ذكرنا
في المقالات الماضية كيفبدأ نفوذ الأتراك في بلاط الخلافة العباسية، وكيف كانت
لهم إنجازات على الصعيد العسكري مثل القضاء على تمرد بابك الخرمي
الخطير الذي ذهب ضحيته ربع مليون مسلم، وفتح عمورية
الشهير، ثم ذكرنا كيف اكتشفت مؤامرة في قصر الخلافة العباسي هي أشبه ما يكون
بمؤامرات التنظيم الموازي في تركيا المعاصرة، والتي أدت لنهاية القائد التركي اللامعالأفشين.
ثم
انتهى عصر المعتصم بالله (الخليفة العباسي الثامن)، وبدأ عصر ابنه الخليفة الواثق
بالله..
سار الواثق على خطى أبيه في تقديم الأتراك والاعتماد عليهم،
ففي (رمضان 228هـ) خلع الواثق على أشناس الأمير التركي، لقب السلطان، وتَوَّجَه وألبسه
وشاحين من جوهر[1]، وبذلك اعترف له بحقوق تعدو نطاق المهام العسكرية الخاصة؛
حتى إذا تُوُفِّيَ الواثق في سنٍّ مبكرة كان وصيف -خَلَف أشناس- قد أمسى من القوة بحيث
يستطيع أن يرفع إلى العرش الرجل الذي يرتضيه[2].
والواثق هو الخليفة الذي يمكن للمؤرِّخ أن يحمله مسئولية
ما آل إليه حال الأتراك، فإنه طوال فترته «لم يقم بفعاليات عسكرية تذكر، فكان حكمه
فترة ركود جعل الترك يشعرون بأهمِّيَّتهم ويتدخَّلون في السياسة، وبدل أن يقف الخليفة
ضد هذا الاتجاه ويقصر فعاليتهم على النواحي العسكرية -كما كان يفعل المعتصم- نراه يسهل
الطريق لهم بتعيينهم في الإدارة، فاتَّسع مدى نفوذهم، ولعلَّ ضعفه وقلة إدراكه مسئولان
عن خطئه الخطير، وهو عدم تعيين ولي عهده بعده، ففتح للترك باب التدخل في آخر مراحل
السلطة وهي اختيار الخليفة، فلم يترددوا في استغلال الفرصة؛ بل كانت لهم اليد الطولى
في انتخاب المتوكل فكانت هذه سابقة جرت الويلات على العباسيين»[3].
وكان عهد المتوكل كأنه رد فعل على الخلفاء الذين سبقوه، لا
سيما المأمون والمعتصم والواثق، وقد كان رد فعل متطرفًا في الاتجاه الآخر.
كان نفوذ الجند الأتراك قد ازداد جدًّا حتى أصبحوا الآمر
الناهي في شئون الدولة مهما كبرت؛ حتى مسألة الخلافة كان أمرها بيدهم، وحين مات الواثق
كانت رغبة الأتراك في تولية ابنه محمد غير أن سنه الصغيرة وقفت حائلا دون تنفيذ مرادهم،
ولعلَّهم خشوا أن يُثير هذا عامة العرب وأهل البلاد إذ سيصير واضحًا أن الخلافة في
أيديهم فعليًّا، فربما تهيبوا من هذا الموقف وتداعياته، ومن ثم ذهبوا بالخلافة إلى
جعفر المتوكل الذي كان في السادسة والعشرين من عمره مؤملين أن يكون الأمر فعليًّا بيدهم
في وجود واجهة مقبولة[4].
وكان أول ما فعله المتوكل أن أمر بإعطاء الشاكرية[5] من الجند راتب ثمانية شهور، بينما أعطى للأتراك أربعة أشهر،
وللمغاربة ثلاثة أشهر[6]. فيما يبدو أنها محاولة لتقريب عنصر غير الأتراك إليه.
وعلى عكس ما فعل الواثق من ترك أمر ولاية العهد -أو ربما
تَعَلُّمًا من الدرس- فما هي لا شهور حتى ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن
وعقد له على ذلك كله في رمضان (233هـ)[7]، في خطوة بدت تحاول ترسيخ سلطان العرب، ففي ذلك الوقت كان
محمد يبلغ من العمر عشر سنوات فقط، فكأن المتوكل أراد منذ البداية حصار النفوذ غير
العربي في الخلافة.
في العام التالي (234هـ)، وذات ليلة سمر وخمرٍ صدرت عن المتوكل
إساءات للحاجب التركي إيتاخ[8]، الذي هو أقوى رجال الدولة وأكثرهم حرسًا ونفوذًا، فهمَّ
إيتاخ أن يقتل الخليفة، ثم اعتذر إليه المتوكل مُذَكِّرًا إياه بأنه منه في مقام الأب
من ابنه والمربي من ربيبه، غير أن هذا الاعتذار ما كان يكفي لطمأنة الخليفة فظل
متوجسا من إيتاخ، فأوحى إلى أحد أتباعه أن يقنع إيتاخ بالذهاب إلى الحج هذا العام حتى
اقتنع، وبهذا أبعده المتوكل عن حاضرة الخلافة وقتًا جيدًا، ولمزيد من إخفاء ما يدبره
له بالغ في إكرامه وجعله الوالي على كل بلدة ينزل بها وأمر الولاة الذين يمر بهم إيتاخ
بتعظيمه وإكرامه، وخرج إلى الحج في موكب عظيم، وتولى الحجابة (18 من ذي القعدة 234هـ)
القائد التركي وصيف بدلًا عنه[9].
وما كاد يعود إيتاخ إلى سامراء (عاصمة الخلافة في ذلك
الوقت) حتى استقبلته هدايا الخليفة في الطريق إليها، ثم وصلته رسالة من إسحاق بن إبراهيم
(نائب بغداد) أن الخليفة رأى أن يأتي إلى بغداد أولًا؛ لكي يستقبله وجوه الهاشميين،
فما إن دخل إلى بغداد حتى قبض عليه إسحاق بن إبراهيم فحبسه، ثم قُتل داخل سجنه (5 من
جمادى الآخرة 235هـ)، وقد علَّق الطبري بعبارة تدل على نفوذ إيتاخ الواسع: "لو
لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه ولو دخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه
أمكنه ذلك"[10].
وفي آخر هذا العام، وتحديدا (27 من ذي الحجة 235هـ)، أخذ
المتوكل العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم: محمد (المنتصر بالله)، ثم محمد (أو الزبير)
المعتز (المعتز بالله)، ثم إبراهيم وأعطاه لقب (المؤيد بالله)، وجعل لكلِّ منهم الإشراف
على البلاد التي تقع تحت سلطة الخلافة، فالمنتصر بالله كان له الإشراف على مصر والشمال
الإفريقي وثغور الشام والعراق وبلاد اليمن والحجاز والعراق وفارس، والمعتز بالله كان
له الإشراف على خراسان وما والاها وأرمينية والري وأذربيجان، وأما المؤيد بالله فكان
له الإشراف على الجيوش في دمشق وحمص والأردن وفلسطين. فكان الواحد منهم يستنيب الولاة
في حكم هذه البلاد ويرجعون إليه، وكانت تُضْرب السِّكَّة (العملة) في البلاد باسم المتولي
عليها من أبناء الخليفة[11]. وفي مثل هذه الخطوة محاولة حصار مبكر لنفوذ الأتراك في
السلطان على البلاد.
وكان من أهمِّ وأخطر ما قام به المتوكل للخروج بالخلافة من
نفوذ الأتراك هو محاولته تغيير عاصمة الخلافة، وقد بدأ هذا بعد شهور قليلة من توليه
حين استقرَّ في المدائن (جمادى الأولى 233هـ)، غير أن الأمر لم يكتمل، فكرره مرة أخرى
بعدها بعشر سنين حين اتخذ القرار الأجرأ بنقل عاصمة الخلافة إلى دمشق (ذي القعدة
243هـ)، معقل العرب وحاضرة الخلافة الأموية السابقة، وقد وصلها (صفر 244هـ) في موكب
عظيم فخم، وبدأ في نقل الدواوين (الوزارات) وبناء القصور له ولحاشيته، غير أن جوَّ
دمشق لم يلائمه، فهي أكثر برودة من بغداد وأكثر أمطارا وثلوجا، ثم إن وجوده المفاجئ
فيها هو وحاشيته الكبيرة سبب أزمة اقتصادية في دمشق، زاد من تفاقمها شح الغذاء بسبب
انقطاع الطرق لما نزل بها من الأمطار والثلوج، فكان طبيعيًّا -والحال هذا- أن يراها
غير مناسبة لمقام الخلافة، فعاد إلى سامراء بعد إقامته بدمشق شهرين وعشرة أيام، وعاد
الفرح لأهل العراق بعد أن أصابهم خبر انتقال حاضرة الخلافة من بلادهم بحزن شديد[12].
لكن إجراءات المتوكل جميعها ستفشل، وستدخل الخلافة
العباسية عصرها الثاني، وهو العصر الذي سماه المؤرخون "عصر سيطرة
الترك"، وهو ما نبدأ به في المقالات القادمة إن شاء الله تعالى.
نشر في تركيا بوست
[5] الشاكري: الأجير المستخدم، وهو معرب من جاكر. انظر: الفيروزآبادي:
القاموس المحيط ص538. والشاكرية هم أحد الفرق العسكرية للدولة العباسية.
[8] وأصله عبدٌ
من بلاد الخزر التحق بخدمة المعتصم ثم ظهرت منه مواهب القتال والفروسية فارتفعت مكانته
في الدولة أيام المعتصم والواثق والمتوكل، وتولى كثيرًا من الأعمال الإدارية المهمة،
فهو قائد جيش المغاربة والمسئول عن دار الخلافة، والمسئول عن تنفيذ عقوبات الأسر والحبس.
الطبري: تاريخ الطبري 5/ 300.