من بدائع ما كتبه العلامة الكبير حكيم التاريخ ابن
خلدون، تفسيره لقوة المجتمع، يسميه "بأس الناس"، وخلاصة قوله أن البدو،
هم أكثر الناس بأسا ومَنَعة، وأنفة وعزة، لا يقبلون الذل، بخلاف أهل الحضر الذين
فقدوا هذه الطباع لوقوعهم تحت سلطة حاكمة، فلأن البدوي يعيش حياة قاسية فهو يقوم
بأمر نفسه، فهو أكثر صبرا وجلدا وتحملا، وهو أكثر تيقظا وانتباها للمخاطر
والعاديات، بينما يتعود أهل الحواضر على الاتكال على السلطة في الحماية من الأعداء
وفي الفصل في القضاء وفي غير ذلك من الأمور.
هذه السلطة لها ثلاث حالات:
1.
أن تكون سلطة رفيقة عادلة، فحينئذ يشيع في أهل الحواضر
العزة ويتمتعون بمزايا الحرية وطباع الإنسانية.
2.
أن تكون سلطة قهر وسطوة، فحينئذ تنكسر نفوس أهل الحواضر
ويعانون الخوف والحذر، وتضعف قوتهم "لما يكون من التكاسل في النفوس
المضطهدة".
3.
أن تكون سلطة عنف وقتل، فحينئذ يشيع فيهم الذل
والعبودية.
ثم يلفت ابن خلدون النظر إلى سلطة أخرى غير سلطة الحكام،
وهي سلطة المشايخ والمؤدبين، فيذكر أنه حتى البدوي الذي يتلقى تأديبا منذ الصغر
ينكسر بأسه البدوي ويشب متعودا على الانقياد ومستسلما لتلقي العقوبة لما درج عليه
من مجالس الشيوخ ذات الهيبة وما قد يكون فيها من التأديب. يقول:
"ونجد أيضا الذين يُعانون الأحكام (السلطة) وملكتها
من لدن مَرْبَاهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم
كثيرا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه، وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين
للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة،
فيهم هذه الاحوال وذهابها بالمنعة والبأس".
ويردُّ ابن خلدون عن تساؤل: فلماذا إذن لم يذهب بأس الصحابة
رغم أنهم تأدبوا وتعلموا الدين وأخذوا العلم عن النبي؟ فيقول: لأنهم لم يأخذوا
الدين كما يأخذه الناس بالتأديب والتعليم الذي هو مهنة وصنعة، بل تلقوه وهم أحرار
النفس مقبلون عليه متحركون إليه فلم تنكسر نفوسهم، أو بتعبيره "كان وازعهم فيه
من أنفسهم لما تُلِي عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي
إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا، يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد
الإيمان والتصديق، فلم تزل سَوْرَة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب
والحكم".
وهكذا تجد أن ذهاب البأس له طريقتان: طريقة القهر والعنف
التي تكون من السلطة الحاكمة، وطريقة الانقياد والخضوع التي تكون من النفس تجاه
شيخها منذ الصغر، فتعتاد الانقياد والخضوع، وتستنكر المخالفة والجسارة أمامه.
فإذا اجتمعت الطريقتان على الشخص الواحد فأنت أمام نموذج
شخص مقهور بعنف السلطة وسوطها، ثم هو مقهور لشيخ يمارس عليه ذلك السلطان العلمي.. فإذا
كان الشيخ مقهورا للسلطة ساعيا في رضاها فأنت أمام نموذج مسكين من الشباب.. شباب
قد ذهبت طاقة نفسه تماما لكنه يحب أن يقنع نفسه أن ذلك ليس ضعفا ولا جبنا، وإنما
هو اتباع للعلماء.. فهم أكثر علما بالشرع وبالواقع وأقدر على الاجتهاد والنظر
الكلي والجزئي، وهم قد كفونا مؤونة التفكير والتعب.
فإذا جاء من ينغص عليه حياته بالمناقشة صاح في وجهه
"لحوم العلماء مسمومة، احفظ قدرك، تأدب مع العلماء، هل أنت أعلم منهم ...
إلخ".
ولا تأمل في أن يستفيق من التناقضات أو كثرة التأويلات
والاجتهادات والتراجعات، فالأمر ليس موقفا عقليا بل هو موقف نفسي، إنه الجنين
الملتصق بأمه، فأينما توجهت به كان راضيا.
ولقد كان الصوفية صرحاء مع أنفسهم في هذا الأمر، فهم
مستسلمون للسلاطين، يشترطون أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل، وها
هو علي جمعة يملأ قلوب مريديه بأخبار الوالي الذي إن رأيته يزني فلا تصدق عينيك،
أو لربما زنى وظلت كراماته الربانية لا تفارقه!
ومثلهم فعل الجامية المدخلية من السلفيين! فقد وضعوا
أنفسهم في خدمة السلاطين، حتى قال قائلهم، لو تغلب شنودة على البلاد لسمعنا له
وأطعنا ورأينا فيه ولي أمر!!
ثم جاءتنا الثورة وأمواجها، والانقلاب ومذابحه بطائفة
أخرى.. طائفة حزب النور، زعيمه برهامي ورئيسه يونس بن مخيون!!
ولله الأمر من قبل ومن بعد!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق