اندفعت جيوش الفرس تجتاح الإمبراطورية الرومانية وتنتقم
من هزيمتها الساحقة أيام الإسكندر الأكبر قبل تسعة قرون، وأوقعت بها هزيمة كاسحة
إذ اجتاحت الشام ومصر وآسيا الصغرى وتوقفت الجيوش أمام أسوار العاصمة العتيقة
"القسطنطينية"، وبدا أنه الغروب الكبير، لا سيما وإمبراطور بيزنطة حينئذ
شاب نشأ في الدعة والترف وقاد قبل قليل انقلابا على الإمبراطور السابق، وفشلت
محاولاته في هدنة مع كسرى أبرويز الذي لم يرض بأقل من أن يترك هرقل المسيحية ليعبد
الشمس!
على هامش التاريخ –حينئذ- كانت مكة منقسمة على نفسها،
فرح المشركون بانتصار الفرس الوثنيين وحزن المسلمون على هزيمة الروم النصارى لأنهم
من أهل الكتاب، لا سيما وأن الفرس اجتاحوا بيت المقدس –الذي كان قبلة المسلمين
وقتها- وأحرقوا المدينة وخربوا كنائسها واستولوا على الصليب الأعظم لدى النصارى
وحملوه إلى بلادهم.
وفي مفاجأة غير متوقعة أعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن
الله أخبره خبرا عجيبا {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 2 -
5] وهو الخبر الذي لا يمكن تصديقه بحال، حتى إن إدوارد جيبون -مؤرخ الإمبراطورية
البيزنطية- يقول بدهشة "إن محمدا تنبأ في خضم الانتصارات الفارسية بأن رايات
الرومان ستعود ترفرف مرة أخرى، وفي ذلك الوقت لم يكن شيء أبعد من تحقق هذه النبوءة،
فقد كانت الاثنا عشر سنة الأولى لهرقل تعلن انحلال الإمبراطورية"[1].
في ذلك الوقت انطلق
أبو بكر ونادى في قريش أن الروم سينتصرون في بضع سنين، فراهنه أبي بن كعب –قبل أن
يُحرَّم الرهان- ولم يكن أحدٌ في ذلك الوقت يدري أنه سيكون نصران لا نصرٌ واحد!
(1) بشائر
نفَّذ هرقل خطة غير مسبوقة في التاريخ العسكري، لم يدافع
عن القسطنطينية، بل تسلل بقطعة من جيوشه خارجها وظل يثخن في الجيوش الفارسية
المسترخية بعيدا في آسيا الصغرى والقوقاز حتى أُجْبِرت الجيوش المحاصرة على فكِّ
الحصار، ودارت معارك هائلة كان النصر فيها للروم الذين وصلوا إلى قلب الإمبراطورية
الفارسية، وكان الزمن بين ذروة الهزيمة (اجتياح بيت المقدس 614م) وبدايات النصر
(623م) تسع سنين، ثم استكمل الروم انتصاراتهم حتى هزموا الفرس في قلب معاقلهم في
العراق.
إلا أن مكة في ذلك الوقت لم تكن تنتظر تلك النتيجة، فلقد
تغير الواقع وتبدلت الأمور، كانت مكة تتشح بالسواد لهزيمتها أمام المسلمين في بدر،
وكان المؤمنون يفرحون بنصر الله الذي ما ظنوا أنه سيكون لهم على قريش، وإنما كان
غاية ظنهم أن فرحتهم ستكون لانتصار الروم على الفرس.
لقد كان نصر بدر من معارك التاريخ الفاصلة، وكان زلزالا
سياسيا في جزيرة العرب، إذ لم يعد الأمر مجرد خلاف داخل قريش كما هو داخل أي قبيلة،
بل إن رجل قريش هذا صارت له دولة في المدينة وقد أوقع بعض رجاله –ولم يكونوا يستعدون
لقتال- بجيش فيه كبار قريش وصناديدها، حتى إن الحيسمان بن عبد الله الخزاعي الذي نقل
خبر مقتل كل أولئك الزعماء توقع الناس أنه مجنون لا يعقل ما يقول.
بهذا النصر صار المسلمون جزءا من معادلة القوة والنفوذ في
الجزيرة العربية، وحق لمكة لا أن تخشى على تجارتها فقط بل على نفوذها نفسه، وتضعضع
حال المشركين في المدينة فقد أسلم أكثرهم بعد بدر، ثم أتم المسلمون نصرهم بنصر آخر
على أقوى أحزاب اليهود في المدينة: بني قينقاع، فتضعضع حال اليهود.
وهذا فضلا عن إسلام كثير من المشركين تبعا لصدق نبوءة
هزيمة الفرس في بضع سنين[2].
كان هذا النصر العظيم في أول رمضان فُرِض على المسلمين
صيامه، فارتبط هذا الشهر بالنصر والفتح، وهو ما سيتكرر كثيرا فيما بعد في معارك
كثيرة منها: فتح مكة، معركة البويب، فتح الأندلس، كسر التتار في عين جالوت، فهو
بشرى للمؤمنين.
(2) تكاليف
لكن لا ينبغي لنا أن نقف عند جانب البشائر وننسى
التكاليف؛ فذلك النصر العظيم في بدر إنما نزل على نفوس بذلوا من أنفسهم طاعة لله
ورسوله لا سؤال معها، فهذه السنة الثانية للهجرة كانت كأنها سنة التكاليف الكبرى
·
ففيها فُرِض القِتال وخرج فيها الصحابة في عشر معارك:
غزوتين وثماني سرايا، وفيها حُوِّلت القبلة من مكة إلى بيت المقدس، وكان ذلك
اختبارا شديدا لثبات المؤمنين وتسليمهم بصدق النبي وطاعته {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً
إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] خصوصا فيما أثاره من كلام السفهاء
من اليهود والمشركين حوله.
·
وفيها فُرِضت الزكاة التي أوجبت على الأغنياء إخراج بعض
أموالهم للفقراء، وكان ذلك من أقسى الأشياء على نفسية العربي الذي كان إعطاء المال
يساوي الذلة والمهانة
·
وفيها فُرِضت زكاة الفطر التي أوجبت على كل من يملك قوت
يومه أن يدفع من ماله لكفّ الفقراء عن السؤال يوم العيد.
·
وفيها شُرعت صلاة العيد.
·
وفيها شُرِعت الأضحية
·
واخْتُلِف في بعض التكاليف هل كانت في السنة الثانية أم
غيرها كالزيادة في صلاة الحضر وشرع الأذان
فنحن أمام قوم تغير نظام حياتهم فاستسلموا لهذا التغيير
واجتهدوا في تنفيذه، وكانوا قبله قد صبروا وهاجروا وتركوا الأهل والديار ومراتع
الصبا، فكانوا يقابلون كل هذا بالسمع والطاعة والتسليم.
وهذا فضلا عن ذلك العتاب الشديد الذي نزل لهم بعد النصر
ينزع منهم الغنائم ويجعلها لله والرسول، ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم بنصره وسوء
تقديرهم بكراهية القتال وسوء تصرفهم في شأن الغنائم، ويعظهم بالخوف من الله
والطاعة له ولرسوله والحرص على الترابط والتماسك فيما بينهم والترفع عن أمر الدنيا
والزهد فيها إلى سائر ما أوردته سورة الأنفال من خطاب قوي، فتلقى المؤمنون كل ذلك
بالطاعة والإنابة.
في هذه الأجواء كان أول رمضان تعبدي حلَّ على المسلمين، فشتان
بين ما كانوا ينتظرونه وهم في مكة من فرحة، وبين ما صاروا إليه في المدينة من عزة
وتمكين.. ثم ما وصلوا إليه فيما بعد من الانتصار على الفرس والروم كليهما في واحدة
من أسرع وأعجب انتصارات التاريخ.
ولا ينبغي لنا إن أردنا النصر حقا أن نتمسك بالبشائر
وننسى التكاليف، بل تأتي البشائر بتنفيذ التكاليف إن شاء الله، ومن يدري: لعل الله
أن يرينا في هذا الشهر ما تقر به أعيننا من نصر على أعدائه وأعداء دينه، فهو
المستعان وعليه التكلان.
نشر في ساسة بوست
بارك الله فيك أستاذ محمد إلهامي
ردحذف