الثلاثاء، يونيو 30، 2015

من مآثر الأتراك في رمضان (2) فتح بلجراد

ذكرنا في المقال الماضي مأثرة للجنود الأتراك لما كانوا ضمن جيش الخلافة العباسية، واليوم نحكي قصة مأثرة وقت أن كانوا في ذروة الدولة العثمانية.

يمكن القول بأن مدينة بلجراد، عاصمة بلاد الصرب، كانت المقياس الصادق لأحوال الدولة العثمانية، فإذا كان العثمانيون في قوة ومنعة كانت بلجراد لهم، وإن كانوا في ضعف وتراجع كانت للصرب أو للمجريين أو للنمساويين.
ومن قبل ذلك جرت ثلاث محاولات كبرى فاشلة لفتح المدينة، منها محاولة قبل فتح القسطنطينية نفسها! ثم أنعم الله تعالى على المسلمين وفتحها عليهم في شهر رمضان (927 هـ) على يد السلطان سليمان القانوني.

المحاولة الأولى

تبدأ القصة حين كانت الدولة العثمانية في نهوضها الثاني، وكان السلطان مراد الثاني يتهيأ لفتح القسطنطينية، وقد كانت خطة الدولة العثمانية هي فتح كل ما حول القسطنطينية قبل فتحها، لذلك توغلوا في أوروبا وفتحوا كثيرا من المدن ليقطعوا المدد عنها ما استطاعوا وليتمكنوا من حصارها بريا.

وقد حقق السلطان مراد الثاني بعد جهاد كبير السيطرة على مناطق واسعة في أوروبا إما بالحكم المباشر أو بالنفوذ والسيادة التي اعترف بها أمراء الأفلاق (الجزء الجنوبي رومانيا) والبغدان (مولدوفيا) والأرناؤوط (ألبانيا)، وغيرها من الأنحاء.. مما جعل الخطوة التالية هي القسطنطينية.

في تلك اللحظة تمرد أمير الصرب جورج برنكوفيتش على السيادة العثمانية، فتوجه السلطان بجيشه إلى بلاد الصرب فحاصر مدينة سمندرية لثلاثة أشهر حتى فتحها، وفرَّ برنكوفيتش هاربا إلى بلاد المجر، ثم حاصر بلجراد لستة أشهر إلا أنها استعصت عليه واستبسل جنودها في الدفاع عنها.

وكانت هذه الحرب هي مقدمة تحالف صليبي واسع دشَّنه ملك المجر، واشتركت فيه البابوية وبولندا وجنوة والبندقة والصرب والأفلاق والبيزنطيون وكتائب من الألمان والتشيك، أوقع بالعثمانيين هزائم كبيرة اضطرت السلطان مراد لتوقيع معاهدة هدنة لعشر سنوات تنازل بمقتضاها عن الأفلاق للمجر وردَّ للصرب بعض المواقع واعترف بجورج برنكوفيتش أميرا على الصرب، إلا أن البابا دخل على الخط وحرض ملك المجر على نقض الهدنة واعتبرها فرصة ممتازة للقضاء على العثمانيين في أوروبا، وجدد ذكريات الحروب الصليبية، وجمعت أوروبا جموعها وهاجموا بلاد البلغار في لحظة عصيبة على الدولة العثمانية، وخاضوا مع العثمانيون معركة هائلة عند مدينة فارنا البلغارية أسفرت عن نصر مؤزر مبين للعثمانيين، وقُتِل ملك المجر ومندوب البابا وتشتت الحلف الصليبي. وخرجت المجر (التي نقضت المعاهدة) من معادلة القوى الأوروبية المتصارعة لعشر سنوات على الأقل بعد هذه الهزيمة الساحقة.

المحاولة الثانية

وكانت بعد فتح القسطنطينية، حيث سار السلطان محمد الفاتح إليها (1455) لإنهاء وضعها كمركز للتمردات الصربية تنشط كلما عانت الدولة أي اضطرابات، وكقاعدة متقدمة للجيش المجري ضد الدولة، وكحاجز ضد فتح بلاد المجر.

ولم يكن الأمر داخل المدينة مستقرا، فالصرب –وهم أرثوذكس- خاضعون لحكم ملك المجر الكاثوليكي، وتثبت الروايات التاريخية كيف كان الأرثوذكس يفضلون سيادة المسلمين على سيادة الكاثوليك لما يتمتعون به من حرية دينية في ظل المسلمين لا يلقون شيئا منها في ظل الكاثوليك. ومع هذا فقد كان داخل بلجراد في تلك اللحظة واحد من أعظم أبطالهم التاريخيين: هونياد، الذي تجمع المصادر الإسلامية والنصرانية على بسالته وبطولته، واستطاع أن يصمد صمودا هائلا في وجه الجيش العثماني ويدير أمر الحصار حتى رُفِع الحصار وعاد العثمانيون دون أن يفتحوها، إلا أنه أصيب بإصابات بالغة توفي منها بعد عشرين يوما فحسب!! وصدق الذي قال: النصر صبر ساعة!

وكان هونياد قد لقي قبل ذلك هزيمة قاسية أمام العثمانيين وفرَّ منهم حتى اختبأ في بركة ماء لثلاثة أيام، فلما ظهر سلَّمه الصرب إلى العثمانيين لما بينهم من عداوة المذهب، ثم أطلقه العثمانيون بشرط ألا يقاتل مرة أخرى على أرض صربية (وهو المجري الكاثوليكي)، لكنه لم يف بعهده وحرمهم بهذا الدفاع التاريخي عن بلجرد من أن تكون في سلطانهم لستين سنة!

وما إن مات بعد انتهاء الحرب حتى استسلمت الصرب للسيادة العثمانية مقابل جزية سنوية، ولكنها لم تدخل في أملاك الدولة العثمانية. وحين مات محمد الفاتح كانت جميع بلاد البلقان قد صارت في أملاك الدولة العثمانية ما عدا بلجراد وبعض جزر البحر المتوسط التابعة لجمهورية البندقية.

الفتح

ثم جاء الفتح على يد أعظم السلاطين العثمانيين، سليمان القانوني، وذلك حين أرسل سفيرا إلى ملك المجر يطالبه بالجزية، وهناك رفض القصر استقبال السفير، ثم أخذوه فجدعوا أنفه وقطعوا أذنه وطافوا به المدينة ثم أطلقوه، وتقول روايات أخرى أنهم قتلوه، فجهز سليمان القانوني جيشا هائلا قاده بنفسه وتوجه إلى بلاد المجر، وجعل في مقدمة الجيش فرقة لفتح مدينة شابتس القريبة من بلجراد، ففتحوها (2 شعبان 927هـ) ثم القت الجيوش وسارت إلى بلجراد فضربت عليها الحصار حتى انهارت دفاعات المدينة واستسلم الجنود المجر في (25 رمضان 927 = 29 أغسطس 1521م) ودخلت الجيوش العثمانية إلى المدينة المنيعة، عاصمة الصرب، التي عجز عنها مراد الثاني ومحمد الفاتح. وصلى سليمان القانون الجمعة في بلجراد. وكان من الأخبار التي تهتز لها أروربا لزوال الحواجز بين العثمانيين وبين بلاد المجر.

ولم يمض كثير وقت حتى بدأ العثمانيون في حصاد ثمار الفتح، فقد انطلق الجيش العثماني إلى عاصمة المجر (بودا بست) وقد انقلب الوضع وصارت بلجراد قاعدة عسكرية إسلامية متقدمة ضد المجر، وقاد سليمان القانوني جيشه وافتتح عدة قلاع على الطريق حتى وصلوا إلى وادي موهاكس، وهناك دارت إحدى أكبر المعارك في التاريخ العثماني (معركة موهاكس: 20 ذي القعدة 932هـ = 28 أغسطس 1526م) والتي انتصر فيها العثمانيون انتصارا كاسحا أبيد فيها الجيش المجري وقُتِل ملكهم لويس، ودخلوا به عاصمة المجر نفسها (بودا بست) (3 ذي الحجة 932هـ = 10 سبتمبر 1526م).

صحيح أن العثمانيين استولوا على عاصمة المجر، لكنهم فضلوا أن تكون في ظل سيادتهم لا أن يحكموها مباشرة، لما في بعدها الجغرافي وظروفها الاجتماعية من صعوبات وتكاليف، ولذلك فقد عهد بها سليمان القانوني لأحد تابعيه، وهو يوحنا زابوليا حاكم ترانسلفا (الإقليم الغربي من رومانيا) وانتخبه المجلس الهنغاري/ المجري، ولما تآمرت النمسا لخلعه جهز سليمان جيشا آخر ردَّ به زابوليا إلى الحكم، بل وسار إلى حصار فيينا ذاتها عاصمة امبراطورية النمسا وقلعة آل هابسبورج الأقوياء.

وهكذا كانت بلجراد فاتحة بوادبست التي كانت فاتحة فيينا، ولو أن سليمان القانوني خلفه سلطان قوي لتوقعنا أن يكون الآن تاريخ آخر.

نشر في تركيا بوست

السبت، يونيو 27، 2015

الاستعداد لرمضان.. قراءة في عقل حازم أبو إسماعيل

لئن كان محذورا أن نمدح أحدا بما ليس أهله أو نضع أحدا فوق مكانه، فمن المحذور كذلك أن نغمط أقدار الرجال وأن نحط من مكانتهم!

وعلى طول ما كتبت عن الشيخ حازم أبو إسماعيل من مدح إلا أن المستقر في يقيني، والله يعلم، أني لم أوفيه حقه، فلم يزل الرجل في ظني ورغم ما بلغه من شهرة طبقت الآفاق وما حازه من إعجاب غير مسبوق لا سيما بعدما صحت نظرته في العسكر ومآل الثورة.. أقول: لم يزل مجهولا لا يقدر حق قدره.

للشيخ حازم وجهان قليل من رآهما: وجهه كشيخ يسوق ويشرح معاني الدين وأفكاره، ووجهه كسياسي ظهر بعد الثورة فكان أحدَّ الناس بصرا وفهما بما حدث ويحدث، وها هي الحوادث قد صدَّقت ما يقول.

لقد عرفت الشيخ شيخا قبل أن أعرفه سياسيا، وكنت شديد الإعجاب به، أفكاره مبتكرة لم أسمعها من غيره، وتوجيهاته عميقة ومتقدمة، وقد دُهِشت حين عرفت أنه ينوي الترشح للرئاسة وظننته يريد مجرد رفع السقف من بعد ما كان المطروح حينها: أبو الفتوح وسليم العوا فقط، لكني منذ سمعت لقاءه الأول (كان مع عمرو أديب ومحمد شردي) إلا وأيقنت أن فهم الرجل في السياسة كفهمه في أمر الدين والشريعة.

***

لنأخذ على هذا مثالا بسيطا واضحا ومتكررا وكم أفاض الدعاة من الكلام فيه، وهو: الاستعداد لرمضان!

عادة ما يقوله الدعاة في هذا المقام وقبل حلول الشهر الكريم هو ضرورة الاستعداد له، الاستعداد بالإكثار من الصلاة والصيام والصدقة كي تتعود النفس على العبادة فتستطيع أن تبلغ في رمضان أقصى حالاتها دون أن يصيبها التعب أو الفتور.

أما الشيخ حازم فقد جاء بالجديد.. ومختصر ما جاء به هو الآتي:

إن الاستعداد لرمضان لا يكون أساسا بكثرة الصلاة والصيام وعبادات الجوارح، وذلك أن الإنسان إذا فعل ذلك فهو إنما يُحمِّل القلب عبئا مضافا، والقلب لن يحتمل هذا العبء إن لم يكن مستعدا ومنفتحا لهداية الله، فأما إذا لم يكن كذلك فإنه يسقط وينهار مع الإكثار من عبادات الجوارح التي لا يطيقها، ومن هنا يصاب المرء بالفتور بعد أيام أو حتى بعد انتهاء رمضان، حتى لتجد إنسانا قد اجتهد في العبادة في رمضان ثم يفوته صلاة الصبح لأول أيام شوال! وقد يحرص على صلاة العيد –وهي سنة- أكثر من صلاة الصبح وهي فرض.

لهذا، فإن الحل لا يكون في الإكثار من عبادات الجوارح، بل لا بد من إيقاظ القلب.. ذلك أن القلب الغافل، أو القلب المشغول بأمور الدنيا: الرزق، درجة في مجموع الدراسة، النظر إلى الآخرين، مطالب الأهل، مشكلات العمل، التعلق بالدنيا (والتعلق بالدنيا هو كل ما يهتم به المرء ويشغل باله، ولو كان قميصا يريد شراءه أو نوع أثاث يريده لبيته).. هذا القلب بهذا الانشغال ليس فيه متسع، ليس مستعدا ولا مهيئا ولا صالحا لتحمل عبادات الجوارح.
والمسألة على الحقيقة ليست تهيئة الجوارح بل تهيئة القلب.. إيقاظ القلب!

وإيقاظ القلب لا يكون إلا بحلٍّ: فكري قلبي، أو بلفظ آخر: حل عقدي عبادي!

والحل الفكري هو أن أعلم يقينا أن كل ما في هذه الدنيا هي أمور بيد الله، يرسلها أو يقبضها، يعطيها أو يمنعها، وقد أخبر الله بوضوح أن هذا امتحان، فإذا رأيت جارا ثريا أو صديقا غنيا علمت أن هذا امتحان، قال تعالى {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، أتصبرون؟!}، فإن الله ينزل ما يشاء {بقدر معلوم}، ولله في الرزق والعطاء وتقديره بين الناس عجائب ولطائف كثيرة.

لكن الحل الفكري وحده لن يكون مفيدا، لأن مجرد المعرفة العقلية الذهنية لا تغني شيئا، لا ينقذ الإنسان مجرد وجود المعلومة، بل ينقذه أن "يذوق" معناها، إن ثمة أناس يعرفون الإسلام ويستطيعون أن يتحدثوا عنه بفهم في منتهى الدقة، وهم مع ذلك لا يصلون لله ركعة!

ولهذا فينبغي أن تفعل الآتي:

1. انزل غدا إلى المستشفيات وانظر إلى أهل الابتلاء، أولئك كانوا يمتلئون تنافسا على الدنيا، ويحرصون على الكسب ويتابعون الأموال ويراقبون مؤشرات البورصة.. انظر حين يسقط هذا المرء في قسم العناية المركزة حين لا يملك من أمر نفسه شيئا وتتصل به الأنابيب والخراطيم.. هذه النظرة إلى هذا الإنسان هي التي تفرغ القلب من الانشغال بالدنيا وتوسع فيه مكانا لاستقبال العبادة.

2. انزل بعد غد واشهد واقعة "الدفن"، وتأمل كيف ترعى الحشرات في تراب القبور، وبينما تبكي الأم أو الزوجة أو الابنة فإنهم يدخلون هذا الميت إلى القبر الذي يرون الحشرات تسعى فيه ويغلقون عليه ويتركونه وهم يعلمون أنه معرض لهذا.. هؤلاء المقبورين كانوا ملء السمع والبصر، كانوا سادة بين الناس.

3. انظر بعد بعد غد إلى المآلات، تأمل فيمن فرغ من الجمال أو من الصحة، تأمل في حال ممثلة ذهب جمالها وصارت قعيدة في بيتها من بعد ما كانت تملأ الشاشات، أو إلى رجل ذهب عنه النفوذ فتغير حاله، ولقد رأيتُ (والكلام للشيخ حازم) رجلا يصفع بوابا لأنه لم يقم له حين مرَّ به، ثم رأيته بعد عشرين أو ثلاثين سنة وهو مقعد يسير على كرسي متحرك لا يؤبه له وهو يوزع الابتسامات على الناس يستجدي بها ودهم.

إن النظر إلى المآلات يُعَرِّف العبد أن كل ما في هذه الدنيا إنما هي عوارض كاذبة، أرسلها الله تعالى للعبد لفترة ليختبره بها ثم قبضها.

4. لقد أوصانا النبي بأمور لإيقاظ القلب، في ذات الوقت الذي كان منشغلا فيه بالجهاد وإقامة أمر الأمة ورفع شأن الدين وغيرها من الأمور الكبيرة، من هذه الأمور مثلا:

- تغسيل الموتى: لأن معالجة الجسد الخاوي موعظة بليغة!

- زيارة المبتلى والمريض والمحتاج

- النظر إلى الفقير والمسكين واليتيم

بهذه الأعمال يفرغ القلب ويتسع لاستقبال وتحمل العبادات في رمضان.

5. معايشة أنباء الآخرة تفصيلا، أن يعرف المرء من فعل كذا فدخل الجنة ومن فعل كذا فدخل النار ومن الذي زلت قدمه من على الصراط ومن الذي أوشك أن يلقى به في النار فجاء عمل من أعماله فأنقذه، من الذي كاد أن يشرب من يد النبي فحالت الملائكة بينه وبين النبي، من الذي كادت تلفحه النار فأنقذه عمل، من الذي أوشك أن يدخل الجنة فأغلقت دونه.. ذلك أن الانشغال بتفاصيل ما يحدث في شأن الآخرة هو الذي يفرغ القلب من شؤون الدنيا فيُوجَد في القلب متسع لاستقبال رمضان.

6. معايشة أنباء الصالحين، كي يخلص المرء من ضغط بيئته التي ليس فيها أحد سوى أصحابه وجيرانه الذين هم على ذات الشاكلة، ويكون هذا بقراءة الكتب أو بسماع الدروس عنهم.
مهما حاول الإنسان أن يكثر من العبادة والقلب ممتلئ بالتورمات فلن يفلح في هذا!
وسيواجهك في هذه المسيرة عدوّان:

-       الأهل والأولاد ومطالبهم التي تذكر بالدنيا، فلا بد أن تذيق من حولك ما تذوقه حتى لا تسير في طريق مُصَادَم.

-       أن ترتب كيف ستنفذ هذا البرنامج، ترتيبا واضحا ومفصلا وبالمواعيد، لكي لا يتوه الأمر في ظل برنامجك الدنيوي الثابت والمستقر.

***
انتهى مجمل ما قاله الشيخ حفظه الله وفك أسره.

والفائدة المقصودة هي بيان تعمقه في النظر والبحث عن المشكلة، ثم سبقه في وصف الحل، ثم حرصه على صياغة هذا الحل في خطوات عملية، وهو في كل ذلك لم يهاجم أحدا ممن قال بالإكثار من العبادات ولم يعب عليه وإنما صاغ فكرته كأنها إكمال لما يُقال وتنبيه على ما فات منه!

وهذا شأن الشيخ في كافة أموره، ولئن بدت لهجته الرفيقة الرقيقة كأنها لهجة شيخ درويش فإن من عاين وعانى صياغة المعاني الدعوية إنما يدرك ما فيها من نفاسة وجِدَّة وابتكار.. وعلى كل حال فهذا أمر لا حاجة للإطالة فيه، خصوصا بعدما ظهر منه في شأن السياسة وبعد الثورة.

إن الذي يسمع سلسلة السيرة النبوية للشيخ حازم أبو إسماعيل ليبهره ما فيها من معانٍ جديدة ونظر سديد، ثم إنه سيدهش أكثر وأكثر حين يعلم أنه شرح هذه السلسلة وهو في أواخر العشرينات ومطلع الثلاثينات من عمره!!


وها هو الشيخ يمضي في زنزانته الانفرادية رمضانه الثالث على التوالي، محققا بذلك لمرة جديدة قول الأمريكي روبير جاكسون قبل سبعين عاما: "هذا الشرق، لا يستطيع أن يحتفظ كثيرا بالكنز الذي يقع بين يديه"

نشر في نون بوست

الجمعة، يونيو 26، 2015

مراحل بناء المسلم (3) التكوين الأخلاقي

اقرأ أولا:

إن الأخلاق هي صورة الإنسان الباطنة كما أن ملامحه هي صورته الظاهرة، فهو يُعرف ويتميز بأخلاقه، كما يعرف ويتميز بصورته([1])، ولا يُسمَّى الفعل خُلُقًا إلا حين يصدر عن النفس بتلقائية ومن دون تفكير، فهو –كما قال العلماء- "هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويُسر"([2])؛ ولهذا فإن الأخلاق ضد المادية، ولا يمكن أن تنتج الأخلاق عن قرار عقلي بحت؛ بل لا بُدَّ لها من دين وعقيدة غيبية تعطي أملاً في حياة أخرى، يكون فيها الثواب والجزاء على حسن الخلق أو سوئه([3]).

لذلك كان منهج الإسلام في تكوين الشخصية هو منهج الغرس في القلوب، لا مجرد إقناع العقول؛ ليكون سلوك المسلم تلقائيًّا فطريًّا؛ فيكون فعل الخير سجية له، سجية تحوطها الحماسة والإخلاص والتضحية والشجاعة، لا قرارًا عقليًّا مأخوذًا كنتيجة حسابات عقلية باردة يكتنفها التردد والترقب والتراجع؛ لذا يظهر أثر الأخلاق أكثر ما يظهر -في واقع المسلمين- عند لحظات "المحن والفتن الشديدة؛ فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم، ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم، ويحتاجون -أيضًا- إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم، وكل من هذين الأمرين فيه من الصعوبة ما فيه"([4])، ونحن لو حاولنا تخيل تاريخ الإسلام بعد حذف كل تضحية ومغامرة أخلاقية، واستبدلنا بها القرار العقلي المحسوب؛ لكانت النتيجة تاريخًا آخر تمامًا، تاريخ أحسن أحواله أن لا جاذبية فيه لأحد من العالمين([5]).

والتكوين الأخلاقي للمسلم هو من توابع استقلال الشخصية المسلمة؛ إذ ليس مطلوبًا من المسلم أن يعتزل الناس، بل أن يدعوهم ويهديهم، وقد قال رسول الله r: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"([6]). وبَشَّر r الدعاة بقوله: "فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"([7]). وما ينبغي للمؤمن ذو الشخصية المستقلة والمكلَّف بالدعوة وحمل الرسالة أن يكون كالناس؛ بل لا بد أن يكون خيرًا منهم وأعلى مثالاً وأقوم مسلكًا، ولهذا جمع النبي r خلاصة رسالته في قوله: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ"([8]). وهو قولٌ موجزٌ معجزٌ لا يُستطاع الإتيان بخير منه لبيان مكانة الأخلاق في الإسلام.

ولقد صاغ الإسلام أخلاق أتباعه على مستويين: أخلاقه في نفسه، وأخلاقه مع غيره، وكلا المستويين يسيران معًا، وكلاهما ينعكس على الآخر بالخير والدعم والتقوية، فأما أخلاق المسلم في نفسه فَجِماعُها الاستقامة والنزاهة، وأما أخلاقه مع غيره فهي دائرة حول حب الناس والحرص عليهم والنصح لهم والرفق بهم، ومن خير ما يصف منظومة الأخلاق الإسلامية قول الشيخ محمد عبد الله دراز –صاحب الدراسة الضخمة في الموضوع- بأنها "تركيب لتراكيب، فهي لا تلبي فقط كل المطالب الشرعية والأخلاقية والاجتماعية والدينية، ولكن نجدها -في كل خطوة- وقد تغلغل فيها بعمق روح التوفيق بين شتى النزعات: فهي متحرِّرة ونظامية، عقلية وصوفية، لينة وصلبة، واقعية ومثالية، محافظة وتقدمية- كل ذلك في آنٍ... إنها بناء عضوي حقيقي تتعاون فيه كل العناصر، وتتساند كل الوظائف"([9]).

إن أخلاق المسلم في نفسه تجعله عنصرًا جذابًا لكوامن الخير في الناس؛ بما يرونه من صورته واقعية متحققة؛ وما بالك بأخلاق مسلم يخبره دينه أن إيمانه مهدد إذا افتقد جاره الأمان من ناحيته([10])؟!

كما أن أخلاقه مع غيره تُنشئ واقعًا جديدًا في الحياة؛ خلاصته التعاون على البر والتقوى، ومكافحة الإثم والعدوان، حتى لو كان هذا البر تحالفًا مع غير المسلمين كنحو حلف الفضول([11])، وحتى لو كان هذا الإثم والعدوان واقعًا من مسلم على غير مسلم([12])، أو حتى كان العدوان واقعًا على حيوان([13]) أو جماد([14]).

وقد طارت أخلاق المسلمين في العالم شرقًا وغربًا وفتحت من البلاد ما لم تصل إليه سيوفهم([15])، وشهد بهذا المنصفون وكثير من المتعصبين؛ فأخلاق المسلمين من حقائق التاريخ الناصعة، وقد تتبع المستشرق الإنجليزي الكبير توماس أرنولد تاريخ انتشار الإسلام في البلاد المفتوحة؛ فكان كتابه "الدعوة إلى الإسلام" وثيقة تاريخية خالدة على أخلاق المسلمين وسماحتهم ورحمتهم بأهل البلاد المفتوحة في كل الأنحاء شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، ولقد حفظ الباحثون كلمة الفرنسي جوستاف لوبون: "الحقُّ أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا مثل دينهم"([16]).

ويرصد مؤرخ الحضارة ول ديورانت كيف "أن المسلم كان أرقى من المسيحي في خلقه التجاري، وفي وفائه بوعده، وإخلاصه للمعاهدات التي يعقدها مع غيره، ولقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية. والمسلمون شرفاء فيما يختص بعادة الكذب، فهم يبيحون الكذب إذا كان فيه نجاة من الموت، أو حسم لخصومة، أو إدخال السرور على زوجة، أو خدعة في الحرب لأعداء الدين. والآداب الإسلامية تجمع بين التكلف والبشاشة، وحديث المسلم مليء بالتحية والمبالغة في التأدب، والمسلمون كاليهود يحيي بعضهم بعضًا، وينحني الواحد منهم لصاحبه ويصافحه، ويقول له: السلام عليكم. والرد الصحيح لهذه التحية: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وإكرام الضيف من صفاتهم العامة... والمألوف أن المسلم كان مثال الرقة، والإنسانية، والتسامح، وكان -إذا وصفنا أواسط الناس- سريع الفهم، حاد الذكاء، سريع التهيج، يسهل إدخال السرور إلى قلبه، والمرح على نفسه؛ يجد الرضا في البساطة، ويصبر على بلواه في هدوء، ويتلقى جميع حوادث الأيام بصبر، وكرامة، وشمم، وكبرياء"([17]).

وللمستشرق والقانوني الإيطالي دافيد دي سانتيلانا فصل رائق في مدح الشريعة الإسلامية والثناء على توجهها الأخلاقي نلتقط منه هذه الفقرة: "إذا كان حق المرء هو منفعته الخاصة وواجبه الأدبي معًا؛ فإن لذلك الحق حدودًا معينة بموجب مبادئ الأخلاق والمصلحة العامة؛ فالصلح والتراضي هما سيدا الأحكام في كل وقت، وأخذ الثأر ممنوع منعًا باتًّا، والتضييق البدني على المدين مخالف للقانون، ولا اعتساف في استعمال الحق تمامًا؛ إذ ليس لأحد أن يمارس حقًّا له، بالدرجة التي يسبب للآخر ضررًا محققًا، وللفقهاء المسلمين في هذا الصدد إحساس دقيق مرهف يفوق ما نتصوره؛ فمثلاً: يمنع أن يخول حق الادعاء إلى وكيل هو عدو للطرف الذي أقيمت عليه الدعوى، وممنوع أن يؤجر حيوان لشخص عرف بقسوته على الحيوان، كذلك حرم بيع أمة صغيرة السن لرجل حر بالغ خشية أن يغيرها بالفسق أو أن يطأها زانٍ، وهكذا ترسم الأخلاق والآداب في كل مسألة حدود القانون"([18]).

وهذا غيض من فيض، وقد آثرنا أن نذكره من شهادات غير المسلمين؛ لتكون الحجة أبلغ بيانًا في شأن التكوين الأخلاقي للمسلم وأثره في إصلاح أمور البشر وأحوال الأرض.

نشر في ساسة بوست 



([1]) ابن منظور: لسان العرب 10/85، والزبيدي: تاج العروس 25/258.
([2]) ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق ص25، الغزالي: إحياء علوم الدين 3/ 53، الجرجاني: التعريفات ص101.
([3]) علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب ص184، 185.
([4]) ابن تيمية: الاستقامة 2/285، 286.
([5]) يذكر توماس أرنولد "أن أخلاق صلاح الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرًا سحريًّا خاصًّا، حتى إن نفرًا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين". الدعوة إلى الإسلام ص111.
([6]) أحمد (5022) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. والبيهقي (19961)، وفي رواية ابن ماجه (أَعْظَمُ أَجْرًا) (4032)، وفي رواية الترمذي «المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ».
([7]) البخاري (2847)، ومسلم (2406).
([8]) في رواية أحمد: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» (8952). الحاكم (4221) وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (السلسة الصحيحة 45).
([9]) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص686.
([10]) قال رسول الله r: "وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ". قيل: من يا رسول الله؟ قال: " الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ (أي: شروره)". البخاري (5670)، ومسلم (46).
([11]) حلف الفضول: تحالف بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم -في الجاهلية- على نصرة المظلوم على الظالم، وقد شهد النبي r هذا الحلف صغيرًا قبل بعثته ثم قال عنه: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت". (قوي بشواهده – انظر: تخريج الألباني بحاشية فقه السيرة للغزالي ص58).
([12]) سرق طعمة بن أبيرق -وكان منافقًا- درعًا من جاره، ثم أودعها عند اليهودي يزيد بن السمين، ثم شهد طعمة وإخوته على اليهودي؛ فهمَّ النبي بقطع يد اليهودي، فنزلت القرآن يبرئ اليهودي. الآيات 105 وما بعدها من سورة النساء.
([13]) قال النبي r: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، قال: فقال: والله أعلم: لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ". البخاري (2263)، ومسلم (2242).
([14]) قال رسول الله r: "من قطع سِدْرَةً (شجرة النبق، والمقصود القطع عبثا) صوب الله رأسه في النار". أبو داود (5239)، والبيهقي (11538)، والطبراني في الأوسط (2441)، وصححه الألباني في التعليق على أبي داود.
([15]) انظر في شأن البلاد التي فتحها الإسلام دون أن تصلها جيوشه كتاب "الإسلام الفاتح" للدكتور حسين مؤنس.
([16]) جوستاف لوبون: حضارة العرب ص605.
([17]) ول ديورانت: قصة الحضارة 13/141، 143، 144.
([18]) دافيد دي سانتيلانا: القانون والمجتمع، منشور في: تراث الإسلام بإشراف توماس أرنولد ص437.