لئن كنا نحتاج
إلى التاريخ لنتذكر به كيف كنا أمة عظيمة في ظل طوفان الهجوم والتغريب والتشويه،
فنحن نحتاج إليه في ذات الوقت لندرك سنن الله في كونه وقوانين الاجتماع والصراع.
ولا ينبغي أن يصرفنا التذكير بما كنا فيه من عظمة عما يفيدنا في حاضرنا ومستقبلنا.
لقد كانت النكبة
الأندلسية من أعظم ما تألمت له الأمة في تاريخها، أن تغرب شمس الإسلام عن أرض
أضاءتها ثمانية قرون، ولذلك لم يزل اسم الأندلس بعد خمسة قرون يثير في نفوس
المسلمين شجونا ولوعة، إلا أننا نظلم أنفسنا ونظلم التاريخ والحقيقة ونظلم جيلنا
والأجيال القادمة إن لم نأخذ منها ما ينفعنا في يومنا الحاضر هذا.
في المقالين
السابقين (عظماء المحنة الأندلسية، عمالقة في جحيم المحنةالأندلسية) أردت إثبات ما
كان عليه الأندلسيون من العظمة والبسالة في التمسك بدينهم رغم الجحيم الذي أنزله
الإسبان بهم وتحت ميزان قوى منهار تماما، إلا أن الحقيقة لا تكتمل إذا توقفنا عند
هذه الصورة، وإني لأحسب أن التوقف عندها والسكوت عن نصف الصورة الآخر من قبيل
الخيانة التي لا تليق بمن يحترم نفسه فضلا عمن يخشى الله ويتحملها كأمانة.
نصف الحقيقة
الآخر هو ما نعرض لصورة منه في هذه السطور:
(1)
ماذا يفعل الحكام
المستبدون بالأمة
لقد عاشت غرناطة
أياما عصيبة حقا حتى اضطرت إلى الاستسلام في نهاية الأمر، إلا أن هذا الاستسلام لم
يكن الخيار الوحيد المتاح، بل لم يصل إليه الغرناطيون إلا بتأثير الحرب النفسية
التي شارك فيها ملكهم نفسه، تشير النصوص إلى أن حاكم غرناطة كان يتواصل مع
القشتاليين سرا وأن له يدا في إشاعة "الاستسلام" بين الناس، حتى تقدم
إليه وفد من التجار (رجال الأعمال بمصطلح العصر) يطلبون منه الوصول إلى اتفاق
تسليم المدينة فاتخذ ذلك ذريعة لعقد هذا الاتفاق الذي هو تتويج لمراسلات سرية جعلت
فريدناند يوقف الحرب ويشدد الحصار، ولم يحفل برأي من أرادوا الاستمرار في الجهاد
والحرب والمقاومة. وهكذا حصل الحاكم لنفسه على مزايا ومنافع ثم سلَّم البلد[1].
وهكذا هي سنة
المستبدين، يملكون البلاد فيتنعمون بخيراتها ويذلون أهلها حتى إذا جاء دورهم
وواجبهم سلموا البلاد وتركوها ونجوا بأنفسهم وأهليهم وأموالهم إن استطاعوا.
والمسلمون حين يغفلون عن هذه السنة الماضية التي تكررت قبل كل قصة احتلال وسقوط
يسيرون إلى نهايتهم بأيديهم، ويكون ذلك حين يرون في الخروج على المستبد فتنة
ويتساهلون في ترك الشورى وفي الأخذ على يد الظالم وأطره على الحق، يحسبون بذلك
أنهم يحافظون على أمان الناس وأموالهم وأعراضهم ويحفظون البلاد من طمع الأجنبي،
بينما الوضع على العكس من هذا: إن ترك جهاد المستبد هو ما يفعل كل هذا، فهو
يستذلهم ويستضعفهم في وقت تمكنه، فإذا جاء وقت ضعفه تركهم للأجنبي، بل مهد البلاد
والعباد للأجنبي بما نشره فيهم من ضعف وذلة ورغبة في الاستسلام، فيذوق العباد
والبلاد مرارة الاستبداد ثم مرارة الاحتلال، وقد تكون مرارة طويلة طويلة طويلة
بحجم زوال الإسلام من البلد وإكراه الناس على التنصر وترك دين الله.
ولذلك لا ينبغي
أن يستهين أحد بخطورة مسألة الحكم والسلطة في مصائر الناس، وآثار ذلك على دينهم
ودنياهم، وعلى الأمة جميعا.
(2)
الناس على دين
ملوكهم
صحيح أن
الأندلسيين صمدوا كما لم تصمد أمة، تمسكوا بدينهم كما لم يحدث مثله في التاريخ
فيما نعلم، مآثرهم سجلته وثائق محاكم التفتيش نفسها كما نقلنا في المقاليْن
السابقيْن، حتى لم يعد أمام الإسبان بعد مائة وعشرين عاما إلا أن يطردوهم تماما من
الأندلس، ولقد أثار ذهولي المتجدد قصة الإسبانية التي أسلم ولدها فرأته يصلي
فتذكرت أنها حينما كانت صغيرة كانت ترى جدها يفعل مثل هذا، أي أن بعض الأندلسيين
ورث دينه لأولاده على امتداد خمسة قرون رهيبة!!
هذا صحيح، وهو
مثير للإبهار.. لكن الصحيح أيضا أن الأمة الأندلسية اختفت وانهارت، وأن شمس
الإسلام قد غربت عن الأندلس، وأنها الآن صارت ديار كفر تشارك في الحرب على
المسلمين.
ولهذا فمهما كان
الأندلسيون عظماء كأمة، ومهما ظهر فيما أفذاذ كأفراد، فإن المحصلة النهائية هي
زوال هذه الأمة وزوال هؤلاء الأفذاذ، فالناس على دين ملوكهم، ويا ليت شعري كم
أندلسي لم يستطع منع ابنه من التنصر ولا ابنته من الزواج من إسباني ولا استطاع
تعليم أبنائه اللغة العربية أو شعائر الإسلام.. لقد نجح أناسٌ، لكن المستحيل كل
المستحيل أن نطالب الأندلسيين بالبقاء على دينهم لهذه القرون الطوال كأن شيئا لم
يتغير عليهم، هذا هو الخيال والوهم، هذه هي مناقضة القوانين ومعاكسة التاريخ
ومخالفة السنن.
ذلك ما نحتاجه في
واقعنا، أن نفهم أثر السلطة في تغييب دين الناس وإدخالهم في الكفر بعد الإيمان،
وتشويهها لهم وتبديلها لهويتهم ومعاركهم.. وهذا الانقلاب في مصر دليل شاهد؛ كيف يتحول
الناس معه إلى الانهيار: تصير حركة المقاومة عدوا ويصير الصهاينة حلفاء، وتقف
البلاد مع إسرائيل إذا حاربت غزة، ويُقتل الفلسطيني إذا عبر الحدود بينما يُفرج عن
الجواسيس الصهاينة، ويُحذف من المناهج سير عقبة وصلاح الدين وتحرق كتب الأئمة
والعلماء فيما تصير الراقصات أمهات مثالية ويصير الأسافل الأراذل حثالة البشر قادة
وموجهين يعتلون المنابر ووسائل الإعلام.
إن دين الله باقٍ
لا شك، لكن لا يعني هذا أن كل بلد أو شعب اعتنق الإسلام سيظل مسلما، الأمر أكبر
وأخطر وأعظم من هذا الوهم، بل استطاعت الدول أن تخرج من بين المسلمين من تنصر ومن
تعلمن ومن ألحد ومن تشيع ومن صار حربا على الدين.
إن ترك
المستبدين، لا سيما إن كانوا عملاء وخدم لأعداء الأمة، يخرج جيلا مثلهم في نهاية
الأمر رغم كل ما يمكن أن يبديه الجيل الأول والثاني والثالث من الصمود والتمسك
بالدين.
(3)
مشاهد أندلسية
ولئن كان الجيل
الأول هو الأصلب فلا يعني هذا أنه ينجو من المصائر الموعودة، بل يظهر فيه الفتق
الأول في الأمة، ثم يضعف ويستمر ضعفه باستمرار السلطة القاهرة وتمكنها وتغلبها في
النهاية.
ومثلما ذكرنا
مشاهد العظمة، ينبغي أن نذكر مشاهد المأساة كذلك، وسنأخذها من ذات السجلات المتاحة
لمحاكم التفتيش كما في دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الأندلسيون
الموريسكيون والمسيحيون.. المجابهة الجدلية".
1. لقد شهدت
الكتب التعليمية التي يتوارثها الأندلسيون سرا لتعليم أبنائهم الإسلام بالتطور
المنحدر في اللغة العربية، ولربما تحتفظ العائلة بكتاب واحد تجمع فيه التعاليم ثم
يضيف الجيل اللاحق إلى السابق، وهنا يظهر كيف ينحدر مستوى اللغة ومستوى الخط
العربي من جيل إلى جيل، ثم لم تأت سنة 1540 إلا وكانت قشتالة وطليطلة خاليتان
تماما ممن يعرف اللغة العربية[2].
2. ولقد تحول بعض
المسلمين إلى النصرانية، ليس هذا فحسب، بل عمل كجاسوس وعين على غيره من المسلمين،
وبعضهم وشى بمسلم رأى عنده كتابا لتعليم الإسلام أو رآه يكتب بالخط العربي أو حتى
سمع منه كلاما "يُشَمّ منه رائحة الشعر"، وكثيرا ما سُجِّل إبلاغ بعض
الناس عن أهاليهم، منهم امرأة أبلغت عن أختها وزوجها وخادمتهما أنهما لا زالا
يمارسان الإسلام سرا، ومن أولئك رجل أبلغ عن والديه وخصَّ والدته بمزيد من
الإبلاغ، وسجل لوي كاردياك أن "وشاية الأهل لم تكن نادرة"[3]. نعم.. لا يخلو أي مجتمع من أمثال هذا، لكن
الشاهد المقصود أن أمثال هؤلاء هم من يزيدون ويرتفعون مع تغلب السلطة وتمكنها،
ويمثلون نموذجا مغريا وناجحا في الدولة الجديدة، بينما يغيب ويخفت ويذبل الصالحون
المتمسكون. لا سيما إذا استحضرنا ما تقوم به السلطة من إغراءات وتهديدات لا يثبت
أمامها إلا أصحاب النفوس الكبيرة[4].
3. وينتشر في
المجتمع المستضعف أنواع الضلال:
§
فيظهر الدجالون الذين يدعون الكرامات والاتصال
بالسماء والقدرة على مخاطبة الأموات والتنبؤ بالمستقبل[5]، كما يكثر الأمل الكاذب والنبوءات والأحلام والرؤى
المضللة وانتظار المُخَلِّصين كنوع من التفكير بالتمني.
§
ويتحول البعض عن دينهم ليس بدافع النجاة بل بأثر
الفتنة في الدين، فمن ذلك حالة أندلسي تحول إلى اليهودية وقد كان اليهود مضطهدون
كالمسلمين أمام محاكم التفتيش[6]، ومنهم من تحول إلى البروتستانتية التي كانت في
ذلك الوقت حركة معادية للكاثوليكية وتبدو أقرب إلى الإسلام لا سيما في معاداة
الصور والتماثيل، وكانوا مضطهدين أيضا، بل من المسلمين من صار راهبا بروتستانيا
ومنهم من قسا بروتستانيا وأُحْرق مع أختيه، ومنهم من اختلط لديه الإسلام
والبروتستانية وتداخلا كأنهما دين واحد أو مذهب واحد، كذلك نشأت فكرة التقريب أو
التوحيد الديني بين الإسلام والبروتستانتية بفعل الاضطهاد المشترك والتعاون
المشترك[7]، فكل هذا قد حدث حتى وإن كان التيار العام منهم
يفهم العقيدة البروتستانية بل منهم من استعملها لضرب الكاثوليكية والبروتستانتية
معا في مجادلاته أو حركته الدعوية بين الإسبان أو في تثبيت المسلمين على دينهم، بل
يشير الباحث إلى أن المسلمين قد
يكونون هم مصدر دخول كتب لوثر وكالفن إلى إسبانيا[8].
4.
ويظهر في الأمة المغلوبة أخلاق الاستضعاف، كالخوف والخبث واللؤم والكذب، حتى إن
فقيها أندلسيا كان يعظ إخوانه الذين سيهربون إلى تونس بضرورة أن يتخلصوا من هذه
الطباع إذا وصلوا إلى أرض الإسلام لأنه لا يُقبل منهم إضمار شيء وإظهار ضده حينئذ[9]، كما تظهر فيهم فتاوى الاستضعاف، وقد عُثِر على
مخطوطات فيها فتاوى للأندلسيين، فمنها ما يفتيهم بسب النبي ساعة الاضطرار ولكن
بقول "محمد" وليس "محمد رسول الله" أو بقول "حمد"
وبصرف النية إلى شخصية أخرى، ومنها ما يفتيهم بكيفيات الصلاة سواء الصلاة بالعين
أو بالإشارة أو تأخيرها إلى الليل ونحو هذا في الخمر ولحم الخنزير وسائر الكلام،
وفي الفتاوى مجهود وحيل وأفكار لتحقيق المراوغة المطلوبة لأمة مستضعفة[10]. ولكن الدرس الذي ينبغي أن يستفيده المشايخ
والعلماء من هذا أن حالهم في دولة الإسلام لا تقارن بحالهم في دولة الكفر أو
الاستبداد، وخير لهم وللأمة أن يقودوها في الثورة والجهاد من أن يلتمسوا لها
ولأنفسهم الحيل والمعاذير في ظل الذل.
5. أما اللاجئون أو
المهاجرون فإنهم يصيرون رهينة وأداة في صراعات الكبار، لا سيما المهاجرين
والمطاردين منهم، وهكذا صار الأندلسيون الذين استعملهم الولاة والملوك أحيانا في
صراعاتهم الداخلية، وقُتِل بعضهم شنقا أو تعذيبا أو في المعارك التي تنشب بين
الأطراف المتعارضة، فقد استعملهم والي بايرن في أطماعه للتوسع في أرض نافار، وكذلك
هنري الرابع ملك فرنسا في صراعاته[11]. وكان الأندلسيون الذين هاجروا إلى فرنسا قد شملتهم
عناية العثمانيين والمغاربة من خلال العلاقات السياسية بين فرنسا وبين العثمانيين
وبينهم وبين السعديين، إلا أن هذه العناية لم تشمل الجميع ولا كانت في كل الوقت،
بل عالم السياسة مليئ بالتقلبات وحافل بالمناورات، وقد لحق الأندلسيين في فرنسا
الكاثوليكية الإجبار على التنصر أيضا، وكذلك طردوا لمرة ثانية، وترصد الروايات
تحولهم إلى متسولين بأبواب الكنائس يبحثون عما يسد رمقهم ويلاقون من الفرنسيين
الصدَّ والكراهية والبغضاء، بل وطالب بعضهم بمذبحة تنهيهم وتبيدهم على غرار مذبحة سان
بارتلمي، وبداية من عام 1617 يختفي ذكر الأندلسيين من سجلات المجامع الكنسية فإما
طُردوا أو تنصروا أو حافظوا على أنفسهم بشكل أشد سرية، أو كل ذلك معا[12]. ولم ينجُ الذين وصلوا إلى أمريكا أيضا، فلقد أقيمت
هناك محاكم للتفتيش كذلك، وقد ألحق لوي كاردياك بدراسته هذه دراسة أخرى عن أحوال
الموريسكيين في أمريكا.
وأختم هذه السطور بقصة
مأساوية لامرأة أندلسية، تكاد تتلخص في حياتها قصة المأساة نفسها من سائر وجوهها:
وُلدت ماريا لويز لعائلة
أندلسية في قرية غرناطية، وعلمها أهلها الإسلام بعد الحادية عشرة كما كانت عادتهم،
وذلك أن القساوسة كانوا يحاولون استدراج الأطفال لمعرفة إخلاص أهليهم فحملهم ذلك
على تأخير تعليم الإسلام لأبنائهم حتى سنّ التمييز، وهكذا نشأت ماريا وتعلمت وفهمت
وأخلصت للإسلام كما تعلمت كيف تخفي دينها وتراوغ في الاحتفاظ به، وحيث كانت ضمن
قرية غرناطية فقد كانت الحياة هادئة إلا في الأيام التي يفاجئهم فيها القساوسة، وصارت
تصلي في المساء وتصوم رمضان كغيرها من أهل القرية، إلا أن تطورا مثيرا حدث في
حياتها لا نملك تفاصيله إذ تزوجت في الرابعة عشرة من أحد "النبلاء" وأخذها معه إلى أمريكا،
إلا أنها استمرت محتفظة بدينها حتى السابعة والعشرين، ولما طال عليها الأمد وبلغت
الخامسة والأربعين اعترفت للكاهن في جلسة الاعتراف بأنها كانت مسلمة وأنه لم يزل
في نفسها بعض آثار من تعلقها به، وطالبت بأن تُحرق إن كان هذا يطهر روحها. إلا
أنهم –ولأسباب اجتماعية سياسية- قرروا عليها غرامة بسيطة إذ استوثقوا من صدق
"توبتها"!!
فمن منا يرضى
لبناته هذا المصير؟!!
هذا المصير ليس
مستحيلا ولا بعيدا.. فقط لو استقر في بلاد الإسلام نظام علماني استبدادي يُطارد
الدين وأهله وينشر الكفر ويعمل له.
نشر في ساسة بوست