السبت، ديسمبر 08، 2007

معاوية والتوريث مرة أخرى 3/3

يعتبر هذا الجزء الثالث متمما للفكرة وموضحا لها ، ومجيبا عن بعض الملاحظات التي تلقيتها ردا على الموضوع من بدايته .

وليسمح لي القارئ بأن أخبره ببداية الموضوع :

منذ سنوات ويلوح في الأفق نية توريث مصر لجمال مبارك من بعد مبارك الأب .. لم يكن صعبا أن يتوقع أي أحد دفاع المنافقين وكلاب الحكومة وحشرات الإعلام الرسمي عن هذا التوريث ، وسيتحدثون عن مصلحة الوطن والمرحلة الحرجة والحساسة ، ولربما انكشفت وجوه طالما تغطت بالمعارضة مثل مصطفى بكري مثلا الذي دافع من قبل عن توريث سوريا لبشار الأسد وتحدث أيضا عن مصلحة البلد وأنها موزعة بين عرقيات وطوائف ولم يكن بد من التوريث ، والناصريين - إلا قليل منهم - أدعياء شرف .. ومصطفى بكري يعتبر مثالا واضحا للحالة التي تندفع في الهجوم والمعارضة ولكنها ترحب بأن تتلقى الدعم من القذافي أو ممن يدفع حتى لو كان زين العابدين بن علي .. وانتظروا يوم توريث القذافي لابنه سيف الإسلام .

لم يكن ذلك يمثل خطرا .. ليس في مصر أحد - تقريبا - إلا ويعرف فعل المنافقين ، وما كان المنافقون يوما يستحقون بذل جهد لبيان نفاقهم وكذبهم ، والمصريون - رغم كل شئ - شعب جيد الفهم وهو يعبر عن فهمه هذا بالسخرية اللاذعة والنكتة القبيحة - أحيانا - .

الخطر ظهر في شئ جديد ، في صوت جديد من المعارضة انطلق قويا صارخا هادرا ، تمثله جريدة الدستور بقيادة إبراهيم عيسى ، مثل ظهور هذا الصوت متنفسا جديدا رفع من سقف النقد وحدة المعارضة في كل مصر ، وإبراهيم عيسى وأمثاله أشخاص حتى الآن لا يُشك في حرصهم وإخلاصهم ووطنيتهم قيد شعرة .. رغم كثير من علامات استفهام تتقافز كل حين .

مع استمرار إبراهيم عيسى في الكتابة بنفس الحدة والجرأة والقوة صار رمزا ، وبدأ يظهر نَفَسه الشيعي الواضح ، أنا هنا لا أتهم ولا أشكك ، لكن الحقيقة بوضوح أن إبراهيم عيسى يميل إلى الشيعة وإن لم يصرح بهذا وإن لم يبدر منه نحو أبي بكر وعمر أية إساءة صريحة - هناك بعض التلميحات الضمنية لكن دعنا نحسن الظن ونقول إنه سبق قلم أو زلة لسان أو حتى أشياء غير مقصودة ويمكن أن تؤول على محمل حسن - لكن هجومه على معاوية وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، وهجومه على صحيح البخاري والتشكيك فيه ، وأسلوب مقالاته عن الحسين وكربلاء ، ثم كتابه رجال بعد الرسول وحلقاته التلفزيونية على دريم ( رجال بعد الرسول - وفاطمة وعائشة - والفهرس ) .. كل هذا لا يدع مجالا للشك أبدا في انحيازه إلى الفهم الشيعي .

يمكن أن يفسر كل هذا في إطار المؤامرة بصناعة رمز شيعي .. وهو تفسير يجيب فعلا عن علامات استفهام كثيرة أهمها مثلا : كيف تصدر وتستمر جريدة بمثل درجة المعارضة هذه في مصر مبارك ؟ ولماذا ارتفع الآن في مصر السنية أصوات شيعية وأصبحت تحظى بظهور إعلامي يثير الريبة ؟ وكتب الشيعة التي تزيد وتنتشر .. إلخ .

ولا يمكن أن يتم هذا في مصر بدون رعاية من أمريكا ، فمصر التي تسيطر عليها المخابرات الأمريكية من الرأس وحتى القدم - كما قال بوبو وود وارد نقلا عن مصادر في CIA - لا يمكن أن تتم فيها حركة بمثل هذا الوضوح بدون أن يكون اللاعب الأساسي صاحب التخطيط هو الأمريكان .

إن هذا التفسير - الذي أطرحه الآن كنوع من التفكير بصوت عال ولا أتبناه إلى هذه اللحظة - هو ما يفسر وجود واستمرار جريدة الدستور ، ووجود واستمرار إبراهيم عيسى .

لم يكن صعبا - في تلك الأجواء - أن تتخيل شخصا كإبراهيم عيسى ( وأعيد التكرار أني لا أشك في إخلاصه أو وطنيته ولا أعتبر بالضرورة أنه يعلم بأنه جزء من لعبة ) وهو الصوت القوي المسموع ماذا يمكن - بهذا الفكر - أن يقول في لحظة التوريث .. سيقول ولاشك في معاوية مالم يقله مالك في الخمر .

وجدت بداية لهذا الكلام في مقاله بالدستور الأسبوعي بتاريخ 11/10/2006 إذ كان هدف المقال هو سب المغيرة بن شعبة على اعتبار أنه صاحب فكرة التوريث وهو من أوحى بها إلى معاوية ويزيد رغبة في أن يبقيه معاوية واليا على الكوفة ، وفي إطار هذا الهجوم حكى القصة المعروفة عن اتهام المغيرة بالزنا وهي القصة التي تحكي كتب التاريخ تفاصيلها بما يبرئ المغيرة ويخلي ساحته .. لكنه رواها بما يوحي أن الصحابي المغيرة بن شعبة كان يزني في الطريق العام ويراه الناس حال الزنا ، وطال هجومه - بالتبعية - سيدنا عمر لأنه ، في رأي عيسيى ، ظل يحاصر شهود الزنا حتى أربكهم وتراجع أحدهم عن شهادته فتمت براءة المغيرة .. وادعى - كذبا وزورا - أنه ينقل عن الطبري وابن كثير .. وهو ما دفعني لأوضح كذبه المتعمد في مقال إبراهيم عيسى ينتحر ، ثم كان لابد من بيان أنه لا علاقة أبدا بين فكرة التوريث وبين المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - في مقال هل كان المغيرة صاحب فكرة التوريث ؟ .

ولكن بما أن الموضوع طرح فعلا ولو قبل وقته فكان من الواجب حتما أن تكتب القراءة الموضوعية لحدث التوريث نفسه ، بما يحقق نزاهة المؤرخ المحايد وسيثبت - وقتها - أن معاوية رضي الله عنه لم يكن يورث الخلافة طمعا في شهوة الحكم له ولأولاده بل لأن ذلك ما تفرضه اللحظة فعلا وما يحقق مصلحة الأمة .. ولست أدعي بالطبع أني صاحب أي سبق في هذا اللهم إلا البحث في الوقائع والاستنباط من بعضها ومحاولة قراءة بعض حوادث التاريخ من هذه الزاوية ، وأنا في كل هذا طفل أتقلب على ما تركه الشوامخ من كتابات .

انظر : هل كان معاوية مجرما حين ورث الخلافة ليزيد ؟

وهذا المقال هو الذي تلقيت عليه ردودا وملاحظات وتعليقات وجدت نفسي مضطرا إزاءها لإعادة بيان وتوضيح بعض الأفكار .. فكان الجزء الأول لخصت فيه ماسبق ، ثم الجزء الثاني لبيان بعض الوقائع التاريخية المنفصلة تماما عن معاوية والأمويين سواء بالزمان أو بالنسب التي تثبت كذلك أن قانون العصبية كان هو قانون هذه الأيام .. وهذا الجزء الثالث وألأخير بإذن الله .

****

1- مالهدف من هذه المقالات ؟

* هذه المقالات لها هدفان :

الأول : هو إظهار فضل سيدنا معاوية - رضي الله عنه - ونفي الهمة عنه وشرح الظروف والملابسات التي حكمت لحظة التوريث .. وهذه قضية تاريخية يمكن الحديث عنها في أي وقت وبمناسبة أو بدون .

أما الثاني : وهو الذي فرض التوقيت فهو إثبات أنه لا علاقة أبدا بين التوريث الذي يراد له أن يتم في مصر في القرن الخامس عشر الهجري ، وبين ما تم من توريث في عام 60 هجرية .. لا الزمان هو الزمان ، ولا الظروف هي الظروف ، ولا الدوافع هي الدواقع ، ولا مقارنة بين صحابي وملك عظيم وبين ديكتاتور مشكوك أصلا في ولائه للوطن والأمة ، ومقطوع - لا مشكوك - بأنه مصلحة البلاد لا تمثل عنده أولوية .

وبإثبات عدم العلاقة نفهم التاريخ أولا ، ثم ينتفي مبرر المنافقين ، ويتنفي كذلك - وهو الأهم - مُستند المعارضين سواء كانوا شيعة أو سنة أو علمانيين أو لادينيين .. ولكل منهم في سب معاوية غرض ، فإن اختلفت أغراضهم فقد اجتمعوا في تلك النقطة .

وإني لأدري أن ما أكتبه ليس مشهورا أو منتشرا أو له جمهور عريض ليحقق تلك الأهداف ، ولكن حسبي أن هذا ما أستطيعه ، وهو الذي سأسأل عنه أمام الله .

2- كلامك هذا يؤكد نظرة بعض العلمانيين بأن عصر الخلافة الراشدة فلتة لن تتكرر .

لا يمكنني ولا يمكن لأي مسلم الادعاء بأن عصر الخلافة لن يتكرر ، كيف ولدينا الحديث الصحيح ” تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على مناهج نبوة ” .

الذي قلته صريحا في كلامي أن عصر الخلافة الراشدة كان عصر استثنائيا بالنسبة لهذا الوقت من التاريخ ، وهو لهذا يصلح لأن يكون أفقا ترنو إليه كل العصور اللاحقة ، وحيث أنه ثبت بالوقائع التاريخية أن مسألة العصبية هذه كانت قانونا يحكم العلاقة بين الجميع ، وثبت بالواقع كذلك أن هذا لم يعد موجودا في عصرنا الحديث - ولللإنصاف : ما عدا بعض المناطق والدول - فإن تحقيق الشورى وتداول السلطة السلمي وتولية الأكفأ هو ما يجب أن يكون وما يجب أن نجاهد لأجله .

بل يمكنني أن أتقدم خطوة للأمام فأقول :

إن عصر الخلافة الراشدة لظروف زمانه ومكانه لم يستطع أن يُشرك كل الدولة الإسلامية في اختيار الخليفة ، واقتصر هذا الاختيار على العاصمة والتي كانت المدينة المنورة ، وهذا كان أفضل المتاح وقتها ، ولم يكن من الممكن أبدا استطلاع رأي الجيوش الإسلامية والتي تبعد عن مقر الخلافة شهورا ولا حتى الولاة الذين يحكمون الأمصار .

إنه لا عاقل يقول استنادا لهذا الواقع التاريخي بحرمان الناس في المحافظات والأقاليم الآن من المشاركة في الانتخابات لأن الخلافة الراشدة لم تفعل هذا ، فالخلافة الراشدة أقرت مبدأ الشورى والاختيار السلمي وتولية الأمر للأكفأ ولم تستطع أن تحقق انتخابا يشمل كل الدولة الإسلامية ، ومجنون من يطلب منها ذلك وأشد منه جنونا من بنتقدها لظرف خارج عن إمكانيات العصر .

لقد وصل إلى خالد بن الوليد قائد جيش الشام خبر وفاة أبي بكر وتولية عمر وعزله هو عن قيادة الجيش في رسالة واحدة ومع رسول واحد هو أبو عبيدة بن الجراح القائد الجديد .. فهل لم يكن خالد بن الوليد مثلا أهل لكي يُستشار وينتخب ويدلي برأيه فيمن يكون الخليفة الجديد ؟؟ بالطبع لا .. ولكن واقع الأمر أدى إلى هذا .. أدى إلى أن تكون الشورى محصورة في أهل العاصمة ، ولا يجوز الآن في عصرنا الحديث أن نقف عند هذا ونوقف التطور والتاريخ .

عصر الخلافة الراشدة أثبت وقرر مبادئ الشورى وتولية الأمر للأكفأ .. والوسائل متروكة لأهل كل عصر .

3- بدا من كلامك أن الإسلام يقر التوريث .

دعونا الآن من كلامي فلست أهلا للفتوى بحال ، ولكن في ظل ما أفهمه وما قلته أنفي أن أكون قلت هذا .

ما أفهمه أن الإسلام يقر مصلحة الأمة ، فإذا لم تكن هذه المصلحة متحققة إلا بالتوريث في لحظة معينة وظروف معينة فأستطيع القول أن الإسلام يقر هذا التصرف في هذه اللحظة ، لأن الإسلام منهج واقعي وليس مثاليا وهو منهج نعرف من أحكامه وقواعده ” دفع المضار مقدم على جلب المنافع ” و ” رتكاب أهون الضررين ” ونعرف منه ” مقاصد الشريعة ” و ” اعتبار المآلات في الحكم على الأعمال ” .. إلخ

ولذلك فإن المسلم ليس مطالبا بغباء أن يفعل المثالي ولو أهلك نفسه وأهله دونه ، بل توازنات الواقع معتبرة في الأحكام فيجوز له أكل الميتة ولحم الخنزير إن لم يجد غيرهما مثلا .. وهذه واقعية الإسلام ومرونة أحكامه .. ثم إن كل هذا يجوز أن نختلف فيه ونتناقش حوله ، لكن الدليل الأوضح والأظهر والقاطع لكل حجة هو سكوت الصحابة وكبار التابعين عن هذا - فيما عدا اثنين - وهم خير القرون كما قال رسول الله فيهم ، ولا يُظن فيهم إلا الخير ، ولا يتوقع أنهم سكتوا على “منكر” كانوا يستطيعون تغييره ، أو سكتوا على “خير” كان يمكنهم فعل ما هو أفضل منه .

إن في هذا لدليل على أن ما تم كان أفضل حل متاح وقتها ، ولا يمكن أن نسير خلف روايات مكذوبة توحي بأن الساكتين سكتوا خوفا من السيف والقتل ، فتلك تهمة ننزه عنها صحابة رسول الله وكبار التابعين ، وهم الذين ما بخلوا يوما بقطرة دم واحدة لصالح عزة الإسلام والمسلمين .

4- بدا من كلامك أنه لم يكن هناك حل آخر .

نعم ، قصدت أن اقول إنه لم يكن هناك حل آخر ” أفضل ” ، ومن رأى حلا أفضل فليخبرنا به ، ثم ليجب عن تفسير كل ماذكرناه حول قوة العصبية وكيف كان يمكن معالجة هذا الوضع .

ثم عليه وهو يفكر أن يحترم التاريخ ويحترم العمالقة أطراف الحدث - وهم الصحابة والتابعين - ، ليعلم أن الأمر لم يكن سهلا بسيطا كشأن حل مسألة رياضية .

إن إنسان كل عصر يأتي بعد بضعة أيام ليراجع قرارا اتخذه قبل أيام ، أو كما قال الثعالبي - فيما معناه - : ” لا يكتب كاتب شيئا في يومه إلا أحب في غده أن يغير منه فيقول لو قدمت هذا لكان أحسن ، ولو أخرت هذا لكان أفضل … ” ، فهل إنسان كهذا يستطيع أن يفكر في حل لمشكلة قبل 15 قرنا ، كان أطرافها أفذاذ الأمة وخير قرونها ؟؟

5- فعل الصحابي معرض للصواب والخطأ فهو ليس بمعصوم .

وما قلت غير هذا .. لكن الغباء كله والظلم كله والتجني كله أن نرفع هذا الشعار لنصم كل تصرف لم يعجبنا أو لم نرتح له بأنه خطأ .

الصحابي ليس بمعصوم ، هذا حق ، ولكن ليس معنى هذا أنه مخطئ على طول الخط لا يعرف له الصواب طريقا .. إذا قلنا إن معاوية ليس بمعصوم فلا يجرنا هذا إلى أن حياته كانت مجموعة من الأخطاء ، ولا تفسر كل أفعاله تحت راية ” عدم العصمة ” .

كل تصرف يحلل وحده ، ويوزن وحده ، ويفسر في سياقه التاريخي والمكاني ، وفي حالة الصحابي يظلل بحسن الظن .. ثم يكون الحكم على التصرف بالصحة أو الخطأ .. فإن كنا نناقش موضوع ” التوريث تحديدا ” فإن تخطئتنا لفعل ” التوريث ” نفسه يجرنا لرمي كل الجيل بالخطأ ، وهذا في حقهم جميعا محال .

انتهى بحمد الله .

معاوية والتوريث مرة أخرى 2/3

اقرأ أولا: معاوية والتوريث مرة أخرى 1/3

1) يوسف بن تاشفين

في النصف الأول من القرن الخامس الهجري كانت منطقة المغرب قد تحولت إلى قبليات تتكاثر بينها النزاعات والصراعات ، حتى ذهب زعيم ” جدالة ” – أكبر قبائل المغرب – إلى الحج ، وعاد من تلك الرحلة بالشيخ عبد الله بن ياسين لكي يفقه الناس في أمر دينهم الذي كاد أن يندثر من كثرة ما ظهر من شركيات ومن زاعمي النبوة وليعود المغرب قوة إسلامية واحدة .

اصطدمت محاولات الشيخ عبد الله بن ياسين بالواقع على الأرض فلم يفلح بل ضرب وأهين ثم طرد من المغرب ، وبدلا من أن يعد الشيخ إلى بيته وحلقة درسه اتجه جنوبا إلى مصب نهر السنغال وهناك بدأ في تكوين ” الجيل المنشود ” ، وبدأ هذا من الصفر فأقام خيمة على جزيرة عند الماء وظل يجمع إلى هذا الرباط من يرضى بالدعوة وفي تلك الخيمة تتم التربية والإعداد تماما كما بدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – من دار الأرقم بن أبي الأرقم .

ومن هذه الخيمة أو الرباط انبعثت إلى الوجود ” دولة المرابطين ” والتي تم على يدها توحيد المغرب بل وتوحيد المغرب والأندلس بعد أن أنقذت الوجود الإسلامي في الأندلس وأخرت انهياره قرونا في الملحمة الخالدة ، معركة الزلاقة .

وإذا ذكرت دولة المرابطين فلابد أن يذكر معها اسم قائدها الفذ وزعيمها الرباني وصاحب توسعها وعصرها الذهبي وقائد الزلاقة أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين .

عندما بدأت دولة المرابطين على يد الشيخ عبد الله بن ياسين كان زعيمها السياسي هو يحيى بن إبراهيم الجدالي ، زعيم جدالة والقائد الذي أتى بالشيخ ابن ياسين إلى المغرب ، ثم لما توفى إبراهيم تولى الرئاسة من بعده يحيى بن عمر اللمتوني ، وقد كان ذلك باختيار الشيخ ابن ياسين .. ومالبث أن توفي يحيى فقاد المرابطين بعده أبو بكر بن عمر اللمتوني .. ثم انطلق أبو بكر ليواصل دعوة القبائل السودانية إلى الإسلام فترك على زعامة المرابطين ابن عمه يوسف بن تاشفين .

لقد انتقلت السلطة في كل تلك المراحل انتقالا سلميا بسيطا بالاختيار الفردي والرضا من الناس حتى أنها انتقلت من ” جدالي ” إلى ” لمتوني ” وقد كانت قبيلتي جدالة ولمتونة أكبر القبائل المغربية المتصارعة والمتعادية فيما قبل التوحد الذي حققته دعوة الشيخ عبد الله بن ياسين تحت راية الدولة المرابطية .

وتحت قيادة يوسف بن تاشفين انتقلت دولة المرابطين نقلة هائلة ، فلقد تمكن ابن تاشفين من بناء دولة في غاية القوة توحدت تحتها كل بلاد المغرب ، بل واستنجد بها أهل الأندلس فحكمت المغرب والأندلس معا ، وعاش يوسف ابن تاشفين مائة عام – بالتقويم الهجري – ( 400 هـ - 500 هـ ) ولما قاربته الوفاة كان الآتي .

لقد اتسعت الدولة اتساعا رهيبا وصارت تتمدد على المغرب والأندلس فحدث أن استشار ابن تاشفين قادته واستقروا على أن يتولى الأمر من بعده ابنه الأمير علي ، فكتب الأمر بولاية العهد وبايعت له الأمصار وتولى الحكم فعلا بعد انتقال ابن تاشفين إلى ربه .

لقد كان اتساع الدولة وقوتها وبناء حضارتها عاملا جديدا لم يواجه الزعماء من قبل ، وإذا كان انتقال السلطة تم سلميا فيما قبل فإنه قد تم وقت أن كانت الدولة محدودة الرقعة حول خيام المرابطين ، ووقت أن كانت الدولة في مرحلة ” الوازع الديني ” – بتعبير ابن خلدون - .. أما وأن الدولة قد صارت تتمدد من الأندلس شمالا حتى مناطق جنوب المغرب ، فما كان من حل إلا بتولية العهد أو بـ ” التوريث ” .

لقد اندهشت حينما كتب المؤرخ الفذ د. علي الصلابي نفس هذا الكلام في حق يوسف ابن تاشفين في كتابه ” دولة المرابطين ” فإنه رأى بان ما حدث كان الحل الذي تفرضه الظروف ، في حين أنه هو انتقد معاوية – رضي الله عنه – في نفس الموقف وقال بان معاوية كان يملك بذكائه أن يقر نظاما يتجنب الفتن دون أن يكون وراثيا ، وأن يستعمل عصبة بني أمية في أن تعمل على توطيد الحكم لمن يختاره المسلمون .

وهو كلام قاله كذلك العالم الجليل الشيخ رشيد رضا من قبل .. ومع إجلالي لكليهما إلا أن هذا الحل لم يكن يتفق وواقع العصر الذي اشتدت فيه العصبية وقل فيه وازع الدين ، ولن تجد من يضع قوته ويهدف نحره للقتل حفاظا على مُلك أحد وهو يرى نفسه أقوى منه وأقدر ، بل ويستطيع فعلا أن يحوز الملك بماله من عصبية .

ذلك كان يوسف بن تاشفين ..

2) وصلاح الدين ..

ربما كنت في حاجة للتعريف بيوسف بن تاشفين ، ولا أظن أني في حاجة للتعريف بصلاح الدين ، ودعك مما يقوله بعض الشيعة – ممن علا صوتهم أخيرا – عن البطل من أكاذيب .

فيما قبل صلاح الدين كان عماد الدين زنكي قد بدأ رحلة الجهاد لتحرير بيت المقدس ، ولما قُتل عماد الدين لم يجد آل أيوب - وكانوا عضد عماد الدين وقواد جيشه – حلا إلا بأن يتولى الأمر من بعد عماد الدين ولده نور الدين الذي لقب فيما بعد بـ ” الملك العادل ” .

واستمر الملك العادل نور الدين في رحلة الجهاد وحقق فتوحات باهرة ، وتأخر إنجابه للولد ، حتى أنجب ولدا .. لم يكن من شك لدى أحد في أن هذا الولد سيرث ملك أبيه ، وتسمى الولد بـ ” الصالح إسماعيل ” .

لننتبه إلى أن هذا كان في وجود رجل في مثل كفاءة صلاح الدين ، لكنه – ياقراء – واقع ذلك العصر وتلك هي قوانينه .

وقد قلنا سابقا إنه لو رمينا كل ملك ورّث ولده بنقيصة حب الدنيا وشهوة السلطان فسننجر حتما إلى أن نسب نبي الله داود ن الذي ورثه ولده سليمان – عليهما السلام - . فإذا كان نظام العهد بالولاية ووراثة الولد قد ساد في وجود أولئك الأبطال الأفذاذ الربانيين فيجب أن نستنتج أن العصر لم يكن ليصلح فيه نظام غير هذا .

ثم توفي نور الدين ومازال ولده الصالح إسماعيل صغيرا .. فماذا حدث ؟

استطاع الطفل – بتأثير بعض القادة – أن يقف حجر عثرة ضد استمرار مسيرة الجهاد الإسلامي ، وكاد ما أنفقه عماد الدين ونور الدين يضيع هباءا أمام لحظة حماقة من بعض القادة ، لم يكن لهم سلاح إلا هذا الفتى ” الصالح إسماعيل ” ، وهذا الفتى لا يملك إلا أنه ولد لنور الدين .

وبعد أن توحدت مصر والشام في عهد نور الدين وما بقي إلا الانطلاق نحو بيت المقدس إذا بالصالح إسماعيل يشعل حربا ضد صلاح الدين ويتعصب له أهل حلب – معقل آل زنكي – ويحاربون من ؟؟ .. يحاربون صلاح الدين فاتح مصر والقائم بأمرها .

ولولا وجود صلاح الدين وانتصاره وإمساكه بزمام الوحدة التي كادت تنفصم بين مصر والشام لكانت كل سنين الجهاد ضاعت هباءا وعدنا من جديد لنقطة الصفر حيث تشرذم الشام وتفككها وانفصالها عن مصر ، ونكون بحاجة لعماد الدين ونور الدين من جديد ليعيدا الوحدة .

كل هذا الخطر كان متحققا لمجرد أن طفلا من نسل الملك كان يملك عواطف الناس وعصبتهم ويملك أن يحركهم لحرب ، وضد بطل كصلاح الدين .. ألا يبين هذا كيف كان قانون العصبية والملك في تلك العصور ؟؟

ثم نأتي لصلاح الدين ..

لن نر شيئا جديدا في مسألة نظام الملك ، رغم مآثره الباهرة فيما سوى ذلك .. تماما كعمر بن عبد العزيز استطاع تغيير الكثير والكثير ، وما استطاع أن يعيد الأمر شورى ، وكان يتمنى أن يتولاها بعده محمد بن القاسم .

لقد تولى الحكم بعد صلاح الدين أولاده كذلك .. وكان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك .

وصلاح الدين نفسه لم يستطع توحيد مصر والشام وإنهاء الدولة الشيعية ( الفاطمية ) بسهولة إلا لأن خليفتها الأخير العاضد لم يكن له نسل يطالبون بحقهم في ملك أبيهم .

فاستفاد صلاح الدين من قانون العصبية هذا في توحيد مصر والشام ، وعانى منه الكثير يوم أن كانت المواجهة مع الصالح إسماعيل .

3)

الحكم المستنصر وابنه والمنصور

وتلك لقطة من تاريخ الأندلس ستتشابه كثيرا مع مشهد نور الدين وولده الصالح إسماعيل .

كان ذلك في أواخر القرن الرابع الهجري .

في تاريخ الأندلس ملك عظيم اسمه ( عبد الرحمن الناصر ) حكم الأندلس خمسين عاما نقلها في تلك الخمسين من ضعف وفرقة وتناحر إلى دولة واحدة قوية مرهوبة الجانب عظيمة الحضارة ، وهو الذي كتب إليه ملك السويد في رسالة ” خادمكم المطيع ” وقد كان يرجوه أن يتعهد ابنته بالتعليم والرعاية .

لما مات الناصر تولى الأمر من بعده ولده المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن ، وسار على سيرة أبيه وحافظ على المملكة القوية الواحدة وكان ملكا ومؤرخا ومثقفا وإذا ذكر المستنصر ذكر معه إضافاته التاريخية للمكتبة الأموية .

المستنصر أيضا تأخر إنجابه للولد ، ثم أنجب ولدا – عبد الرحمن – مالبث أن مات في حياته ، ثم مالبث أن رزق بـ ” هشام ” .. مات المستنصر وهشام لم يبلغ الحلم .

وكادت تلك الدولة ان تضيع مع وجود الطفل على رأسها ، لولا أن وُجد قائد عظيم فذ يلمع اسمه في التاريخ واسمه محمد بن أبي عامر الذي تلقب فما بعد بـ ” الملك المنصور ” .

المنصور ابن أبي عامر قائد يعتبر فلتة تاريخية لكن عليه مآخذ في تقواه ، يمكن أن نقرب الصورة لو شبهناه بمحمد علي الكبير .. مع فارق ضخم لصالح المنصور ، فالرجل صنع دولة قوية مهيبة وفي عصره كانت ذروة أمجاد الأندلس وأكبر أتساع لرقعتها لكنه لم يكن بتقوى أو عدل صلاح الدين أو نور الدين بل كان تعامله في نظام الملك أقرب إلى الملوك منه إلى الربانيين .

منذ مات الحكم المستنصر بدأت المؤامرات حول الفتي هشام ، وببراعة استطاع المنصور بن أبي عامر الحفاظ على الخلافة ، ثم استخلصها لنفسه فكان هو الملك على الحقيقة ، وليس لهشام إلا الاسم والدعاء في الخطبة والصك على النقود .

الإنجازات التي حققها المنصور بن أبي عامر لم يسبق إليها أحد ، وقلنا إن عصره كان ذروة الأمجاد وأقام للناس العدل ونشر العلم والحضارة وكان جهاده مرتين في العام وغزا أكثر من ستين غزوة لم يهزم في واحدة منها أبدا ، فأمّن الناس من الخطر الداخلي والخارجي وتحققت رفاهية فريدة لأهل الأندلس وقتها .. وغير هذا كثير ، ولكن …

بالرغم كل ما فعله المنصور نقم عليه الناس عزله للخليفة هشام عنهم ، هشام هذا الذي لم ير منه الناس شيئا ولا فعل لهم شيئا ولا حقق لهم شيئا .. ولا يملك من الدنيا إلا أنه الأموي سليل الخلفاء .. حتى اضطر المنصور إلى أن يخرجه للناس في موكب وسار هو في ركابه وكان هتاف الناس لهشام كما لو كان بطلا مقداما .

فانظر – أيها القارئ – كيف كان مجرد الانتماء للبيت الأموي يملك به الفتي القلوب ، ولو لم يكن له مأثرة واحدة .

وكيف لم يكن المنصور يحظى بعصبية من الناس – بعد كل ما فعل – لأنه ليس أكثر من حاجب الخليفة ومدبر دولته والقائم على رعايته ؟؟


4) المنصور مرة أخرى .


وإذا كنا نستطيع أن نقول إن وجود المنصور أنقذ الأندلس من عيوب نظام التوريث ومنع انهيار الدولة الكبيرة حينما سيطر على الحكم وأداره بمهارته الكبيرة .. فإنه هو أيضا من أزال النظام نفسه ، ولما أزيل النظام لم يلبث أن أدى هذا إلى ضعف الأندلس وتفرقها ودخولها عصر ملوك الطوائف .

والذي حدث هو أن المنصور عهد بالحجابة من بعده لولده .. ومن بعد ولده اضطربت كل الأندلس .

فثار الأمويون لاسترجاع خلافتهم لتكون خالصة بأيديهم ، وثارت قبائل العرب التي وضعتهم توازانات المنصور ليكونوا العدة في جيش الحضرة – أحد جيوش الخلافة - ، وثار الطامعون من كل صنف .

وثورة تتلوها ثورة في أيام تنبئ عن أن نظام الخلافة نفسه انتهى ، واختفى الخليفة الأموي هشام بن الحكم المستنصر ، واضطربت عاصمة الأندلس ” قرطبة ” فثار كل قوي في مدينته فأمسكها وحكمها ، وتفتتت الأندلس إلى طوائف ، على كل طائفة منها واحد يتسمى بأسماء الملك ويتلقب بألقاب الخلافة ، حتى قال فيهم الشاعر ابن رشيق أبياته المشهورة :

مما يزهدني في أرض أندلس ** ألقاب معتصم فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها ** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

ويمكن للمؤرخ أن يحمل المنصور بن أبي عامر عاقبة هذا التفكك حيث أنه أول من قلب نظام الملك .

ذلك مشهد آخر يدل دلالة أكيدة على أن نظام التوريث كان هو النظام الأسلم لتلك الفترات من التاريخ .


5) بنو عباد وشبيه هشام

واستمرارا في الحكاية ، سنجد إن عصر ملوك الطوائف تميزت فيه مملكة إشبيلية التي كان يحكمها بنو عباد ، وهي المملكة التي كانت تحاول – طول عصر ملوك الطوائف – أن تحكم كل الأندلس .

ولأجل أن تجد شرعية لهذه الغاية ، أحضرت رجلا شبيها بـ ” هشام بن الحكم ” الخليفة الأموي الأخير الذي حكم باسمه المنصور بن أبي عامر وكانت قصة حياته درامية بائسة تصلح لعمل روائي ، وادعت أنه الخليفة هشام وأنها تحكم باسمه .. ساعد على تصديق هذا اختفاء هشام بن الحكم وهو الاختفاء الذي أدى إلى كثير من الشائعات والقصص التي يختلقها الناس لمن يحبونهم .

وباسم الخليفة المزعوم – شبيه هشام – حكم بنو عباد مملكة إشبيلية وكانوا أقوى مملكة .

حتى أقوى مملكة كانت في حاجة إلى أي رجل ينتمي للبيت الأموي .

———————–

* تلك بعض لقطات من عصور مختلفة لمجرد ضرب المثال ، وراعيت أن يكون أطرافها من الأبطال والصالحين أو القادة الأفذاذ ليكون فهم قانون العصبية أوضح وأظهر .. والاستقصاء شئ يطول .

* في المقال القادم والأخير بإذن الله سيكون الرد على الملاحظات وتفصيل بعض الأمور .

معاوية والتوريث مرة أخرى 1/3

منذ كتبت موضوع “ هل كان معاوية مجرما حين عهد بالخلافة ليزيد ” وأنا أتلقى عليه ردودا وملاحظات منها ما كُتب على المدونة ومنها ما وصلني على البريد الإلكتروني ومنها ما قيل لي مشافهة .. وهو موضوع ، وإن لم يتيسر له النشر - كما توقعت - على ما أعلم ، إلا أن الله كتب له الانتقال على مواقع ومنتديات ومدونات أخرى أكثرها غيّر العنوان اتساقا مع رؤيته .

حتى كان الأمس الذي وجدت فيه قَدَرا رد من أخي الحبيب ورفيق الدراسة والسكن المهندس وليد الشاذلي على منتدى موقع قصة الإسلام ، فأثار هذا الرد كتابة “ذيل” للموضوع ، والذيل تسمية يعرفها المشتغلون بالتاريخ وهي ترادف كلمة ” ملحق ” بتعبيرات العصر الحديث ، ثم كان أن رفض الموقع تسجيل دخولي - لخلل فيه - وكذلك سيتناول ردي مالم يتناوله أخي وليد .. فقلت : أضعه في المدونة .

1)

كان ملخص فكرة المقال الأصلي كالآتي :

1- محاولة فهم تاريخ الصحابة تختلف عن غيرها في أننا نعرف أن الصحابة هم خير الناس عند الله - بعد الأنبياء - وبالتالي فإن تفسيرنا لتاريخهم يجب أن يحمل الحد الأقصى من حسن الظن ، دون أن يحول هذا من أن نناقش تاريخهم ونعرف من الذي أصاب ومن الذي أخطأ فهم بشر يتناولهم الحطأ ولا عصمة إلا للأنبياء .

2- من واجب الباحث في قضية التوريث - تحديدا - أن يفكك الحوادث لينظر إلى ” التوريث ” بتجرد ونزاهة ، وهذا لا يتأتى لو أن الباحث استصحب معه حين النظر في مسألة التوريث ماكان من فتنة بين عليّ ومعاوية قبل عشرين سنة من التوريث ، أو ما حدث بعد التوريث من استشهاد الحسين رضي الله عنه وموقعة الحرة .

3- شهادة التاريخ تقول بأن كل البشر إلى ما قبل مائتي سنة لم يتوصلوا إلى نظام حكم أفضل من ” التوريث ” حيث كانت تتولى الكم عائلة أو قبيلة ويطرد الملك فيها بالوراثة .. ولم تنشأ حضارة إلا في ظل هذا النظام ، بل ولم تنشأ امبراطورية على مر التاريخ إلا تحت هذا النوع من الحكم .. والفترات التي لم يوجد فيها هذا الحكم الوراثي كانت أحد نوعين : إما ديمقراطية على رقعة محدودة من الأرض مثلما كان في مدن اليونان القديمة وفي عصر الخلافة الراشدة ، وهذا النوع يختفي حين تتسع الامبراطورية ، وإما فترات اضطراب ينتج عنها ضعف الدولة وتمزقها مثلما كان عصر المماليك إذ لم يكن هناك حاكم إلا الذي يستطيع قتل الحاكم ثم يحكم مكانه .. وتتوالى متسلسلة قتل الحاكم ليصعد التابع فيصير حاكما فيقتله تابع له .. وهكذا .

4- شهادة التاريخ هذه تثبت أن فترة الخلافة الراشدة كانت استثناءا في مسار التاريخ البشري ، وهي تصلح لأن تكون دائما أفقا ترنو إليه الشعوب وتحاول تحقيقه بما يستجد في يدها من وسائل ، وهذا الاستثناء هو ما يسميه حكيم التاريخ ابن خلدون بقوله : كانوا - أي الراشدين - حين لم تحدث طبيعة المُلك وكان الوازع دينيا .. ويستنتج ببراعة عز نظيرها قوله هذا من كلمة علّ رضي الله عنها لما سأله واحد من الناس : لم تحدث الفتن على عهدك ولم تكن على عهد أبي بكر وعمر ، قال علىّ : لأنهما كانا واليين على مثلي وأنا وال على مثلك . يقول ابن خلدون ” يشير إلى وازع الدين ” .

5- وليس نظام التوريث سببا للتخلف والتراجع الذي حدث للأمة فالواقع أن الأمة بنت حضارتها في ظل هذا النظام واتسعت - كما لم تفعل أمة من قبل - تحت هذا الحكم الوراثي ، ولسنا بدعا من الأمم في هذا ، فالواقع أن الأمم التي احتلتنا وقهرتنا وهزمتنا كان يحكمها أيضا النظام الملكي وقت أن هزمتنا واحتلت بلادنا .

6- وضربنا على هذا أمثلة من التاريخ كثيرة ، بطول التاريخ وبعرضه .. أي بالسرد ثم بالوقوف والتأمل في لحظة التوريث نفسها ..

7- فسرد التاريخ يقول بأن العصبية كانت عاملا قويا بل الأقوى في تلك الفترة إلى الحد الذي فسّر به الصديق أبو بكر حديث النبي ” الخلافة في قريش ” بأن قريشا ” هم أوسط العرب نسباً وداراً ” ، وكانت العصبية نفسها هي التي وضعها الأنصار في بالهم حين خافوا أن يتولى الأمر قرشي ينتقم من الأنصار لما كان منهم من قتل القرشيين في غزوات النبي .

8- وتعصب بنو سعد لمجرم منهم وكانوا على استعداد لمحاربة أم المؤمنين وزوجة النبي واثنان من العشرة المبشرين بالجنة وتجمعوا في 6 آلاف رجل ، واستعدوا لهذه الحرب ، فانظر كيف كان الوازع العصبي قويا حتى على الوازع الديني .

9- واستنتجنا من الاختلاف بين موقف عمر - رضي الله عنه - لما رفض تماما أن يتولى الخلافة أحد من قومه ، وبين موقف علي - رضي الله عنه - الذي لم يجد غضاضة في أن يتولى الخلافة من بعده ابنه الحسن ، وبين الموقفين سبعة عشر عاما حافلة بما جرى للناس من نقص الوازع الديني - بتعبير ابن خلدون - وباتساع الامبراطورية الإسلامية .

10- وقلنا إن عصبية معاوية كانت أقوى وأنفع له مع أنه كان يطلب القصاص لدم عثمان ولم يكن يطلب الخلافة ، على عكس عصبية عليّ التي كان يزداد تفرقها عنه يوما بعد يوم مع أنها كانت تحمل عبء الخلافة .

11- لقد كانت عصبة بني أمية هي الأقوى وهي الأقدر على تولي الخلافة والحفاظ عليها ، وثبت هذا عبر تاريخها كله واستطاعت تلك العصبة أن تستعيد الخلافة من يد ابن الزبير الذي دانت له كل الأمصار - ما عدا قطعة من الشام - فما استطاع أن يحافظ عليها بل ظلت تتساقط على يد بني أمية حتى قُتل ، وقد تخلى عنه بعض بنوه !.. ثم فيما تلا هذا من ثورات ضد الأمويين .

12- وقد كانت العصبية في ذلك الزمان من القوة بحيث لم يستطع سليمان بن عبد الملك تغيير نظام الحكم وإعطائه لعمر بن عبد العزيز إلا بالحيلة ، ثم ما استطاع عمر بن عبد العزيز أن يغير نظام العهد بالحكم وصرح بهذا فعلا فقال : ” لو كان لي من الامر شيء ما عدوت بها القاسم بن محمد ” .

13- وما أدل ولا أوضح ولا أسطع على قوة العصبية من تمكن عبد الرحمن بن معاوية من إقامة دولة أموية بالأندلس ولم يكن يملك إلا نسبه للبيت الأموي ، هذا النسب هو الذي استطاع به أن يجمع به العصبيات ثم يحكم الأندلس .

14 - وإذا لم يعارض فكرة التوريث هذه إلا اثنين فقط : الحسين وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - فإن الأولى أن نفهم أنها كانت حلا أمثلا لتجنب الفتن بين المسلمين .

هذا ملخص ما كان في المقال السابق ، وقد كان التذكير به ضروريا لندخل إلى الجديد في الموضوع والذي أثاره عندي الردود والملاحظات .


اقرأ:

معاوية والتوريث مرة أخرى 2/3

معاوية والتوريث مرة أخرى 3/3

———————–

** أعتذر لكل إخواني الكرام والزوار عن التوقف - مؤقتا بإذن الله - عن كتابة ” تبسيط أصول الفقه ” وذلك حيث أني في سفر وليس بيدي المراجع والمصادر .. ولا الوقت .. وهذا السفر هو من متطلبات عنوان المرحلة ، وعسى من يسامحني في التوقف أن يسامحني كذلك في عدم التفاعل مع الردود .. بارك الله بكل من استوقف من عمره لحظات ليمنحني فيها ردا ، وذلك والله عندي كبير .. وبارك الله بكل من قرأ وضن بلحيظات عمره أن يضيعها في الرد فذلك ما أرضى به ولا أحزن له .. إنما مالا أرضى به ويحزنني أن ينساني أيهما ولو بدعاء لا يزيد عن كلمة .

** ذلك الموضوع بدأت في كتابته منذ ثلاثة أسابيع وانتهيت من جزئه الأول اليوم .. وفي تلك الأسابيع كنت أتذكر الحديث : ” اغتنم خمسا قبل خمس : … وفراغك قبل شغلك “

الأربعاء، مارس 07، 2007

وليد سيف.. كاتب الدراما التاريخية الأعظم



وليد سيف .

الدكتور وليد سيف هو الكاتب الدرامي الذي كتب عدة مسلسلات شكلت علامة ستكون فارقة في التأريخ للدراما العربية كلها .. ومما كتبه وليد سيف ( صلاح الدين الأيوبي – صقر قريش – التغريبة – ربيع قرطبة - ملوك الطوائف ) .

أنا لم اشاهد التغريبة ، واهتممت بمشاهدة الاعمال التاريخية ، مسلسل صلاح الدين هذا شاهدته أكثر من خمس مرات إلى الآن ، ولو أن لدي وقتا سأشاهدة لعشر مرات دون أدني شعور بفقدان المتعة ، ما بالكم لو عرفتم أن صلاح الدين هذا هو أقل المستويات الفنية إذا قارناه بأعمال مثل صقر قريش وملوك الطوائف ؟

المزايا التي تجمعت في دراما وليد سيف على خمس مستويات : مستوى اللغة ، مستوى البحث ، مستوى فن الكتابة ، مستوى استخلاص الفكرة ، ومستوى ملء الفراغ التاريخي .

في هذه المستويات الثلاث لا أعرف أحدا يداني أو يقارب أو حتي يجوز أن نقارنه بالعملاق وليد سيف ، ولو اعتبرنا أن أفضل الأعمال التاريخية – بخلاف أعمال سيف – هى مسلسلات ابناء الرشيد والظاهر بيبرس وخالد بن الوليد .. فحينها سندرك أن فارق ما بين تلك الأعمال وبين أعمال وليد سيف – دون ذرة مبالغة – هو الفارق بين ناطحة السحاب والكوخ الضعيف .

1- من حيث اللغة : يمتلك وليد سيف مفردات لغوية في غاية الثراء ، وتركيباته البلاغية للجمل العربية في غاية القوة والجاذبية .. فتبدو عباراته ساحرة يصلح أن تكون وحدها مصدرا للمتعة داخل كل المسلسل ، لاشك طبعا أن أداء الممثلين وحسن إتقانهم للغة يلبس السيناريو ثوبه الأجمل .. لكن مهما كانت براعة الممثل ، فالجملة هي الأساس ، وقد رأينا شخصيات مثل سوزان نجم الدين وعبد الرحمن آل راشي وباسم ياخور وغيرهم يبدون في أعمال وليد سيف كانهم الشخصيات الحقيقية عبرت العصور لتمثل الحقيقة ، ويبدون في باقي الأعمال دون المستوى كثيرا حتى مستواهم الفني في التمثيل .

لغة وليد سيف تقنعك أنك تعيش في العصر ذاته ، ولا تكاد تجد لفظة واحدة من لفظات العصر الحديث ، فتشعر أن الصورة حقيقية فعلا وأنك تشاهد التاريخ كما كان .. في حين تمتلئ باقي الأعمال بألفاظ هي من بنات العصر الحديث مثل ( الوقت المناسب / الوقت الحالي / القوة الكافية / من يضحك أخيرا يضحك كثيرا / ظرف طارئ / أمر غامض …. إلخ ) ، كلها تعبيرات وإن كانت عربية فصحى إلا أنها من تركيبات نشأت حديثا ، ولا نقرأها في كتب التراث أبدا .

لم يكن يشعر بهذا أحد حتى ظهرت أعمال وليد سيف فشعرنا بالفارق .. أضف إلى هذا الأخطاء النحوية الفاحشة ، وأخطاء التراكيب العربية ، واشهرها في باقي المسلسلات الإجابة عن سؤال ( ألم / أليس / ألن … ) بـ ( نعم / أجل / لا ) في حين أن الصحيح عربيا هو ( بلى للإثبات / نعم لا للنفي ) ، والعكس بالعكس أيضا .

2- مستوى البحث :

هذا المستوى لن أكثر فيه لأنه جزء من مشكلة البحث وكتابة التاريخ في كل العالم العربي .

المزية الكبرى لوليد سيف أنه يستقصى العمل تاريخيا حتى يمكن أن نعتبر عمله تأريخ حقيقي يستوفي شروط البحث العلمي حقا في عرض التاريخ ، وهو لا يستحيي أن يذكر مثالب الأبطال فلا يقع في تقديسهم ، ويفسر المشاكل ويشرحها من وجهة نظر أطرافها فيشعر المشاهد بالأزمة الحقيقية التي كانت موجودة ، وبهذا لا يقع في تقديم رؤية محددة أو حكم معين على أي من أطراف المشكلة .. سنعرف مثلا عن صلاح الدين وهو البطل الإسلامي العظيم الشامخ أنه كان في إحدى فترات شبابه متقلبا حتى حضر مجالس اللهو وشرب الخمر ذات مرة .. سنعرف أن عماد الدين زنكي أعطى مرة الأمان لقوم ثم نقضه ، وكل الأخطاء تظهر في إطارها الطبيعي المنطقي الذي لا يلغي العظمة ولا البطولة بل يعترف بالخطأ في سياقه البشري الطبيعي .

ولا يستحيي وليد سيف أن ينقل حتى محاسن الأعداء كالصليبيين مثلا في صلاح الدين ، وأن يقدم صورة وافية لمعسكر الصليبيين وما يدور فيه من مؤامرات وخيانات وتجاذبات سياسية ، وكذلك بطولة بعضهم في الحرب وفي السلم وفي الالتزام بالعهد .. وكل هذا يجري في الاطار الطبيعي الذي لا يركز على الإيجابيات أو السلبيات .

ويقدم الشخصيات التي لم يحكم عليها التاريخ بوضوح ، بكل تناقضاتها وتقلباتها ومبررات مواقفها أو سلبياته كأسامة بن منقذ مثلا الشاعر العربي المعروف .

في حين توجد بعض الأخطاء التي لا يمكن غفرانها أبدا لكاتب الدراما في بعض الأعمال ، وإن كنا نفهم ونتفهم أن يتخذ الكاتب جانبا في عرض قصة أو حكاية أو التعبير عن أزمة بأحد الاحتمالات ، فإن غير المغفور أن يتم الاستناد على قصة مقطوع بكذبها ويتم عليها البناء الدرامي .. والأمثلة تفوق الحصر ، لكن منها ما فعله مسلسل خالد بن الوليد من أن الذي أعتق بلال بن أبي رباح – رضي الله عنه – هو العباس ، رغم أن المقطوع به علميا هو أن الذي أعتقه الصديق رضي الله عنه ، وكذلك تبنى مسلسل أبناء الرشيد القصة الساقطة علميا وتاريخيا في أزمة البرامكة وهارون الرشيد والتي تدعي أن السبب أن هارون الرشيد زوج أخته العباسة من جعفر البرمكي حتى يخرج من الحرج الشرعي من وجودهما معا في مجلس أنسه وسمره ، واشترط على جعفر ألا يمس العباسة ، فلما حملت العباسة من جعفر في لحظة اختلاء انقلب هارون على جعفر وعلى كل البرامكة .. أما السبب الحقيقي فمجال بحثه كبير وخلاصته فيما رجح لدي هو شعور الرشيد بأنهم يخططون للانقلاب عليه .. وليس هذا موضوعنا على كل حال .

3- مستوى فن الكتابة :

وهذه النقطة أصدرها باعترافي أني لست أكثر من متذوق ولا خبرة لي بالنقد الفني .. لكن من الواضح – على الأقل لي – أن مسلسلات وليد سيف تبدو مشاهدها واقعية تماما ، الأزمة تعرض من خلال الأسلوب الواقعي المتلون الملتوي ، لا يوجد إنسان يعرض فكرته كأنه مدرس في فصل ، بل يعرضها من وجهة نظره ويستخدم كل مهاراته في تلوينها وتزيينها .. والطرف الآخر كذلك يبذل الجهد في معرفة ما وراء الكلمات وما بين السطور ، ويرد بنفس الأسلوب .

المشهد واقعي ، وتختلف المستويات التي يتم بها شرح التاريخ عند وليد سيف من خلال ( كاتب يكتب الواقعة / القائد يحدث زوجته / يحدث مستشاريه / يسر إلى عالم / يكتب رسالة / يشرح لولده ) في حين أرى في باقي الأعمال نمطا واحدا للحكاية غالبا ما يكون بين القائد ومستشاره ، أو بينه وبين زوجته .. وهكذا ، ثم يكون الشرح مباشرا واضحا نمطيا كأنه مدرس يشرح للتلاميذ .

كذلك أجد عند وليد سيف غراما بإظهار أدوار المهمشين تاريخيا ، الذين صنعوا التاريخ ولم يعطهم حقهم من التركيز ، وأبرزهم في هذا بدر خادم عبد الرحمن الداخل في صقر قريش ، واشقاء وأولاد صلاح الدين مثل ( تورانشاه ، وشاهنشاه ، خاله شهاب الدين ، ابن أخيه تقي الدين عمر .. إلخ ) .. ولست في معرض الاستقصاء .

في حين تبدو باقي الأعمال سردا لما كتب في بطون التاريخ .

كذلك ، من الملفت للنظر أن وليد سيف يكتب على لسان الشخصيات وكأنها هو أو وكأنه هي .. استقصاؤه التاريخي الجدير بالإشادة يجعله يستحضر على لسان كل شخصية تاريخها ودوافعها ونظرتها الشخصية للأشياء والوقائع ، فتبدو القصة التاريخية بكل عمقها وأبعادها وبكل تشابكاتها وتداخلاتها وتنوع الحكم عليها تبعا لتنوع وجهات النظر .. وهذا ينسف النمطية التي تعج بها باقي الأعمال حين لا يتعدى المشهد مناقشة الأزمة الحالية / الآنية / القائمة في هذه اللحظة فقط .. فيبدو المسلسل مجموعة من المشاهد السطحية فينتج في النهاية شيئا أشبه بالقصة التعليمية أو قصص الأطفال .. ربما المسلسل الذي وقع في هذا الخطأ إلى الدرجة المثيرة للغيظ هو مسلسل الظاهر بيبرس ( السوري طبعا وليس المصري .. المسلسلات التاريخية المصرية خارج المنافسة أصلا ، وهي أعمال ساقطة وهشة ولا تستحق المشاهدة ) .

4- مستوى استخلاص الفكرة :

لا أعرف أعمالا تركز على معالجة التاريخ للاستفادة منه في الواقع كأعمال وليد سيف .. هذا المبدع الموهوب هو الوحيد – على حد علمي مما شاهدت – الذي يكتب التاريخ ليستفيد به المعاصرون ، إنه لا يفلت لحظة تاريخية دون استخلاص معناها وعبرتها وموعظتها .. كل هذا في ثوب فني نقي ( للإخراج طبعا دور .. ومخرج أعمال وليد سيف هو حاتم علي ) .

فهو دائم التركيز على أضرار الديكتاتورية والقهر على الشعوب وكيف أنها هي التي تسلم البلاد للغزاة ( خاصة ملوك الطوائف ) .
وهو دائم التركيز على الكوارث التي تصنعها الخيانة والطمع وحب السلطة ( خاصة صلاح الدين وملوك الطوائف ) .
ودائم التركيز على المصائب التي تنتج عن تفرق الأمة وتشتتها وتشرذمها .

ولذلك فالحلقة من تلك المسلسلات تعتبر درسا وافيا من كل الجوانب : الجانب العلمي المعرفي ، والجانب الفني التشويقي .. وكلما شاهدت مسلسلا تاريخيا لغير وليد سيف تمنيت أن لو كان هو كاتبه .. وأتمنى حقا أن يستطيع هذا الرجل إعادة كتابة التاريخ الإسلامي كله بهذه الطريقة الدرامية .. فحينها سنحصل على مادة ستكون ركنا هاما من أركان بعثة هذه الأمة .

ولهذا .. فإن المسلسلات الوحيدة التي اهتم بها كل طوائف الإسلاميين هي مسلسلات وليد سيف ، حتى السلفيون وهم أكثر الفئات تشددا في موضوع الفن ، أجبرهم روعة المسلسل وقوة دروسه على أن يصنعوا منه ( النسخة الحلال ) وقام بعض شبابهم بحذف كل ما يرونه حراما كحذف كل لقطات النساء المتبرجات ، ليقدموا المسلسل في نسخة حلال .. ورغم أن بعض النسخ كانت جريمة فعلا في حق المسلسل وكان حذفا أعمى أصم وأبكم أيضا للعمل الفني .. لكنني الآن أتكلم في أن روعة المسلسل ودروسه أبهر حتى اشد الفئات تشددا ، وأشعرتهم بمدى أهمية أن يشاهد الناس مثل هذه الأعمال .

التاريخ لا يجري في مسلسلات وليد سيف كحكاية ، أبدا .. إنه يجري كواقع ، وعلى سبيل المثال :

قد أحكى مثلا عن معركة 48 وإنشاء إسرائيل ، فأستطيع أن أذكر يوميات المعركة في سرد متتابع .. فأظن أني بهذا قدمت تاريخا كاملا ، وهو مالم يحدث .. التاريخ الكامل هو الوقوف في كل لحظة لاستكشاف مواقف وآراء ورؤى أطراف الصورة ، ثم السير بعيدا عن ذلك في تخيل ماذا كان سيحدث لو أن الخائن لم يخن ، أو أن الطامع لم يفضل مصلحته الشخصية على مصلحة الأمة .

سنعرف مثلا – في صلاح الدين – كيف أن خيانة وزير مصري فاسد ( شاور ) وتحالفه مع الصليبيين ضد المسلمين قد أوقع آلاف القتلى والجرحى من المصريين وتسبب في سقوط مدن مصرية لم تكن في حوزة الصليبيين ، وأخر معركة تحرير الأقصى حوالي عشر سنوات أو أكثر ، وفوت على المسلمين فرصة ذهبية لاجتماع جيوش مصر والشام لطرد الصليبيين وإنزال هزيمة ساحقة بهم .. في الأعمال الأخرى لن تجد هذا التعمق في وصف اللحظة التاريخية .

5- مستوى ملء الفراغ التاريخي :

لن تشعر مطلقا – في أعمال وليد سيف - بأن هناك مطا وتطويلا في السيناريو .. وهذه المشكلة قائمة كثيرا في الأعمال التاريخية ، وكمثال :

قد يكون بين حدث مهم وحدث آخر مهم خمس سنوات أو عشر سنوات .. هذه الفترة الفارغة لا تجد لها في كتب التاريخ تفصيلات أو سرد ، لأن الأمور تسير بطبيعتها دون ما يستحق التأريخ .. كتاب الدراما التاريخية ينقسمون في مثل هذه المواقف إلى مدرستين : الأولى ، تتجاوز هذه السنوات بمشهد واحد أو حتى بدون مشهد مع إشارة في مشهد آخر بأنه قد مرت خمس سنوات .. وهنا يحدث ما يشبه الثغرة أو الفجوة في السياق الدرامي .
المدرسة الأخرى ، لتتفادى هذه الثغرة ، تضطر إلى التطويل والتأكيد والتركيز على اللحظة التاريخية التى استغرقت الخمس سنوات ، وتبدأ في وضع مشاهد كلها لو حذفت فلن تؤثر على السياق الدرامي أبدا .. وأبرز مثال في ذهني الآن هو مسلسل ( الحجاج ) الذي قام ببطولته عابد فهد .. أستطيع أن أقول إن عشرات المشاهد لو كانت حذفت ما كانت تؤثر أبدا على السياق ، لأنها كلها مشاهد وضعت لتطويل الزمن وتجاوز الفراغ التاريخي .

إلا في عمل واحد أرى أن وليد سيف كبا في تلك النقطة وهو مسلسل صقر قريش في فترة حرب عبد الرحمن الداخل لشقنة بن عبد الواحد الذي أدعى الولاية والحق بالحكم ومارس الدجل .. فلقد طالت هذه الفترة ، وإن كنت أيضا أؤكد أن وليد سيف لم يقع كغيره في مثل هذا الخطأ حينما استغرق كل فترة الاستقرار التي حققها عبد الرحمن الداخل في حلقتين أو ثلاث على الأكثر .. وهذا أكبر دليل على كفاءة السيناريو ، فهذه الفترة التى لم تستغرق إلا حلقتين هى في عمر الزمن حوالي ثلاثين سنة ، في حين أن كل المسلسل كان عن الثلاثين سنة الأولى من عمر عبد الرحمن الداخل وهي التي تحفل بالإثارة التاريخية .

وأتوقع أن لو قام آخر بكتابة عبد الرحمن الداخل لما استطاع التأريخ لسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية مثلما فعل مسلسل صقر قريش ، ولا تعمق في تحليل شخصيات أبو مسلم الخراساني وأبو جعفر المنصور والإمام إبراهيم وأبو سلمة الخلال وسليمان بن كثير .. وهم من قامت على أكتافهم الدولة العباسية .

لملء الفراغ التاريخي جانب آخر :

في كل الأعمال التاريخية ، وأعمال السير الذاتية يوجد شرائح من الناس تمثل اتجاها أو فئة أو نمطا .. هذه الشريحة هي مجموعة من الناس وليسوا فردا واحدا .. فهي لها تأثير ودور في التطور الدرامي للتاريخ أو للشخصية دون أن نستطيع الإمساك بشخصية محددة يمكن وضعها في السيناريو .

كمثال : لما قام د. بهاء الدين إبراهيم بكتابة سيناريو الشعراوي كانت أمامه فئتين لا يمكنه تجاهلهما في حياة الشعراوي ، كما لا يمكنه لأسباب كثيرة الكتابة عنهما بشكل واضح وهما : الممثلات اللاتي تبن على يد الشعراوي وتأثرن به ، وأعداء الشعراوي .. فوضع لكل فئة مثالا : وضع ” بدرية ” ( سوسن بدر ) كمثال للفنانات والراقصات اللاتي تأثرن بالشعراوي وساهم في توبتهن ، ووضع ( حمدي أحمد ) كفئة لمن كانوا يعادون الشعراوي .

ولأن بعض أبناء الشعراوي ربما لم يفهموا هذه الضرورة فقد كان من اسباب ثورتهم على المسلسل عدم وجود هاتين الشخصيتين في حياة الشعراوي واعتبروه تزويرا في سيرة الشيخ .

هذه النقطة للحق يبدع فيها المصريون بحكم خبرتهم في هذا المجال وبدايتهم المبكرة في هذا الطريق ، في حين لا أراها بقوة في المسلسلات السورية ، فيما عدا أعمال وليد سيف .. وأبدع مثال قدمه كان شخصية الفارس الصليبي الذي أتي لبلاد العرب فتأثر بحضارتهم وعلمهم وفنونهم واتحاد الأقليات الدينية في الغالبية وشعورها رغم الاختلاف الديني بالانتماء الحضاري لهذه الأمة ، فتأثر وعكف على تعلم علوم العرب ثم عاد إلى أوروبا بما حمله من علم وحضارة وثقافة كانت بداية النهوض الغربي الحديث .

***

ربما طول هذا المقال كان دليلا على انبهاري الشخصي بهذه الأعمال ، وهذا الموضوع لم أكن أنوى إلا أن يستغرق فقرة واحدة على الأكثر ضمن مجموعة أفكار أخرى .. فوجدتني أستغرق فيه لا أملك التراجع ، ولا أملك أيضا – لظرف الوقت – أن استمر فيه كما أريد .

فضلت أن أكتب هذا التوضيح ، ربما لأدافع عن نفسي أمام اضطراب أشعر به في المقال ، أو لتأكيد أني لم أحط ولم أصف بما يكفي روعة أعمال هذا المؤلف العظيم .. كما أنها خاطرة تلح على منذ 6 شهور على الأقل وتأخر حتى الآن وقت كتابتها .

7/3/2007

——————————————–


* هذا المقال ليس أكثر من خاطرة سريعة ولا يعد تحليلا ولا مقالا ولا حتى مناقشة قوية .

اقرأ: وليد سيف ساحر الفن والتاريخ (خمسة أجزاء)

الأربعاء، يناير 17، 2007

هل كان معاوية مجرما حين ورث الخلافة ليزيد؟

الدافع للكتابة في هذا الموضوع :

من النكد الذي يصيب عالمنا العربي – وهو قلب العالم الإسلامي وميزان قوته – أنه ما زال يعيش فى عصور الملكيات المطلقة التي طلقها العالم تماما ، لكن الأبشع والأنكى أن ما تحول من هذه الملكيات إلى جمهوريات يحاول أن يعود مرة أخرى بمسرحيات مكشوفة إلى أسلوب الملكيات .

ومن كوارثنا أن هناك من رجال الإعلام الرسمي من لا يستحي أن يفعل أي شئ في سبيل التبرير للحاكم الديكتاتور ، ولو كان هذا الشئ هو الاستخدام المسف لشخصيات بحجم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لذا فلا يتردد أحدهم أن يستغل موقفا تم في ظروف استثنائية لم تعد موجودة الآن – كما سنوضح – مثل عهد سيدنا معاوية بالخلافة لابنه يزيد ، لكي يبرر توريث الحكم الآن وبعد ما يقرب من خمسة عشر قرنا .

وعلى الجانب الآخر سيوجد معارضون يرجعون كل المصائب التى تحدث الآن إلى حادثة حدثت منذ خمسة عشر قرنا ليصبون اللعنات على سيدنا معاوية رضى الله عنه ، وهذا ربط مستحيل بالحقائق العلمية والظروف الموضوعية ، فلا أبعد عن الإسلام من ديكتاتور يظلم الناس ، ولا يستطيع أجرأ المعترضين أن يدعي أن ديكتاتور العصر الحديث مؤمن تقي يقتفى أثر معاوية رضى الله عنه .

هؤلاء المعارضون منهم من يريد النيل من الإسلام باعتباره لا يصلح أصلا ليكون مرجعية ، ومنهم من ينطلق من منطلقات إحقاق الحق ونقد التاريخ بمنهج علمي .

على كل حال ، سنوضح فى السطور القادمة ، كيف أنه لا رابط أصلا بين الظروف التى حدث فيها توريث الخلافة لأول مرة فى الإسلام ، وبين محاولات توريث الحكم في عصرنا هذا .. حتى ينتفي ما يمكن أن يستغله الإعلام الحكومي أو المعارضين على اختلاف منطلقاتهم .

****

بداية : استأذن القارئ الكريم فى أربع تمهيدات قبل الدخول للموضوع :

أولا :

نحن فى الدنيا نعامل الناس على ظاهرهم ، ولا نعلم بواطنهم .. فضلا عن أن نعلم مدى مكانة إنسان عند الله أو موقعه من رضا الله أو سخطه .. ولذا نعامل الناس على ظاهر تصرفاتهم ومعاملاتهم ، ونحكم عليهم بهذا الظاهر .. ونكل السرائر إلى الله تعالى .

ونحن بهذه القاعدة نعترف ضمنيا بأن حكمنا على الناس حكم ناقص فى ميزان الحقيقة ، لأن جانبا كبيرا من الحقائق والمعلومات لا تقع فى مجال إدراكنا .. ويكون الحكم الوحيد الصحيح العادل الذى لاشك فيه ولا ظلم فيه هو حكم الله تعالى الذى يعلم حتى ما تخفى الصدور .

بهذا التصور .. يفسر البشر أفعال البشر وتصرفاتهم ، ويخوضون فى تاريخهم محاولين استكناه وتحليل أفعالهم ومواقفهم ومبادئهم .. ثم يظل حكم البشر مهما بلغ من استقصاء للمعلومات حكما ناقصا .

أتذكر الآن كلمة للأديب والمفكر العظيم عباس العقاد فى كتابه ( أنا ) إذ يقول : ” وعباس العقاد كما أراه – بالاختصار – هو شئ مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذى يراه الكثيرون من الأصدقاء أو من الأعداء .. هو شخص استغربه كل الاستغراب حين أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه ، حتى ليخطر لى فى أحسن الأحيان أنهم يتحدثون عن إنسان لم أعرفه قط ولم ألتق به مرة فى مكان . فأضحك بين نفسى وأقول : ويل للتاريخ من المؤرخين .

أقول ، ويل التاريخ من المؤرخين لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم فى قيد الحياة ومن يسمعهم ويسمعونه ويكتب لهم ويقرأونه ، فكيف يعرفون من تقدم به الزمن ألف سنة ولم ينظر إليهم قط ولم ينظروا إليه ؟ ” (صـ 15، 16 )

عند التعرض للأنبياء أو للصحابة يستجد هنا مستجد جديد تماما .. إذ فى هذه الحالة تتوفر لدينا معلومات لا يمكن أن تتوفر عن أحد غيرهم .. ألا وهى منزلتهم عند الله تعالى .. وفى هذه الحالة الخاصة جدا يجب أن تتغير مفاهيم التحليل والتفسير لتصرفاتهم وأفعالهم ، ولا تكون بنفس المعايير التى نحكم بها على تصرفات البشر .

فلقد أخبرنا الله تعالى من خلال القرآن الكريم ، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال أحاديث نبوية صحيحة وفى أعلى درجات الوثوق أن هؤلاء الصحابة ممن رضى الله عنهم وممن أسكنهم الجنة ، وهم خير الخلق عند الله تعالى بعد الأنبياء والمرسلين .

بهذه المعرفة عن منزلتهم ومكانتهم عند الله يجب على المسلم أن يوقر ويجل ويحترم هؤلاء الصحابة الذين رضى الله عنهم .. وألا يظن بهم أو بأحدهم السوء أو يفسر تصرفاتهم ومواقفهم كما يفسر سلوك أى بشر آخرين .. كتعبير عن الطمع والخسة والتآمر والتكبر والخداع والحرص على المصالح الشخصية .. لأنه قد وصل لنا علم الغيب يخبرنا أنهم فى الجنة ، رضوان الله عليهم جميعا .

ثانيا :

ومن هذا المنطلق كان علماء الإسلام يحرصون ألا يتكلموا فى ما وقع بين الصحابة من فتن ، وقد سموها فتنا لأن الخائض فيها أقرب للخطر منه إلى السلامة ، وكانوا يرفعون شعار : ” فتنة طهر الله منها سيوفنا فلنطهر منها ألسنتنا ” ، وهو شعار يعترف ضمنا بأن الصحابة بشر ويخطئون وليست لهم العصمة .. فالعصمة للأنبياء فقط .. لكنه فى نفس اللحظة يتوقف عن الخوض فى ما وقع بينهم لأن طرفى الخلاف هم خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين .

وأتوقع أن هذا الشعار كان سيستمر إلى أن تقوم الساعة لولا أن العصور التالية قد حملت لنا من يخوضون فى أعراض هؤلاء الصحابة بكل حدة وتهجم ودون اكتراث ، بل ودون حتى محاولة التوقف لانتقاء الألفاظ .. وهذا هو ما أجبر العلماء على تحقيق ما حدث بين الصحابة من فتن ، وتنقية التاريخ من روايات الكاذبين وأصحاب الغرض .. وتكاد تكون أكثر الفترات التى لاقت تحقيقا بين علماء المسلمين تاريخيا – بعد السيرة النبوية – هى ما حدث بين الصحابة من خلاف ، وأغلب هذه الدراسات حديثة نسبيا .. بما يؤكد أن المحققين لها اضطروا لولوج هذه الساحة قطعا لألسنة من أراد النيل من الإسلام بالنيل من الصحابة ، أو اراد تقسيم الأمة شقين متناحرين بالانحياز إلى طرف دون طرف .

ثالثا :

ورب ضارة نافعة .. فإن المؤرخين المسلمين الأوائل حينما نقلوا روايات الفتنة حتى الضعيف والشاذ منها مما ساهم فى نشر الأكاذيب والشائعات .. حينما فعلوا ذلك ، فهم عبروا عن نزاهة نطالب بها بعد أكثر من ألف سنة من وجودهم ، واتخذوا موقفا يعد بحد ذاته مفخرة للمسلمين فى أنهم لم يحذفوا روايات هم يؤمنون بضعفها وكذبها اعترافا بحق الأجيال القادمة فى معرفة كل ما حدث ، ووضعوا بذلك ربما لأول مرة فى التاريخ نزاهة المؤرخ الذى يورد المعلومات وإن كان يرفضها ولا يؤمن بها ، وهو درس ما زال المؤرخون بعد ألف سنة فى حاجة إليه .

يقول الطبري شيخ مؤرخى المسلمين فى مقدمة كتابه الذى يعد مصدرا أول فى معرفة التاريخ الإسلامى : ” فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ” (1/13) .

فعلى القارئ فى تاريخ الطبري أن ينتبه إلى أن الروايات التى يرويها ليست كلها حقائق ، وأن ينتبه إلى سند هذه الرواية مستعينا بكتب الرجال التى تصف حال هذا الراوي من الدقة و الصدق ( الضبط والعدالة ) ، حتى يعرف تاريخه على بصيرة .

رابعا وأخيرا فى هذه التمهيدات :

أننا حين نبحث قضية التوريث فى التاريخ الإسلامى والتى يرى كثيرون أن معاوية – رضى الله عنه – هو من بدأها .. فعلى الباحث أن يفكك الحوادث المختلفة لينظر إلى هذه المسألة وحدها حتى يمكن الحكم عليها بالتجرد الواجب للباحث .. فلا يجب أن يحمل فى نفسه حين البحث وهو فى عام 60 هـ الخلاف الذى كان منذ أكثر من عشرين عاما بين على ومعاوية – رضى الله عنهما – ثم يتذكر الفتن التي كانت أيام يزيد ووقعة الحرة ومقتل الحسين .. ثم يبنى بهذه النفسية حكما على فكرة التوريث نفسها .. إذا تخلصنا من خلط الأمور ببعضها لنبحث فكرة معينة ، فهذا قبل أن يكون أسلوبا علميا للبحث فهو أول طريق الوصول للحقيقة .

****

من العبث والغباء أن نحاكم عصورا ماضية بأعراف ومفاهيم العصر الحالي ، البشرية تتطور وتتوصل إلى آليات وأساليب تتمكن بها من تنظيم حياتها على نحو أفضل مما سبق ، وفي قضية الحكم التي بين ايدينا الآن ، يشهد التاريخ أن الحكم في كل الدول وعلى اختلاف الأمكنة والأزمنة حتى وقت قريب كان يسير من خلال عائلة أو قبيلة أو عشيرة قوية تستطيع بمالها من قوة وقدرة أن تسيطر على الحكم ، وبهذه القوة والقدرة تستسلم لها مناطق نفوذها ، حتى تضعف هذه القوة والقدرة فتكون قد انتقلت إلى طرف آخر يتسلمها .

وكان النظام الذي عرفته البشرية هو نظام التوريث ، وهذه الوسيلة التي توصل إليها البشر في هذا الحين من الزمان ، ويشهد التاريخ أنها الوسيلة المثلى فى تلك العصور التي استطاعت حفظ الاستقرار والملك ، وهو النظام الذي نشأت تحت ظله الإمبراطوريات الكبيرة التى صنعت حضارات خالدة .

والأمم التى تنازعت ولم تتوصل لطريقة مستقرة فى الحكم وانتقال الملك من السابق إلى اللاحق ، إما أنها اندثرت دون أثر تاريخي أو إنجاز حضاري ، وإما تكاثر القتل فيها حتى ما يبقى الملك فى منصبه إلا شهورا معدودة حتى يقتله من يرى بنفسه القدرة والقوة على الحكم .. أوضح واشهر مثال على النوع الأول هو العرب قبل الإسلام : مجرد قبائل متناثرة متناحرة يتنازع السيادة فيها أكثر من سيد ، وأكثر مثال يحضرني على النوع الثاني هو حكم المماليك في مصر خصوصا في القرن الثامن عشر .

ولا أعرف استثناءات حدثت لهذا القانون ( قانون انتقال الحكم بالوراثة أو وفق قانون قبلي وعشائري ) إلا الديمقراطية التى نشأت فى مدن اليونان القديمة ، وفترة الخلافة الراشدة بعد عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .. والمشترك في هاتين الفترتين أنها كانت ديمقراطية تحكم على رقعة صغيرة من الأرض ، أما حينما تطورت إلى امبراطوريات كبيرة اختفت تلك اللحظات الاستثنائية وعاد مرة أخرى قانون انتقال الحكم وفق العرف أو الوراثة .

واستمر هذا القانون يحكم الأرض - فى الخط العام - حتى وقت قريب ، وقت أن وصلت البشرية لآليات تسمح بأن تختار الأمة واحدا منها دون أن يكون له قوة إلا كفاءته ، وتلتزم قوى الأمة بأن تجعل عملية الاختيار نزيهة وبأن تحمي هذا الاختيار .

بهذا التقديم أجدني أتفق مع رؤية واحد من أبرز عمالقة التاريخ فى تاريخ البشرية والملقب بحكيم التاريخ وواحد من أبرز من وضعوا أسس معرفة قوانين وسنن التاريخ وهو ابن خلدون .

يرى ابن خلدون أن الفترة النبوية هى فترة استثنائية ، انتصر فيها الوازع الديني على الوازع العصبي ( القبلي / العشائري ) الذي تقوم عليه الملك ، لكن لما بدأ هذا الوازع يقل عند الناس كان لابد من عودة قانون العصبية إلى مسار التاريخ .

قال : ” والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذ ، لا يرضون سواهم ، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع ، وأهل الغلب منهم . ( … ) فإنهم ( الخلفاء الراشين ) كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك ، وكان الوازع دينيا ، فعند كل أحد وازع من نفسه ، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره ، ( … ) وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني . فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعا وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف ” ( 1/357 – فصل : ولاية العهد )

واستدل ابن خلدون على ضعف الوازع الديني حينها بهذا الأثر ” سأل رجل عليا رضي الله عنه : ما بال المسلمين اختلفوا عليك ، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر ، فقال : لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم وال على مثلك ، يشير إلى وازع الدين ” ( السابق )

ويصيغ المفكر الكبير جلال كشك نفس المعنى بعبارة أخرى فيقول : “إن نظام الخلافة الذي قام حتى عثمان كان نظاما فريدا لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم ولا تكرر بعد ذلك ، وإن تشابه معه الآن النظام الديمقراطي الجمهوري ، ولكن نظام الخلافة الراشدة كان بقية من نفح النبوة ومتفقا أو منبثقا من جيل اعتاد أن يحكمه نبي .. ( … ) وما إن انتهى هذا الجيل حتى عادت قوانين الحياة والتاريخ تتحكم في المجتمع الإسلامي ” ( جهالات عصر التنوير ص104 ) .

طبقا لهذا الفهم ، فإن عهد معاوية – رضي الله عنه – بالخلافة لابنه يزيد كان ضرورة من ضرورات الوقت .. فهل كان هذا الفهم صحيحا ؟ وهل حقا أنه كان من ضرورات الوقت ؟

***

أولا : شهـادة التاريخ :

إذا كانت قوة العصبية طبيعة في أنظمة الحكم في ذلك الوقت ، فللعصبية مع العرب بالذات شأن أي شأن ومكانة أي مكانة ، وإذا كانت للرسول – صلى الله عليه وسلم – المكانة العظمى لأنه النبي المتصل بالسماء ، فإنه لحكمة الله تعالى أيضا كان من أشرف قريش نسبا وأقواهم عصبية ، ورأينا كيف استطاعت تلك العصبية حمايته ودعوته في بدايتها .

نقول إذا كانت للرسول المكانة العظمي لأنه نبي ، سنجد أنه منذ أن توفى هذا النبي طرح أمر الخلافة بين المسلمين ، وكانت مسألة العصبية حاضرة في النقاشات حول الخليفة القادم ، فحين تكلم أنصاري في سقيفة بني ساعدة و رأى أن الأنصار أحق بالخلافة كان رد أبي بكر أن الأنصار أهل لكل خير لكن ” ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً ” هذه رواية البخاري .

إذن فقد كان السبب كما يراه أبو بكر رضي الله عنه – وهو أفهم الناس بكلام رسول الله – أن مكانة قريش هي القوة التي يرضى سائر العرب بالانقياد لها ، وحتى الحباب بن المنذر – رضي الله عنه – لما قال : ” منا أمير ومنكم أمير ” أوضح مقصده بأنها ليست رغبة في الإمارة قائلا : ” فإنا والله ماننفس عليكم ( ننافسكم ) هذا الأمر ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوانهم ” ، وعذره المهاجرون وقالوا بأنهم شركاء في دم من قتل أيضا .

إذن فحتى في هذا العصر الذهبي كان واضحا لديهم ماتعني قوة العصبية والمكانة ، تذكروا أننا في موقف سنحتاجه بعد نصف قرن ، قد تغيرت فيها الشخصيات والنفوس والوازع الديني .

وبعد ربع قرن من سقيفة بني ساعدة كانت الحادثة التي هزت دار الإسلام ، وهي حصار الخليفة الثالث عثمان بن عفان ثم قتله في الشهر الحرام والبلد الحرام ، وكانت مصيبة فريدة من نوعها تحدث لأول مرة ، ثم بقاء المدينة فترة في حكم هؤلاء القتلة الظالمون ، كان من تفكير أم المؤمنين عائشة أن تحرض الناس على الجهاد مع علي رضى الله عنه للأخذ بالقصاص من قتلة عثمان ، وتوجهت إلى البصرة ، وفي البصرة عرف الثوار ممن غزوا المدينة وقتلوا عثمان أنهم المستهدفون ، فحاربوا بزعامة حكيم بن جبلة جيش عائشة وطلحة والزبير ، فهزموا هزيمة منكرة ، وقتلوا جميعا إلا رجلا واحدا فقط استطاع الهرب والنجاة .

هذا الرجل الواحد الذي شارك في قتل عثمان ، وحارب جيشا فيه عائشة – حبيبة رسول الله – واثنان من العشرة المبشرين بالجنة ( طلحة والزبير ) ، رغم كل مساوئه ومخازيه هذه إلا أنه تعصب له ستة آلاف رجل من قومه وكانوا على استعداد للحرب ولا يسلمونه أبدا ، حتى ولو حاربوا جيشا فيه أم المؤمنين والسابقون الأولون من الصحابة .

ولما أرسل علي – رضي الله عنه – القعقاع بن عمرو التميمي لعائشة وطلحة والزبير كان مما قاله القعقاع موضحا صواب رأي علي وخطأ رأيهم : ” لقد كان في البصرة ستُّمائة من قتلة عثمان وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحدًا، وهو حرقوص بن زهير السعدي، فلما هرب منكم احتمى بقومه من بنى سعد، ولما أردتم أخذه منهم وقَتْله منعكم قومه من ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإنه تركتم حرقوصًا ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون عليًا به، وإن قاتلتم بنى سعد من أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم وأديلوا عليكم، فقد وقعتم في المحذور، وقوَّيتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر، من هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم، نصرة لبنى سعد ” . ( انظر : الطبري 3/29 – البداية والنهاية 7/121 ) ( حوادث 36 هـ ) .

ولا أظنني أحتاج إلى شرح لبيان كيف كانت العصبيى عاملا حاسما شديد القوة والسطوة ومتغلبا على الوازع الديني .

في عام 23 هـ ، قتل الخليفة العادل عمر بن الخطاب ، لكنه بقي أياما أوصى فيها بالخلافة لستة من كبار الصحابة ، من العشرة المبشرين بالجنة وهم بدريون وتوفي رسول الله وهو عنهم راض ، وكان قد بقي من العشرة المبشرين بالجنة سبعة لكنه لم يضع اسم ( سعيد بن زيد ) لأنه من قبيلة عمر بني عدي ، كما رفض رفضا قاطعا أن يعهد لابنه عبد الله بن عمر وقال : ” بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ” ( الطبري 3/ 580 ) ( حوادث 13 هـ ) .

لكن بعد سبع وعشرين سنة ( عام 40 هـ ) عندما عُرض على علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن يستخلف الحسن قال : ” لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ” ( الطبري 3/157 ) ( حوادث عام 40 هـ ) .

ويبدو الفارق واضحا طبعا بين الموقفين ، وهو فارق يعبر عن اختلاف الزمنين ..فعلى الرغم من بقاء واحد من الستة الذين رشحهم عمر على قيد الحياة وهو سعد بن أبي وقاص ، وهو أولى الناس بالأمر لو كان الوازع الديني ما زال قويا ، إلا أن سيدنا عليا لم يعارض أن تكون الخلافة من بعده لولده الحسن ، وهذا يجعلنا نتفهم ما سيحدث بعد عشرين عام أخرى حين يعهد معاوية ليزيد ، وكان سعد حينها قد توفى .

أعيد التذكير بأننا لا نفعل إلا قراءة التاريخ والوقائع ، ونحاول فهم مدى قدرة العصبية والقبلية على التأثير في التفكير ، والفصل فى الحوادث .

ومنذ استشهاد الخليفة عثمان بن عفان ، انقسمت الأمة وبدأ شقاق كبير بين علي ومعاوية – رضي الله عنهما - ، أهل السنة يؤمنون بأن الحق في جانب علي وأن الطائفة الباغية هي طائفة معاوية ، ولكن ومنذ استشهاد عثمان لم يستطع علي رضي الله عنه أن يسيطر على كل ولايات الدولة الإسلامية ، بل ظلت تتناقص ، وتوقفت حركة الفتوحات في هذه الفترة ، بالرغم من أن معاوية لم يكن ينازع عليا في الخلافة بل أقر بأنه أفضل منه وكان موضع الخلاف هو إصراره على عدم البيعة حتى يتم القصاص من قتلة عثمان ، وخذل أهل العراق عليا وما واصلوا معه القتال لا ضد معاوية ولا ضد الخوارج ، وظلت الولايات تتساقط من حكم علي إلى سيطرة معاوية ، حتى كانت بينهما هدنة ثم استشهاد علي رضي الله عنه .

يؤسفنا كل هذا بلا شك ، لكنه يثبت أيضا أن عصبة معاوية كانت أقوى وأشد قدرة على الحكم من عصبة علي ، رغم أن عصبة معاوية لم تكن تطالب بالخلافة بل بالقصاص من قتلة عثمان ، وكانت عصبة علي أضعف وأعجز عن الحكم رغم أنه منوط بها الخلافة ، وفي خطب علي رضي الله عنه ما يفيد بحزنه وألمه من هذا الضعف وفتور الهمة .

دعونا نواصل قراءة التاريخ لكن بعد قيام الدولة الأموية ، حيث سنرى أيضا كم كان بنو أمية هم الطائفة الوحيدة التي كانت قادرة فعلا على الحكم وإقرار الدولة الإسلامية .

واجهت الدولة الأموية كثيرا من الثورات وحركات الخروج والتمرد عليها ، وكانت كثير من هذه الثورات يتزعمها أناس لهم ثقلهم الكبير ووزنهم الضخم فى وجدان كل المسلمين ، لكنها انتصرت عليهم برغم كل هذا ، ولا أقوى دليلا على هذا من ثورة سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي ، وهو من هو في نفوس المسلمين يكفيه أنه حفيد الرسول وابن أحب بناته إليه ، وحب الرسول له ، وما ورد فيه من الأحاديث ، لكنه لم يجد حوله إلا نفرا قليلا ، وكان أهل العراق - الذين دعوه للقدوم عليهم والخروج على يزيد - في أحسن الأحوال قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، وقتل شهيدا رضي الله عنه .

وحتى لما حدث اضطراب كبير في الأمويين بعد وفاة يزيد بن معاوية وتخلي معاوية بن يزيد عن الخلافة وإعلانه أنه لا يجد أحدا صالحا قويا يتركها له فتركها للأمة ، وحدث انقسام كبير بين أهل الشام ، فمنهم من أراد أن يبايع ابن الزبير في الحجاز ، والآخرون أرادوا بيعة مروان بن الحكم الأموي ، ما استطاع ابن الزبير ( وهو أيضا علم كبير وصحابي جليل وله وزنه في وجدان المسلمين ) وقد بايعت له الأمصار كلها أن يفرض حكمه على الشام ، بل انتصر مروان على أنصار ابن الزبير في الشام ، واستمر في السيطرة على الدولة وتساقطت الأمصار تحت حكمه واحدة تلو الأخرى في سلاسة ودون معارك ضخمة حتى هُزِم عبد الله بن الزبير وقتل على يد عبد الملك بن مروان ( إذ أن مروان بن الحكم لم يحكم إلا سنة واحدة ومات .. ولم تحدث قلائل مؤثرة على البيت الأموي أيضا ) بعد تسع سنوات من مناداته بأمير المؤمنين .. وكان ممن خذلوه أيضا بعض أهله وأبنائه .

ومن أقوى الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية ثورة العراق بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث وسعيد بن جبير ( وهما من كبار العلماء في تاريخ الإسلام ) ودارت معارك طاحنة مثل معركة دير الجماجم ( 82 هـ ) حتى عرض عليهم عبد الملك أن يعزل الحجاج عن العراق إن كان هذا يرضيهم ، لكن الثوار رفضوا ثم هزموا .

واستطاعت الدولة الأموية القضاء على حركة الخوارج أيضا في خراسان وما بعدها ، واستقرت الأمور والدولة وبدأت الفتوحات من جديد في عهد عبد الملك بن مروان .

إذن ، خلال عشرين عام ظلت البيت الأموي يواجه ثورات متعددة وقوية وقياداتها من كبار الزعماء ، لكنها استطاعت أن تهزمها كلها ، ثم تستقر ، ثم تبدأ في حركة الفتوحات .. فأي البيوت العربية كان يستطيع ذلك في هذا الوقت ؟؟

ومن شهادة التاريخ أيضا : أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، مع كل تقواه وورعه وزهده ، وتلك الطفرات التي أحدثها في الحكم والإدارة ، إلا أننا لا نجد في أي مرجع تاريخي أنه كان يستطيع إلغاء نظام الوراثة وإعادتها إلى الشورى بل ورد عنه ما يفيد العجز عن هذا صراحة فقد قال عند الموت : ” لو كان لي من الامر شيء ما عدوت بها القاسم بن محمد ” ( الطبقات لابن سعد – انظر : القاسم بن محمد ) .

بل إن سليمان بن عبد الملك – الخليفة الذي سبق عمر – حينما أراد أن يعهد بالخلافة لعمر بن عبد العزيز من بعده لا إلى أخيه يزيد كما هو المتوقع ، قام بحيلة : جمع أهل الحكم ، وعاهدهم على أن يبايعوا لمن في الصحيفة دون أن يعفوا اسمه ، فبايعوا ثم اتضح أنه كتب عهدا بالخلافة إلى عمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك .

بقي لنا موقف أخير ، هو – للمفارقة – بعد انتهاء الدولة الأموية ، إذ لما قامت الدولة العباسية لم يستطع الهرب من بني أمية إلا واحد فقط هو عبد الرحمن بن معاوية وكان غلاما واستطاع الهرب إلى الأندلس ، لم يكن له أي مؤهلات أو إمكانيات إلا أنه سليل الخلفاء وبقية البيت الأموي ، واستطاع بهذا النسب وحده أن يجمع حوله أهله وحلفائه العرب في الأندلس ويحكم الأندلس أربعا وثلاثين عاما ، وهو الذي دخل الأندلس لا يحمل إلا النسب .

لا أظن بعد هذه القراءة السريعة للوقائع إلا أن نعرف حقا أن مسألة العصبية تلك كانت قانونا تاريخيا بالفعل كما قال ابن خلدون ، ولم يكن ممكنا الاستمرار في أن تكون شورى لأن النفوس تغيرت والامبراطوية قد اتسعت وكثر الداخلون في الإسلام عربا وفرسا ورومان وبربر وهنود ومصريين و غيرهم ، وما كان ممكنا في هذا العصر أن تكون شورى كما كانت على عهد النبي في المدينة المنورة .

أختم هذا المحور بكلمة للأستاذ الكبير محمد جلال كشك يندد فيها بمن يحمل فشلنا على نظام الوراثة قال : ” والدنيا كلها منذ فجر الحضارة إلى القرن الثامن عشر أو حتى التاسع عشر لم تعرف نظاما أفضل من أو أكثر مطابقة لحاجيات المجتمع من النظام الملكي الوراثي ، إلى أن ظهر واستقر النظام الجمهوري ، فالنظام الوحيد الذي كان ممكنا هو النظام الذي قام ، والدول التي ( هزمتنا واحتلتنا ) هي دول ملكية يتوارث ملوكها العرش من روسيا القيصرية وحتى بريطانيا الديمقراطية .. ولو ( حرّم ) علماء الإسلام أو الصحابة النظام الملكي لكانوا قضوا مبكرا جدا على الحضارة الإسلامية ، فكما هو معروف كان من أهم أسباب انهيار حضارة المماليك عدم استقرار نظام لوراثة الملك في تقاليدهم ” ( جهالات عصر التنوير – ص106 ) .

كانت تلك نظرة عامة أفقية لمسار التاريخ ، تعالوا نتعمق أكثر فى لحظة التوريث ولنر .

** هامش : من المهم أن نعلم أن الوراثة في تاريخنا الإسلامي لم تكن كأوروبا التي كان ولد الملك يأخذ لقب ولي العهد حتى وهو جنين لم يولد ، في تاريخنا كان لابد لولي العهد من أخذ بيعته من الناس قبل أن يتولى الخلافة .

***

الآن بعد ألف وأربعمائة سنة لا يمكننا أن نفهم تلك الفترة التي جرى فيها انتقال الخلافة من معاوية إلى يزيد ، إلا من خلال متابعة ردود فعل وآراء جميع الأطراف التي كانت حاضرة ومعاصرة ، ولا نقول أننا لو رصدنا تلك المواقف نكون قد أحطنا بالظرف التاريخي كاملا ، بل الواقع أننا أدركنا ملامحه العامة .

وإذا كنا نحن في تاريخنا الحديث الآن ، ورغم كثرة التحليلات وانتشار وسائل الإعلام وقرب الحدث ، تخرج الوثائق من أرشيفات الحكومات وأجهزة المخابرات فتقلب تحليلات المؤرخين رأسا على عقب ، وتكشف في بعض الأحيان مفاجآت صادمة وتقلب مواقع الشخصيات ومناطق القوى والنفوذ .. إذا كنا لا ندرك بدقة شيئا حدث منذ أعوام ، فكيف يمكن أن نحاكم النوايا المكنونة في الصدور قبل ألف عام ؟!!

من الظلم كذلك أن نكون وجهة النظر من خلال موقف واحد أو اثنين مهما كان جلال أصحابهما ، ونترك موقف المئات والآلاف ممن هم في نفس منزلتهم إن لم يكونوا خيرا منهم .. وهو إن لم يكن هوى وميلا قلبيا فهو لاشك فعل صاحب غرض .

منذ استشهاد عثمان رضي الله عنه فى آخر عام 35 هجرية ، وحتى ربيع الول من عام 40 ، والأمة في فرقة واختلاف ، يحمل المسؤولية فيه معاوية ومن معه – رضي الله عنهم - بلا شك ، لكن بقراءة ما حدث فعلا ، فإن الخلاف الذي لم يكن على الخلافة بل على أولوية القصاص من قتلة عثمان استطاع أن يجعل الأمة في هذا التفرق الذي ظل سنينا لم ينحسم ، حتى تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية .

بعد عشرين عاما من هذا التاريخ ، نبتت مشكلة الخلافة وفي ظروف أدق وأحرج منها قبل عشرين سنة ، فالدولة الإسلامية اتسعت ، وكبار الصحابة ورعيلهم الأول كلهم مات تقريبا ، وليس هناك نظام ولا سابقة تضمن قدرة هذه الامبراطورية الدائمة الاتساع على حسم أمر الخلافة دون فتن ، بل سابقة التاريخ تؤكد أن الفتن حدثت وعلى قضايا أقل خطورة من الخلافة ، ومازالت عصبة الشام حول معاوية هي الأقوى والأقدر في كل هذه الامبراطورية الإسلامية .. لكل هذه الظروف رأى معاوية رضى الله عنه أن يعهد بالخلافة من بعده ليزيد .

فإذا أسأنا الظن بمعاوية ( وهذا حرام على المسلم ولكن نقوله الآن جدلا ) واعتبرنا أنه ورثها حبا في الملك والسيطرة ومحاباة لولده ، فما معنى انحصار المعارضة له في عدد قليل من الصحابة وسكوت أكثرهم على هذا ؟ ثم نسأل سؤالا آخر : هل استطاعت الأمة بعدها بسنوات ( عام 64 هـ ) حين تنازل معاوية الثاني عن الخلافة أن تحسم الخلافة لخيرها وأصلحها وأقدرها والمتزعم لحركة المعارضة وهو عبد الله بن الزبير ؟ أم انتصرت قوة العصبية والقبلية وحسمت الأمور واستطاعت إقرار النظام في كل الامبراطورية المستمرة في الاتساع ؟

لكن الذهبي يروي في تاريخ الإسلام ( 4/169 – عهد معاوية ) : خطب معاوية فقال : اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه ، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لولده ، وإنه ليس بأهل فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك ” ، هاهو يدعو في خطبه بمثل هذا الدعاء ، ويستمع إلى قول السامعين : آمين .

فهل يشك بعد هذا في نية الصحابي ؟!!

إذن .. كان معاوية أبعد نظرا حينما عهد بالخلافة إلى يزيد ، و يزداد هذا الأمر تأكيدا إذا رصدنا مواقف المعاصرين ، يقول ابن خلدون : ” وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ( يعني توخيه لمصلحة الأمة ) فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك . وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه؛ فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق؛ فإنهم كلهم أجل من ذلك ، وعدالتهم مانعة منه . ( … ) ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير ، وندور المخالف معروف ” ( 1/357 – فصل ولاية العهد )

تحمل لنا كتب التاريخ أسماء المعارضين وهم خمسة : عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، عبد الرحمن بن أبي بكر ، والحسين بن علي ، وعبد الله بن الزبير – رضي الله عنهم جميعا - ، ( بالمناسبة كلهم اعترض على المبدا وليس على شخصية يزيد ولم يذكر منهم أحد أنه كان فاسقا أو ماجنا أو تاركا للصلاة أو شاربا للخمر كما تشيع ذلك الروايات الضعيفة والمتأخرة ، بل الروايات الصحيحة تذكر عكس ذلك ) .. عارضوا مبدأ العهد للولد ، وعارضوا كذلك أن يُبَايَع لخليفتان في وقت واحد ( الخليفة القادم في حياة الخليفة القائم ) .

فأما عبد الرحمن بن أبي بكر فمات قبل أن يموت معاوية ويتولى يزيد الخلافة ، فبقي أربعة معارضين ، وبعد أن تولى يزيد الخلافة بايعه ابن عمر وابن عباس ( كانت رؤيتهما أن الأمة اجتمعت على يزيد ووحدة الأمة هى الهدف ) ، وبقي اثنان لم يبايعا هما : الحسين وابن الزبير – رضي الله عن الجميع - .

ليس من الإنصاف بأي شكل إذن أن نحذف كل مواقف الصحابة وكبار التابعين و نتمسك بموقفين لصحابيين اثنين فقط ، وفي سكوت هذا الجمع الغفير من الصحابة والتابعين ما يؤكد أنه لم يكن ممكنا في هذا الوقت أن يتولى الأمر غير يزيد بدون فتن ومعارك تحترق فيها الأمة مجددا ، ولو كان هذا يتم دون فتن لما رضي أحد من هؤلاء الكبار أن يسكتوا على ولاية يزيد دون أن يُقِيموا الأفضل والأولى من المسلمين ، ويؤكد سكوتهم هذا على صحة رأى معاوية – رضى الله عنه – وبعد نظره في أن استقرار الخلافة في هذا الأسلوب .

ويتوضح لنا هذا من نصائحهم للحسين – رضي الله عنه – لما أراد الخروج على يزيد ، فمنهم من كانت نصيحته ألا يفرق وحدة المسلمين ، ومنهم من كانت نصيحته ألا يغتر بأهل العراق أي أنه يعرف بأن الحسين أفضل وأولى ولكن ليس له شيعة واتباع وعصبية يمكنها أن تحسم الأمر له ، حتى ابن عباس وابن عمر نصحا الحسين بعدم الخروج ، وممن عارضه ونصحه ألا يخرج : ابن عمر ، وابن عباس ، ابن الزبير ( الرواية التي تذكر أن ابن الزبير حرضه ضعيفة ، ورواية أنه عارضه رواها ابن أبي شيبة بسند حسن) ، وأبو سعيد الخدري ، جابر بن عبد الله ، عبد الله بن جعفر ، أبو واقد الليثي ، المسور بن مخرمة ، عبد الله بن مطيع .. هؤلاء من الصحابة ، ومن التابعين : أخوه محمد بن الحنفية ، عمرة بنت عبد الرحمن ، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، سعيد بن المسيب ، الفرزدق ( صاحب العبارة الشهيرة : قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية ) .

( انظر : الطبري / حوادث 36، البداية والنهاية / حوادث 36 ، تاريخ الإسلام للذهبي / حوادث 61-80 ، سير أعلام النبلاء/ ترجمة الحسين 3/296 ، تاريخ دمشق لابن عساكر / ترجمة الحسين برقم 1566 – 14/214)

****

نأتي للمقصود من كل ما سبق :

هل يعني هذا أن أي إنسان استطاع اغتصاب الحكم وملك بالغلب يجب على المسلمين الخضوع له تحت دعوى تجنب الفتن واستقرار الأمة ؟

لست أدعى بالطبع أنني أهل للعلم ولا للفتيا ، وإنما فارق شاسع كبير بين السؤال بين الحكم الخاص بأي شخص مهما كان ابتعاده عن الدين ، ومهما بلغ من الفجور أو الفسوق أو حتى الكفر ، وفي زمن استطاعت فيه البشرية إقرار نظم تمكن الأمة من اختيار من يحكهما وبانتقال السلطة من سابق إلى لاحق في سلاسة وبدون فتن وحروب .. وبين أن يستشهد أحد في هذا المقام بفعل معاوية رضي الله عنه قبل ألف واربعمائة عام ، وفي ظروف قاهرة .

ولا يمكن لأي باحث جاد أو منصف أن يتهم معاوية رضي الله عنه بأنه المؤسس لنظام التوريث ، فليس معاوية أول ملك في التاريخ ، ولو كان يجوز أن نقول هذا لحولنا الاتهام عن معاوية إلى من ابتدع نظام الملك وربما اضطرننا جريا وراء هذا إلى اتهام نبي الله داود بحب السلطان وشهوة الملك لأنه ورث ملكه ولده سليمان !!

ليس معاوية أول ملك ، بل ولما تنازل حفيده معاوية الثاني عن الخلافة وتركها للأمة نشبت حروب بالفعل ثم حسمها البيت الأموي لثاني مرة وأمسك بالحكم مروان بن الحكم ، فإذا قال أحد : إذن نلوم مروان بن الحكم ، فقد أخطأ ايضا لأن الأمور لم تكن بعد مروان وراثية من الوالد لولده بل تولى البيت الأموي بعد عبد الملك أولاده الأربعة تباعا ، وفي المنتصف تولاها عمر بن عبد العزيز ، ثم تولاها بعد هشان بن عبد الملك ابن أخيه الوليد ، ثم خلع الناس الوليد وتولاها يزيد بن الوليد الذي خلعه مروان بن محمد والذي هزم بدوره أمام الدولة العباسية التي استلمت الأمور .

فظلم أي ظلم ، وجهل أي جهل أن يحمل معاوية ذنب ديكتاتور حديث مشكوك في ولائه لأمة المسلمين أصلا .

وسكوت الصحابة والتابعين عن ولاية يزيد ( الذي لم تثبت في حقه تهمة قادحة من رواية صحيحة ) لا يعني سكوت مسلمي اليوم في ظروف اليوم عن توريثهم لأي كائن كان .. لكن يظل الخروج على الحاكم محكوما بمقارنة المنافع والمساوئ ، ومن المقرر أن إنكار المنكر لابد ألا يؤدي إلى منكر أكبر منه ، وإلا صار أمرا بالمنكر كما قال العلامة ابن القيم .

إذن ، فلنخرج حادثة انتقال الخلافة من معاوية إلى يزيد من حديثنا عن توريث الحاكم في هذا العصر ، للاختلاف الكامل في الظروف الشخصية والموضوعية والزمن .. ونبحث كيف يمكننا مواجهة طغاة العصر الحالي الآن .