في خلال أيام، تحول الرجل الحليم الرشيد الذي ينطق
بالحكمة إلى مُخَرِّف يقول كلاما فارغا لا معنى له ويستحق عقوبة الرجم حتى الموت، هكذا
تحولت نظرة أهل مدين إلى نبيهم شعيب عليه السلام، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا
مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ثم ما لبثوا أن قالوا {يَا شُعَيْبُ
مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا
رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}
ذات هذا المشهد تكرر من قبل مع نبي الله صالح عليه
السلام {يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا}، ثم لم يجدوا حلا
إلا أن يتآمروا لقتله ويقسمون لأوليائه أنهم ما فعلوا {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ
لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ
أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}
فأما من لم يكن له مثل أولياء صالح ولا رهط شعيب فقد
تمنى أن يكون له ذلك حين كان في اللحظة العصيبة، ذلك هو لوط عليه السلام الذي حاول
أن يدفع قومه الفاحشين عن ضيفه فلم يستطع، فقال وهو يدافعهم وراء الباب {قَالَ لَوْ
أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ولقد كان عليه السلام
يأوي إلى ركن شديد، فقال له ضيوفه {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا
إِلَيْكَ} وأشار الملك إليهم فذهبت أعينهم {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ}.
ويبدو –والله أعلم- أن قصة لوط كانت مثالا ضربه الله
للناس، عن صاحب الدعوة حين يفتقد إلى الحماية ولو كان نبيا، ذلك أن الله لم يبعث
من بعده نبيا إلا في "ثروة من قومه" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم[1]،
والثروة: هي الكثرة والمَنَعة التي تكفل له الحماية، ولذلك كان من علامات الأنبياء
أنهم يُبعَثون في أنساب (أي أشراف) قومهم، كما جاء في الحوار المشهور بين هرقل
وأبي سفيان حين كان هرقل يسأله كي يتثبت من أن محمدا نبي حقا[2].
وليس معنى هذا أن النبي يُحْفَظ من كل الأذى، بل يصير
إيذاؤه أمرا عسيرا صعبا على خصومه وأعداء رسالته، ويصير قرار قتله هو القرار
الأخير الذي لا يُتَّخَّذ إلا بعد استنفاد المحاولات الأخرى لإسكاته وقهر دعوته، فالأنبياء
أشد الناس بلاء ومنهم من قُتِل كما فعلت بنو إسرائيل بأنبيائها، وكما كانت سيرة
نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فلقد أوذي في نفسه وأهله وأهين وضُيِّق عليه وحوصر،
لكن قرار قتله لم يُتَّخذ إلا بعد ثلاثة عشر عاما.
وذلك أن الله بعث نبيه في أشرف نسب من قوم القرشيين، فحماه
بالعصبية القبلية العشائرية، وامتن عليه بهذه الحماية منذ أول الأمر بعمه أبي طالب
فقال تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}، وظل عمه -الذي هو سيد بني هاشم
حينئذ- يحوطه ويرعاه ويدفع عنه رغم كراهيته لما جاء به ابن أخيه، حتى لم يكن أحد
من المشركين يجد حلا سوى التفاوض مع أبي طالب أن يكف عنهم محمدا، ثم لم يظفروا منه
بشيء.. فبهذه الحماية نجَّى الله نبيه من العذاب الذي نزل بالصحابة رضوان الله
عليهم، وهو العذاب الذي أنزله بهم أهلوهم، فإن كفار مكة –احتراما للعصبية القبلية-
قرروا أن يتولى كل قوم التنكيل بمن آمن منهم ومن مواليهم.
ولك أن تعجب إذا علمت أن حصار بني هاشم الذي استمر ثلاث
سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر والجلود من الجوع، شمل بني هاشم مسلمهم وكافرهم، فكان
ذلك الكافر يتحمل كل هذا الألم والعنت الرهيب لأجل عصبية قبلية في سبيل دين هو
كافر به، وربما عرَّض أحدهم نفسه للقتل إذ يبيت مكان النبي الذي كان أبو طالب ينقل
مبيته خوفا عليه من الاغتيال.
وقد ظلت هذه الحماية حتى اللحظة الأخيرة في الفترة
المكية، فحتى بعد وفاة أبي طالب التي كانت من أصعب النوازل على النبي لم تنتهِ
حماية بني هاشم، بل تولى العباس زعامتهم فكان على العهد[3]،
حتى قال للأنصار في بيعة العقبة الثانية –قبل الهجرة بشهرين- "يا معشر الخزرج
إن محمدا منا حيث علمتم، وهو في منعة ونصرة من قومه وعشيرته، وقد أبى إلا الانقطاع
إليكم، فإن كنتم وافين بما عاهدتموه فأنتم وما تَحَمَّلْتُم، وإلاَّ فاتركوه فِي قومه"،
ولذلك لم يكن السبيل للتخلص منه إلا ما توصل إليه زعماء الكفر، أن يشتركوا جميعا
في قتله بضربة رجل واحد فلا تقوى بنو هاشم على حربهم فيقبلون الدية، فذلك دليل على
أن حماية بني هاشم كانت قائمة.
ولعل هذا يدلك على أن النبي حين هاجر أو بحث عن مأوى لم
يكن ذلك فرارا من الأذى أو طلبا للحماية الشخصية، بل كان طلبا لأناس يقيمون الدولة
ويحمون الدعوة لا صاحبها فحسب.
وحين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، كان الأنصار على
وعي بهذه المهمة، فاستقبلوه بالسلاح، وصار النبي تحت حراسة دائمة لمدة شهر، حتى
نزل قول الله تعالى {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فتخلى عن الحراسة[4].
وأهم ما يُستفاد من هذا أن النبي كان في الحراسة سواء
وهو محميٌّ بعصبية النسب والقبيلة في مكة، أو وهو محميٌّ برجال الدين والدولة في
المدينة، وفي هذا درس بليغ بليغ لمن يترك نفسه تحت رحمة الأعداء واثقا إلى قانون
أو شرعية أو أعراف أو ضمير عالمي أو رأي عام ... إلى آخر هذه الترهات التي لم يؤمن
بها إلا المغفلون فأوردتهم المهالك.
إن مجرد حمل الحق والدعوة إليه بالحسنى لا يغير شيئا في
واقع الباطل، بل لا بد لكل حق يحمله داعية من حماية تحوطه من بطش الباطل حتى يستوي
على عوده ويبدأ جهاده، وتلك سيرة التاريخ في الدعوات، يشرحها ابن خلدون في عبارات
بسيطة نافذة فيقول: "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، وهذا لما قَدَّمْناه
من أن كل أمر تُحمل عليه الكافَّة فلا بد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح -كما مر-
"ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه" وإذا كان هذا في الانبياء وهم أولى
الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم؟!... أحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها
ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه،
وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب
وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله
حكيم عليم، فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب (أي الدعوة بغير قوة تحميه) -وكان فيه
محقا- قَصَّر به الانفراد عن العصبية، فطاح في هوة الهلاك"[5].
والخلاصة:
أن الداعية –المؤسس على أقل تقدير- والدعوة لا بد لها من
قوة وحماية تتقي بها بطش المجرمين المبطلين، وهذا المعنى من أهم المعاني الذي
ينبغي أن تعتنقه الحركات الإسلامية، إذ ما من حركة استطاعت أن تنجح وهي تضع نفسها
تحت رحمة عدوها، فليس أسهل من قرار ينتهي به أمرها أو في أحسن الأحوال يُبقي عليها
موجودة بلا تأثير، بل إن فشل كثير من الحركات الإسلامية إنما كان لهذا السبب.
فكيف لم نتعلم وبين يدينا كتاب الله وسنة رسوله ومن
بعدهما حكمة أسلافنا؟!
وإن لم نتعلم فيما سبق، فهل سنتعلم بعد أن يضاف إلى ذلك
مرارة التجارب المعاصرة؟!
[1] أحمد (8373)،
والبخاري في الأدب المفرد (605)، والترمذي (3116) وحسنه، وصححه الألباني وشعيب
الأرناؤوط.
[2] البخاري (7).
[3] بل إن ثمة رواية ضعيفة، نوردها
هنا للاستئناس، أوردها ابن سعد في الطبقات ونقلها عنه ابن الجوزي في المنتظم وابن
كثير في البداية والنهاية والحلبي في السيرة والصالحي في السبل، أن أبا لهب شقَّ
عليه قلة خروج محمد صلى الله عليه وسلم من بيته بعد وفاة أبي طالب فذهب إليه وقال
"يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا في صنعه، لا واللات
لا يوصل إليك حتى أموت"، وتصدى لرجل سب النبي حتى ظنوا أنه أسلم فأنكر ذلك
وقال: "ما فارقت دين عبد المطلب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد".
[4] تختلف الروايات حول الآية هل
هي مكية أم مدنية، وبالتالي: فهل الحراسة التي كانت للنبي كانت من بني هاشم بإشراف
أبي طالب أم هي حراسة أصحابه في المدينة، والأرجح أنها مدنية بدليل رواية البخاري
عن عائشة وفيها: "فلما قدم (النبي) المدينة قال: "ليت رجلا من أصحابي صالحاً
يحرسني الليلة". إذ سمعنا صوت سلاح، فقال: "من هذا؟ " فقال: أنا سعد
بن أبي وقاص جئت لأحرسك. فنام النبي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق