لم يكن حديثنا عن الجهاد العلمي في المقال الماضي[1]
نوعا من اجترار الأمجاد أو التفاخر بما فعله أجدادنا كحيلة عاجز، بل كان مقدمة
ضرورية للحديث عن أن ساحة الجهاد في هذا العصر أحوج ما تكون إلى هذا النوع من
الجهاد.. الجهاد العلمي.
لم تخل الحروب يوما من الحاجة إلى العلم، حتى في زمن
السيوف والرماح والخيول، فكانت الجودة في صناعة السلاح مما يُهتم به ويُثنى عليه،
فيسمى السيف مهندا لما للهنود من مهارة في صنعه، ويصنع بنصل ونصلين، ويختار للقوس
نوع الوتر وحد السهم، ويُفتش في الجياد والخيول عما يُطمئن إلى قدرتها على الركض
والانصياع لفارسها. واستعمل البيزنطيون مادة لهب عرفت باسم "النار
البيزنطية" التي كانت لا تنطفئ بالماء بل يزيد لهبها ولقد عانى منها المسلمون
كثيرا حتى اكتشفوا سرها بعد ثلاثة قرون فطوروها وانتصروا بها[2]
وهي التي تطورت فيما بعد إلى البارود، كما واضطر المسلمون إلى البحث عن مواد غير
قابلة للاشتعال ليغطوا بها حركة المركبات القديمة في اقتحام الأسوار لئلا تؤثر
فيها السهام المشتعلة.
إلا أن كل هذا يتضاءل حتى لا يُكاد يُرى إلى جوار ضرورة
العلوم للجهاد في العصر الحديث، ذلك العصر الذي صارت أسلحته جميعا "مخترعات
علمية"، وصار استعمالها معقدا إلى الحد الذي لا بد من تدريب عليه لإجادته،
وصار الصاروخ يوجه من مقر بعيد عبر أقمار صناعية معلقة في الفضاء، وتطير الطائرة
بغير طيار بتحكم من مركز قابع على بعد مئات الآلاف من الأميال.. حتى أبسط الأمور
صارت صناعة علمية كالبنادق ومناظير الرؤية الليلية ونوعية لباس الجنود!
لا مفر من حيازة العلم، فهو واجب في نفسه ولا يتم واجب
الجهاد إلا به فهو أيضا واجب لازم لغيره، وتكاد تكون كل لحظة مهدرة في مسار تحصيل
العلم تساوي –في أقل الأحوال- مئات الأرواح من المسلمين، فاللحظة الحضارية لا تقاس
بالسنين وإنما بالقفزات العلمية، وأسبق الناس إلى العلم أقدرهم على تحسين موقعه في
ميزان القوى لسنين.
إلا أننا في لحظة أخرى فارقة، ذلك أن الأمة التي تشتعل
شرقا وغربا بجهاد –يتفاوت في شدته وتطوره- مرير، وتعاني لحظات التهديد الكبير في
دينها ودنياها، تلك الأمة هي الأقدر على تثوير طاقتها واستثمار كل المجهودات في
الدفاع عن دينها وذاتها وبقائها.
ومن سنة الله تعالى أن سنة التدافع هي التي تفجر الطاقات
المكنونة فتمنع من البغي {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:
40]، ففي ظل الحروب تتطور العلوم، بل الحروب هي الأسباب الأكبر لتطويرها لما ينبعث
في كل قوم من حاجتهم للنصر، حتى لا تكاد تجد قوما في انبعاثهم الحضاري إلا هم
مندفعون نحو تطوير علومهم لتصب في صالح القوة العسكرية، ثم تحتاج القوة العسكرية
إلى تطوير العلوم، وهكذا تدور الدائرة المغلقة حتى تخفت الإرادة ويتحقق الرخاء
فيبدأ الفتور الذي يعود على العلوم العسكرية بالضعف ثم على الأمة جميعا، فتسقط على
أيدي قوم أقل منها في علوم الحضارة وآدابها، وأقوى منها في الأمور العسكرية.
ومهما كان القوم متخلفون في العلوم والحضارة إلا أن غاية
النصر تدفعهم إلى الأخذ بها، فحتى المغول الذين يُضرب بهم المثل في التوحش كانوا
إذا دخلوا مدينة أخذوا منها أرباب الصنائع وأرسلوهم إلى عاصمتهم ثم أبادوا
الباقين، وكافة المهتمين بتاريخ العلوم يعرف ماذا أحدثت الحرب العالمية الثانية من
قفزات علمية هائلة في الاتصالات والصناعات، بل هذا الاختراع الذي غير وجه الدنيا
(الانترنت) هو بالأصل اختراع عسكري أمريكي لصناعة شبكة حواسيب لا مركزية.
على عكس ما يتوقع الكثيرون فإن الأمم تنهض وهي تحارب لا
وهي مسترخية، والأمثلة على هذا أكبر من أن تحصى، فالمصريون أثناء الحملة الفرنسية –ومع
الفارق الرهيب- استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي
من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما
ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال
المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى ليقول ضابط
فرنسي "لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل"، ويشهد أحد مهندسي
الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة "لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا
البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه -ومن
رأى ليس كمن سمع- ذلك أنهم صنعوا المدافع"، بل يشهد كليبر-قائد الحملة الفرنسية
آنذاك- بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورة[3].
وها هي إسرائيل لم تزل تتطور وهي تحارب، وها نحن لم نزل
نتخلف ونحن نتسول السلام، ولم تفلح عقود السلام في إنشاء تطورات عسكرية في حين
تقفز البلاد التي تحارب لتجرب الجديد من سلاحها فينا وعلى أرضنا، ثم تلقي إلينا
بما صدأ منها لتستلب أموالنا ثم لا نفعل به شيئا.
وإليك النموذج الصارخ: حماس في غزة، وسلطة رام الله في
الضفة.. هؤلاء قوم اختاروا المقاومة فصنعوا صواريخ محلية ويعملون على تجارب طيران
واخترقوا مواقع إسرائيلية، وأولئك تسولوا بالسلام فلم يفعلوا شيئا.
وذات الكلام يقال على الجهاد في الشام، وعلى الجهاد في
كل مكان، فهناك يصنع الشباب من المركبات البالية ما يعد مخترعات عسكرية مطورة
بأدوات بدائية وتحقق أهدافا مؤثرة.
ثم نحن إذا استنفدنا الجهد وبقي الفارق كبيرا، فإننا على
رجاء من رحمة الله وفضله على أوليائه[4].
على أنه يجب التنبيه على أمر في غاية الأهمية والخطورة،
وذلك أننا لسنا مجبرين على المضي في ذات المسار، ففارق السنين لن نقضي في ردمه
سنين، بل نحتاج إلى الإبداع الذي يقطع المسارات في لحظات، هذا الإبداع هو الذي
يقفز بالحركة قفزات غير متخيلة كما حدث عبر التاريخ.
لقد أبطلت الطائرات (الفكرة المبتكرة) عمل الأسوار
والخنادق والحصون فجعلت كل جهود الأقدمين بلا قيمة تقريبا، تماما كما أبطلت
الدبابات والمركبات عمل الخيول، وكما أبطلت البنادق عمل السهام والرماح، وأبطلت
المدافع عمل المجانيق .. إلخ
ورغم ما يفرضه الغرب من حصار علمي على العالم الإسلامي،
ورقابة حتى على المواد الإلكترونية التي قد تستعمل في تصنيع أسلحة عسكرية، إلا أن الإبداع
قادر على اختراق كل هذا، فالعقول بيد الله وهو الفتاح الوهاب العليم.
لقد استطاع عبد القدير خان أن يصنع القنبلة النووية
الباكستانية على غير مثال سابق –بما يعد اختراعا جديدا- إذ كان الدعم العلمي
معدوما، ولولا إرادة وعزم وذكاء لما تمكنت من باكستان من تحقيق توازن ردع أو توازن
نووي ليس مع الهند فقط بل مع أي دولة أخرى[5]،
وهذا دليل على أننا قادرون على الوصول إلى حيث انتهى الآخرون بل وأبعد منهم إذا
انطلقنا من حيث انتهوا لا من حيث بدأوا.
ثم ولو افترضنا أن الفجوة غير قابلة للردم –وهذا لا يمكن
أن يكون صحيحا- فإن الإبداع قادر على اصطناع مساحات جديدة غير متوقعة، فلئن استحال
إنتاج قنابل نووية –على سبيل المثال- فالأسلحة الكيماوية والبيولوجية هي نوع من
توازن الردع، وهذه مساحة واسعة بعدد ما في الكون من مواد وبعدد ما خلق الله من
عقول تركب وتخلط وتوازن وتبتكر.
ثم إن النظم الإلكترونية التي هي كالشرايين في أرجاء
العالم الحديث تمثل بالنسبة للضعفاء فرصة ومساحة جديدة للإبداع، ليس فقط على سبيل
الاختراق وتعطيل أجهزة العدو بل على سبيل ابتكار أنظمة وبرامج جديدة تساهم في
تعديل ميزان القوى والتحكم في هذه المنظومة.. بل تكاد تكون هذه المساحة بكرا تنتظر
كل إسهام فعال.
ولئن كان مراهق فلسطيني اكتشف ثغرات في الفيس بوك –المعدود
من المواقع العالمية الكبرى- واخترق بدون أي برامج صفحات رسمية لمسؤولين
إسرائيليين[6]،
فكيف إذا تضافرت عقول وقلوب ومؤسسات؟!!
إن أوامر الله بالإعداد ووعده بالنصر، وسيرة النبي
وتعاليمه، وتاريخ الأجداد وعلومهم وجهادهم.. ثم حال الأمة هذا، ليدفع بكل نفس
لديها الحد الأدنى من العزة والكرامة أن تشتد في طلب الغاية حتى تدركها.
[1] راجع مقال: الجهاد العلمي(1/2).
[2] يعود الفضل في اكتشاف سر هذه
النار إلى غزوة تسالونيك –المدينة الثانية بعد القسطنطينية- التي قادها الأمير
المسلم غلام زرافة عام (291 هـ)، ثم طورها المسلمون في معاركهم مع الصليبيين بعدئذ
خصوصا في عصر الدولة الأيوبية. انظر: محمد عبد الله عنان: مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام
ص93 وما بعدها، د. علي الصلابي: الدولة الأموية 2/38، 39.
[3] الجبرتي: عجائب
الآثار 2/ 326 وما بعدها، جوزيف ماري مواريه: مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر
ص155 وما بعدها، الرافعي: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم 2/ 173.
[4] قص الشيخ عبد
الله عزام في كتابه "آيات الرحمن في جهاد الأفغان" ست قصص تعمل فيها
الطيور في دعم المجاهدين، إما بتنبيههم قبل القصف، أو بحمايتهم منه، أو بالتشويش
على طائرات الروس.. وقد سمعنا كثيرا مثل هذا في حروب رمضان 1393 (أكتوبر 1973م)
وفي جهاد غزة والشام والعراق وغيرها، بل لا يكاد يخلو جهاد من مثل هذا مهما كان
صغيرا ومحدودا.
[5] أما كون
القنبلة قد أفسدها عمل الساسة فهذا حديث آخر يأتي في مقام: كيف نحمي إنجازاتنا من
العملاء والأغبياء.