الأربعاء، أغسطس 23، 2017

حقوق الأمة على الحاكم في نظام الإسلام

يمكن تلخيص تلك الحقوق في ثلاثة: حق التولية، حق المراقبة والتقويم، حق الإنكار والعزل.

حينما كنت أقول هذا لبعض أصدقائي، سألني أحدهم: ما الفارق إذن بين النظام الإسلامي والنظام الغربي العلماني، فعندهم نفس هذه الحقوق؟

وهذا نبهني لأمر يغيب عن تفكير من يتناولون موضوع النظام السياسي الإسلامي: لقد أنشأ الإسلام نظاما سياسيا يجعل الأمة فوق السلطة، بمعنى أنه يوزع عناصر القوة بين الأمة والسلطة، على العكس مما هو في حالة الدولة الحديثة المركزية التي تتركز فيها القوة في يد السلطة وحدها، فتكون الأمة أمام السلطة كالأسير أمام السجان والأعزل أمام المسلح.. يصنع الإسلام نظاما سياسيا يحصل فيه التوازن بين قوة الأمة وقوة السلطة، بينما تصنع الدولة الحديثة نظاما تكون فيه السلطة هي الجهة التي تحتكر القوة. (وهو معنى كررناه كثيرا في مواضع سابقة، انظر هذا المقال وروابطه)

وهذا مدخل مهم لكي نفهم منه أن الإسلام يُطالب الأمة بالسمع والطاعة للأمير في المعروف وينهى عن الخروج عليه طالما لم يرتكب الكفر البواح ولم يخرج عن نظام الإسلام. إذ تكوين النظام يجعل الأمة صاحبة قوة وعندها القدرة على الاحتجاج والثورة. بينما القيمة الأساسية في فكر الدولة الحديثة هي "الحقوق والحريات"، لأن السلطة تستطيع كبت وقهر المحكومين بما تحتكره من أدوات القوة، فلا يمكن مطالبة المقهورين بالسمع والطاعة بل تُطالَب السلطة بتوفير وتأمين الحقوق والحريات، ويكون الكفاح السياسي في الدولة الحديثة كفاح لتوسيع هامش الحريات وتقليل تغول السلطة. ومن هنا يجب أن نفهم حقوق الأمة وحقوق الحاكم في النظام الإسلامي ضمن هذا التصور.

وقد تناولنا في مقال سابق مسألة تولية الحاكم، والآن نتحدث في الحقين الآخرين: المراقبة والعزل.

حق المراقبة

في الخطبة الأولى لأبي بكر في الخلافة قال:
"إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"

هنا قرر الصديق أن الأمة رقيبة على الحاكم، ومشاركة له في شأن السياسة والإدارة، فهي تراقبه وتحكم على أدائه، فإن كان محسنا أعانوه فيزداد إحسانا، وإن كان مسيئا نصحوه وقوموه فيتداركون إساءته.

والأمة والحاكم جميعا يخضعون للشريعة ولنظام الإسلام، ولهذا فإن معيار التقييم واضح للجميع، يعرف الجميع كيف يحكم على شيء بأنه حسن وعلى آخر بأنه سيئ، وأما ما كان اشتباه أو تداخل فهو أمر مردود لأهل العلم والاستنباط. كما في الآية (ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).

فالأمة المسلمة ليست أمة أكل وشرب ورفاهية ومادة، بل هي الأمة المؤتمنة على الرسالة، فهي عندما تراقب حاكمها وتقيم عمله تقيسه على معيار الإسلام وتعالميه، فلا يقبل من الحاكم أن يظلم ويقسو بحجة "مصلحة الدولة" أو أن يسمح بانتشار الفحش والرذيلة لأنها تزيد من "الدخل القومي" أو يسمح بإجراءات اقتصادية فيها احتكار أو غش مراعاة لرجال الأعمال لجذب استثماراتهم.. كل هذه الأمور وأمثالها لا تسمح به الأمة المسلمة ولو كان فيها ازدهار للأموال والرفاهية والطعام والمباني، إنما معيار ومقياس طاعة الأمة لحاكمها بقدر طاعته لله ورسوله.

يُلاحظ في عبارتي الصديق فارق واضح، فأبو بكر يطلب في الأولى أن يعينوه إذا أحسن وأن يقوِّموه إذا أساء. لكنه في العبارة الثانية يتحدث عن شرعية الأمة في عصيانه والتمرد عليه إذا خرج عن طاعة الله ورسوله.. ولا بد أن ننتبه لهذا جيدا. ذلك أن الحاكم سيكون له آراء واجتهادات وتصرفات في شؤون الحكم والسياسة والإدارة فهو ما دام يعمل في إطار الرسالة والشريعة فإن على الأمة أن تعينه في الصواب وتنصح له في الخطأ، لكنه إذا خرج عن الشريعة ولم يلتزم هذه المرجعية العليا فقد سقط حقه على الأمة في السمع والطاعة، ونشأ واجب على الأمة أن تعصيه وتقاومه حتى يعود إلى الالتزام بنظام الدين وبالمرجعية العليا التي هي الإسلام، يقول الإمام عبد القاهر البغدادي في كتابه "أصول الدين":

"فمتى أقام (أي: الحاكم) في الظاهر على موافقة الشريعة كان أمره في الإمامة منتظما، ومتى زاغ عن ذلك كانت الأمة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب أو في العدول عنه إلى غيره. وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعُمَّاله وسُعاته، إن زاغوا عن سننه عدل بهم أو عدل عنهم"

وإذا كان واجب الأمة أن تعصي من يخرج عن الشريعة فكيف بمن يخرج على الشريعة ويحاربها وينشر بقوة السلطة ما يناقضها؟!

ثم ها هنا أمر مهم أيضا، إن تقويم الحاكم والنصح له أو عصيانه إن خرج عن الشريعة ليست مجرد "حق" تمارسه الأمة، بل هو "واجب"، فالحق هو الأمر الذي لصاحبه أن يتنازل عنه، بينما "الواجب" هو أمر لا يجوز تركه والتنازل عنه. فعلى الأمة عليها "واجب" مراقبة الحاكم وتقويمه بل والخروج عليخ إن خرج عن الشريعة.

وقد وقع في عهد أبي بكر أن رجلا أغلظ له القول، حتى غضب أبو بكر غضبا شديدا من إغلاظه له وشدته، فقام أبو برزة الأسلمي فقال: ألا أضرب عنقه يا خليفة رسول الله؟ فإذا أبو بكر يتجنب الأمر (أي: يغير الموضوع)، فلما انتهى الجمع أرسل أبو بكر إلى أبي برزة فقال له: أرأيت حين رأيتني غضبت على رجل فقلت أضرب عنقه يا خليفة رسول الله أَوَ كنت فاعلا ذلك؟! قلت: نعم والله والآن إن أمرتني فعلتُ. قال: والله ما هي لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم". فهنا أسس أبو بكر أن المعارضة للخلفاء والإغلاظ في القول لهم ليست مما يستوجب القتل كما كان ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشورى

كان رسول الله خير البشر وأكملهم وأعلمهم بالله والمتصل بالوحي، ومع هذا أُمِر بالشورى، ولما وجد رغبة المسلمين في الخروج إلى أحد نزل على رغبتهم رغم أنه كان يرى البقاء في المدينة والدفاع عنها من داخلها، فلما حصلت المحنة في معركة أحد أنزل الله عليه القرآن يؤكد عليه أن يظل على رفقه ولينه معهم وأن يستشيرهم (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر). وكان رسول الله مثالا في الاستشارة حتى ليقول أبو هريرة: "ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ومن العجيب أنه منذ كان المسلمون في مكة وقبل أن تتأسس لهم دولة كان القرآن يصف لهم صورة مجتمعهم المنشود بأنه مجتمع عبادة وشورى وتكافل (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون). هذه الآية هي في سورة الشورى، وهي سورة مكية. فلما توفي رسول الله، وانقطع الوحي من السماء، كان عصر الخلافة الراشدة هو التأسيس الكامل لشأن الشورى التي ستسمر في شأن الأمة مع حكامها:

كان أبو بكر إذا لم يجد للمسألة نصا في كتاب الله سأل الناس: هل بلغهم شيء في هذا عن رسول الله، فإن لم يجد جمع لها رؤوس الصحابة فاستشارهم، فإذا اجتمعوا على رأي أخذ به. وكان عمر يجمع للشورى ما أمكنه من الصحابة الكبار، لا سيما في المسائل الكبرى والنوازل، فعند طاعون عمواس جمع من كان لديه من المهاجرين ثم الأنصار ثم مشايخ قريش ممن تأخر إسلامهم حتى صدر عن رأيهم، وذلك قبل أن يلقى عبد الرحمن بن عوف فيخبره بحديث النبي "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"، وحين كثرت الأموال استشار الصحابة في مصارفها، وفي إنشاء الديوان، وانعقد مجلس للمشورة ثلاثة أيام في شأن تقسيم الأراضي الواسعة الخصبة في العراق وما إن كانت تقسم على الفاتحين أم يُحتفظ بحق فيها للأجيال القادمة، وكان يستشير الشباب حتى كان من أهل مشورته الصحابي الشاب عبد الله بن عباس، حتى إن الإمام الزهري قال لبعض الغلمان من الناشئة: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم"، وقد ختم عمر حياته بمجلس للشورى في شأن انتخاب الخليفة من بعده.

وعلى مثل ذلك من المشورة جرى شأن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فقد افتتح عهده بالشورى في شأن عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان ثأرا لأبيه لما حامت حوله شبهة الاشتراك مع أبي لؤلؤة، فكان أكثر الناس مع دفع الدية فدفعها عثمان من ماله. وكانت خطواته في جمع الأمة على مصحف واحد وحرق بقية النسخ على ملأ من الصحابة كما قال علي بن أبي طالب، بداية من كاتب المصحف والمُحَكَّم في اللهجة ونشر النسخ من المصحف المعتمد، وغير ذلك حتى آخر حياته حيث ثبتت أخبار مشاوراته للصحابة في الفتنة التي انتهت باستشهاده.

وكذلك كان علي يستشير كما في وقف القتال في صفين وفي التعامل مع الولاة في الأمصار ومع المشركين المتظاهرين بالإسلام.

وأبرز ما يبدو فيه شأن الأمة مع الحاكم هو أن يعزل الأمير الوالي عنهم إذا لم يرغبوا فيه، وقد شهد عصر الراشدين عزل ولاة لمجرد طلب أهل البلد، فربما اتهموهم بما هو كذب أو بما لا يثبت، ومهما كان هذا الوالي من الصحابة المشهورين بالفضل والسابقة والكفاءة، فقد عُزل عن الكوفة سعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، وقد قال عمر: "هان شيء أُصلح به قوماً: أن أُبدلهم أميراً مكان أمير"

وقد تكرر مثل هذا المعنى في قول عثمان الذي ردَّ أبا موسى الأشعري إلى الكوفة وعزل سعيد بن العاص، ومعه رسالة لأهل الكوفة تقول: "قد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم، حتى لا يكون لكم علي حجة".

ويبدو واضحا جليا أن عمر بن الخطاب رشَّح سعد بن أبي وقاص ليكون خليفة من بعده ضمن الستة المرشحين، رغم أنه عزله عن الكوفة، وأعلن عن ذلك أنه لم يعزله عن تهمة أو عجز، وإنما ما وجده من أن بعض أهل الكوفة لا يقبل بولايته. وعلى العموم فأخبار عزل الولاة في عصر الراشدين مشهورة.

عزل الخليفة

كما لم يدَّع أحد من الخلفاء أنه تولى على الأمة بحق إلهي أو بفضيلة زائدة عليهم، كذلك لم يدّع أحد منهم أنه مُحصَّن من العزل، وإنما جميعهم يعترف بأن الأمر أمر الأمة، لها أن تعزل الخليفة كما ولَّته. ولما تمرد بعض الناس على عثمان لم يجادل أبدا في أن من حقِّ الأمة أن تعزله، وإنما فتح حوارا طويلا ومتكررا مع من تمردوا عليه، وأوضح فيها أن ما يرفعونه من أسباب إما أنها مكذوبة عليه وإما أنها غير موجبة لعزله، وقد اجتمع على بقائه الصحابة وعامة المسلمين، وقال له عبد الله بن عمر: "لا تخلع قميص الخلافة عنك فتكون سنة، كلما كره قوم أميرهم خلعوه"، ويقصد بهذا أن استجابة عثمان لرأي قلة متمردة سيجعل نظام الخلافة والدولة المسلمة مضطربا، كلما خرج بعض الناس بالسلاح فإنهم يستطيعون عزل الخليفة لأسباب يتوهمونها. ولهذا فلقد أطال عثمان الجدال معهم محاولا ردَّهم عن هذه الفتنة.

الخلاصة

تحت هذه الحقوق الثلاثة الكبرى: حق التولية، حق المراقبة، حق العزل تندرج سائر الحقوق التي للأمة على الحاكم. وهذه الحقوق تحفظ الأمة من الشرور الكبرى، من شر الاحتلال والعمالة، وبقدر ما رسخ في ضمير الناس أن لهم تلك الحقوق بقدر ما كانت قدرتهم وافرة على مقاومة المحتل والمستبد.

نحن الآن في لحظة جديدة في تاريخنا لم تتكرر من قبل. فتاريخنا على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولي: الخلافة الراشدة والتي هي النموذج المثالي للنظام السياسي الإسلامي، ففيها كان الخليفة هو أفضل الأمة دينا وسياسة معا، يقيم فيها العدل ويجتهد لها وينصح، يشاور ويستمع ولا يستبد ولا يطغى.

المرحلة الثانية: الملك العضوض، وهو الذي استمر منذ الأمويين حتى العثمانيين، وفيها ظلت تتناقص الصورة المثالية تدريجيا لكنها لم تنخلع من  الإسلام، وحكامها في الجملة من صميم الأمة، ولاؤهم لها، ويعملون لصالحها ويجاهدون أعداءها، مع ما فيهم من ظلم وانحراف واستبداد وما لبعضهم من كوارث وخطايا ومخاز.

المرحلة الثالثة: الحكم الجبري، وهي المرحلة التي بدأت بالاحتلال ثم بعملائه بعد رحيله، وأولئك العملاء كانوا شرا على الأمة من المحتل نفسه، وارتكبوا من المذابح ما لم ترتكبه قوات الاحتلال، ونهبوا من أموال الأمة وثرواتها ما لم يفعله المحتلون، وهم وُجدوا في هذا المنصب وحكموا بدعم وحماية المحتلين. وإذا قامت عليهم ثورة تدخل أولئك المحتلون لإخمادها بكل القسوة والدمار، أو تدخلوا ليرتبوا عميلا جديدا مكان القديم الذي انتهت صلاحيته، فإذا لم يمكن هذا ولا ذاك نزلوا بأنفسهم وجيوشهم لمنع البلاد من أن يحكمها أهلها والمعبرون عنها.

في هذه المرحلة الثالثة اجتمعت شرور الاحتلال والاستبداد، وانتزعت من الأمة كل عناصر القوة لتصير أسيرة عزلاء أمام الوحش المستبد المدجج بالأسلحة، ولهذا نقول إن هذه اللحظة لم تتكرر من قبل في تاريخنا، ولهذا فنحن في حاجة لمجهود ضخم لكي تكتسب الأمة القوة التي تفرض بها إرادتها على المحتل وعملائه المستبدين.

وأول هذه القوة: قوة الوعي والإيمان بأن لها وحدها الحق في تولية الحاكم بحق لا كمجرد إجراء شكلي واختيار مزيف. ولها الحق الكامل في المراقبة والمتابعة والنصح والتوجيه كي لا يقع الحاكم –الذي انتخبته بإرادتها- فريسة لضغوط الشرق والغرب. ولها الحق الكامل في عزل الحاكم إذا خرج عن الثوابت الدينية والمرجعية العليا.

الوعي والإيمان بهذه الحقوق هو الذي سيدفع بالإجراءات الأخرى كقوة المؤسسات وأصالتها، والقوة العسكرية المنتمية للأمة لا للسلطة، والمتوزعة بين السلطة والأمة لا التي تحتكرها السلطة وحدها، وكالآليات التي تُمَكِّن من حفاظ الأمة على قوتها ووجودها.

الأربعاء، أغسطس 16، 2017

عبد الرحمن عز في ألمانيا

ألمانيا واحدة من دول الحضارة الغربية..

لم يتوصل الغرب إلى إنهاء الحروب الداخلية فيما بينهم إلا حينما اكتشفوا معادلة جديدة خلاصتها: لماذا نتقاتل في أوروبا إن كان لدينا عالم واسع يمكن الاستيلاء عليه؟!.. نعم، لم يتوقف القتال داخل أوروبا العصور الوسطى إلا حينما جاء عصر الكشوف الجغرافية ببلاد واسعة في إفريقيا وآسيا والأمريكتين.. هنا، خرجت الجيوش الأوروبية خارج أوروبا لتسجل الصفحة الأكثر سوادا في تاريخ البشرية: الإبادة والإفناء، واستعباد البشر، ومؤتمرات تقسيم البلاد، ونهب الثروات.. وهي الصفحة التي لم تزل قائمة كما هي لكن يغطي سوادها غلاف رقيق جبار من الإعلام والأفكار والنظام!

هل قلتُ النظام؟!

نعم! هل تعرف أن القتل حين يكون منظما يكون لذيذا وممتعا ومقبولا ومفهوما؟! فالشرطي حين يقتل مجرما يستحق التصفيق! تلك قاعدة بديهية مفهومة.

لكن لحظة..

من الذي قرر أن هذا مجرم، ومن الذي قرر أن جزاءه القتل؟!

هنا عمل المنظومة الفكرية، والإعلامية، والقانونية.. تلك هي الجهات التي مهمتها إقناعك بأن عملية القتل التي رأيتها بعينيك تستحق التصفيق، وينبغي عليك أن تغني وأنت فرح من أعماق قلبك "تسلم الأيادي" أو "واو.. يا له من بطل!" إن كنت تتكلم بلسان الفرنجة!

وعالمنا اليوم هكذا.. أمم متحدة ومجلس أمن ومحاكم دولية ولجان تقصي حقائق وفريق مبعوثين دوليين.. وفي النهاية قوائم تصنيف تُعرض على محاكم لتصدر عنها بشكل قانوني، فتنزل إلى منظومة أمنية عالمية "الانتربول" وتتسلمها الدول لتضعها على مطاراتها وموانئها ومنافذها، أو قرارات حرب يتولى تنفيذها جيش عالمي "الناتو".. قواعد عسكرية تنتشر في جميع العالم ولا تسمى احتلالا –لا سمح النظام!- وإنما هي اتفاقيات أمنية ودفاعية مشتركة ثنائية تمت بالقبول والرضا!

نظام حقيقي لشرعنة الظلم والقتل.. ويا طالما عجزت المنظومة عن إيجاد الحل لأن القضية معقدة والأزمة متشابكة والأطراف غير متعاونة و.. و.. و.. إلخ! وأمامنا جميعا مقتلة في عامها السادس أسفرت عن نصف مليون قتيل وسبعة ملايين مشرد ومدن زالت من على وجه الأرض ولا تزال المنظومة لا تجد للمشكلة حلا!! بلى! من قرأ بيان مايكل رانتي قبل أيام –وهو المبعوث لا أدي كم رقمه ضمن مبعوثي الأمم المتحدة لسوريا- لعرف أنه نذير حرب أن يقع في إدلب ما وقع في حلب إن لم تختف "هيئة تحرير الشام" تماما من تلك المناطق كلها.

ولعل كثيرين لا يعرفون أن محاكم التفتيش الإسبانية –وهي إحدى صفحات التاريخ السوداء، وهي صفحة غربية أيضا- كانت تجري وفق نظام دقيق محكم يثير إعجاب الشغوفين بالإجراءات والتقاليد! وما عالمنا الآن إلا محكمة تفتيش كبيرة، وهي تفتش في صدور الناس عن الأفكار المحظورة.. إلا أن الأسماء رقيقة: النظام العالمي يكافح الإرهاب!

نعود إلى ألمانيا..

ألمانيا دولة قانون ونظام ومؤسسات! تشن فيها الحملات اليومية على أردوغان لأنه ديكتاتور بينما لا بأس أبدا بالتعاون –بل التعاون الأمني- مع السيسي! فالسيسي كائن لطيف كما تشاهدون جميعا.. "انتو مش عارفين ان انتوا نور عينينا ولا إيه"!

والسيسي رجل المنظومة الدولية، ينفذ انقلابا عسكريا، ومذابح يومية، لكنه يأتي بعد غسل يديه ليقف في الأمم المتحدة يخطب عن الإرهاب!

وقد أعلن السيسي غضبه على بعض معارضيه، فأدخلها النظام في منظومته الأمنية لتتحول غضبه إلى "قائمة دولية" تعمل أجهزة الأمن في مطارات العالم وفقا لها.

لا تزال المنظومة هي هي، منذ صلح وستفاليا الذي أوقف الحرب في أوروبا بتصديرها للعالم كله حتى الآن.. الغرب يصدر كل إجرامه عبر العالم لكن عبر قفازات محلية؛ نعم! نحن نصنع القفاز وننتجه ونسوقه وندعمه ونرى أن استقراره ودعم نظامه ضرورة لأمن واستقرار العالم.. لكننا نحرص ألا نتلوث مباشرة بقذارته!

لو أن أحدا من الموضوعين على قائمة الإرهاب عبر بمطار دبي، فالإجراء الطبيعي أن يُقبض عليه، يدفع إلى السيسي، يرى جهنم في أقبية أجهزة الأمن، ربما خرج منها قتيلا أو فاقدا لعضو من أعضائه، أو لبث في السجن أحقابا!
لا بأس، دبي مدينة في بلاد العرب، والعرب لا يستحون.. يفعلونها ولا يبالون!

أما أن يحدث هذا في برلين فلا! هنا دولة القانون والمؤسسات والنظام.. هنا الأرض التي حرمنا عليها أن تدخلها الحروب، الحروب فقط هناك!

ولهذا، يمكن للسيسي أن يقتل عبد الرحمن عز، يعذبه، يعتقله.. ما شاء له أن يفعل به! طالما كان في مصر، أما حيث استطاع بطريقة ما أن يصل إلى بلادنا، فهنا يمكن أن نعطيه حق اللجوء السياسي، حقه في التقاضي، حقه في حرية الرأي والتظاهر وما شاء من حقوق! وهو إن نزل إلى ألمانيا فاستوقفته شرطة المطار –طبقا لقائمة غضب السيسي- ربما تحركت له السفارة الإنجليزية، وعومل كما ينبغي لمواطن "وصل إلى بلادنا"!

إنه النظام يا سادة!

نحن أسباب القتل في بلادكم، وأسباب الحياة في بلادنا.. لأن حياة بلادنا لا تقوم إلا على موت بلادكم! فمن أراد الحياة حضر عندنا بشروطنا وتحت قانوننا، ومن أراد الموت فليبق في السجن الوطن!

وصدق المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى .. عدوا له ما من صداقته بد

إنه حمزة البسيوني العالمي.. حمزة البسيوني قائد السجن الحربي في عصر عبد الناصر، خطب يوما خطبة عصماء حولها القرضاوي إلى أبيات شعر في نونيته، فكان مما قال:

إني هنا القانون أعلى سلطة .. من ذا يحاسب سلطة القانون
إن شئتُ سامحكتم، فبرحمتي .. وإن أبيتُ فذاك طوع يميني
ومن ابتغى موتا، فها عندي له .. موت بلا غسل ولا تكفين

والسجن أيضا نظام!

ليس نظاما ليحفظ حقوق الناس، بل للسيطرة عليهم والتحكم فيهم.. وربما شاء النظام فقتل بعضا منهم تحت التعذيب، وعندها فلا بأس عليه.. طالما "الورق تماما" فلا بأس أبدا.. فقط أرسل من يدفنهم في أي مكان، ثم سجل في الدفتر أنه هرب، وإن شئت ألا ترهق نفسك بالدفن فسجل أنه حاول الهروب فقُتِل فتعالوا تسلموا جثته، وكان صدام حسين يأتي بالرجل فيريه إعدام ولده برصاصة في رأسه ثم يطلب منه ثمن الرصاصة، "لأنها عهدة"! ويا لها من أمانة! ويا له من شرف!

لست ألوم العدو، فإن الذين يحبون أن تبقى حضارتهم زمنا قادما يعرفون أنهم يجب أن يحافظوا على بلدانهم من أن تمتد إليها قذارة العملاء.. ألقى نابليون يوما لعميله الذهب على الأرض لكي لا يتلوث بمصافحة خائن!

وهكذا يفعل سلفه من بعده، وهل أتاك نبأ من اختطفوا من أوروبا ليُلقى بهم في أمريكا في إطار الحرب على الإرهاب؟!.. ثم هل أتاك نبأ أن الأمريكان كانوا يرسلون بعض أولئك السجناء لتعذيبهم في مصر وسوريا والأردن والمغرب؟! لم يحبوا أن يقوموا بأنفسهم بالأعمال القذرة التي يقوم بها عملاؤهم! مع أن عملاءهم يستوردون منهم آلات التعذيب نفسها!

لكنه أيضا.. النظام! النظام الذي اتفقنا عليه جميعا.. فالآت التعذيب لا نستعملها في "بلادنا"، وإنما نقدمها لكم لتستعملونها لصالحنا.. في بلادكم المستعمرة!


الحمد لله الذي فرج عنك أخي الحبيب عبد الرحمن عز، ونسأله جميعا فرجا لبلادنا كلها.. فتلك هي الحرية حقا! وعندها يكون لنا أكبر احتفال!

الأربعاء، أغسطس 09، 2017

فقه اختيار الحاكم في الإسلام

أول كلمة نطق بها أبو بكر في خطبة الخلافة هي قوله:

"يا أيها الناس، وُلِّيت عليكم، ولست بخيركم"

هذه الكلمة الموجزة تحدد أسس اختيار الحاكم في النظام الإسلامي، ففيها تأكيد على أن الحاكم ليس له أن يغتصب الأمر زاعما لنفسه الحق بالحكم، فليس في الإسلام أحد نزل له حق الخلافة بنص من السماء (كما يزعم الشعية)، وليس فيه من يتولى شأن الأمة لمجرد أنه سليل أسرة أو عائلة أو قبيلة، إنما الطريقة الشرعية أن تختار الأمة خليفتها، وتوليه عليها. هذا أبو بكر وهو خير هذه الأمة وأفضلها ينفي أنه استحق الخلافة بفضل أو مكانة وإنما هو اختيار الأمة له.

وفي قوله "ولستُ بخيركم" دليل على تواضعه وأنه لا يرى لنفسه شأنا فوق الأمة ولا أنه أفضلها، وبتلك الكلمة قُطِع الطريق على أي أحد قد يزعم أنه له خيرية خاصة، فإن خير الأمة كلها لم يزعمها لنفسه، وأخذ منها العلماء جواز "تولية المفضول في وجود الفاضل" إن تعذر نصب أفضل الأمة لظرف ما!

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي دون أن يُسَمِي أحدا للخلافة رغم وجود الداعي وانتفاء المانع (أي: رغم أهمية الموضوع ووجود الفرصة)، ولكنه ألمح إلى أبي بكر إلماحا كقوله "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، وقوله: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، فهكذا قصد النبي أن يترك شأن الخلافة للأمة فتكون هذه سنة تولية الأمراء.

اختيار أبي بكر

فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل أمرَ خلافته وجوهُ المسلمين، وبينما يتشاور المهاجرون في الأمر بلغهم أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتشاورون أيضا، فأسرع إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فوجدوهم يتشاورون في تولية زعيم الخزرج سعد بن عبادة، وكان تفكير الأنصار أنهم أهل المدينة وأصحابها من قبل أن يأتي المهاجرون ومن طبيعة الأمور أن يتولوا الأمر بعد وفاة النبي فهم أكثر أهل المدينة، والمهاجرون عدد قليل فيهم،  ثم إنهم أهل النجدة والنصرة فقد نصروا النبي خير نصرة فجاهدوا وبذلوا وأنفقوا وضحوا، قال قائلهم:

"أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفَّت دافَّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر"

فأراد عمر أن يتكلم فمنعه أبو بكر وتكلم بدلا منه، فأثنى على الأنصار واعترف بفضلهم ومكانتهم، ثم أوضح أن الأمر لم يعد رئاسة في أهل المدينة بل لقد صارت خلافة النبي رئاسة على كل العرب الذين كانوا قد دخلوا في الإسلام، وهؤلاء العرب لا يقبلون أن تكون الرئاسة عليهم إلا في قريش لمكانتها العليا بين العرب، والخروج عن رئاسة قريش إنما يساوي انتقاض الأمر على الأمة. وبهذا تكون الرئاسة في المهاجرين ويكون الأنصار وزراء لهم. قال أبو بكر:

"ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا... يا معشر الأنصار إنا والله ما ننكر فضلكم ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكنكم عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدعوا الإسلام، ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام "

فاقترح أحدهم أن يكون أميران: أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار، فقال عمر: سيفان في غمد؟! لا يصلحان. وقال أبو بكر: لا، بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء. وحدث نقاش بين الصحابة، وارتفعت الأصوات، وهو أمر طبيعي ومتوقع في مثل هذه الأمور، ثم كان أن تراجع الأنصار فقام زيد بن ثابت وهو من الخزرج –أي من قبيلة سعد بن عبادة مرشح الأنصار للخلافة- ومن كُتّاب الوحي وقال: "إن رسول الله كان من المهاجرين، ونحن أنصارهم كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم". وهكذا جرى الاتفاق على أن يكون الأمير من المهاجرين.

ثم بحثوا أي المهاجرين يكون أميرا، فاقترح أبو بكر عمر أو أبي عبيدة فرفضا وقدَّما أبا بكر، واتفقوا على أبي بكر، وبهذا تمت له البيعة التي يسميها العلماء بيعة أهل الحل والعقد، وهو ترشيح وجوه القوم وأصحاب المكانة والمقام فيهم لأحد أن يكون أميرا، وفي اليوم التالي اجتمع الناس بالمسجد وبايعوا أبا بكر البيعة العامة التي هي قبول الأمة بهذا المرشح، وبها تنعقد البيعة ويصير المرشح إماما.

اختيار عمر

عاش أبو بكر خليفة لمدة عامين، فلما مرض وأحسَّ بدنوا الأجل جمع  أبو بكر عنده عددا من كبار الصحابة فقال لهم:

"إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا لمأتي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحلّ عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمَّرْتُم عليكم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي"

فتشاوروا في الأمر ثم طلبوا منه أن يرشح لهم أحدهم، فاختار عمر بن الخطاب كي يكون مرشحا فرقع عليه الرضا والاختيار من أهل المشورة، ولما مات أبو بكر بويع عمر البيعة العامة في المسجد، فانعقدت بذلك بيعته وصار إماما.
وقد ظل عمر خليفة على المسلمين لعشر سنوات، وفي أواخر عهده كان يوما بموسم الحج في منى، فجاء من يخبره بأنّ (فلاناً) يقول: لو مات عمر لبايعت فلاناً، فغضب وقال: "إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم..."، ثم خطب خطبة طويلة ختمها بقوله:

"من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يُبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقْتَلا"

وأوضح عمر أن السرعة التي تمت بها مبايعة أبي بكر (لأنه بويع من أهل الحل والعقد في نفس يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) إنما كانت فلتة، ولكن الله وقى شرَّها، وذلك أنه ليس في المسلمين من "من تُقْطَع الأعناق إليه مثل أبي بكر"، أي ليس فيهم رجل سابق في المكانة والفضل عن سائر المسلمين بفارق ووضوح كما كان أبو بكر، ولهذا فإن أي محاولة بعد هذا للإسراع ببيعة أحد عن غير تمهل وتروي ومشورة بين المسلمين إنما هي غصب لحق الأمة.

اختيار عثمان

ولما طُعن عمر رضي الله عنه بقي في مرضه ثلاثة أيام، وفي هذه الأيام اقترح وسيلة جديدة لإدارة أمر اختيار الخليفة من بعده. وذلك أنه رشح ستة أسماء من السابقين في الفضل والمقام والمكانة، فهم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وكلهم ممن تولى الولايات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأولئك هم:

عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، سعد بن أبي وقاص.

مستبعدا منهم سعيد بن زيد، وهو من قرابة عمر رضي الله عنه، فعمر هو عمر بن الخطاب بن نفيل، وسعيد هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكان معهم عبد الله بن عمر وهو من فقهاء الصحابة ولكن رأيه استشاري وليس من ضمن المرشحين.

تولى عبد الرحمن بن عوف زمام المبادرة فاقترح على المرشحين الستة تنازل بعضهم لتقليل العدد وتحجيم الاختيار، فتنازل الزبير لصالح علي، وتنازل طلحة لصالح عثمان، وتنازل سعد لصالح عبد الرحمن، فصار المرشحون ثلاثة: عثمان، علي، عبد الرحمن بن عوف. فاقترح عبد الرحمن بن عوف أن يتنازل أحدهم عن الترشح للخلافة على أن يدير هو مسألة الاختيار، فسكت الشيخان عثمان وعلي، فعرض عليهما أن يتنازل هو عن الترشح فيكون إليه إدارة هذا الاختيار مشترطا عليهما أن يكون كلامه ملزما ومشترطا على نفسه أن لا يبتغي باختياره إلا وجه الله، فوافقا.

فقضى عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يسأل ويشاور أهل الشورى، وغيرهم من أهل المدينة، حتى سأل النساء في البيوت ومن كان قادما إلى المدينة في سفر ومن مرَّ بها، ثم جاء في صبيحة اليوم الرابع فجمع من كان حاضرا بالمدينة من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد الذين كانوا في المدينة لأنهم حجوا مع عمر في هذه السنة (فنحن الآن في شهر ذي الحجة عام 32 للهجرة)، ثم أعلن قائلا:

"يا علي، إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا"

ثم بايع لعثمان قائلا: "أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده"، ثم بايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. وهكذا صار عثمان بن عفان إماما.

اختيار علي

استمرت خلافة عثمان اثنا عشر عاما، فكانت عشرة منها في رغد ورخاء وخير حال، ثم أقبلت الفتنة المشهورة، وربما تناولناها في مقالات قادمة إن شاء الله، وخلاصتها أن مجموعة من المتمردين يقودهم مجموعة من المتآمرين ويكثر عددهم بالأعراب والغوغاء رأوا أن عثمان غيَّر وبدَّل في أمر الشريعة فخرجوا من بلادهم إليه في المدينة وأرادوا أن يخلعوه، وهو الأمر الخطير الذي لم يرض به الصحابة وكان النبي قد أوصى عثمان ألا ينخلع من الخلافة إن أراده هؤلاء على ذلك، وهو من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.. ثم انتهى الأمر بأن حاصروا عثمان في بيته، ومنع عثمانُ الصحابةَ من الدفاع عنه، حتى اقتحم المتمردون عليه البيت وقتلوه وهو صائم يقرأ القرآن قبل الغروب من يوم الجمعة 13 ذي الحجة لعام 35 للهجرة.

لئن كان المتمردون متفقين على خلع عثمان فإنهم لم يكونوا متفقين على من يخلفه، فحاول بعضهم أن يحمل عليها عبد الله بن عمر فلم يستطيعوا، وحاول غيرهم مع طلحة والزبير فلم يستطيعوا، فعلموا أنهم وإن استطاعوا قتل الخليفة الذي منع أحدا من الدفاع عنه إلا أنهم لا يستطيعون نصب خليفة بما لديهم من قوة، وأن أمر نصب الخليفة إنما هو للمهاجرين والأنصار وأهل بدر فهؤلاء هم الذين يتبعهم الناس، بل إن عليا حين ذهبوا إليه قال لهم:

"إني لأستحيي أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أستحيي ممن تسحيي منه الملائكة؟"، وإني لأستحيي من الله أن أُبايَع وعثمان قتيل على الأرض لم يُدفن بعد"

فانصرفوا عنه ثم عادوا إليه بعدما دفن عثمان، فظل يدافعهم ويقولون: لا بد للناس من خليفة، وهو يقول: إني لكم وزير خير مني أمير، وهم يقولون: لا أحد أحق بها منك. فاتخذ علي إجراءا يجعل بيعته بيعة عامة مشهودة ولا ينفرد أولئك المتمردون بعقد بيعة خاصة لهم كأنما صاروا أهل حل وعقد. وبذلك يكون أمره متروكا لعامة أهل المدينة الذين فيهم السابقون من المهاجرين والأنصار. وقال:

"فإذا أبيتم عليّ، فإن بيعتي لا تكون سرًّا، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني"

وبهذا بايعه الناس عن رضا واختيار، وبهذه البيعة العامة انعقدت الإمامة لعلي رضي الله عنه.

خلاصات

أولا: تولى الخلفاء الراشدون الخلافة باختيار الأمة، فلم يغتصبها أحد قهرا بحرب أو بغلبة، ولا ادعى لنفسه فضلا فوق الأمة يخوله الحق بالخلافة! كما أن اختيار أهل الحل والعقد لواحد منهم إنما هو بمثابة الترشيح، وللأمة أن تقبله أو ترفضه، والدليل أنه لا يصير خليفة إلا بعد البيعة العامة.

ومن ثَمَّ فاختيار الحاكم في الإسلام ليس بالنص (كما يزعم الشيعة)، ولا هو بالغلبة والسيف (كما هي طبائع العسكر والمستبدين والمحتلين).

ثانيا: أن الصحابة اجتهدوا لأمر الأمة فاختاروا للخلافة أفضلهم ثم أفضلهم ثم أفضلهم، لا يبتغون إلا مصلحة الأمة دون النظر إلى العصبية القبلية أو الميول القلبية أو الأهواء، فالمهاجرون قدَّموا عليهم أبا بكر وهو من قبيلة تيم، ومن بعده قدموا عمر وهو من قبيلة عدي، وكلتا القبيلتيْن أضعف مكانة ومقاما من قبائل أخرى كبرى كبني هاشم وبني أمية. وكذلك الأنصار الذين لما علموا أن مصلحة الأمة تقتضي الرئاسة في قريش تراجعوا عن الإمارة وصاروا هم المحكومين في مدينتهم تحت رئاسة المهاجرين القرشيين. وكذلك أبو بكر رشح بعده عمر ولم يكن من قبيلته، وهكذا فعل أهل المدينة حين اختاروا عثمان بن عفان، رغم أن عليا هو الأقرب إلى رسول الله نسبا، فهو ابن عمه، وهو من بني هاشم وهم بعمومهم أسبق للإسلام من بني أمية قبيلة عثمان. لكن هذه الحسابات القَبَلِية لم تكن ترد على بالهم أو تتحكم في قرارهم، وإنما ينظرون بمعيار مصلحة الأمة وبالخيرية الشخصية.

ثالثا: أن الصحابة اجتهدوا أن يتم الأمر في سلم وأمن، فكان حوارا وإقناعا في سقيفة بني ساعدة، فبويع لأبي بكر دون أن يُرفع سيف، والحقُّ أن الأنصار قوم لا مثيل لهم، وهم قوم يتمنى كل مصلح لو كان لديه مثلهم فلقد نصروا رسول الله النصرة التامة الكاملة دون انتظار أجر ولا جزاء. واتخذ أبو بكر من الترتيب ما يجعل انتقال الخلافة من بعده بغير اختلاف فشاور ثم رشح عمر. ثم فعل عمر مثل ذلك فاختار ستة وجعل بينهم من يرجح إذا تساوى الاختيار. وهكذا فعل عثمان حيث منع أحدا أن يدافع عنه وقرر أن يفدي الأمة بنفسه لكي لا يقع اقتتال في المدينة ولتظل جمهرة المهاجرين والأنصار باقية تختار خليفتها القادم.

رابعا: أن الصحابة اجتهدوا في صرف الأمر عن أنفسهم، فتولي الحكم ليس غنيمة وإنما هي مسؤولية ثقيلة كبرى، والمغرور هو من قاتل من أجل سلطان يعرف من نفسه أنه ليس مؤهلا للقيام بحق الله فيه. هذا الصديق وهو خير الأمة قاطبة يقول:
"والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانية"

ومثل هذا قال عمر حين رشحه أبو بكر أمام الأنصار ليتقلد الخلافة:
"فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم، أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر"


وقد رشح عمر ستة من الصحابة فتنازل عنها أربعة ليجري الاختيار بين اثنين هما عثمان وعلي. ثم ظل علي يدافع أمر الخلافة عن نفسه بعد استشهاد عثمان. فلم يتولها أحد منهم إلا استشعارا لضرورة أن يتولاها إذ لا بد للأمة من خليفة ونظام.

الأربعاء، أغسطس 02، 2017

فقه الخلافة الراشدة

لئن كان في تاريخ أمة ما شيئا تفتخر به فلن يكون بحال أعظم من فخرنا بعصر الخلافة الراشدة، فنحن الأمة الوحيدة التي حكمت ثلث العالم المعروف وقتها بعدل ورحمة، فلئن افتخر الغرب بأنه اخترع الديمقراطية فلقد كانت ديمقراطية المدن الصغيرة في اليونان (البلد ذات الجزر الصغيرة المحدودة) فأما حين بلغوا الإمبراطورية فلا عدل ولا رحمة ولا ديمقراطية بل امتصاص شعوب العالم وقهرها لخدمة أمة اليونان والرومان، وهو الأمر الذي نظَّر له فلاسفة الغرب الأوائل وعدُّوه أمرا طبيعيا[1]، وهو الأمر المستمر حتى يومنا هذا.

لكننا لن نتحدث الآن في المقارنة مع الغرب وإن كانت مثيرة للشهية لا سيما في زمن الجهل والهزيمة النفسية وظهور من يدعونا لترك تراثنا والسير وراء الغرب باعتباره قمة التجربة الإنسانية.. وإنما سنحاول أن نعرض بتبسيط: لماذا ينبغي علينا أن نفقه عصر الخلافة الراشدة؟ ماذا سنستفيد من ذلك؟ ولماذا تعلت قلوب المسلمين وطموحات الحركات الإسلامية بعصر الخلافة الراشدة؟.. والإجابة على تلك الأسئلة هي نفسها الإجابة على سؤال: لماذا يُراد لنا أن نجهل تاريخنا وننفر من تراثنا ونفقد ذاكرتنا؟

عصر الخلافة الراشدة هو عصر الإنجاز الكبير، عصر انبعاث الأمة من مجاهل التاريخ لتصعد إلى ذروة القوة العالمية في ثلاثين عام فقط؟!.. إنجاز اندهش له المؤرخون على اختلافهم وتنوع أفكارهم ومشاربهم! والعجيب أنه إنجاز راسخ لم تغيره الأيام والقرون على تطاولها، إنجاز غير خريطة العالم منذ حدث حتى الآن.

نحتاج ونحن في زمن القهر هذا أن نقترب من عصر الراشدين، نتأمل كيف صنعوا ذلك المجد الكبير، كيف أنشأوا دولة عظمى تحكم ملايين البشر بالعدل، كيف طبقوا الإسلام في عالم الواقع بعد انقطاع الوحي، كيف استطاعوا أن يخرجوا الجيوش من الصحراء العربية القاحلة المنقطعة عن الحضارة فيكتسحون الحضارات الكبرى والإمبراطوريات العظمى وينقذون الملايين من الظلم والقهر الطويل الذي امتد قرونا متعاقبة، ثم يظللونهم بحضارة إسلامية خالصة فيدخل الناس في دين الله أفواجا ويخرجون من الظلمات إلى النور، كيف استطاعوا أن يحتفظوا بثقتهم في أنفسهم فلا ينبهرون بمظاهر الفخامة والترف وبدائع القصور وروائع الزخارف والرسوم ومعالي البنيان وفسائح العمران؟!

لن يمكننا الانتقال من حالنا البائس إلى الحال التي نأملها إلا إن استوعبنا وتعلمنا من الخلفاء الراشدين، فأولئك الخلفاء هم التطبيق المثالي النموذجي للإسلام بعد أن توفي رسول الله، ولهذا قال لنا رسول الله في وصيته الغالية المشهورة:
"فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ"

ولن يمكننا تنفيذ وصية حبيبنا إلا أن عرفنا سنة الخلفاء الراشدين! فمن هنا كان معرفة تاريخ وأنباء هذا العصر، ومعرفة رجاله وأحواله وأوضاعه هي الطريق لفهم الإسلام، وفهم واجبنا في واقعنا المعاصر.

1.    لماذا كان للخلفاء سنة.. ألم يكتمل الدين في زمن النبي؟

نعم اكتمل الدين، ومن الأدلة على اكتماله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم لا سنة لهم في العبادات والشعائر، وإنما سنتهم هي في السياسة وطريقة الحكم، لذلك قال رسول الله (سنة الخلفاء)، ولم يقل سنة أصحابي أو سنة فلان وفلان، كان النبي يصفهم بوصفهم "الخلفاء" ليؤكد على أن جانب الاقتداء بهم في سنتهم هو الجانب السياسي.

وذلك لأن الدين في سائر الجوانب بينه ووضحه رسول الله، لكن بعض الأمور بقيت لا يمكن الاقتداء فيها برسول الله لاعتبارات خاصة، منها مثلا:

أولا. أن رسول الله متصلٌ بالوحي، وينزل الوحي عليه يصحح له أو يوجهه، لكن رسول الله سيموت وستبقى الأمة بلا وحي، فكان لا بد من وجود تجربة يقتدي فيها المسلمون ببشر لا يتصلون بالوحي، فهم يجتهدون فيخطئون ويصيبون.

ثانيا. أنه لا يملك مسلم أن يعارض رسول الله، فهو الرسول الموصول بالوحي الذي ينطق بالحق وهو الكامل روحا وعقلا، ومن ثَمَّ لا يمكن لمسلم أن يقاتل النبي، فالذي يفعل شيئا من هذا يكون كافرا مرتدا. فمن هنا كان لا بد من وجود قدوات من البشر يُقتدى بهم، في سنتهم في مثل هذه الأمور كالشورى فيما ليس فيه نص وفي النوازل والمستجدات، والتعامل مع المعارضة، والتعامل مع الفتن الداخلية.. وهكذا من الأمور التي يختلف التعامل فيها بين النبي وغيره من سائر البشر.

ثالثا. أن رسول الله اجتمعت فيه النبوة والإمامة، أي الرئاسة الدينية والدنيوية، ولا يمكن لأحد أن يختار الرسول وإنما هو اصطفاء يصطفيه الله له، أما بالنسبة للحاكم فلا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نختار الحاكم وما هي شرعية حكمه وما هي حقوقه وواجباته.. ولم يكن هذا ليُعرف على الوجه الواضح إلا بوجود نموذج بشري يملك الناس فيه أن يختاروه وأن يحاسبوه ويراقبوه بل وأن يعزلوه.

2.    المدينة الفاضلة والعصر الذهبي
سألت بعض الشباب في محاضرة عن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فقال بعضهم: العصر الأندلسي حيث القصور الفاخرة والصنائع الدقيقة، وقال آخرون: العصر العباسي حيث الفنون والعلوم، وقال بعضهم: العصر الأموي حيث أوسع مساحات الفتوحات الإسلامية.

لقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال حين قال:
"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"

وكذلك حين أوصانا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين لما قال "عضوا عليها بالنواجذ". ولذلك فإن المسلمين في سعيهم نحو إحياء الخلافة الإسلامية لا يطمحون لعصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل يطمحون لعصر الخلافة الراشدة، وهم حين يتحدثون عن الحاكم المثالي يتحدثون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا عن عبد الملك بن مروان أو أبي جعفر المنصور أو السلطان سليم، رغم أن كل هؤلاء من عظماء التاريخ الإنساني، إلا أن المسلمين يتمسكون على الخصوص بالقدوة المتمثلة في الراشدين.

هذا التحديد لعصر القدوة أو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية يؤثر كثيرا على اختياراتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فالحاكم المسلم يظل عبر التاريخ يُحاكم إلى نماذج الخلفاء الراشدين، ولربما يكون الحاكم المسلم أنجز –بالمعيار الدنيوي- إنجازا عظيما لكن جمهرة الفقهاء والمؤرخين لا يرضون عنه، وهو هو نفسه الذي لو كان في سياق غربي لكان بغير شك من عظماء مؤسسي الدول، وذلك لأن وجود نموذج في النظام الإسلامي يمثل الحق الذي يعلو على القوة، وانعدام هذا النموذج في السياق العلماني يؤدي لأن تكون القوة هي معيار الحق.

3.    الدليل على صلاحية الإسلام للتطبيق
كتبت الباحثة الإيطالية ماريا لويزا برنيري كتابها "المدينة الفاضلة عبر التاريخ" وتتبعت فيه تصورات الفلاسفة والمصلحين والزعماء عن المدينة الفاضلة، منذ أقدم العصوم حتى الآن، وكان أول نتائجه أن كل تصورات المدينة الفاضلة لم تتحقق، لم يستطع أحد صناعة مدينته الفاضلة حتى الذين امتلكوا سلطة تنفيذ أفكارهم!

هنا يبدو واضحا قيمة "عصر الخلافة الراشدة"، إنه نموذج عملي واقعي تحقق في التاريخ لثلاثين سنة، فهو نموذج لم يحلق في آفاق الخيال ولم يحاول اختراع قوانين الطبيعة، بل نجح في التعامل مع واقع البشر. ولقد استمر ذلك النموذج ثلاثين سنة في قمته ثم بدأ النزول عن هذه القمة تدريجيا وببطء، لكن الأمة التي خرجت في هذه الثلاثين سنة هي الأمة التي ظلت ألف سنة تشع علما وحضارة. فالخلاصة أن تحقق النموذج في واقع الحياة لعدد من السنين يمثل في حد ذاته القدرة على إعادة تحققه مرة أخرى، وبهذا يصير حلم إحيائه حلما ممكنا، ويصير السعي إلى تحقيقه من جديد سعيا واقعيا، وهو خير من السعي وراء سراب تصورات حالمة لم تتحقق ولم تستطع أن تخرج من سطور الكتب إلى التعامل مع واقع الناس.

4.    الواقعية مقابل المثالية

تعترف الباحثة في بداية بحثها، أن الواقع تجاوز المثاليين الحالمين، "الحالمون من أصحاب الرؤى أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار، والناس "العمليون" هم الذين يحكمون حياتنا"، بل لقد صار العالم عقيما من الحالمين الذين ينتجون مدينة فاضلة في الكتب وحدها، لقد أصيب الجميع بما تسميه "عدوى الواقعية"، وهكذا لم تستطع التصورات الحالمة أن ترفع من مستوى الواقع، بل استطاع الواقع أن يجذب إليه التصورات لتكون أقل حلما ومثالية.

وكانت واحدة من إشكاليات الموضوع أن الفلاسفة حين كانوا يحلمون بمدينتهم الفاضلة، بدلا من محاولة "اكتشاف قوانين الطبيعية، فضَّلوا أن يخترعوها" أي أنهم حاولوا إلزام الناس بأفكارهم ولم يحاولوا اكتشاف قوانين الواقع، فأقاموا مدنهم الفاضلة على مجرد تصورات.

أما الإسلام فقد أقام الإسلام دولته في واقع الناس، والناس لن يتحولوا إلى ملائكة، الناس مختلفون في الفهم والمواهب والقدرات والطاقات، مختلفون في الهمم والطموح والغايات، يقع منهم الخطأ والنسيان، يستزلهم الشيطان، ويوقع بينهم الفتن والعداوة والبغضاء، سيكون منهم ذنوب، وستقع بينهم حروب وفتن.

في عصر الخلافة الراشدة نرى نموذجا مثاليا للتعامل مع واقع البشر كما هو لا كما يحاول الفلاسفة والمثاليون أن يصنعوه، ولهذا لا بد أن نفهم هذا العصر جيدا إذا أردنا أن نقدم رسالتنا وديننا ونموذجنا الحضاري لكل الناس.

5.    العصمة من التيه بين الأفكار والمذاهب

لو لم يكن في تاريخنا عصرٌ مثل عصر الخلافة الراشدة لكان المسلمون الآن في تيه كبير واضطراب عظيم.. كنا سنكون أشبه بالغرب في تيهه واضطرابه.

نعم الغرب –رغم قوته وعلوه- في تيه واضطراب فكري واسع، والفلسفة الغربية أشبه بالغابة الضخمة المشتبكة المتناقضة من الأفكار والتصورات والرؤى، وما نراه نحن في العالم العربي –لضعف الثقافة وقلة الاطلاع- ثوابت عندهم هي في الحقيقة موضوعات تهتز بشدة وتعاني من انتقادات جذرية وكاسحة، بل إن الفلسفة الغربية أنتجت مصطلح "ما بعد كذا" لتعبر عن "انتهاء" مرحلة أو فلسفة دون استيضاح ماذا سيليه.

إن مجرد "وجود نموذج" يمثل القدوة في الفكر الإسلامي هو بحد ذاته إنقاذ من التيه والضياع الفلسفي الكبير الذي يؤدي إليه "عدم وجود نموذج"، وكذلك عدم اليقين بنموذج واضح الملامح سيأتي به المستقبل. ولا يجد المرء تشبيها لهذا الوضع خيرا من قول الله تعالى:

"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"

إذا كان لدينا نموذج عملي متحقق في واقع الناس، أثمر ذلك نجاة من الاشتباكات والتناقضات في تحديد النموذج المعرفي والكليَّات الكبرى، فلن تصير الأمة ضحايا للأفكار التي تمثل ردات فعل على واقعها بالمقام الأول، إذ لن تضطر لدخول صراعات دموية للخروج من عصر الإقطاع إلى عصر الشيوعية أو من عصر الشيوعية إلى عصر الليبرالية أو من عصر الكنيسة إلى عصر الدولة.. وهكذا!

إن وجود النموذج العملي هو ما يحدد أمورا كثيرة من أصول الفكر والتوجه، مثل المرجعية النهائية وتفاعلها مع الوقائع التفصيلية المستجدة، ومثل الانحياز بين الفردية والجماعية، بين المادية والروحية، وما ينبثق عن كل هذا من أنظمة وأنماط اقتصادية واجتماعية وغيرها.

كل هذه الأمور وغيرها تختلف العقول بشأنها إن غاب النص وغاب النموذج التطبيقي له، وإن الأمة التي تسعى لاستعادة نموذج سبق وتعامل مع الأوضاع السياسية لهي أكثر بصيرة وأوضح طريقا من أمة تبحث عن نموذج لم تر ملامحه ولا تحسم كثيرا من أسئلته الجوهرية.

6.    عصر الخلافة شمل كل أحوال الدولة

لقد استمرت الخلافة الراشدة ثلاثين سنة، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:
"الخلافة بعدي ثلاثون سنة"

هذه الثلاثون سنة فترة طويلة يحدث فيها الكثير من الأحداث والتقلبات التي تسفر في النهاية عن وجود نموذج ثري يمكننا الاقتداء به.

لقد كانت سنوات الخلافة الراشدة شاملة لسنن الدول جميعا: بداية من التأسيس كما في عهد أبي بكر، ومرورا بالنهوض والتطور كما في عهد عمر، وصولا إلى الرخاء كما في عامة عهد عثمان، وانتهاء بالفتنة الداخلية السلمية والمسلحة كما في آخر عهد عثمان وعهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

ولقد جاءت ولاية أبي بكر بنوازل سياسية كمسألة قرشية الخليفة، وتولية الفاضل، وما إن كانت الشورى معلمة أم ملزمة، وغيرها. وجاءت ولاية عمر بمسائل أخرى كترشيح الخليفة السابق، واختلاف الخلفاء في الاجتهاد السياسي، وأبواب في الأموال والأراضي ومعاملة الشعوب المفتوحة وغيرها. وجاءت ولاية عثمان بمسائل أخرى كتعدد المرشحين للخلافة، وعملية الانتخاب، وفقه مواجهة المعارضة السلمية والمتمردة، وجاءت ولاية علي بمسائل أخرى كاختيار الخليفة في الفتنة، وتحويل العاصمة، وتمرد الوالي على الخليفة، وانبعاث طائفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير إذن الإمام.

وفي كل هذه الفترات أمور اتفق عليها الراشدون فلا يمكن لأحد أن يجادل في أهميتها ولا أن يخرج برأي آخر فيها، مثل: ضرورة السلطة للدين وأنه لا دين بغير الدولة، فلقد اختار المسلمون خليفتهم قبل أن يدفنوا نبيهم، ورشح أبو بكر للأمة من يخلفه قبل أن يموت، وقبل أن يموت عمر وضع نظام اختيار الذي بعده، وما إن قُتِل عثمان حتى كانت الخلافة تسعى أمام علي رضي الله عنه.

7.    فهم الحضارة الإسلامية

الآن نضرب مثالا آخر لآثار الإيمان بنموذج الخلافة الراشدة، هو أن روح الحضارة الإسلامية تنحاز إلى الإنسان لا إلى البنيان، وإلى المعنى أكثر من المادة.

لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة.. لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة. إلا أن هذا العصر كان هو عصر الإنسان، العصر الذي يأمن فيه الإنسان على نفسه وعرضه وأهله، لا يستطيع حاكم أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، عصر تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.

إن الذي ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا ينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمر قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه، وحاصر المتمردون بيت عثمان وهو من حماهم ومنع أصحابه من مقاتلتهم والتصدي لهم بعد مجهود وافر في بيان ما هم عليه من الباطل والدفاع عن نفسه، وكان من قبل ذلك قد تعرض لمحاولة اغتيال فلم يعاقب أصحابها باعتبار أن الجريمة لم تقع فلا يستحقون عقابا، وقُتِل علي على يد رجل من فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب ولم يمنعه هذا أن يصل إليه. إنه انحياز لحرية الناس وحقوقهم على حساب أمن السلطة! وهو انحياز فلسفي كبير يترتب عليه معظم النظام السياسي والأمني في الدولة الإسلامية، وهو انحياز لاقتراب الحكام من العامة.

لهذا فمن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!! أو لعل هذا هو الطبيعي، فإن من نشأ في ظل هذا النظام لم يعرف معنى الحرية فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته!

هذا الانحياز إلى الإنسان وكرامته له وجه آخر، لأنه انحياز ضد القصور والزخارف والزينة، فالحضارة الإسلامية تهتم لأن تقيم مجتمعا تسوده الكرامة والعدل والإنصاف ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا! وهذا افتراق خطير!

إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور سلبي، نعم قد نستدل بكل هذا على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!

وعصر الخلافة الراشدة هو دليل على أهمية وحدة الأمة الإسلامية، لقد قاتل أبو بكر في أول هذا العصر لغاية توحيد الأمة، وقاتل علي رضي الله عنه في أواخره لغاية توحيد الأمة أيضا. والحفاظ على وحدة الأمة كان في الأهداف الكبرى للراشدين حربا وسلما، من أجلها كان عمر يعزل أي والٍ لم يرتضه أهل البلد مهما كان صلاح الوالي ومكانته، وبها حذر ووعظ عثمان المتمردين عليه.

فمن هنا عرفنا أن وحدة الأمة تحت إمام واحد هي من الأولويات الكبرى، فلا يغرينا ولا يغرنا من يحدثنا عن تحويل الأمة إلى مجرد "تنسيق" أو "تعاون" على غرار الاتحاد الأوروبي مثلا أو غيرها، فنحن أمة واحدة وهي تتوق إلى الوحدة ولم يفرقنا سوى الحكام المستبدون أو المحتلون.




[1] انظر مثلا:
برتراند رسل، حكمة الغرب: عرض تاريخي للفسلفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي، ترجمة: د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة 62 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، فبراير 1983)؛ 1/ 100، 143، 157، أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011م)، 1/ 93؛ مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، 1954)، 2/ 146.