ألمانيا واحدة من دول الحضارة الغربية..
لم يتوصل الغرب إلى إنهاء الحروب الداخلية فيما بينهم
إلا حينما اكتشفوا معادلة جديدة خلاصتها: لماذا نتقاتل في أوروبا إن كان لدينا
عالم واسع يمكن الاستيلاء عليه؟!.. نعم، لم يتوقف القتال داخل أوروبا العصور
الوسطى إلا حينما جاء عصر الكشوف الجغرافية ببلاد واسعة في إفريقيا وآسيا
والأمريكتين.. هنا، خرجت الجيوش الأوروبية خارج أوروبا لتسجل الصفحة الأكثر سوادا
في تاريخ البشرية: الإبادة والإفناء، واستعباد البشر، ومؤتمرات تقسيم البلاد، ونهب
الثروات.. وهي الصفحة التي لم تزل قائمة كما هي لكن يغطي سوادها غلاف رقيق جبار من
الإعلام والأفكار والنظام!
هل قلتُ النظام؟!
نعم! هل تعرف أن القتل حين يكون منظما يكون لذيذا وممتعا
ومقبولا ومفهوما؟! فالشرطي حين يقتل مجرما يستحق التصفيق! تلك قاعدة بديهية مفهومة.
لكن لحظة..
من الذي قرر أن هذا مجرم، ومن الذي قرر أن جزاءه القتل؟!
هنا عمل المنظومة الفكرية، والإعلامية، والقانونية.. تلك
هي الجهات التي مهمتها إقناعك بأن عملية القتل التي رأيتها بعينيك تستحق التصفيق،
وينبغي عليك أن تغني وأنت فرح من أعماق قلبك "تسلم الأيادي" أو "واو..
يا له من بطل!" إن كنت تتكلم بلسان الفرنجة!
وعالمنا اليوم هكذا.. أمم متحدة ومجلس أمن ومحاكم دولية
ولجان تقصي حقائق وفريق مبعوثين دوليين.. وفي النهاية قوائم تصنيف تُعرض على محاكم
لتصدر عنها بشكل قانوني، فتنزل إلى منظومة أمنية عالمية "الانتربول"
وتتسلمها الدول لتضعها على مطاراتها وموانئها ومنافذها، أو قرارات حرب يتولى
تنفيذها جيش عالمي "الناتو".. قواعد عسكرية تنتشر في جميع العالم ولا
تسمى احتلالا –لا سمح النظام!- وإنما هي اتفاقيات أمنية ودفاعية مشتركة ثنائية تمت
بالقبول والرضا!
نظام حقيقي لشرعنة الظلم والقتل.. ويا طالما عجزت
المنظومة عن إيجاد الحل لأن القضية معقدة والأزمة متشابكة والأطراف غير متعاونة
و.. و.. و.. إلخ! وأمامنا جميعا مقتلة في عامها السادس أسفرت عن نصف مليون قتيل
وسبعة ملايين مشرد ومدن زالت من على وجه الأرض ولا تزال المنظومة لا تجد للمشكلة
حلا!! بلى! من قرأ بيان مايكل رانتي قبل أيام –وهو المبعوث لا أدي كم رقمه ضمن
مبعوثي الأمم المتحدة لسوريا- لعرف أنه نذير حرب أن يقع في إدلب ما وقع في حلب إن
لم تختف "هيئة تحرير الشام" تماما من تلك المناطق كلها.
ولعل كثيرين لا يعرفون أن محاكم التفتيش الإسبانية –وهي
إحدى صفحات التاريخ السوداء، وهي صفحة غربية أيضا- كانت تجري وفق نظام دقيق محكم
يثير إعجاب الشغوفين بالإجراءات والتقاليد! وما عالمنا الآن إلا محكمة تفتيش
كبيرة، وهي تفتش في صدور الناس عن الأفكار المحظورة.. إلا أن الأسماء رقيقة:
النظام العالمي يكافح الإرهاب!
نعود إلى ألمانيا..
ألمانيا دولة قانون ونظام ومؤسسات! تشن فيها الحملات
اليومية على أردوغان لأنه ديكتاتور بينما لا بأس أبدا بالتعاون –بل التعاون
الأمني- مع السيسي! فالسيسي كائن لطيف كما تشاهدون جميعا.. "انتو مش عارفين
ان انتوا نور عينينا ولا إيه"!
والسيسي رجل المنظومة الدولية، ينفذ انقلابا عسكريا،
ومذابح يومية، لكنه يأتي بعد غسل يديه ليقف في الأمم المتحدة يخطب عن الإرهاب!
وقد أعلن السيسي غضبه على بعض معارضيه، فأدخلها النظام
في منظومته الأمنية لتتحول غضبه إلى "قائمة دولية" تعمل أجهزة الأمن في
مطارات العالم وفقا لها.
لا تزال المنظومة هي هي، منذ صلح وستفاليا الذي أوقف
الحرب في أوروبا بتصديرها للعالم كله حتى الآن.. الغرب يصدر كل إجرامه عبر العالم
لكن عبر قفازات محلية؛ نعم! نحن نصنع القفاز وننتجه ونسوقه وندعمه ونرى أن
استقراره ودعم نظامه ضرورة لأمن واستقرار العالم.. لكننا نحرص ألا نتلوث مباشرة
بقذارته!
لو أن أحدا من الموضوعين على قائمة الإرهاب عبر بمطار
دبي، فالإجراء الطبيعي أن يُقبض عليه، يدفع إلى السيسي، يرى جهنم في أقبية أجهزة
الأمن، ربما خرج منها قتيلا أو فاقدا لعضو من أعضائه، أو لبث في السجن أحقابا!
لا بأس، دبي مدينة في بلاد العرب، والعرب لا يستحون..
يفعلونها ولا يبالون!
أما أن يحدث هذا في برلين فلا! هنا دولة القانون
والمؤسسات والنظام.. هنا الأرض التي حرمنا عليها أن تدخلها الحروب، الحروب فقط
هناك!
ولهذا، يمكن للسيسي أن يقتل عبد الرحمن عز، يعذبه،
يعتقله.. ما شاء له أن يفعل به! طالما كان في مصر، أما حيث استطاع بطريقة ما أن يصل
إلى بلادنا، فهنا يمكن أن نعطيه حق اللجوء السياسي، حقه في التقاضي، حقه في حرية
الرأي والتظاهر وما شاء من حقوق! وهو إن نزل إلى ألمانيا فاستوقفته شرطة المطار –طبقا
لقائمة غضب السيسي- ربما تحركت له السفارة الإنجليزية، وعومل كما ينبغي لمواطن
"وصل إلى بلادنا"!
إنه النظام يا سادة!
نحن أسباب القتل في بلادكم، وأسباب الحياة في بلادنا..
لأن حياة بلادنا لا تقوم إلا على موت بلادكم! فمن أراد الحياة حضر عندنا بشروطنا
وتحت قانوننا، ومن أراد الموت فليبق في السجن الوطن!
وصدق المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر
أن يرى .. عدوا له ما من صداقته بد
إنه حمزة البسيوني العالمي.. حمزة البسيوني قائد السجن
الحربي في عصر عبد الناصر، خطب يوما خطبة عصماء حولها القرضاوي إلى أبيات شعر في
نونيته، فكان مما قال:
إني هنا القانون أعلى سلطة
.. من ذا يحاسب سلطة القانون
إن شئتُ سامحكتم، فبرحمتي
.. وإن أبيتُ فذاك طوع يميني
ومن ابتغى موتا، فها عندي
له .. موت بلا غسل ولا تكفين
والسجن أيضا نظام!
ليس نظاما ليحفظ حقوق الناس، بل للسيطرة عليهم والتحكم
فيهم.. وربما شاء النظام فقتل بعضا منهم تحت التعذيب، وعندها فلا بأس عليه.. طالما
"الورق تماما" فلا بأس أبدا.. فقط أرسل من يدفنهم في أي مكان، ثم سجل في
الدفتر أنه هرب، وإن شئت ألا ترهق نفسك بالدفن فسجل أنه حاول الهروب فقُتِل
فتعالوا تسلموا جثته، وكان صدام حسين يأتي بالرجل فيريه إعدام ولده برصاصة في رأسه
ثم يطلب منه ثمن الرصاصة، "لأنها عهدة"! ويا لها من أمانة! ويا له من
شرف!
لست ألوم العدو، فإن الذين يحبون أن تبقى حضارتهم زمنا
قادما يعرفون أنهم يجب أن يحافظوا على بلدانهم من أن تمتد إليها قذارة العملاء..
ألقى نابليون يوما لعميله الذهب على الأرض لكي لا يتلوث بمصافحة خائن!
وهكذا يفعل سلفه من بعده، وهل أتاك نبأ من اختطفوا من
أوروبا ليُلقى بهم في أمريكا في إطار الحرب على الإرهاب؟!.. ثم هل أتاك نبأ أن
الأمريكان كانوا يرسلون بعض أولئك السجناء لتعذيبهم في مصر وسوريا والأردن والمغرب؟!
لم يحبوا أن يقوموا بأنفسهم بالأعمال القذرة التي يقوم بها عملاؤهم! مع أن عملاءهم
يستوردون منهم آلات التعذيب نفسها!
لكنه أيضا.. النظام! النظام الذي اتفقنا عليه جميعا..
فالآت التعذيب لا نستعملها في "بلادنا"، وإنما نقدمها لكم لتستعملونها
لصالحنا.. في بلادكم المستعمرة!
الحمد لله الذي فرج عنك
أخي الحبيب عبد الرحمن عز، ونسأله جميعا فرجا لبلادنا كلها.. فتلك هي الحرية حقا!
وعندها يكون لنا أكبر احتفال!
نشر في مدونات الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق