منذ ظهر الإسلام وعبر تسعة قرون، ظلت القسطنطينية
العاصمة الأبرز في حربه، ففي انطلاقة الإسلام الأولى كانت القسطنطينية عاصمة
المسيحية الوحيدة، إذ كانت روما في ذلك الوقت تعاني من الانهيار والتفكك، ورغم أن
المسلمين هددوا القسطنطينية بالحصار منذ العصر الأموي إلا أن المدينة بقيت صامدة
حتى جاءها الإعصار العثماني، فيما استطاع المسلمون تحرير كامل الشمال الإفريقي
وشبه الجزيرة الإيبرية من قبضة روما بل توقفوا قبل باريس، ولذلك لا يرى بعض
المؤرخين الغربيين[1] أن
انتصار شارل مارتل على المسلمين عند بواتيه (بلاط الشهداء) شيئا كبيرا، لأن المد
الإسلامي كان قد أنهك ووصل إلى منتهاه، بينما الذي يستحق التقدير –في رأيهم- هو
صمود القسطنطينية لتسعة قرون.
كذلك فإن الدولة الإسلامية كانت تمثل تحديا حضاريا
بالنسبة للقسطنطينية، ذلك أنها كانت الدليل الساطع على أن القسطنطينية فشلت فيما
نجح فيه العرب رغم أنها وريثة الحضارة الإغريقية ولغتها اليونانية، وكان العرب
يمثلون ذلك الشعب الذي استطاع أن يحقق من الحضارة والنمو ما تقف أمامه تلك الشعوب
مندهشة متعجبة[2].
تبدو الذاكرة الإسلامية خالية من شأن القسطنطينية، لا
تتذكر إلا محاولات فتحها في العصر الأموي ثم فتحها في العصر العثماني، بينما كانت
القسطنطينية حاضرة في ذهن المسلمين طوال القرون التسعة ولها معهم حكايات ووقائع
كثيرة.
سنحاول عبر عدد من المقالات إنعاش هذه الذاكرة وكشف
اللثام عن بعض الوقائع المنسية في تاريخ المسلمين والقسطنطينية.
(1)
المخابرات الأموية في بلاط القسطنطينية
أورد النويري في نهاية الأرب قصة عملية
مخابراتية قامت بها الدولة الأموية اخترقت فيها البلاط البيزنطي، وتمت بنجاح تام.
تقول أوراق العملية.
أسر البيزنطيون رجلا من قريش، فذهبوا به إلى
الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينة، فلما كلمه الإمبراطور أجابه القرشي بما لم
يعجبه حتى غضب لذلك بطريرك في مجلس الإمبراطور فقام إلى الرجل القرشي فوكزه. فصاح
القرشي وقد آلمه ما هو فيه من الهوان: وا معاوياه! لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا.
فوصل الخبر إلى معاوية فاهتم لأمره واحتال
في افتدائه حتى حرره من الأسر، فلما وصل الأسير المحرر إلى دمشق سأله معاوية عما
كان بينه وبين الإمبراطور، وسأله عن اسم البطريرك الذي ضربه، فأخبره بما كان.
فكلَّف معاوية رجلا من القادة البحريين في
صور (وصور: هي مدينة ساحلية كانت تضم مركز القيادة البحرية للجيش الأموى، وتقع
الآن في لبنان) من ذوي المهارة والذكاء في مهمة خاصة إلى القسطنطينية لاختطاف هذا
البطريرك.
واقترح عليه معاوية أن يصنع مركبا له مجاديف
داخلية، وأن يذهب به إلى القسطنطينية باعتباره تاجرا مغامرا يتاجر في بضائع بلاد
المسلمين على استخفاء منهم (مُهَرِّب)، وعليه هناك أن يدبر كيف يصل إلى إمبراطور
القسطنطينية، وليحمل إليه أموالا وهدايا له ولجميع مجلسه، إلا هذا البطريرك
المطلوب خطفه، فإذا سألك: لماذا تهادى أصحابى وتتركنى؟ فاعتذر إليه وقل له: أنا رجل
أدخل الى هذه المواضع مستترا ولا أعرف إلا من عُرِّفتُ به، فلو عرفت أنك من وزراء الملك
لهاديتك كما هاديت أصحابك، ولكني إذا انصرفت إليكم مرة أخرى سأعرف حقك. ففعل القائد
ذلك.
فلما عاد مرة أخرى أهداهم جميعا مثل ما كان
منه في المرة الأولى، ثم اختص هذا البطريرك بمزيد من الإهداء، ونشأت بينهما صحبة
خاصة على أثر ذلك حتى اطمأن البطريرك إلى صاحبه. وعند أحد الأسفار طلب البطريرك من
صاحبه التاجر أن يحضر إليه من بلاد المسلمين بساطا من الديباج بألوان الزهور،
فوعده بذلك.
وفي دمشق رفع القائد هذا الطلب إلى معاوية
الذي أمر بصناعة البساط المطلوب على وجه الخصوص، فلما تمَّ قال معاوية لقائده: إذا
دخلت وادى القسطنطينية فأخرجه وابسطه على ظهر المركب، وتربّص فى الوادي حتى يصل الخبر
إلى ذلك العلج، وابعث له فى السرّ، وتحيّن خروجه إلى ضيعته التى له على ضفّة وادى القسطنطينية،
فإذا وصلتَ إلى حدّ ضيعته فابتدئ بها، لعلّه يحمله الشَّرَه على الدخول إليك؛ فاذا
حصل عندك فى المركب فَمُرِ الرجال بإشارة تكون بينك وبينهم أن يستعملوا المجاديف التى
فى جوف المركب، وكُرَّ به راجعا إلى الشام.
فصادف وصول ذلك القائد وجود البطريرك فى ضيعته،
فبَسَطَ ذلك البساط على ظهر المركب ووصل الى عرض ضيعته، فلما شاهد هذا البساط حمله
الشوق إلى أن أسرع إليه ودخل في المركب، وعندئذ أشار القائد إلى رجاله، فأعملوا
المجاديف المختفية وانطلقوا بأسرع ما أمكنهم إلى الشام، وأما البطريرك فقد أوثق
بمجرد دخوله.
وبديهي أن الأمر تمَّ دون أن يشعر أحد من
الروم بما كان، ولو أنهم شعروا بتغيبه فسيكون ذلك بعد فترة يكون بها الوقت قد فات
على أي عملية إنقاذ.
وصلت المركب إلى الشام، وحُمِل البطريرك إلى
دمشق حيث بيت معاوية: مقر الخلافة الأموية، وهناك أحضر معاوية القرشي، وقال له: هذا
صاحبك؟
قال: نعم
قال: قم فاصنع به ما صنع بك ولا تزد
فقام القرشىّ فوكزه كما كان فعل به، ثم قال معاوية
للبطريرك: ارجع الى ملكك وقل له: تركتَ ملك الإسلام يقتصّ من أصحاب بساطك
(حاشيتك)؟، وقال للذى ساقه: انصرف به الى أوّل أرض الروم وأخرجه، واترك له البساط وكل
ما سألك أن تحمله اليه من هديّة.
فانصرف به الى فم وادى القسطنطينية، فوجد ملك
الروم قد صنع سلسلة على فم الوادى ووكّل بها الرجال، فلا يدخل أحد الى الوادى إلا بإذنه،
فأخرج العلج ومن معه وما معه. فلما وصل الى ملكه ووصف له ما صنع به معاوية قال: هذا
ملك كبير الحيلة. فعظم معاوية فى أعينهم وفى نفوسهم فوق ما كان[3].
(2)
في عصر الحروب الصليبية، وُلِد تحالف نادر
بين القسطنطينية والبابوية الأوروبية لشن الحروب على المسلمين، وازدحمت الأجواء
الأوروبية والأجواء القسطنطينية بأخبار وأشعار وقصص التوحش والدموية والطغيان الذي
يتعامل به المسلمون مع النصارى المضطهدون، ومن أرشيف تلك الحقبة أخرجت المستشرقة
الألمانية زيجريد هونكه رسالة أرسلها بطريرك بيت المقدس تيودوسيوس إلى الأسقف
أجتاتيوس في القسطنطينية يصف له حال معاملة المسلمين مع النصارى هناك، تقول
الرسالة:
"إن العرب هنا هم رؤساؤنا الحكام، وهم
لا يحاربون النصرانية بل على العكس من ذلك يحمونها ويذودون عنها، ويوقرون قساوستنا
ورهباننا ويجلون قديسينا"[4].
تقول هونكه: ولا يكاد المرء يصدق هذا الذي
يسمع!
إلا أن هذه الرسالة وأمثالها مما كان يصل
إلى القسطنطينية لم يغير من مواقفها شيئا، ودخلت الجيوش الصليبية عبر أراضيها
واقتطعت درة كنائس المشرق من تاجها لتكون ضمن سلطان البابوية!
نشر في تركيا بوست
[1] برنارد لويس: السياسة والحرب،
ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: شاخت وبوزوروث، سلسلة عالم المعرفة، العدد 8،
1978م، الكويت، 1/208.
[2] زيجريد هونكه: شمس العرب
تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، دار صادر، الطبعة العاشرة، بيروت،
2002م. ص354.
[3] النويري: نهاية الأرب في
فنون الأدب، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423هـ. 6/185،
186.
[4] زيجريد هونكه:
الله ليس كذلك، ترجمة: د. غريب محمد غريب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى،
1416هـ = 1995م. ص20.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق