مهما حاولنا الفصل بين الإسلام كدين مطلق وبين المسلمين
كبشر يصيبون ويخطئون فسيظل واقع المسلمين هو المؤثر الأكبر في تلقي الناس للإسلام
وتعرفهم عليه، ونحن لا نقصد بواقع المسلمين هنا واقعهم السياسي –وإن كان هذا مؤثرا
بلا شك- وإنما نقصد واقعهم الاجتماعي وتفاصيل حياتهم الطبيعية.
إن حياة المسلمين التي تبدو لهم طبيعية ليست كذلك عند
غير المسلمين، إن كثيرا من هؤلاء إنما أسلموا ودخلوا في دين الله –أو على الأقل:
تغيرت قناعتهم عن الإسلام- بأشياء بسيطة للغاية يفعلها المسلم وهو لا يلقي لها
بالا.. هذه الأمور التي يفعلها المسلم بتلقائية سواء أكانت من العبادات والشعائر
أو كانت من العادات والأخلاق الإسلامية هي ما نعنيه بقولنا "جاذبية الإسلام
الاجتماعية".
السطور القادمة هي لقطات تاريخية سريعة تلقي الضوء على
هذا الموضوع.
***
لقد كان من فقه النبي r أن يُعرِّض بعض المعاندين لرؤية الحياة الإسلامية، وكان
ذلك سببا في دخولهم الإسلام.
1. فهذا ثمامة بن آثال من زعماء بني حنيفة في اليمامة، وقد
كان من أعداء النبي r، ورد عنه أنه عزم على قتل رسول الله أو
حاول قتل مبعوث له، ثم وقع أسيرا بيد سرية من سرايا المسلمين، فجاءوا به إلى
المدينة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، ثم خرج إليه النبي r فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي خير يا
محمد؛ إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما
شئت. فظل مأسورا في المسجد ثلاثة أيام ثم أمر النبي بإطلاقه، وإذا بثمامة ينطلق
فيغتسل ثم يعود إلى المسجد يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول
الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه
إلي والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب دين إلي والله ما كان من
بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي"[1].
ففي هذه القصة ظل ثمامة بن آثال ثلاثة أيام في المسجد يرى
سلوك الصحابة الإسلامي، ثم تمت النعمة بالعفو النبوي الكريم، فلهذا أسلم ثم قاد حملة
مقاطعة لمكة فمنع عنهم كل ما كان يصلهم من اليمامة من الغلال والحبوب ثم كان ممن ثبت على إسلامه أيام
مسيلمة الكذاب وانحاز إلى الجيش الإسلامي في حرب المرتدين.
وقد صار هذا من السنن التي استنَّ بها بعض الصحابة كعلي
بن أبي طالب، والقضاة كشريح، أن يحبسوا الغريم في المسجد[2].
2. وهذه هند بنت عتبة التي ظلت تعادي الدين والنبي r منذ اللحظة
الأولى، وهي التي خططت لقتل حمزة بن عبد المطلب، وظلت على بغضها حتى تم فتح مكة
وبعد أن أسلم زوجها أبو سفيان بن حرب، أصبحت
في اليوم الثاني للفتح تقول لزوجها "إني أريد أن أتابع محمدا. قال: قد رأيتك تكرهين
هذا الحديث أمس. قالت: إني والله ما رأيت الله عُبِدَ حق عبادته في هذا المسجد قبل
الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قياما وركوعا وسجودا"[3].
***
وسار هذا المسلك عبر التاريخ الإسلامي، فإذا نظرنا في
تاريخ الفتوحات والممالك الإسلامية رأينا أن الناس إنما دخلت في دين الله أفواجا
لما عاينته من حياة الفاتحين وأخلاقهم ومعاملاتهم مع بعضهم أو مع شعوب البلدان
المفتوحة، فلقد كان الدليل الحي المتمثل في المسلمين أقوى وأوسع أثرا من الدليل
العلمي العقلي الناشيء عن مقارنة الأديان ومطالعة الفروق ودراستها.
والحديث عن الفتوحات الإسلامية وأثر الفاتحين في إسلام
الشعوب يتسع جدا والأمثلة كثيرة جدا، ولكن ربما كان من المناسب أن نضرب مثالا
بانتشار الإسلام بين الزنوج الأفارقة، ففي قصة هؤلاء يتبدى الفارق واضحا تمام
الوضوح بين التعامل الإسلامي الذي قدم عليهم بالدين والرحمة وبين التعامل المسيحي
الأوروبي والأمريكي الذي قدم عليه بالمذابح والاستعباد ونهب الثروات، وسنأخذ شهادة
مؤرخ إنجليزي هو توماس أرنولد الذي رصد انتشار الإسلام في إفريقيا فكتب يقول:
"لا شك أن نجاح الإسلام قد تقدم في إفريقية الزنجية
تقدما جوهريا بسبب انعدام كل إحساس باحتقار الأسود، وفي الحق يظهر أن الإسلام لم يعامل
الأسود قط على أنه من طبقة منحطة، كما كان الحال لسوء الحظ -في كثير من الأحيان- في
العالم المسيحي... إن الأسود المُتَنَصِّر يميل إلى الإحساس بأن أبناء دينه من الأوربيين
ينتمون إلى لون من الحضارة لا يلائم طبائعه في الحياة، على حين يشعر في المجتمع الإسلامي
بأنه أكثر تعلقا به واطمئنانا إليه، وقد أجاد أحد المشاهدين المحدثين توضيح ذلك في
الرسالة التالية: إن الإسلام لا يتطلب من أهل نيجيريا، أن يفقد أحدهم قوميته باعتبار
أن ذلك شيء يصحب الدخول في الإسلام، ولا يستلزم تغييرات انقلابية في الحياة الاجتماعية
يستحيل تحقيقها في المرحلة الحاضرة من تطور أهل نيجيريا، ولا هو يقوض نفوذ الأسرة وسلطة
الجماعة، وليست هناك هوة بين الداعي إلى الإسلام والمتحول إليه؛ فكلاهما متساو أحدهما
مع الآخر -لا نظريا بل عمليا- أمام الله، وكلاهما إفريقي، وهما من أبناء أرض واحدة،
وينفذ مبدأ التآخي الإنساني تنفيذا عمليا، ولا يعني الدخول في الإسلام أن ينصرف الداخل
فيه عن شئونه وأسرته وحياته الاجتماعية، ولا عن احترامه لسلطان حكام بلاده الأصليين...
وليس هناك من لا يعجب بسلوك المسلم النيجيري ووقاره -بل بسلوك مسلمي إفريقية الغربية
عامة، وإن هيئة الرجل العامة لتنم عن شعور بالقومية واعتزاز بالجنس، يخيل إليك أنه
يقول: إن كلا منا يختلف عن الآخر، ولكننا جميعا بشر"، وضرب مثالا على
مُنَصِّر تزوج من زنجية فواجه مشاعر عدائية من إخوانه المسيحيين إلى الحد الذي
اضطر فيه إلى ترك المستعمرة، بينما لا يتأثر الداعية المسلم بمثل هذه العوائق[4].
وفي حين عاش العبيد الأفارقة قرونا من الذل والاستعباد
تحت قهر الأوروبيين ولم يحصلوا حقوق البشر إلا بعد معارك ومذابح، كان العبيد
الأفارقة لدى المسلمين على نقيض ذلك، يذكر الرحالة داوتي ذلك فيقول: "لا يوجد
في نفوس أولئك الإفريقيين أي حقد من أنهم صيروا عبيدا... حتى ولو أن سُرَّاق البشر
القساة قد انتزعوهم من ذويهم، وكان العملاء الذين يدفعون ثمنهم يتخذونهم في بيوتهم
ويختتن الذكور منهم، وإن الذي حرر أرواحهم من الحنين الطويل إلى أوطانهم، هو أن الله
قد تفقدهم في ملمتهم؛ إنهم يستطيعون أن يقولوا: إن نعمة الله قد تداركتهم منذ أن دخلوا
بفضلها في الدين المنقذ. لذلك يرون أنهم في بلد خير من بلادهم، فهم في ذلك عتقاء الله،
وهم في بقاع تحيا حياة أكثر مدنية، وهم في تربة الحرمين الشريفين، وفي بلد محمد r؛ لذلك يشكرون الله أن بيعت أجسادهم يوما ما بين الرقيق"[5].
والخلاصة –كما يقولها المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون- أن
"ما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في
اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت
جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم"[6].
***
وحتى البلدان التي دخلها الإسلام دون فتح عسكري وصلت
إليها هذه الجاذبية الاجتماعية للإسلام فدخلت فيه، وقد كتب المؤرخ المعروف د. حسين
مؤنس كتابا يرصد فيه المناطق التي دخلها الإسلام دون أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب
ثم انتهى إلى أن قال: "أعدت النظر في المصور الجغرافي (للأرض) لأرى ما فتحنا
بجهادنا وما فتح الإسلام بنفسه بالحكمة والموعظة الحسنة فخشعت نفسي، لأنني وجدت أن
الإسلام فتح بنفسه أضعاف ما فتحنا، وأن دعوة الحق في تاريخنا كانت أمضى من كل
سلاح، حتى البلاد التي خضنا المعارك لندخلها كان الإسلام هو الذي فتح قلوب أهلها
واستقر فيها"، وكان تقديره أن مساحة الأرض التي بلغتها الفتوحات ليست إلا ثلث
مساحة الأرض التي دخلها الإسلام[7].
ولقد كان أبطال هذه القصة هم التجار المسلمون الذين كانت
حياتهم وأخلاقهم هي سيوفهم الناعمة، ومما ينبغي أن يلفت النظر أن بلاد العرب
الصحراوية والمتباعدة اضطرتهم من قديم إلى أن تكون رحلاتهم التجارية في قوافل
كبيرة وعليها حراسة للتعامل مع قطاع الطرق أو وحوش الصحراء أو التعاون على
مهالكها، مما جعل قوافل العرب أشبه بالمجتمعات المصغرة التي تبدو فيها الحياة
الاجتماعية الإسلامية أكثر مما يبدو فيها أخلاق المسلم الفردية.
ولئن كان التجار هم فاتحة الخير لأهل هذه البلاد التي لم
يصلها الإسلام، فإن ترسخ الإسلام وتعمقه كان برحلة تعبدية اجتماعية عالمية، وهي
الحج، ففيه يرى المسلمون بعضهم بعضا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وينشأ من
جراء ذلك من المواقف والتعاملات والعلاقات والتأثير المتبادل ما لا يُحصى.
***
بل إنه وفي عصور ضعف المسلمين ووقوعهم تحت الاحتلال
الأجنبي، ظلت جاذبية الإسلام الاجتماعية الباب الأوسع لدخول الناس في الإسلام أو –على
الأقل- تغير انطباعهم عنه:
1. فمنذ نحو قرن ونصف، كتب الفيلسوف الفرنسي الشهير
إرنست رينان يقول: "ما دخلت مسجدا قط، دون أن تهزني عاطفة حادة، وبعبارة أخرى،
دون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلما"[8].
2. ومنذ نحو قرن كتب الكولونيل الإنجليزي رونالد فيكتور
بودلي عن حياته بين البدو في صحراء المغرب يقول:
"قضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت
أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغنامًا،
وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام حتى أنني ألفت كتابًا عن محمد
r عنوانه «الرسول» وقد كانت تلك الأعوام التي قضيتها
مع هؤلاء البدو الرُّحل من أمتع سِنيّ حياتي وأحفلها بالسلام والاطمئنان والرضى بالحياة.
وقد تعلمت من عرب الصحراء التغلب على القلق، فهم -بوصفهم مسلمين- يؤمنون بالقضاء والقدر،
وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذا سهلًا هينًا. فهم لا
يلقون أنفسهم بين براثن الهم والقلق على أمر، إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأنه
لا يصيب الفرد منهم إلا ما كتب الله له، وليس معنى ذلك أنهم يتواكلون، أو يقفون في
وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، كلا، ودعني أضرب مثلًا لما أعنيه: هبت ذات يوم عاصفة عاتية،
حملت رمال الصحراء، وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي الرون في فرنسا،
وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة، حتى أحسست كأن شعر رأس ينتزع من منابته، لفرط وطأة
الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون، ولكن العرب لم يشكوا إطلاقا، فقد
هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة: (قضاء مكتوب). ولكنهم ما إن مرت العاصفة حتى
اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل إن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا
الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء دون أن تبدو من أحدهم شكوى...
قال رئيس القبيلة: لم نفقد الشيء الكثير، فقد كنا خلقاء بأن نفقد كل شيء، ولكن حمدًا
لله وشكرًا، فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ بها
عملنا من جديد"[9].
وإن قصص إسلام المفكرين والمستشرقين حافلة بهذه المعاني
وهي من الكثرة والغزارة بحيث صارت تكتب فيها المؤلفات المطولة، والسلاسل ذات
الأجزاء.
***
وليس الماضي بأقل وضوحا من الحاضر في جانب "جاذبية
الإسلام الاجتماعية"، فالمراكز الإسلامية المعنية بالدعوة إلى الإسلام، خصوصا
تلك التي في البلاد العربية وتتعامل يوميا مع الجاليات غير المسلمة، تشهد بأن هذا
هو الباب الأوسع للدخول في الإسلام.
ولذا فقد ابتكرت بعض المراكز الإسلامية برنامجا لغير
المسلمين لقضاء شهر في الحياة كأنهم من المسلمين، يقضون فيه أياما بلا طعام حتى
صلاة المغرب كنوع من معايشة الصيام، ويستمعون لخطيب الجمعة، وترتدي النساء الحجاب...
وهكذا.
ونحن إذ قد علمنا هذا، كان لا بد أن نسأل أنفسنا: فما هو
دورنا؟
وهذا –إن شاء الله تعالى وقدر- يكون حديثنا في المقالات
القادمة: الرعاية الاجتماعية لغير المسلمين، والرعاية الاجتماعية للمسلمين الجدد.
حفظك الله
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذفمقال مميز جدا.