الاثنين، يونيو 28، 2010

التهافت

قال المتنبي:
ومن يك ذا فم مرٍّ مريضٍ … يرى مرًّا به الماء الزلالا

والمعنى: أن الذي في فمه طعم المرار يجد مرارة في كل شيء يذوقه ولو كان الماء العذب الصافي.

ولكن الذي يهدم النفس ليس مرارة الفم بل مرارة الثمار..

وقف الفتى ينظر إلى الفاكهة الشهية، وقد ظن أنها بلغت الذروة في النضج والاستواء، وكان قد تخير دكانا يغلب عليه الصدق والأمانة والنزاهة، فاستقر في ظنه أن الثمار شهية صحيحة طيبة، وكان يعلم –بطبيعة الحال- أن الكمال محال، وأنه لابد واجد من بين تلك الثمار الناضرة المنظر بهية الظاهر ثمارا مرة المذاق فاسدة الباطن.

غير أنها في النهاية شذوذ واستثناء.. فالأصل الغالب أنها ناضرة المنظر طيبة المخبر، وأنه يقف أمام خير قد يداخله فساد قليل..
إلا أن التجربة كشفت عن أمر آخر..

فما إن يمد يده إلى أنضرها فيظنه أشهاها وأطيبها إلا ويجد في فمه طعم مرارها، فلا يلبث أن ينظر إليها مستنكرا يفور في نفسه السؤال: كم خدعتِ من قبلي؟ وكم من البشر ما زالوا بكِ مخدوعين؟ وكيف جمعت كل هذه المرارة والقسوة إلى هذا البهاء والنضرة؟
ثم تهدأ النفس الثائرة المستنكرة، فتمارس حسن الظن، وتعود إلى اتهام النفس، وتقدر خطأ الاختيار.. فترى في أخواتها من الثمار خيرا كثيرا قد يداخله فساد، وأن التجربة الأولى قد صادفت هذا الفساد، فيعود إلى نفسه يصحح نظرتها ويعيد إقناعها ويحفزها على أن التجربة القادمة ستصادف الخير الذي لا فساد فيه..

وتعود النفس سيرتها الأولى، فتنظر إلى البهاء والجمال والنضارة الظاهرة فتتخير لنفسها أنضر الثمار التي تنبيء عن طيب المطعم، ولكن الثمرة الأخرى جاءت كأختها الأولى..

ثم جاءت الثالثة كأختها الثانية..

ثم الرابعة كأختها الثالثة..

ثم الخامسة كالرابعة..

وهكذا.. وهكذا..

ذهبت صورة الخير الذي قد يداخله فساد، وجاءت صورة الفساد الذي قد يداخله خير وقد لا يداخله..

وضرب النفسَ زلزال هائل، زلزال كالذي ينسف الجبال نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.. وإذا بالجبال القمم الشوامخ، السامقات العاليات الذاهبات بعيدا في جو السماء.. قد انهارت ترابا ورمادا.. انسالت على الأرض كما تنسال الذرات الحقيرات، تقلبها الرياح ذات اليمين وذات الشمال.

انهارت الجبال الشامخة وصارت صحراء جرداء .. لا ترى فيها عوجا ولا أمتى..

وما بين الصحراء والجبال فرق رهيب، فهذه تثير الوحشة والغربة والعناء.. وتلك تبث العظمة والشموخ والكبرياء، هذه يستجار منها، وتلك يُلتجأ إليها، هذه عناء الجوع والعطش والسفر وتلك راحة الظل والأنس والمأوى..

فما الحال إذا انقلبت الجبال إلى صحراء؟؟

كيف يكون حال المسافر الذي كان يغذ السير إلى الجبل يستأنس به ويلتجيء إليه ويطلب فيه النجاة من الصحراء.. كيف يكون حاله إن وصل إليه فلما أتاه إذا به ينهار؟ أو قل: وجده صورة الجبل وحقيقة الصحراء؟؟

هذا حال من سقطت أمام عينه القدوات والرموز!!

الأربعاء، يونيو 23، 2010

الفارق الجوهري بين المنهج الإسلامي والفلسفات الغربية

ثمة “فارق جوهري” بين المنهج الإسلامي والفلسفات الغربية، وبقدر ما يبدو هذا “الفارق الجوهري” واضحا في إنتاج كلا الطرفين بقدر ما يمثل غياب إدراكه مزيدا من الأزمة وسوء الفهم، هذه الأزمة وسوء الفهم يفصح عن نفسه كأوضح ما يكون في الحوار أو حتى العراك بين الإسلاميين والعلمانيين، الذي هو بدوره صورة مصغرة للسجال بين الشرق والغرب.

الغربيون والعلمانيون ومن رأى رأيهم يرون المواجهة قائمة بين طرفين: بين العقل والخرافة، أو بين الأسلوب العلمي وبين الموروثات المتعلقة بما وراء الطبيعة، ومن ثم فهم يرون أن هذه المعركة لا تقتصر على الإسلام فقط بل هي تشمل كل الأديان، إنها –في نظرهم- مراجعة شاملة لموروث البشرية كله على قاعدة من العقل.

على الجانب الآخر وعند العرب والمسلمين والإسلاميين تبدو هذه النظرة التي تريد حذف الدين من الحياة –لا سيما الإسلام الذي تتركز عليه حملات الهجوم وجحافل الاحتلال- مخالفة لحقائق البشر البديهية ومخالفة كذلك للتاريخ ولسنن الحياة، فالعقل لا يستقل وحده بالمعرفة وليس الصواب من حتمياته، ولابد له من مرجعية معصومة لكي يهتدي.

فلم هذا الانشقاق الكبير الذي لا يبدو له التئام؟

التاريخ –ربما وحده- يملك الكشف عن هذا الفارق الجوهري…

إن الفلسفات الغربية نشأت قبل أن تعتنق أوروبا الدين المسيحي، نشأ منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو فيما قبل ميلاد المسيح (عليه السلام) ثم استمرت أوروبا ثلاثة قرون بعد ميلاد المسيح لا تعتنق المسيحية بل تضطهدها حتى جاء الأمبراطور قسطنطين إلى عرش الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم سيطرت المسيحية على أوروبا في فترة العصور الوسطى، ثم نشأ الخلاف الكبير بين الكنيسة وبين التطور العلمي، ذلك الذي انتهى على النحو الحالي في فصل الدين عن الدولة.

لقد نشأت أغلب الفسلفات الغربية –تلك التي خرج بها الغرب من العصور الوسطى- في إطار الصراع مع الدين كعقائد غيبية، أو مع الملوك والبابوات كأسلوب حكم وسياسة، حتى انتهى الصراع تقريبا بالثورة الفرنسية (1789م) بعدما كانت أوروبا قد أنتجت “الفلاسفة العظام” منذ تباشير “عصر النهضة” وحتى الانتصار بـ “الثورة الفرنسية”.

فالميراث العقلي الغربي والفلسفات الأوروبية يمكن أن نقسمها إلى ثلاث مجموعات كبرى: مناهج ما قبل المسيحية (فلاسفة الإغريق واليونان والرومان وما إلى ذلك)، ومناهج توفيق بين العلم والدين (أوائل فلاسفة العصور الوسطى وأبرزهم بالطبع القديس توما الإكويني)، ومناهج تختلف مع المسيحية فقد تصححها أو تهاجمها أو تأتي بالبديل عنها (قرون ما قبل الثورة الفرنسية والتيار العقلي مثل ديكارت، أو تثور على الكنيسة وتفترض بديلا آخر كمارتن لوثر وكالفن).

في حين أن الوضع في العالم العربي الذي هو قلب العالم الإسلامي مختلف تماما، والسبب ببساطة أن العرب فيما قبل الإسلام كانوا بلا حضارة ولا فلسفة ولا أسلوب حكم إمبراطوري ولا كانت الحياة حولهم تحفل بكثير من التفاصيل، ولم ينتج منهم فلاسفة ولا منظرين ذوي أثر (والحديث عن التاريخ المعروف بالطبع، لكن لاشك أن الأنبياء في أرض العرب كهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل كانوا قمما في عصورهم).

وكل الميراث العقلي والإسهام الحضاري للعرب هو منبثق أساسا ومستند بشكل كامل على الإسلام، والإسلام كما يفهمه العرب والمسلمون وكما هي طبيعته، ليس فقط مجرد عقائد بل هو منهاج حياة كامل، وهو يحتوي على مبادئ للحكم والسياسة والإدارة والتفكير والنظر والعبادات والمعاملات، وهو قبل ذلك تفسير ورؤية للكون والحياة والطبيعة والإله والبشر.. أي أنه منظومة “فلسفية” كاملة. وبالطبع فإن المسلمين يرفضون تماما اعتبار الإسلام “فلسفة” ولهذه الكلمة لديهم وقع مختلف عن وقعها في الأذن الغربية. بل يعتبرونه “دينًا”، بل لا يتصورون إمكانية أن يوجد دين شعائري يكتفي فقط بالطقوس والمعابد.

والشاهد أن كل العطاء الحضاري للمسلمين، بما فيه العطاء الفكري “الفلسفي”، يستند تماما إلى الإسلام، وعليه يتأسس ومنه ينطلق. وكل هذا العطاء إنما يستهدف العودة إلى العصر الذهبي الإسلامي؛ عصر النبي –صلى الله عليه وسلم- والراشدين.

فالمجهود العقلي الإسلامي –أو ما يسمى الفلسفة الإسلامية- كان يقدم نفسه باعتباره “فهما جديدا للشريعة” وليس بديلا عنها ولا رفضا لها ولا سخرية منها، ولم تزعم فرقة من الفرق التي نشأت في التاريخ الإسلامي على اختلافها أن مذهبها “خارج عن الإسلام”، بل كان الصراع الدائر بين الفرق المختلفة صراع حول زعم كل فريق بأنه يقدم “الفهم الصحيح للإسلام” يستوي في ذلك العلماء الراسخون ومن انحرف ذات اليمن أو ذات الشمال.

كما كان المجهود العملي الذي يبذله كل مصلح يستهدف صناعة إنسان وصناعة مجتمع على غرار العصر الذهبي، صناعة إنسان يكون قدوته رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصناعة مجتمع يستلهم صورة مجتمع الصحابة، يستوي في ذلك المصلحون المتبعون، وكذلك المبتدعون ذات اليمين أو ذات الشمال.

وهذا الفارق الجوهري ينتج لنا ثلاثة اختلافات حاسمة بين المنهج الإسلامي والفلسفات الغربية:

1. فالمنهج الإسلامي ليس له إلا رافد واحد، منه وُلد وتشكل، وبه انطلق، وعليه تأسس. بينما الفكر الغربي يستمد نفسه من ثلاثة روافد: فلسفات ما قبل المسيحية، وفلسفات التوفيق بين المسيحية والعلم في العصور الوسطى، وفلسفات الهجوم والتصحيح والنقد للمسيحية. وصدق الله تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).

2. المنهج الإسلامي يريد العودة إلى الصورة المثالية التي تحققت بالفعل؛ في النبي –صلى الله عليه وسلم- فهو القدوة الحسنة على مستوى الفرد، وفي جيل الصحابة الذي هو خير القرون على مستوى المجتمع. بينما لا يزال الفكر الغربي “يتمنى” و”يحلم” و”يتصور” ويريد أن يرسم ملامح الفرد السوي والمجتمع المثالي، فهو واقع ما بين فردية نيتشه وجماعية دور كايم، وما بين عقلانية هيجل ومادية ماركس وروحانية توينبي، وتحت كل بند تجد أطيافا من الفلسفة الهائمة على وجهها. حتى إن صورة المجتمع المثالي حائرة بين السعادة التي بدأها أفلاطون في “الجمهورية الفاضلة” وحتى فوكوياما في “نهاية التاريخ” وما بين الصراع وبقاء الأقوى التي بدأها دارون في “أصل الأنواع” وحتى هنتنجتون في “صراع الحضارات”. وصدق الله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

3. المنهج الإسلامي نشأ “فجأة”، فلم يكن رد فعل على حالة قائمة، ولا نتاج صراع دائر، ولا ثورة على مؤسسة حاكمة، فلهذا جاء خاليا من التطرف الذي هو سمة ردود الفعل. (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله).

بينما تاريخ الفلسفة الغربية هو تاريخ من ردود الأفعال، فسقراط-ثم أفلاطون- هو ردٌّ على السفسطائيين، والبروتستانتية ردٌّ على الكاثوليكية، وجون لوك هو ردٌّ على توماس هوبز، ودور كايم هو ردٌّ على نيتشه، والشيوعية ردٌّ على الرأسمالية، والاشتراكية ردٌّ على الطبقية والإقطاع… إلخ(1). (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا)؟؟

وبعد؛ (فأي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا)؟؟..

————

(1) من أبرز الكتب التي اهتمت بهذا التناقض، كتاب رونالد سترومبرج “تاريخ الفكر الأوروبي الحديث”، وكاتبه متعصب للحضارة الغربية ولا يرى في التاريخ حضارة غيرها، وانظر في تاريخ الفلسفة الغربية كتاب براترند رسل “حكمة الغرب” وكتاب ول ديورانت “قصة الفلسفة” ، وهذا الكتاب الأخير هو أفضلهم وأمتعهم عبارة وأقربهم إلى التفكير الإنساني غير المتعصب.

نشر في الألوكة، وقصة الإسلام

الأربعاء، يونيو 16، 2010

القرآن.. ورحلة شفاء الصدور

صباح اليوم (الثلاثاء 15/6/2010) وبينما اقرأ في كتاب الله، مررت بهذه الآيات التي تحاول أن تقنع الإنسان بأن يوم القيامة حقيقة، وأنه يوم سيأتي من دون شك، وتتعجب الآيات من أسئلة جدالية سخيفة، فثمة من يسأل “متى هذا اليوم” وكأن الجهل بموعده يؤثر في كونه حقيقة. حسنا فمتى يأتي يوم موت أحدكم؟ هل جهل الإنسان بموعد موته يؤثر في حقيقة أنه سيموت؟!!

ثم مالذي سيتغير إذا قيل لكم موعد بعينه؟ هل إخباركم بأن يوم القيامة بعد عشرة أيام أو بعد عشرة آلاف سنة سيؤثر على طريقة تفكيركم، أم أنكم ستظلون في حالة من الترقب والانتظار والحيرة بين التصديق والتكذيب، حتى يقع بالفعل.. أفهذا هو الوقت المناسب للإيمان به؟ إن يوم القيامة إذا جاء لم ينفع أن تؤمنوا حينئذ، سيكون الوقت قد فات.

وحينها يقال للذين ظلموا: ذوقوا عذاب الخلد، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون.

(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [يونس: 48 - 54]

إنه موقف رهيب.. المفاجأة العظمى الساحقة التي ليس بالوسع تداركها ولا امتصاصها ولا الإفلات منها، موقف من فوجيء بيوم القيامة، وقد كان منذ قليل يسخر منه ويستهزيء به.

ولكن…

لماذا اختار الله “الظالمين” تحديدا لكي يبدأ بهم جزاء هذا اليوم؟

“ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون”؟!!

ذلك أن الظالمين متكبرون متجبرون في الأرض، تخدعهم لحظات عابرة فتصور لهم أنفسهم أنهم يملكون الكثير، يملكون أن يُعزوا ويملكون أن يُذلوا، يملكون إعطاء الحياة ويملكون إخراج الروح، يملكون التسلي بتعذيب الناس وإيلامهم وإذلالهم، لسان حالهم يقول للناس:

إن شئت سامحتكم فبرحمتي … وإن أبيت، فذاك طوع يميني

وقد يطول بهم زمن اللحظات الخادعة فيتخيلون أنها حقيقة كونية ثابتة لا يجري عليها التغير ولا التبدل، فيكون الحديث معهم عن الله وعن يوم القيامة حديث غريب شاذ، شيء يشبه القصص التي تحكى للأطفال عن مصباح علاء الدين وكنوز علي بابا، شيء يرتسم هناك بعيدا في آفاق الخيال الغامضة، لا تستطيع عقولهم أن تتخيل أن يوم القيامة حقيقة كونية قادمة، حقيقة تخلخل كل تصوراتهم التي يتجرعونها في لحظات الخداع المُسْكِرة، لا .. لا .. غير معقول، هل يمكن أن يكون ذلك اليوم يوما حقيقيا؟ كيف.. وأين تذهب سلطاتي وأموالي ونفوذي؟ وهل حقا يمكن ألا أتصرف في هذا الوقت فأتصل بفلان أو أرسل المخبر فلان أو حتى أصدر قرارا بتحرك الكتيبة الفلانية؟ لا.. لا .. غير معقول.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [يونس : 53]

يا أيها السكارى، إنه حق، حق لا تستطيعون أمامه أن تفعلوا شيئا، حق يُذْهِب الغفلة والخمر وخداع اللحظات المضللة، أنتم في الحقيقة ضعفاء، ضعفاء للغاية (إنه لحق) (وما أنتم بمعجزين).

ثم تأتي آيات الحقائق المزلزلة..

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [يونس : 54]

وبرغم أني أعرف أن بعض المفسرين قالوا عن الظلم هنا بأن معناه “الشرك بالله” إلا أن سياق الآيات لا يؤيد هذا التفسير، ذلك أنه (قضي بينهم بالقسط) إنها عبارة تفيد وجود خصوم سيقضي بينهم الله بالعدل، ولذا فالمعنى هنا هو الظلم الذي هو ظلم الناس وأكل حقوقهم..

وهنا تذكرت خالد سعيد.. وطافت برأسي قصته، ثم قصص آخرين من ورائه.. طابور من الظالمين، وطابور من المظلومين..

وكل نفس ظلمت تتمنى أن يكون لها –حينئذ- ملك الأرض لتفتدي به من هول العذاب الذي تراه، تراه الآن على وجه الحقيقة لا على رسم الخيال، تراه واقعا حيا لا كما تخيلته كقصص الأطفال. إنه طابور آخر من التمنيات والرغبات.. والحسرات.

ثم تمضي الآيات لتواصل: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يونس : 55 ، 56]

ولا يُعرف على وجه اليقين هل هذه الآيات ما زالت تصف يوم القيامة، فيكون هذا الكلام مما سيقوله الله تبارك وتعالى في هذا اليوم، فهو إعلان للحقيقة الكبرى، وللقانون الأعظم الذي يحرك هذا الكون، إعلان بأن يوم القيامة كان نتيجة طبيعية، وأمرا في غاية البساطة. ذلك أن (لله ما في السموات والأرض) وأن (وعد الله حق) وأن الله (هو يحيي ويميت وإليه ترجعون).

هل هذه كلمات في يوم القيامة؟ أم أن الآيات قد عادت إلى الدنيا لتنصح الناس مرة أخرى وتذكرهم بالحقيقة الكبرى والقانون الأعظم الذي يحرك هذا الكون؟ تذكرهم مرة أخرى بأن القوة الحقيقة هي قوة الله، فالسموات والأرض وما فيهما ملك الله، ولهذا فوعد الله هو الحق الذي لا يقوى على مواجهته شيء، وأن الله هو وحده مانح الحياة، وهو وحده قابضها، وهو الذي إليه ترجعون.

يا الله!!!!

الحمد لله أن في هذا الكون إلها، وأن هذا الإله هو الله.. الله الذي سيأخذ حق المظلومين من الظالمين، الله الذي يملك أن يأتي بيوم القيامة حيث ترد الحقوق إلى أصحابها، الله الذي يملك أن يحقق وعده، فهو الذي يملك كل شيء، وهو الذي لا يقف أمامه شيء، وهو الذي لا يعجزه شيء.

وشعرت في هذه اللحظة باطمئنان آمن، وبأمان مطمئن، وبأنني في كون الله.. الكون الذي من حقائقه يوم القيامة.. يوم العدل.

وتذكرت في تلك اللحظة طابور الظالمين وطابور المظلومين، تذكرت صورة خالد سعيد التي تنطق بالظلم الذي تعرض له، وتذكرت صورا أخرى لغيره ولغيره.. فلقد صار لدينا الآن ثروة من صور وأفلام التعذيب نراها في كل يوم، بخلاف ما تختزنه الذاكرة من رسمها الذي يتكون عبر الكتب وحكايات المظلومين وشهود العيان.

ولكن الله شفى قلبي، لقد وقفوا جميعا أمام الله.. ولو أن لأحدهم ملك الأرض كلها لما استطاع أن ينجو، وقفوا أمام الله وقد ذهبت عنهم سكرات العظمة والقوة والسطوة والسلطة، تركتهم تلك اللحظات الخادعة المضللة.. الحمد لله لقد شفى الله صدري، وبدأ يداخلني شهور الاطمئنان والسكينة.

وما إن وقعت عيني على الآية التي تليها حتى قرأتها وكأنني لم أقرأها من قبل.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : 57]

موعظة من ربكم..

وشفاء لما في الصدور.. وشفاء لما في الصدور.. وشفاء لما في الصدور، ظللت لحظة أحاول أن أتأكد من هذه العبارة، تخيلت لوهلة أنني أتوهم أو أتخيل، ولكنها في هذا الوضوح.. جاءنا من الله القرآن وفيه.. “شفاء لما في الصدور”

وهدي..

ورحمة للمؤمنين..

وعند كل واحدة من هؤلاء (الموعظة – الشفاء – الهدى – الرحمة) وقفات لم أستطع أن أسجلها في عبارات، فمراجعة مشهد يوم القيامة منذ بدأ الجدل حوله وحتى الوصول إلى هذه الآية، يجعل لكل كلمة دلالات واسعة، دلالات لم أنتبه لها إلا في هذه اللحظة.

موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى، ورحمة للمؤمنين.

آمنت بالله.. آمنت بالله.. آمنت بالله

آمنت بالله الذي يعلم قلوب عباده، ويعلم كيف يخاطبها، وكيف يزرع فيها اليقين به.. آمنت بالله وحده وكفرت بما كانوا به مشركين.. آمنت بالله المطلع على المشاعر والدقائق والخلجات الكامنة في أعماق النفس، العليم بالخواطر التي تمر على القلب، الخبير بالضوائق التي تتقلقل وتتحشرج في الصدر.

آمنت بالله.. آمنت بالله .. آمنت بالله

وإذا بالآية القادمة تقول لمن آمن:

(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : 58].

————————

• ربما ظن بعض من لا يعايشون القرآن أنني تكلفت في كتابة هذه السطور وفي ترتيبها. لست أحب أن أرد عليهم، فهذا أمر لن يشعر به إلا من تذوقه بالفعل.

الثلاثاء، يونيو 15، 2010

عمرو موسى ليس من خضراء الدمن!

عمرو موسى ينتحر، ويثبت كل يوم أنه ابن بار من أبناء الدبلوماسية المصرية الفاشلة، وأن ما كان يُرى من اختلافه عن غيره من رجالها إنما هو نوع من خضراء الدمن، التي هي المرأة الحسناء في المنبت السوء، ولئن كان الناس ظنوا أنه بذرة صالحة نبتت في الجدب العربي كشذوذ عن القاعدة غير أنها لا تجد أرضا تحتضنها لتثمر، فإن عُمْر المناصب قد طال بالرجل حتى خاب الظن –والحمد لله- وثبت ماهو حق. ذلك أن “الذي خبث لا يخرج إلا نكدا” كما قال الله تعالى.

لقد انضم عمرو موسى إلى ركب الساقطين بجدارة، فأثبت أن الأمر ليس متوقفا عن عجز في إدارة المنظمة العربية المتشتتة والمتناحرة، بل إن اختياراته هو مشبعة بالتردد والتذبذب، حتى في تصريحاته بشأن ترشحه للرئاسة المصرية، وبعد أن كان –حينا من الدهر- يقول كلاما صريحا واضحا يمكن فهمه كما يفهم الناس لغاتهم، بدأت لهجته تتسم بالميوعة والضبابية والهلامية حتى كادت تفقد المعنى، صحيح أن المستوى لم يصل لرداءة لغة أحمد أبو الغيط الذي يقول كلاما يشبه شعر ما بعد الحداثة، إلا أن التحول من الوضوح إلى الالتواء فضيحة بحد ذاته. ولقد صار عمرو موسى يقول كلاما ثم “يلحسه” ببساطة –وهي عادة كنا نظنه بريئا منها- ثم أضحى وكأنه اعتاد السوء فلا حرج أن تسمع منه كلاما عن موت ودفن عملية السلام وعن إسرائيل التي هي فوق القانون، ثم بعد قليل تجده يتحدث عن السلام والعجلة والمسار والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة.

وحين كانت غزة تحترق عبر أربع سنوات حتى الآن، لم يكن هم الرجل إلا أن يُصلح بين الفرقاء اللبنانيين الذين كانوا لا يستطيعون “تشكيل حكومة” وكل منهم له سلاح يحميه، ولم يلفت نظره مطلقا أن إلى جواره أناس لا يستطيعون “الحصول على الغذاء أو الدواء”، ليس لهم من دون إسرائيل سلاح.

وأخيرا.. أخيرا.. حين تحرك الصخر ونطق الحجر وظهر القمر في عين الشمس، أعلن عمرو موسى أنه سيزور غزة، وأرهق المحاصرين هناك بزيارتين لمساعده ليرتب له الأجواء، ثم وضع برنامج زيارة مهين كم كنت أتمنى أن ترفضه حكومة حماس الشرعية، (وبالمناسبة فشرعية حماس هي الشرعية الوحيدة في العالم العربي، وعمرو موسى نفسه لا شرعية له على الإطلاق ولم يتول منصبا واحدا باختيار من الناس)، ثم كانت زيارة قصيرة ميتة كل هدفها أن ينفي عن نفسه تهمة دعم حماس أو إضفاء الشرعية عليها، بل إنه التقى إسماعيل هنية –رئيس الوزراء الشرعي- باعتباره “القيادي في حركة حماس” لا “رئيس الوزراء”، هذا بعد أن زار عائلات “فتحاوية” والتقى مع مستقلين آخرين، والتقي مع غير ذوي موضوع، بل طلب في البداية أن يذهب إليه هنية في مقر استراحته ثم استقر الأمر على حل وسط تمثل في أن يزور هو هنية في بيته. ثم وقف في المؤتمر الصحفي إلى جوار إسماعيل هنية الذي كان يتحدث بينما عمرو موسى يحدث مستشاره غير مبال بأبسط آداب البروتوكول التي لا يجرؤ أن يخالفها في “حضرة” أي رئيس أو ملك عربي “غير شرعي”.

ويأبى أن يختم زيارته دون أن يسقط السقطة الكبرى، حين يصرح بأن أموال إعادة الإعمار موجودة بمقر الجامعة لكنها لن تخرج إلا بعد إتمام المصالحة!! هذه عبارة أقل ما يقال فيها أنها سفالة! فلا هي أموال عمرو موسى ولا أموال أبيه ولا حتى بذل جهدا في جمعها كي يكون له كلمة بشأنها، ولا هو بالوصي على الفلسطينيين لكي يحدد لهم متى يعطيهم “المصروف”، ولا أهل غزة فوضوه في شيء، ولا الذين تبرعوا بالمال اشترطوا لوصوله أن تتم المصالحة.

ليس عمرو موسى من خضراء الدمن، بل ممن يقال فيهم “والذي خبث لا يخرج إلا نكدا”.

وبهذا نبارك له الانضمام إلى ركب الساقطين المفضوحين، وعلى رأسهم حسني مبارك ومحمود عباس، وأكرم بركب مثل هذين على رأسه، وخلفهما ملوك وأمراء ورؤساء عصر الذل والخيانة. أما إسماعيل هنية وإخوانه الكرام فيعبر عنهم قول المتنبي:

أبدو فيسكت من بالسوء يذكرني … فلا أعاتبه صفحا وإهوانا

مُحَسَّد الفضل مكذوب على أثري … ألقى الكميّ ويلقاني إذا حانا

لا أشْرَئِبّ إلى ما لم يفت طمعاً … ولا أبيت على ما فات حسرانا

ولا أُسَرُّ بما غيري الحميد به … ولو حملت إلى الدهر ملآنا

الاثنين، يونيو 14، 2010

عن "خطيئة" اتباع الظن!

من حكم الإمام الشافعي قوله “لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف”، وصدق. ذلك أن اجتهاد البعض بالتحليل والتفسير والتوضيح لأمرٍ وهو لا يعرفه حق المعرفة، يكون بداية وقاعدة لتحليل وتفسير جديد موغل أكثر في الخطأ بطبيعة الحال، ومع كل قراءة أخرى يزيد تثبيت المعنى الخاطيء أو تطويره نحو معنى أكثر خطأً.

وفي عصرنا الذي تهطل فيه المعلومات والتحليلات سيولا غزيرة، صارت الحاجة أدعى إلى الورع في النقل والفهم والتحليل، وأدعى إلى التثبت والتبين عند القاريء الذي بات عليه أن يعرف حجم ومكانة من يقرأ له من الصدق والأمانة والنزاهة والأهلية فيما يتكلم فيه، فقدر الشهادة على قدر الشهود!

ومنذ أيام كتب أحدهم[1] بأن أسلمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يختزل تحرير “فلسطين إلى تحرير القدس ثم اختزال القدس بمقدساتها المسيحية والإسلامية إلى استعادة المسجد الأقصى”، ولذا فهو يدعو إلى “عدم أسلمة” هذه القضية.

ومَثَل هذا كَمَثَل كثير ممن تصدوا لأمور ليس لهم بها علم (إلا اتباع الظن)، وهو يُذكِّر بالسيدة الإنجليزية الليدي ماري التي زارت تركيا في أوائل القرن الثامن عشر و”فوجئت” بأن النساء التركيات لا يضقن بالحجاب الذي عزلهن عن الرجال بل رأين فيه حرية وأمانا، فأدهش هذا السيدة الإنجليزية التي تحسبه عنوانا على الظلم والقسوة وانتهاك حقوق المرأة كما لا يزال البعض حتى الآن يتعرض لنفس الدهشة. بل إن ما يزيد المشهد طرافة أن التركيات حين دعونها للاستحمام في حمام النساء في “أدرنة” واكتشفن أنها تلبس “حمالة صدر” اقتنعن أنها لا تستطيع تلبية رغبتهن لأنها حبيسة بقيود هذه الآلة التي وضعها لها زوجها وعلقت إحداهن قائلة “انظرن كم يقسو الأزواج الإنجليز على نسائهن المساكين”[2].

وبعده بمائة عام روى المستشرق الفرنسي بريس دافين –”إدريس أفندي”- في مذكراته عن مصر في عهد محمد علي كيف أن تعدد الزوجات ليس كما يتخيله الغربيون، “الغيرة التي بين نساء الحريم أقل بكثير مما نظن بوجه عام، فهناك غير قليل من النساء يعشن معا كالأخوات، يهتممن بنفس الشئون في ظل نفس الحنان دون أن يُتْلِفهن الحسد”، وروى لذلك قصتين: قصة لضابط فرنسي تزوج من قبطية مصرية ثم بعد سنوات أحب فرنسية أخرى وتزوجها، واستسلمت القبطية لهذا التطور الجديد. غير أن خبر زواج الفرنسي من قبطية قد تسرب إلى الزوجة الفرنسية الجديدة التي اشتاقت لترى الزوجة المصرية، فذهبت إليها متنكرة ثم عاشرتها لبعض الوقت فلما وجدتها “ممتازة في عوائدها بقدر ما هي ممتازة في تعلقها العميق بزوجهما المشترك قررت أن تسكن معها” في أثناء غيبة طويلة للزوج، ولما عاد الرجل قالت له زوجته الفرنسية “لقد عشنا منذ رحيلك كالأختين، وأرجو ألا تفرقنا”.

ثم قال إدريس أفندي أنه يستطيع أن يذكر “ألف مثل من نساء يخترن بأنفسهن الغريمات اللواتي سوف يشاطرنهن فراش الزوجية” ولكنه اكتفى بمثل واحد آخر وهو لزوجة الشيخ حسن الجبرتي والد المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي، ومفادها أن هذه الزوجة نشأت بينها وبين فتاة جارية صلة عميقة وحب شديد، وتحايلت لتزوج هذه الفتاة لزوجها الشيخ حسن فتبقى معها دائما، وكانت هذه الصحبة رغبة الفتاة أيضا[3].

وهكذا يُفاجأ من كان يتبع الظن حين يأتيه العلم، كم من مناهضي تعدد الزوجات يعرف شيئا من هذا حين يتحدث عنه ويهاجمه ويرفضه ولا يرى فيه إلا “الجنس المستعر واللا إنساني”؟ وكم من مناهضي الحجاب عايش شعور المتحجبة وحاول أن يتفهمه ويتأمل فيه قبل أن يعتبره “الخيمة التي هي غطاء العقل والمعبرة عن الخوف من مواجهة المجتمع”؟

ليس ذلك إلا كمن يقول بأن أسلمة قضية فلسطين تختزل تحرير فلسطين في تحرير المسجد الأقصى!!

————————-

[1] الباحث عمرو حمزاوي في مقاله “أربعة أسباب للامتناع عن أسلمة الصراع العربى مع إسرائيل” بجريدة الشروق المصرية بتاريخ 6/6/2010.

[2] انظر: ول ديورانت: قصة الحضارة 41/9.

[3] إدريس أفندي في مصر. تحرير: جمال الغيطاني ص42: 44.

نشر في منارات وقصة الإسلام

الأربعاء، يونيو 09، 2010

سيوف الإسلام الخفية

كان الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي واحدا من أقسى الضربات التي تعرضت لها المسيرة الإسلامية، وهي لحظة فارقة في تاريخ العالم الإسلامي، ولقد بدت هذه الفترة في النصف الأول من القرن السابع الهجري وكأنها تشهد انحسار الإسلام وذبوله، ففي الشرق مذابح المغول واكتساحهم البلاد، وفي الغرب تنهار دولة الموحدين بعد معركة العقاب، وبانهيارها تساقطت حواضر الإسلام الكبرى في الأندلس مثل قرطبة وإشبيلية وما سواهما، وبدا التاريخ وكأنه يكتب تآكل الامبراطورية الإسلامية من ذات اليمين وذات الشمال.

لكن لم يكن إلا أعوام وتتحول دولة المغول الكبرى التي بناها جنكيز خان إلى أربعة ممالك كبرى، ثم ليست إلا أعواما أخرى تقل أو تكثر حتى تحولت هذه الممالك الأربعة إلى الإسلام، فدخل الغالبون في دين المغلوبين، وانتصرت القوة الحضارية الإسلامية على القوة العسكرية المغولية.

ما زال لا يعرف الكثير عن تفاصيل دخول ملوك المغول في الإسلام، إلا أن القليل مما أبقته لنا التواريخ يشير إلى شيء منزوٍ هناك في زاوية من زوايا التاريخ.

لقد استطاعت النساء المسلمات المأخوذات سبايا خلال الحروب المغولية الإسلامية، ولاسيما أولئك الذين انتهت بهن تصاريف الأيام إلى ملوك التتار أن يصنعن شيئا عجبا.

فالأميرة رسالة بنت السلطان علاء الدين خوارزم شاه، وأخت السلطان جلال الدين منكبرتي آخر سلاطين الدولة الخوارزمية، كانت من نصيب جوجي ابن جنكيز خان، فعاشت في أسرة جوجي، ومن العجب أن الأميرة رسالة التي كانت على هامش التاريخ في دولة أبيها وأخيها لم ترض أن تكون على هامش التاريخ وهي أسيرة من السبي. لقد كان لها التأثير الملموس على أسرة جوجي ولا سيما على ابنيه “باتو” و “بركة”، وهما اللذان تزعما فيما بعد فرع القبيلة الذهبية المغولية، تلك القبيلة التي سيطرت على شمال المملكة المغولية في القوقاز وروسيا، وكانت أولى الممالك دخولا في الإسلام.

كانت الإمبراطورية المغولية تضطهد المسلمين الذين صاروا تحت سلطانها، لكن الوضع كان مغايرا في القبيلة الذهبية، فلقد عُرف “باتو” بعطفه على المسلمين وإن لم يكن قد دخل في الإسلام، وبعد موته جاء بركة خان الذي أسلم وبايع الخليفة المستنصر آخر خلفاء العباسيين (لم تكن قد سقطت بغداد بعد)، وكان إسلامه حدثا عظيما، فلقد خرج الرجل بهذا الإسلام من كل عصبية قومية، وحاول جهده أن يوقف زحف هولاكو على الأرض الإسلامية، بل وحارب هولاكو في أكثر من موقعة، وتحالف مع المماليك -لا سيما الظاهر بيبرس- ضد هولاكو، وكان هو العامل الأهم في إسلام القبيلة الذهبية واستقرار هذا الدين في مناطق روسيا والقوقاز قرونا بعد ذلك.

وبعد نصف قرن من دخول المغول بغداد، سيدخل سابع الأيلخانات (الملوك) المغول في فارس في الإسلام، اسمه “غازان خان”، وهو لم يكن أول الملوك الذين دخلوا الإسلام في أيلخانية (مملكة) فارس المغولية، ولكن هو الذي يؤرخ به لدخول المغول في فارس في الإسلام. لكن الأهم –في سياقنا هنا- كان فيمن خلفه على العرش، فلقد خلفه أخوه أوليجاتو وهو الذي كان نصرانيًّا وتعمد وتسمى بنقولا، ذلك أن أمه كانت على النصرانية التي انتشرت لبعض الوقت عند ملوك المغول لأسباب ليس الآن مجال ذكرها، غير أن “نقولا” لم يلبث أن أسلم وهو شاب في مقتبل العمر “بتأثير من زوجته”، وبهذا الإسلام تجذر إسلام المغول في أرض فارس.

ثمة زوجة أخرى مسلمة لا نعرف إلا أنها “أرغنة Organa” يُرجع إليها المؤرخون إسلام ابنها “مبارك شاه”، الذي تولى الملك على الفرع الأوسط لمملكة الأولى (سيطر على وسط آسيا)، ولن نعرف هذا الإنجاز الذي قامت به هذه الزوجة إلا إذا علمنا أنها كانت زوجة قرة هولاكو الذي هو حفيد جغطائي بن جنكيز خان الذي كان ألد أعداء المسلمين من بين خانات المغول كافة، ولم يكن يطيق أن ينطق أحد بكلمة مسلم في حضرته، اللهم على سبيل التحقير.

وحقا، إن لله جنودا لم تروها، فمن كان يفكر في أن سبية قد أخذت في الحرب قهرا فكان أخذها انتهاكا لحرمات المسلمين وأعراضهم، هي نفسها التي ستفتح بابا عجزت سيوف الدول والرجال أن تفتحه؟؟

وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة))؛ رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني.

نشر في الألوكة و منارات وقصة الإسلام

ونشر مترجما في الألوكة الإنجليزية

سيوف الإسلام الخفية

كان الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي واحدا من أقسى الضربات التي تعرضت لها المسيرة الإسلامية، وهي لحظة فارقة في تاريخ العالم الإسلامي، ولقد بدت هذه الفترة في النصف الأول من القرن السابع الهجري وكأنها تشهد انحسار الإسلام وذبوله، ففي الشرق مذابح المغول واكتساحهم البلاد، وفي الغرب تنهار دولة الموحدين بعد معركة العقاب، وبانهيارها تساقطت حواضر الإسلام الكبرى في الأندلس مثل قرطبة وإشبيلية وما سواهما، وبدا التاريخ وكأنه يكتب تآكل الامبراطورية الإسلامية من ذات اليمين وذات الشمال.

لكن لم يكن إلا أعوام وتتحول دولة المغول الكبرى التي بناها جنكيز خان إلى أربعة ممالك كبرى، ثم ليست إلا أعواما أخرى تقل أو تكثر حتى تحولت هذه الممالك الأربعة إلى الإسلام، فدخل الغالبون في دين المغلوبين، وانتصرت القوة الحضارية الإسلامية على القوة العسكرية المغولية.

ما زال لا يعرف الكثير عن تفاصيل دخول ملوك المغول في الإسلام، إلا أن القليل مما أبقته لنا التواريخ يشير إلى شيء منزوٍ هناك في زاوية من زوايا التاريخ.

لقد استطاعت النساء المسلمات المأخوذات سبايا خلال الحروب المغولية الإسلامية، ولاسيما أولئك الذين انتهت بهن تصاريف الأيام إلى ملوك التتار أن يصنعن شيئا عجبا.

فالأميرة رسالة بنت السلطان علاء الدين خوارزم شاه، وأخت السلطان جلال الدين منكبرتي آخر سلاطين الدولة الخوارزمية، كانت من نصيب جوجي ابن جنكيز خان، فعاشت في أسرة جوجي، ومن العجب أن الأميرة رسالة التي كانت على هامش التاريخ في دولة أبيها وأخيها لم ترض أن تكون على هامش التاريخ وهي أسيرة من السبي. لقد كان لها التأثير الملموس على أسرة جوجي ولا سيما على ابنيه "باتو" و "بركة"، وهما اللذان تزعما فيما بعد فرع القبيلة الذهبية المغولية، تلك القبيلة التي سيطرت على شمال المملكة المغولية في القوقاز وروسيا، وكانت أولى الممالك دخولا في الإسلام.

كانت الإمبراطورية المغولية تضطهد المسلمين الذين صاروا تحت سلطانها، لكن الوضع كان مغايرا في القبيلة الذهبية، فلقد عُرف "باتو" بعطفه على المسلمين وإن لم يكن قد دخل في الإسلام، وبعد موته جاء بركة خان الذي أسلم وبايع الخليفة المستنصر آخر خلفاء العباسيين (لم تكن قد سقطت بغداد بعد)، وكان إسلامه حدثا عظيما، فلقد خرج الرجل بهذا الإسلام من كل عصبية قومية، وحاول جهده أن يوقف زحف هولاكو على الأرض الإسلامية، بل وحارب هولاكو في أكثر من موقعة، وتحالف مع المماليك -لا سيما الظاهر بيبرس- ضد هولاكو، وكان هو العامل الأهم في إسلام القبيلة الذهبية واستقرار هذا الدين في مناطق روسيا والقوقاز قرونا بعد ذلك.

وبعد نصف قرن من دخول المغول بغداد، سيدخل سابع الأيلخانات (الملوك) المغول في فارس في الإسلام، اسمه "غازان خان"، وهو لم يكن أول الملوك الذين دخلوا الإسلام في أيلخانية (مملكة) فارس المغولية، ولكن هو الذي يؤرخ به لدخول المغول في فارس في الإسلام. لكن الأهم –في سياقنا هنا- كان فيمن خلفه على العرش، فلقد خلفه أخوه أوليجاتو وهو الذي كان نصرانيًّا وتعمد وتسمى بنقولا، ذلك أن أمه كانت على النصرانية التي انتشرت لبعض الوقت عند ملوك المغول لأسباب ليس الآن مجال ذكرها، غير أن "نقولا" لم يلبث أن أسلم وهو شاب في مقتبل العمر "بتأثير من زوجته"، وبهذا الإسلام تجذر إسلام المغول في أرض فارس.

ثمة زوجة أخرى مسلمة لا نعرف إلا أنها "أرغنة Organa" يُرجع إليها المؤرخون إسلام ابنها "مبارك شاه"، الذي تولى الملك على الفرع الأوسط لمملكة الأولى (سيطر على وسط آسيا)، ولن نعرف هذا الإنجاز الذي قامت به هذه الزوجة إلا إذا علمنا أنها كانت زوجة قرة هولاكو الذي هو حفيد جغطائي بن جنكيز خان الذي كان ألد أعداء المسلمين من بين خانات المغول كافة، ولم يكن يطيق أن ينطق أحد بكلمة مسلم في حضرته، اللهم على سبيل التحقير.

وحقا، إن لله جنودا لم تروها، فمن كان يفكر في أن سبية قد أخذت في الحرب قهرا فكان أخذها انتهاكا لحرمات المسلمين وأعراضهم، هي نفسها التي ستفتح بابا عجزت سيوف الدول والرجال أن تفتحه؟؟

وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة))؛ رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني.

نشر في الألوكة وترجمه إلى الإنجليزية

الأربعاء، يونيو 02، 2010

الشمس التركية والخيبة المصرية

ليس يحتاج كاتب أن يتحدث اليوم عن الشرف التركي وعن خسة النظام المصري، تماما كما لا يحتاج أحد أن يثبت وجود الشمس، ولكن المشهد الواضح المتجدد كل يوم يستطيع في كل مرة أن يلهم القلم شيئا جديدا، تماما تماما، كما تستطيع الشمس أن تلهم العلماء كل يوم جديدا من أسرارها، وهي هي التي تشرق منذ كانت البشرية.

كانت إسرائيل “تعبر عن أسفها” بعدما تقتل جنديا مصريا، وهذا في حالة أن يعلن الجيش الإسرائيلي عن خطأ في إطلاق النار باتجاه الجانب المصري، أو في حالة أن يُكتشف الأمر بطريقة ما، ولكن ثمة جنود قتلتهم إسرائيل والتزم النظام المصري الصمت الوضيع، وعادوا في أكفانهم إلى أهلهم مصحوبين بالقول بأنه مات في حادث.

أما حين يُقتل جندي مصري في ظروف مليئة بالالتباس، ويكون ثمة مجال لاتهام حماس، فما هي إلا ساعات وتخرج قوافل النظام المصري، ويأتي الإعلام بخيله ورجله وينصب المأتم العظيم ويصدح بالعويل الطويل على روح “سيد الشهداء” الجندي المصري الواقف على الحدود، حتى ولو كان هذا الجندي المصري قد قَتَل من الفلسطينيين قبل أن يقتل، كما في حالة قتيل حرب غزة لا رحمه الله، والذي أفتت جبهة علماء الأزهر بأنه ليس شهيدًا وبأنه قتل في باطل.

على الجانب الآخر تقف تركيا شامخة؛ هي المرة الأولى -على حد ما أعلم- التي “تعتذر” فيها إسرائيل لأحد من “الأغيار” (وهم غير اليهود) على موقفها مع السفير التركي قبل بضعة أشهر، وأحسب أن الفارق واضح بين أن “تعتذر” وبين أن “تعرب عن أسفها”.

بعدها بقليل كان الأمن المصري يعتدي على الأتراك الموجودين في قافلة شريان الحياة (3) التي نظمها النبيل المحترم جورج جالاوي، ويصيب منهم، وتسيل الدماء. إلا أن تركيا مررت هذا الموقف بهدوء شديد ودخلت في نفق الاتصالات الودية السرية مع النظام المصري، ولم تثر ضجة وكان يمكنها أن تفعل وكان لها الحق في ذلك.

إلا أن النظام المصري الغبي كعادته، فكل عميل غبي كما أن كل غبي هو مشروع عميل، لم يفهم الرسالة التركية ولم يعيها، واستمر الحال على ما هو عليه، علاقات حميمية مع إسرائيل، وباردة جامدة مع تركيا، إلى الحد الذي قيل فيه بوضوح وفي مفاجأة صاعقة لأكثر الناس تشاؤما على لسان بنيامين بن إليعازر بأن مبارك هو “كنز إستراتيجي بالنسبة لإسرائيل”!!

وصدق الذي قال بأن الليالي حبالى يلدن كل عجيبة، فمن الذي توقع أن يقال مثل هذا على الملأ بهذا الوضوح؟!! ثم من توقع أن لا يكون ردٌّ على هذا الذي قيل ولو على سبيل حفظ ماء الوجه وذر الرماد في العيون؟!!

والآن بعدما جرى في مجزرة أسطول الحرية، هل نتوقع جديدا على خريطة الأحداث؟

هل يمكن مثلا أن يرتفع ثمن المصري الذي يُقتل على يد الإسرائيليين كما رأينا الثمن الذي تبذله كل الدول لرعاياها؟

هل نتوقع أن يغامر مبارك بفتح معبر رفح بشكل حقيقي ينهي الحصار، مطالبا إسرائيل بأن تحفظ له شيئا من سمعته التي انتهت بما جرى لأسطول الحرية؟ وأن تُمَكِّنه أن يفعل شيئا يستطيع أن يرفعه في وجه الرأي العام، ولو تسيير قافلة مواد بناء، أو فتح الحدود لعبور الناس من وإلى غزة؟

هل نتوقع أن تتغير خريطة العلاقات المصرية تجاه تركيا وإسرائيل، فنراهن على الجواد المتألق، وندع الجواد الذي كسرت ساقه؟

الحقيقة أن الواقع لا يبشر بتغير، والعضو حين يتمكن منه السرطان فلابد من بتره، لأن انتظار صلاحه يودي بالجسم كله، فما بالنا والسرطان ينتشر منذ ثلاثين سنة؟ أيرجى له بعد هذا شفاء؟؟!!

صدق المتنبي:

رِدِي حياض الرَدَى يا نفسُ واتركي … حياض خوفِ الرَدَى للشآء والنعمِ

إن لم أذركِ على الأرماح سائلةً … فلا دعيتُ ابن أم المجد والكرمِ