التذكير بما كنا فيه من عظمة عما يفيدنا في حاضرنا ومستقبلنا.

لقد كانت النكبة الأندلسية من أعظم ما تألمت له الأمة في تاريخها، أن تغرب شمس الإسلام عن أرض أضاءتها ثمانية قرون، ولذلك لم يزل اسم الأندلس بعد خمسة قرون يثير في نفوس المسلمين شجونا ولوعة، إلا أننا نظلم أنفسنا ونظلم التاريخ والحقيقة ونظلم جيلنا والأجيال القادمة إن لم نأخذ منها ما ينفعنا في يومنا الحاضر هذا.

في المقالين السابقين (عظماء المحنة الأندلسية، عمالقة في جحيم المحنةالأندلسية) أردت إثبات ما كان عليه الأندلسيون من العظمة والبسالة في التمسك بدينهم رغم الجحيم الذي أنزله الإسبان بهم وتحت ميزان قوى منهار تماما، إلا أن الحقيقة لا تكتمل إذا توقفنا عند هذه الصورة، وإني لأحسب أن التوقف عندها والسكوت عن نصف الصورة الآخر من قبيل الخيانة التي لا تليق بمن يحترم نفسه فضلا عمن يخشى الله ويتحملها كأمانة.

نصف الحقيقة الآخر هو ما نعرض لصورة منه في هذه السطور:

(1)
ماذا يفعل الحكام المستبدون بالأمة

لقد عاشت غرناطة أياما عصيبة حقا حتى اضطرت إلى الاستسلام في نهاية الأمر، إلا أن هذا الاستسلام لم يكن الخيار الوحيد المتاح، بل لم يصل إليه الغرناطيون إلا بتأثير الحرب النفسية التي شارك فيها ملكهم نفسه، تشير النصوص إلى أن حاكم غرناطة كان يتواصل مع القشتاليين سرا وأن له يدا في إشاعة "الاستسلام" بين الناس، حتى تقدم إليه وفد من التجار (رجال الأعمال بمصطلح العصر) يطلبون منه الوصول إلى اتفاق تسليم المدينة فاتخذ ذلك ذريعة لعقد هذا الاتفاق الذي هو تتويج لمراسلات سرية جعلت فريدناند يوقف الحرب ويشدد الحصار، ولم يحفل برأي من أرادوا الاستمرار في الجهاد والحرب والمقاومة. وهكذا حصل الحاكم لنفسه على مزايا ومنافع ثم سلَّم البلد[1].

وهكذا هي سنة المستبدين، يملكون البلاد فيتنعمون بخيراتها ويذلون أهلها حتى إذا جاء دورهم وواجبهم سلموا البلاد وتركوها ونجوا بأنفسهم وأهليهم وأموالهم إن استطاعوا. والمسلمون حين يغفلون عن هذه السنة الماضية التي تكررت قبل كل قصة احتلال وسقوط يسيرون إلى نهايتهم بأيديهم، ويكون ذلك حين يرون في الخروج على المستبد فتنة ويتساهلون في ترك الشورى وفي الأخذ على يد الظالم وأطره على الحق، يحسبون بذلك أنهم يحافظون على أمان الناس وأموالهم وأعراضهم ويحفظون البلاد من طمع الأجنبي، بينما الوضع على العكس من هذا: إن ترك جهاد المستبد هو ما يفعل كل هذا، فهو يستذلهم ويستضعفهم في وقت تمكنه، فإذا جاء وقت ضعفه تركهم للأجنبي، بل مهد البلاد والعباد للأجنبي بما نشره فيهم من ضعف وذلة ورغبة في الاستسلام، فيذوق العباد والبلاد مرارة الاستبداد ثم مرارة الاحتلال، وقد تكون مرارة طويلة طويلة طويلة بحجم زوال الإسلام من البلد وإكراه الناس على التنصر وترك دين الله.

ولذلك لا ينبغي أن يستهين أحد بخطورة مسألة الحكم والسلطة في مصائر الناس، وآثار ذلك على دينهم ودنياهم، وعلى الأمة جميعا.

(2)
الناس على دين ملوكهم

صحيح أن الأندلسيين صمدوا كما لم تصمد أمة، تمسكوا بدينهم كما لم يحدث مثله في التاريخ فيما نعلم، مآثرهم سجلته وثائق محاكم التفتيش نفسها كما نقلنا في المقاليْن السابقيْن، حتى لم يعد أمام الإسبان بعد مائة وعشرين عاما إلا أن يطردوهم تماما من الأندلس، ولقد أثار ذهولي المتجدد قصة الإسبانية التي أسلم ولدها فرأته يصلي فتذكرت أنها حينما كانت صغيرة كانت ترى جدها يفعل مثل هذا، أي أن بعض الأندلسيين ورث دينه لأولاده على امتداد خمسة قرون رهيبة!!

هذا صحيح، وهو مثير للإبهار.. لكن الصحيح أيضا أن الأمة الأندلسية اختفت وانهارت، وأن شمس الإسلام قد غربت عن الأندلس، وأنها الآن صارت ديار كفر تشارك في الحرب على المسلمين.

ولهذا فمهما كان الأندلسيون عظماء كأمة، ومهما ظهر فيما أفذاذ كأفراد، فإن المحصلة النهائية هي زوال هذه الأمة وزوال هؤلاء الأفذاذ، فالناس على دين ملوكهم، ويا ليت شعري كم أندلسي لم يستطع منع ابنه من التنصر ولا ابنته من الزواج من إسباني ولا استطاع تعليم أبنائه اللغة العربية أو شعائر الإسلام.. لقد نجح أناسٌ، لكن المستحيل كل المستحيل أن نطالب الأندلسيين بالبقاء على دينهم لهذه القرون الطوال كأن شيئا لم يتغير عليهم، هذا هو الخيال والوهم، هذه هي مناقضة القوانين ومعاكسة التاريخ ومخالفة السنن.

ذلك ما نحتاجه في واقعنا، أن نفهم أثر السلطة في تغييب دين الناس وإدخالهم في الكفر بعد الإيمان، وتشويهها لهم وتبديلها لهويتهم ومعاركهم.. وهذا الانقلاب في مصر دليل شاهد؛ كيف يتحول الناس معه إلى الانهيار: تصير حركة المقاومة عدوا ويصير الصهاينة حلفاء، وتقف البلاد مع إسرائيل إذا حاربت غزة، ويُقتل الفلسطيني إذا عبر الحدود بينما يُفرج عن الجواسيس الصهاينة، ويُحذف من المناهج سير عقبة وصلاح الدين وتحرق كتب الأئمة والعلماء فيما تصير الراقصات أمهات مثالية ويصير الأسافل الأراذل حثالة البشر قادة وموجهين يعتلون المنابر ووسائل الإعلام.

إن دين الله باقٍ لا شك، لكن لا يعني هذا أن كل بلد أو شعب اعتنق الإسلام سيظل مسلما، الأمر أكبر وأخطر وأعظم من هذا الوهم، بل استطاعت الدول أن تخرج من بين المسلمين من تنصر ومن تعلمن ومن ألحد ومن تشيع ومن صار حربا على الدين.

إن ترك المستبدين، لا سيما إن كانوا عملاء وخدم لأعداء الأمة، يخرج جيلا مثلهم في نهاية الأمر رغم كل ما يمكن أن يبديه الجيل الأول والثاني والثالث من الصمود والتمسك بالدين.


(3)
مشاهد أندلسية

ولئن كان الجيل الأول هو الأصلب فلا يعني هذا أنه ينجو من المصائر الموعودة، بل يظهر فيه الفتق الأول في الأمة، ثم يضعف ويستمر ضعفه باستمرار السلطة القاهرة وتمكنها وتغلبها في النهاية.

ومثلما ذكرنا مشاهد العظمة، ينبغي أن نذكر مشاهد المأساة كذلك، وسنأخذها من ذات السجلات المتاحة لمحاكم التفتيش كما في دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الأندلسيون الموريسكيون والمسيحيون.. المجابهة الجدلية".

1. لقد شهدت الكتب التعليمية التي يتوارثها الأندلسيون سرا لتعليم أبنائهم الإسلام بالتطور المنحدر في اللغة العربية، ولربما تحتفظ العائلة بكتاب واحد تجمع فيه التعاليم ثم يضيف الجيل اللاحق إلى السابق، وهنا يظهر كيف ينحدر مستوى اللغة ومستوى الخط العربي من جيل إلى جيل، ثم لم تأت سنة 1540 إلا وكانت قشتالة وطليطلة خاليتان تماما ممن يعرف اللغة العربية[2].

2. ولقد تحول بعض المسلمين إلى النصرانية، ليس هذا فحسب، بل عمل كجاسوس وعين على غيره من المسلمين، وبعضهم وشى بمسلم رأى عنده كتابا لتعليم الإسلام أو رآه يكتب بالخط العربي أو حتى سمع منه كلاما "يُشَمّ منه رائحة الشعر"، وكثيرا ما سُجِّل إبلاغ بعض الناس عن أهاليهم، منهم امرأة أبلغت عن أختها وزوجها وخادمتهما أنهما لا زالا يمارسان الإسلام سرا، ومن أولئك رجل أبلغ عن والديه وخصَّ والدته بمزيد من الإبلاغ، وسجل لوي كاردياك أن "وشاية الأهل لم تكن نادرة"[3]. نعم.. لا يخلو أي مجتمع من أمثال هذا، لكن الشاهد المقصود أن أمثال هؤلاء هم من يزيدون ويرتفعون مع تغلب السلطة وتمكنها، ويمثلون نموذجا مغريا وناجحا في الدولة الجديدة، بينما يغيب ويخفت ويذبل الصالحون المتمسكون. لا سيما إذا استحضرنا ما تقوم به السلطة من إغراءات وتهديدات لا يثبت أمامها إلا أصحاب النفوس الكبيرة[4].

3. وينتشر في المجتمع المستضعف أنواع الضلال:

§         فيظهر الدجالون الذين يدعون الكرامات والاتصال بالسماء والقدرة على مخاطبة الأموات والتنبؤ بالمستقبل[5]، كما يكثر الأمل الكاذب والنبوءات والأحلام والرؤى المضللة وانتظار المُخَلِّصين كنوع من التفكير بالتمني.

§         ويتحول البعض عن دينهم ليس بدافع النجاة بل بأثر الفتنة في الدين، فمن ذلك حالة أندلسي تحول إلى اليهودية وقد كان اليهود مضطهدون كالمسلمين أمام محاكم التفتيش[6]، ومنهم من تحول إلى البروتستانتية التي كانت في ذلك الوقت حركة معادية للكاثوليكية وتبدو أقرب إلى الإسلام لا سيما في معاداة الصور والتماثيل، وكانوا مضطهدين أيضا، بل من المسلمين من صار راهبا بروتستانيا ومنهم من قسا بروتستانيا وأُحْرق مع أختيه، ومنهم من اختلط لديه الإسلام والبروتستانية وتداخلا كأنهما دين واحد أو مذهب واحد، كذلك نشأت فكرة التقريب أو التوحيد الديني بين الإسلام والبروتستانتية بفعل الاضطهاد المشترك والتعاون المشترك[7]، فكل هذا قد حدث حتى وإن كان التيار العام منهم يفهم العقيدة البروتستانية بل منهم من استعملها لضرب الكاثوليكية والبروتستانتية معا في مجادلاته أو حركته الدعوية بين الإسبان أو في تثبيت المسلمين على دينهم، بل يشير الباحث إلى أن المسلمين قد يكونون هم مصدر دخول كتب لوثر وكالفن إلى إسبانيا[8].

4. ويظهر في الأمة المغلوبة أخلاق الاستضعاف، كالخوف والخبث واللؤم والكذب، حتى إن فقيها أندلسيا كان يعظ إخوانه الذين سيهربون إلى تونس بضرورة أن يتخلصوا من هذه الطباع إذا وصلوا إلى أرض الإسلام لأنه لا يُقبل منهم إضمار شيء وإظهار ضده حينئذ[9]، كما تظهر فيهم فتاوى الاستضعاف، وقد عُثِر على مخطوطات فيها فتاوى للأندلسيين، فمنها ما يفتيهم بسب النبي ساعة الاضطرار ولكن بقول "محمد" وليس "محمد رسول الله" أو بقول "حمد" وبصرف النية إلى شخصية أخرى، ومنها ما يفتيهم بكيفيات الصلاة سواء الصلاة بالعين أو بالإشارة أو تأخيرها إلى الليل ونحو هذا في الخمر ولحم الخنزير وسائر الكلام، وفي الفتاوى مجهود وحيل وأفكار لتحقيق المراوغة المطلوبة لأمة مستضعفة[10]. ولكن الدرس الذي ينبغي أن يستفيده المشايخ والعلماء من هذا أن حالهم في دولة الإسلام لا تقارن بحالهم في دولة الكفر أو الاستبداد، وخير لهم وللأمة أن يقودوها في الثورة والجهاد من أن يلتمسوا لها ولأنفسهم الحيل والمعاذير في ظل الذل.

5. أما اللاجئون أو المهاجرون فإنهم يصيرون رهينة وأداة في صراعات الكبار، لا سيما المهاجرين والمطاردين منهم، وهكذا صار الأندلسيون الذين استعملهم الولاة والملوك أحيانا في صراعاتهم الداخلية، وقُتِل بعضهم شنقا أو تعذيبا أو في المعارك التي تنشب بين الأطراف المتعارضة، فقد استعملهم والي بايرن في أطماعه للتوسع في أرض نافار، وكذلك هنري الرابع ملك فرنسا في صراعاته[11]. وكان الأندلسيون الذين هاجروا إلى فرنسا قد شملتهم عناية العثمانيين والمغاربة من خلال العلاقات السياسية بين فرنسا وبين العثمانيين وبينهم وبين السعديين، إلا أن هذه العناية لم تشمل الجميع ولا كانت في كل الوقت، بل عالم السياسة مليئ بالتقلبات وحافل بالمناورات، وقد لحق الأندلسيين في فرنسا الكاثوليكية الإجبار على التنصر أيضا، وكذلك طردوا لمرة ثانية، وترصد الروايات تحولهم إلى متسولين بأبواب الكنائس يبحثون عما يسد رمقهم ويلاقون من الفرنسيين الصدَّ والكراهية والبغضاء، بل وطالب بعضهم بمذبحة تنهيهم وتبيدهم على غرار مذبحة سان بارتلمي، وبداية من عام 1617 يختفي ذكر الأندلسيين من سجلات المجامع الكنسية فإما طُردوا أو تنصروا أو حافظوا على أنفسهم بشكل أشد سرية، أو كل ذلك معا[12]. ولم ينجُ الذين وصلوا إلى أمريكا أيضا، فلقد أقيمت هناك محاكم للتفتيش كذلك، وقد ألحق لوي كاردياك بدراسته هذه دراسة أخرى عن أحوال الموريسكيين في أمريكا.

وأختم هذه السطور بقصة مأساوية لامرأة أندلسية، تكاد تتلخص في حياتها قصة المأساة نفسها من سائر وجوهها:

وُلدت ماريا لويز لعائلة أندلسية في قرية غرناطية، وعلمها أهلها الإسلام بعد الحادية عشرة كما كانت عادتهم، وذلك أن القساوسة كانوا يحاولون استدراج الأطفال لمعرفة إخلاص أهليهم فحملهم ذلك على تأخير تعليم الإسلام لأبنائهم حتى سنّ التمييز، وهكذا نشأت ماريا وتعلمت وفهمت وأخلصت للإسلام كما تعلمت كيف تخفي دينها وتراوغ في الاحتفاظ به، وحيث كانت ضمن قرية غرناطية فقد كانت الحياة هادئة إلا في الأيام التي يفاجئهم فيها القساوسة، وصارت تصلي في المساء وتصوم رمضان كغيرها من أهل القرية، إلا أن تطورا مثيرا حدث في حياتها لا نملك تفاصيله إذ تزوجت في الرابعة عشرة من أحد "النبلاء" وأخذها معه إلى أمريكا، إلا أنها استمرت محتفظة بدينها حتى السابعة والعشرين، ولما طال عليها الأمد وبلغت الخامسة والأربعين اعترفت للكاهن في جلسة الاعتراف بأنها كانت مسلمة وأنه لم يزل في نفسها بعض آثار من تعلقها به، وطالبت بأن تُحرق إن كان هذا يطهر روحها. إلا أنهم –ولأسباب اجتماعية سياسية- قرروا عليها غرامة بسيطة إذ استوثقوا من صدق "توبتها"!!

فمن منا يرضى لبناته هذا المصير؟!!

هذا المصير ليس مستحيلا ولا بعيدا.. فقط لو استقر في بلاد الإسلام نظام علماني استبدادي يُطارد الدين وأهله وينشر الكفر ويعمل له.

نشر في ساسة بوست




[1] مجهول: نبذة العصر ص121 وما بعدها، محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/242.
[2] لوي كاردياك ص70، 72.
[3] لوي كاردياك ص70، 76.
[4] لوي كاردياك ص104.
[5] لوي كاردياك ص75.
[6] لوي كاردياك ص87.
[7] لوي كاردياك ص87، 132، 133، 136 وما بعدها.
[8] لوي كاردياك: ص126 وما بعدها.
[9] لوي كاردياك ص95، 96.
[10] لوي كاردياك ص92.
[11] لوي كاردياك ص134، 135.
[12] لوي كاردياك ص140 وما بعدها.

الثلاثاء، ديسمبر 29، 2015

موقع مصر في المشروع التركي

قال المفكر ورئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو، في واحدة من آخر أوراقه البحثية المنشورة: "تركيا، بجغرافيتها وتاريخها وحيوتها البشرية واحدة من تلك الدول التي تستطيع لعب دور رئيسي في كل هذه المجالات، تعتمد هذه القدرة على استطاعة تركيا التكيف مع التحولات السريعة للعناصر التي وفرها لها العمق التاريخي والجغرافي والاستفادة منها دون الفصل بينها، وبصيغة أوضح: إذا فشلت تركيا في مواكبة التغيرات فإنها ستُلقى خارج التاريخ أو ستكون من ضحايا أمواجه المتدفقة. إن تاريخ تركيا وموقعها الجغرافي يستحيل معه أن تقف من التغيرات العالمية موقفا سلبيا"[1].

قبل هذه المقولة بخمس سنوات كان جورج فريدمان –رئيس مركز ستراتفور الاستخباري- يتوقع في كتابه "المائة عام القادمة" بتطور في القوة التركية، قال: "عبر التاريخ، كانت تركيا القوة الأقدر على تكوين إمبراطورية خارج حدود العالم الإسلامي، بالتحديد منذ غزوات المغول في القرن الثالث عشر، يبدو القرن بين 1917 و 2020 كشذوذ إذ تقلص حكم تركيا ليشمل فقط آسيا الصغرى، بينما كانت القوة التركية العثمانية التي حكمت ما سوى إيران حقيقة واقعة لزمن طويل. لقد حكمت تركيا البلقان والقوقاز والجزيرة العربية والشمال الإفريقي. في سنة 2020 ستعود هذه القوة إلى الظهور مرة أخرى"[2].

وإن دولة ينتظرها هذا المصير، لا بد إذ تخطط له أن تنظر إلى الخريطة من حولها، وكنا قد ذكرنا في مقال سابق أن المحيط التركي ينابذها العداوة لأسباب تاريخية وأن سياسة تصفير المشكلات لم تعد صالحة لعصر ما بعد الثورات، وأن الهوية هي المزاج السائد لصراعات المستقبل.

أقرب مشاريع تركيا الكبرى هو مشروع 2023، وقد أطال أردوغان وداود أوغلو الحديث عنه، فضلا عن المشروع الطموح لما بعد نصف قرن آخر.

وإذا حاولنا الدخول إلى عقل صانع القرار التركي فلا بد أن تكون مصر ضمن أهم أوراق تفكيره، إذ لا غنى لتركيا في مشروعها الكبير عن مصر، فمصر هي مفتاح العالم العربي، وهي أكبر البلاد العربية سكانا (لا سيما وتركيا ستعاني انخفاضا في الخصوبة ونسبة الشباب[3])، كما أن موقعها الجغرافي في غاية الأهمية فهي المدخل إلى إفريقيا ودولة محورية في شرق المتوسط وتسيطر على بحرين بينهما قناة السويس، وهي غنية بالموارد الخام اللازمة للصناعات والتي كادت أن تفتح تعاونا اقتصاديا ضخما بين مصر وتركيا في فترة الرئيس مرسي. ولا تزال مناطق الصحراء الشرقية غنية بالمناجم والمحاجر. كما أن الصحراء الغربية تطفو فوق مخزون كبير من المياه جعل البعض يقول بإمكانية إنشاء نيل آخر اعتمادا على هذه المياه الجوفية. وقبل فترة قليلة اكتشف حقل غاز طبيعي كبير وُصِف بأنه "واحد من أضخم الاكتشافات في التاريخ" إذ يمثل نصف ما لدى مصر من احتياطات الغاز الطبيعي كلها ويغطي ثمانية عشر عاما من الاستهلاك الحالي لمصر[4].

وبالإضافة إلى ذلك فإن مصر ذات ثقل ثقافي وتاريخي عظيم، وهي العضد الأهم لتركيا كرأس حربة للمشروع السني في المواجهة المرتقبة ضد الخطر الروسي وضد المشروع الإيراني، وفيها الأزهر الشريف الذي يمثل سمعة تاريخية ودينية أكثر منه آلة عمل ذات فاعلية، وإن كان يمكن في ظل نظام آخر أن تعمل آلته بفاعلية وبقوة أيضا. وفي مصر أقوى الحركات الإسلامية العربية التي تمثل رأس الحربة الفكرية والدعوية ضد المشروعين: الروسي والشيعي، كما تمثل رأس الحربة في دعم المشروع السني. وتمتلك الحركة الإسلامية العربية قدرة فائقة على تجييش الشعوب العربية والمسلمة إذا امتلكت بحق ناصية التوجيه.

فمصر –تظل بهذه المعطيات- هي أقوى حلفاء المنطقة إن كانت على توافق مع تركيا، وهي كذلك أسوأ ما يضر بتركيا ويهدد مصالحها إن كانت على خلاف معها، ولا يمكن ضمان التوافق بين مصر وتركيا إلا بنظام سياسي يعبر عن مصالح الشعب المصري حقيقة.

تشير توقعات المخابرات الأمريكية بأن منطقة الجزيرة العربية والشام والعراق مقبلتان على فوضى خلال العقود القادمة[5]، يظل صمام الأمان لتركيا وعمقها الاستراتيجي موجودا بمصر، بل إن جورج فريدمان –وهو من يؤخذ كلامه كتوجهات لا كمجرد توقعات- يرى الصورة في عام 2020م كالآتي: تركيا مستقرة نسبيا وسط بحر من الفوضى وتقابل التحديات من كل اتجاه، ففي الشمال أزمات روسية داخلية وآثار الاشتباك الغربي الروسي في مساحة أوروبا الشرقية، وفي الجنوب الغربي تظل منطقة البلقان في فوضى دائمة، ولا يمكن التنبؤ بما سيكون في إيران على الجنوب الشرقي، وستدخل منطقة الجزيرة العربية والخليج في أزمات كبرى مع انخفاض أسعار واحتياطات النفط وندرة الصناعة وقلة عدد السكان وبدء التنازع بين أمراء السعودية وكذلك الفوضي التي ستنشب في مشيخات الخليج الأخرى[6]. في ظل هذه الصورة تبدو مصر، وهي البلد التي لا تطول فيها الأزمات عادة لطبيعتها وحاجة أطراف كثيرة إلى استقرارها، البلد التي يمكن المراهنة عليها كحليف أساسي ضمن الرؤية التركية لمستقبل هذا الشرق الأوسط.

ولهذا يلتقي في مصر الخياران المتاحان أمام السياسة التركية، ونقصد بهما الخيار المصالح الاقتصادية وخيار الهوية الإسلامية، بل هما في الحالة المصرية يتضافران بحيث يعطيان في اجتماعهما التأثير التضافري الذي هو أكبر من مجموع تأثيرهما حسابيا.

وفي اللحظة الحالية يبدو النظام المصري القائم الآن تهديدا واضحا لتركيا ومصالحها، إلا أن فشله العام قد يتحول إلى فرصة سانحة لتركيا بدخولها على خط مواجهته، إذ ينتشر في التقارير المرفوعة للإدارة الأمريكية من لجان متخصصة أو مراكز دراسات نغمة تقول باستحالة الاعتماد على السيسي في مكافحة "الإرهاب"، فقد انتهى تقرير مطول لخبير مرموق في الشأن المصري إلى أن النظام المصري لا يستطيع أن يكون شريكا في مكافحة الإرهاب بل على النقيض من ذلك فإنه يمثل عبئا في هذا الملف[7]، وإلى ذات النتيجة انتهى تقرير آخر كتبه إليوت إبرامز لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي[8] وتقرير آخر كتبه إيريك تريجر المحلل المعروف ذو الميول الصهيونية[9]، وقد أشارت التقارير الثلاثة إلى مسألة لا يُنتبه لها كثيرا وهي أن النظام المصري يتعامل مع كل الإسلاميين كشيء واحد، وهو ما يجعله غير كفء في الاعتماد على معلوماته لدى أي جهاز أمني أو مخابراتي غربي، كما أن هذا التعامل أدى إلى اختلاط السجناء من شباب الثورة ومن لا انتماء لهم مع الإخوان مع الجهاديين، وذلك ما أدى إلى اعتناق أفواج جديدة من الشباب لفكر الجهاديين مما يُتوقع معه أنه قد صُنِع جيل جديد سيعمل ضد هذا النظام. كذلك فإن بعض الإشكاليات تظل عالقة بين الطرفين: الأمريكان والعسكر المصري، وقد رصد بعضا منها ستيفن كوك –وهو خبير أمريكي متخصص في الشأن المصري، وممن يوصي بمزيد من الدعم الأمريكي للسيسي- منها: أن الأمريكان يريدون إعادة هيكلة الجيش المصري ليتحول من جيش نظامي مقاتل إلى فرق لمحاربة الإرهاب بينما يرفض العسكر المصري الاستجابة لهذا حفاظا على امبراطورية العسكر السياسية والاقتصادية، وهم يربطون قدرتهم بمكافحة الإرهاب على مزيد من الدعم الأمريكي العسكري والمالي، بينما يبدو الأمريكان غير مرحبين بزيادة الإنفاق في هذا السبيل[10].

والمقصود أن المصلحة التركية تقتضي الدفع ضد هذا النظام الذي يمثل الآن تهديدا لمصالحها وستزيد خطورته وتهديده كلما استقر أكثر.

فهل يمكن أن تندفع تركيا أكثر في دعم الثورة المصرية لإسقاط نظام العسكر؟ لا سيما إن كان بينها وبين هذه الغاية عقبات أهمها على الإطلاق: إسرائيل.

نشر في تركيا بوست




[1] Ahmet Davutoglu: “The Restoration of Turkey: Strong Democracy, Dynamic Economy, and Active Diplomacy”, (Ankara, SAM, Vision Papers, no. 7, August 2014), p. 3.
[2] George Friedman: The Next 100 Years: A Forecast for the 21st Century, (New York, Double day, 2009), p. 146.
[3] NIC: Global Trends 2030, (Dec. 2012), p. 25.
[4] Simon Henderson: Egyptian Offshore Gas Find Curtails Israel's Options, (the Washington Institute, 31 Aug. 2015)
[5] NIC: Global Trends 2030, (Dec. 2012), p. 74, 75.
[6] George Friedman: The Next 100 Years: A Forecast for the 21st Century, (New York, Double day, 2009), p. 145.
[7] Shadi Hamid: Sisi’s Regime Is a Gift to the Islamic State, (Foreign Policy, 6 Aug 2015).
[8] Elliott Abrams: Is President Sisi a Bulwark Against Terrorism?, (Council on Foreign Relations, 19 Aug 2015).
[9] Eric Trager: Egypt's Durable Misery: Why Sisi's Regime Is Stable, (The Washington Institute 21 Jul 2015).
[10] Steven A. Cook: How to Get Egypt’s Generals Back on Our Side, (Foreign Policy, 5 jan 2015); Thanassis Cambanis: Egypt’s Sisi Is Getting Pretty Good … at Being a Dictator, (Foreign Policy, 22 May 2015).

الاثنين، ديسمبر 28، 2015

في ذكرى وفاة جلال كشك

كنت قد اكتشفت جلال كشك في صيف (2002م) مصادفة، صديق لي اشترى كتبا ظنها للشيخ عبد الحميد كشك، فلما اكتشف أنها لشخص آخر أعطانيها وقال: ستنفعك أنت ولن تنفعني، كتب عن الفكر والسياسة. وليس يعرف فرحة الشاب الفقير –حينها- المحب للقراءة بمن يهديه كتابا إلا من ذاق حاله، وفي أيام التهمت الكتابين ثم شغفت بالرجل فبحثت عن كتاب ثالث فوجدت أمامي كتابه "ثورة يوليو الأمريكية" فالتهمته، لكنه سبب لي صدمة معرفية كبرى، فالشاب ذي التسعة عشر عاما وإن كان يبغض عبد الناصر بشدة لم يكن يتوقع إطلاقا أن ثورة يوليو تدبير أمريكي! ولا أن هيكل مزور تاريخ مفضوح وكذاب إلى هذا الحد!

كنت ساعتها في إجازة الصيف وعزمت أني حين أسافر للجامعة سأبحث عن المؤلف في القاهرة وألتقيه. لم تمرَّ أيام حتى كنت اقرأ حوارا صحفيا مع الناصري عبد الحليم قنديل بمناسبة ذكرى يوليو، فسأله الصحفي: ماذا تقول في الوثائق التي نشرها جلال كشك؟ فقال عبد الحليم: جلال كشك رحمه الله .....

طاحت رأسي وغامت الدنيا أمام عيني حين قرأت "رحمه الله"، وصرت أحدق في العبارة أريدها أن تكون خيالا أو توهما مني فإذا بها ترقد أمامي واضحة صارخة تعذبني وتقطع أملي وتهدم أحلام تتلمذي عليه!!

مضى على وفاة جلال كشك اثنا عشر عاما (توفي 5 ديسمبر 1993م، بأزمة قلبية أثناء مناظرة له مع نصر حامد أبو زيد)، وما زال تراثه يحتاج لمن يجمعه وينهض به ويحلله ويفيد منه. كان عملاقا عظيما، كما كانت له أخطاء وزلات قاسية، وجلَّ من لا يخطئ، إلا أنه يظل أحد الأقلام السامقة في تاريخ القرن العشرين بل في كل التاريخ الحديث.

في هذه السطور أنقل بعضا من كلماته التي حفرت نفسها في قلبي، تذكيرا به وإشارة له.

(1)

"الإسلام هو دين التوحيد المطلق، الدين الذي اعترف بالألوهية المطلقة الكاملة لله سبحانه تعالى، فليس في مفهوم الله، عند المسلم، شبهة نقص ولا شبهة مماثلة للكون أو المادية أو الكائنات الفانية أو المتحولة... وليس في الفقه الإسلامي، أو التصور الإسلامي، تلك الملامح البشرية للإله، كما في أساطير اليونان حيث الرب يعشق ويسرق ويتآمر ويغدر ويخضع لقانون عام بل وتنزل به العقوبات! ولا كما في الأساطير المنسوبة للتوراة، حيث يصارع الرب الإنسان... كما رفض الإسلام رفضا قاطعا صريحا أية مجاملة لمحاولة خلق صلة عضوية بين الله والإنسان كما في العقيدة المسيحية عن "الابن" وما صاحبها عن "الطبيعة الواحدة" و"الطبيعتين". نفى الإسلام ذلك واعتبر أن مجرد ترديده كفيل بتدمير الكون. والخلاف الذي دار حول خلق القرآن، ينطلق من هذا التأكيد على التوحيد والتنزيه. فالذين قالوا بخلق القرآن رفضوا مقولة "في البدء كانت الكلمة" إذ ليس في الإسلام بداية ولا بدء إلا بالله سبحانه وتعالى وحده، والذين رفضوا القول بخلق القرآن نزَّهوا "كلام الله" أن يكون مخلوقا باعتباره صفة منسوبة لله سبحانه وتعالى، والله لا "تلحق" به صفة، ولا "تتأخر" عنه صفه، فهو منذ الأزل وإلى الأبد"[1].

(2)

"التوحيد هو قاعدة الفكر الإسلامي، ومن ثَمَّ القوة المُحَرِّكة والمُوَجِّهَة لفلسفة ونظام المجتمع الإسلامي، فنقطة الانطلاق هي تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وعبودية الأوهام، وعبودية الكائنات والطبيعة، فهو حرٌّ مطلق، منذ لحظة تسليمه بالعبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، أو بقبوله شرح معنى "لا إله إلا الله .. نفي وإثبات" وطرح هذا الفهم وقبوله، يقود إلى رفض الاستكانة لاستبداد السلطة، أي يطرح تلقائيا قضية السلطة وهي أهم القضايا السياسية، أو القضية الرئيسية في كل ثورة كما قيل"[2].

(3)

"الجاسوس مهما تكن مهارته، يحتاج إلى مناخ خاص لكي ينجح في إنزال ضربات حاسمة، يحتاج إلى مناخ مجتمع متفسخ لكي يستطيع أن ينفذ فيه. ولا شك أن الخمر والنساء لا يمكن أن تكونا أسلحة مثمرة في مجتمع قيادته متدينة. كما أن المال لا يُجدي في مجتمع يحاسب قياداته ويسألها "من أين لك هذا؟". وأهم من ذلك كله، هو إرادة القتال، ففي مجتمع يعيش حقيقة الصراع المصيري ضد عدو قومي متربص عند حدوده، يصبح كل مواطن جهاز أمن، وتصبح كل قراراته وسلوكه في خدمة المعركة المنتظرة"[3].

(4)

"كل كنائس العالم العربي لم تظهر في مواجهة الإسلام –كما يهمس اليوم في آذانها المفسدون- ولا احتمت بالصحراء أو الجبل خوفا من المسلمين، بالعكس لقد ظهرت كانشقاق عن كنيسة الغرب، كعصيان في وجه السلطة الأجنبية، سلطة المسيحية الغربية وليس ضد الإسلام. وما من دارس للتاريخ ينكر أنه لولا الفتح الإسلامي، لولا سيوف المسلمين، لاختفت هذه الكنائس في ظل الهيمنة الرومانية أو البيزنطية فالأوروبية، ولسيطرت كنيسة واحدة واختفت تماما الأقليات والكنائس المنشقة، كما حدث في أوروبا قبل عصر النهضة، أو ظهور القوميات. وهذه حقائق يعرفها المخلصون من أبناء وقادة هذه الكنائس مع المسلمين لا يحدث إلا في فترات النفوذ الأجنبي في البلاد العربية"[4].

(5)

"المخابرات لا تصنع الثورات، إنما الثورات تتجمع لعوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية، ولعبة المخابرات (الأجنبية) المفضلة هي مسايرة التاريخ لتبديدها وتفجيرها سلميا.. وليست معارضتها.. فعندما يدرك خبراؤها أن سقوط النظام القائم حتمي، يبدأ التخطيط لما بعد سقوطه.. ومن هنا بدأ التخطيط للسيطرة على الثورة، لإجهاضها وحرفها، بل واستغلالها في تدمير ذات الأهداف التي قامت الثورة من أجلها"[5].

(6)

"لا أحد يجادل في أن الحل الإسلامي يحتل المرتبة الأولى في تفكير الجماهير وقطاع عريض من قياداتها الوطنية، ودعنا من الطفح [يقصد النخبة العلمانية] الذي يشوه وجه المجتمع بفعل إصابته بمرض الإفرنجي.

الجماهير وطليعتها الوطنية المخلصة تطرح الحل الإسلامي باعتباره الحل الأجدر بالتجربة ومن ثم جاءت شركات توظيف الأموال في إطار هذا الاقتناع أو إن شئت لاستثمار هذا الاقتناع... وكما قلنا أكثر من مرة ليست الفتوى الشرعية هي أهم ما في دعوى وقف التعامل بالربا، ومن ثم لا يجوز أن يشغلنا حوار الفقهاء والمتفقهين عن الاهتمام بنتائج هذه الدعوة.. أو على الأقل هكذا ينظر إليها خصومها.. فهي تشكل تحديا خطيرا للنظام المالي العالمي لأنها برفض الفائدة وطرح فكرة المشاركة في التمويل والمسؤولية والعائد فإن أول نتائجها هو حرمان النظام المالي من مدخرات وودائع المسلمين، مما يشكل نقصا كبيرا في مواردها، ومن الطبيعي أن تتصدى هذه البنوك لمثل هذه الدعوة بكل وسائل المقاومة ومنها شراء الكُتَّاب والخبراء وبعض رجال الدين المتحررين للفتوى ضد صيغة شركات توظيف الأموال... وكلها محاولات لإخفاء جوهر القضية وهو إخراج أموال المسلمين من قبضة البنوك الأجنبية، من قبضة الرأسمالية العالمية.. أما الشعارات فهي مجرد وسائل.. فالحرام هو إعانة عدونا بمالنا، والحلال هو الاستقلال بمواردنا ومدخراتنا، وكل فتوى تتعارض مع هذا الهدف فهي الكفر البواح"[6].

(7)

"وبعدُ، فما حيلتي .. وقد حُرمت من فرصة تغيير التاريخ بالوسيلة الحاسمة والفعالة -أي السيف-، ما حيلتي إلا أن أُعين أولئك الذين فضَّلهم الله على القاعدين، الذين يقفون اليوم أو غدًا للذود عن حرية الوطن، وسيادته واستقلاله. ما حيلتي إلا أن أعين هؤلاء الذين يصنعون مستقبلنا المشرق، وينسجون من حلكة الواقع فجر الغد المنتصر .. أقول ما حيلتي أنا العاجز عن القتال، إلا أن أعينهم على فهم التاريخ، أُجاهد معهم بقلمي، أُعرّفهم بأن أجدادهم قاتلوا وانتصروا؛ لأنهم آمنوا، {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين}. اللهم فاغفر لي ضعفي وعجزي، ويسِّر لي من القراء مَن إذا انتفع عمِل، ومَن إذا وجد خطأ نبّه إليه .. واغفر لي ما أكون قد نسيت أو تأولت فأخطأت"[7].

رحم الله محمد جلال كشك، وعوضنا خيرا منه.




[1] خواطر في الجهاد والأقليات والأناجيل ص11، 12.
[2] السعوديون والحل الإسلامي ص89، 90.
[3] النابالم الفكري ص61، 62.
[4] رسالة التوحيد 1/7، 8.
[5] القومية والغزو الفكري ص217، 218.
[6] الناصريون قادمون ص155.
[7] ودخلت الخيل الأزهر ص29، 30.