الأحد، أكتوبر 16، 2022

لماذا نعجز عن إظهار نبينا ﷺ باعتباره منقذا للإنسانية؟

 

يذكرنا شهر ربيع الأول بمولد النبي الأعظم صلوات الله عليه، وفيه تستدعي الذاكرة ما قيل فيه ﷺ من القصائد والمدائح.

 وفي #أسبوع_نصرة_النبي ﷺ طافت ببالي أبيات من قصيدة شوقي الأشهر: وُلِد الهدى، فالكائنات ضياء..

 أغلب الناس لا يعرفون من هذه القصيدة سوى هذا البيت الأول أو إن زادوا ضمُّوا إليه الثاني، بينما القصيدة كلها من عيون قصائد شوقي، بل من عيون الشعر العربي كله.

 وقد قرأت -لا أتذكر الآن أين- أن بعض الناس رأى شوقي في منامه بعد أن توفي، فسأله: ماذا صنع الله به؟ فقال: غفر لي بمدحي لنبيه ﷺ.

 وهذا أمر لا يُستبعد على رحمة الله، كما لا يُستبعد في نفسه لأن قصائد شوقي مما يحيي معاني الإيمان والحب للنبي ﷺ حقا، وهي تعبر عن قلب نابض بحب النبي ﷺ حقا، فوق ما فيها من صنعة الشعر وجودته، نحسبه هكذا، والله حسيبه!

 المهم الآن، أنه طافت ببالي هذه الأبيات التي تتحدث عن فضل النبي ﷺ على الفقراء، ومعالجته لأمرهم:

 جاءت فوحدت الزكاة سبيله .. حتى التقى الكرماء والبخلاء

أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى .. فالكل في حق الحياة سواء

لو أن إنسانا تخيَّر ملة .. ما أختار إلا دينك الفقراء

الاشتراكيون أنت إمامهم .. لولا دعاوى القوم والغلواء

داويتَ متئدا وداووا فجأة .. وأخف من بعض الدواء الداء

الحرب في حق لديك شريعة .. ومن السموم النافعات دواء

 المعنى المبسط لهذه الأبيات، أن النبي ﷺ جاء بالزكاة، فالتقى في دفعها الكرماء والبخلاء، وبذلك انتصف الفقراء من الأغنياء، وصارت الحياة الكريمة حقا لهم جميعا، فلو أن الأديان عُرِضت على الناس عرضا صحيحا لكان الفقراء هم أسرع الناس دخولا في الإسلام، لما فيه من إنصاف الإسلام لهم.

 وبهذا كان النبي ﷺ -كما يقول شوقي- إمام الاشتراكيين، لولا أنه كان خبيرا بطبائع النفوس وسياسة المجتمعات، فعرف كيف يداوي المفاسد بالصبر والروية والحكمة، حتى صارت الزكاة فريضة يأخذها الفقراء من الأغنياء، دون أن يلجأ للمذابح والوحشية التي لجأ إليها الاشتراكيون، فكانت محاولتهم الإصلاح وإغناء الفقراء أشد سوءا مما لو لم يحاولوا، كما يكون بقاء الداء أحيانا خيرا من جرعة الدواء القاتلة!

 أتذكر أن الإمام العلامة المجدد محمد رشيد رضا كتب يوما في رسالته لشكيب أرسلان "لو أن الناس يعرفون من الإسلام ما أعرف لهرعوا إليه وما استبدلوا به شيئا غيره، ولوجدوا فيه حلولا لسائر مشكلاتهم"، أو نحو هذا المعنى..

 وأقسم أن هذا المعنى يتردد في صدر المصلحين، ولكن كثيرا منهم لم يجد الفرصة، أو لم يوهب البلاغة الكافية ليعبر بها للناس عن هذا المعنى المحبوس في صدره.

 نحن الآن في زمن الرأسمالية الليبرالية والتفوق الغربي الكبير، ولهذا يوضع الإسلام في قفص المحاكمة ويُسأل:

 ما موقفك من الحرية؟ ما موقفك من المرأة؟ ما موقفك من الفن؟ ما موقفك من الديمقراطية؟ ما موقفك من الأقليات؟... إلخ!

 وهذه الأسئلة حين يتفوه به الغالب الليبرالي الرأسمالي، فإنه يعني بالأساس حرية التجارة التي تُمَكِّنه من الهيمنة المالية والتحكم في مجال المال والأعمال.

 ويعني أيضا حرية الانحلال -بما فيها من الخمر والتعري والزنا والعلاقات الشاذة- التي تُمَكِّنه من السيطرة على النفوس والأجساد التي تأسرها الشهوات.

 إنه يسأل في الحقيقة عن الأدوات التي تتيح له التحكم في هذا المجتمع، تحت شعار الحرية والحقوق!

 قبل نحو سبعين أو تسعين سنة، كان ثمة تفوق آخر يمثله الشيوعيون في الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا، وهؤلاء كانت محاكمتهم مختلفة، ففي ذلك الوقت كانت الأسئلة التي تتوجه للإسلام الواقف في قفص الاتهام:

 ما موقفك من الفقر والفقراء؟ ما موقفك من الطبقية؟ ما موقفك من الطبقات الكادحة؟ ما موقفك من العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة؟

 وفي ذلك الزمن، دافع المسلمون عن أنفسهم، واستخرجوا من الإسلام طريقته المثلى في حل مشكلات الفقر، ومحاربة تكدس الثروة، ورعاية الفقراء وإنصافهم، وكانت فريضة الزكاة إجابة سحرية لصدّ هذا الاتهام، فالمجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي تحركت فيه الجيوش لمعاقبة الممتنعين عن الزكاة، إذ هي حق الله في المال، وهي كالصلاة تماما.

 هذا فوق ما في الإسلام من حث على الصدقة والإنفاق وعلى إعتاق العبيد وتحريرهم وعلى وقف الأوقاف لرعاية الضعفاء وذوي الحاجة!

 هذه الإجابات -يا عزيزي القارئ- تختفي في زماننا هذا اختفاء تاما، لأن الغالب الآن لا يهتم بالفقر ولا يأبه للفقراء.. الغالب الآن يهتم بالحرية العلمانية.

 ولذلك، فبينما كانت فريضة الزكاة إجابة ساحرة باهرة لقوم يهتمون بالفقراء، فإن إقامة حرب ضد مانعي الزكاة هي الآن وحشية وظلم وانتهاك لحقوق الإنسان، وظلم لأصحاب الأموال واعتداء على أموالهم، بل اعتداء على حريتهم الدينية.. فالدين ليس بالإكراه ولا بالإجبار، ومن شاء فليؤمن وليؤدِ الزكاة ومن شاء فليكفر!

 أليس هذا لسان الدولة العلمانية والحرية وحقوق الإنسان الرأسمالي؟!

 هذا مع أن نفس نفس هذه الدولة تأخذ الضرائب الجائرة من الناس، وهي التي تفوق الزكاة أضعافا مضاعفة، وتقرر عليهم مزيدا من الضرائب كلما شاءت، وتعتبر التهرب من الضرائب جريمة كبرى تعاقب عليها!

 ألم تعلم -عزيزي القارئ- أن الضرائب في الإسلام حرام، وأنه لا يجوز فرضها إلا لضرورة قاهرة ولفترة استثنائية، وذلك حين يخلو بيت المال ويحتاج المسلمون إلى دفع أمر عظيم كعدو محتل أو كارثة طبيعية، وأنها -إذا فرضت- تؤخذ من الأغنياء لا من الجميع؟!

 هذا حديث آخر.. تكلمنا فيه سابقا.. (بعض ذلك هنا: https://t.me/melhamy/1665 -  https://youtu.be/AvJPtppr_gQ - https://www.youtube.com/watch?v=x7HfN0xnL2k  -  https://youtu.be/AvJPtppr_gQ  - https://t.me/melhamy/1614)

 ولكن المقصود الآن، أن المنقبة والمفخرة أمام غالب متفوق يزعم أنه مهتم بالفقراء، هي ذاتها تصير المنقصة والمثلبة والمعرة التي نبحث لها عن تأويل أمام غالبٍ متفوقٍ يزعم أنه مهتم بالحريات!!

 وهذا يفسر لك كيف كثرت في ذلك الزمن المؤلفات التي عنيت بالدفاع عن الإسلام أمام هذه الفتن، مثل: "اشتراكية الإسلام" أو "العدالة الاجتماعية في الإسلام" أو "كيف عالج الإسلام مشكلة الفقر" ونحو ذلك.. وينبغي هنا ألا نسارع إلى اتهام من ألَّف "اشتراكية الإسلام" بأنه منهزم، بل هو إنما استجاب لواقع وقته ومحنة عصره.. إلا أن يكون زاد في الإسلام أو نقص لمغازلة الغالب المتفوق.. مثلما لا تجد أحدا في عصرنا هذا يكتب كتابا بعنوان "الحرية في الإسلام" أو "حقوق الإنسان في الإسلام"، فليس هذا انهزاما وافتتانًا إلا أن يكون في محتواه قد زاد في الإسلام أو نقص منه.

 ها أنت ترى شوقي يمدح نبينا بأنه إمام الاشتراكيين، لا يقصد بهذا طبعا أن يجعل نبينا تابعا لهم أو حتى متصفا بصفاتهم، إنما قصد هذا المعنى من العدالة الاجتماعية ورعاية الفقراء.

 الذي أريد قوله، والذي أقصده، بعد هذا الكلام الطويل أن أكثر ما نحتاجه في واقعنا الآن هو ما نعجز عنه..

 نحن نعجز عن إظهار صورة نبينا ﷺ باعتباره منقذا للبشرية، وباعتباره دينه هو الحل لمشكلاتنا المعاصرة.

 بعض هذا العجز يرجع إلى الجهل.. فإن كثرة الكلام عن جمال نبينا وأنه وُلِد يتيما وأنه تعرض للاضطهاد وأنه كان رحيما.. كثرة الكلام عن هذه الجوانب تُغَطِّي على الجوانب الأخرى الأهم التي نحتاجها في واقعنا المعاصر، وإذا عرفها الناس علموا أن نجاتهم في اتباعه.

 وبعض هذا العجز يرجع إلى سطوة الثقافة الغالبة، فيظن الداعية أو المتكلم أن هذه أمور لا توافق المزاج العام، وتفتح عليه سيلا من الاتهامات والمشكلات، هذا إن كان الداعية نفسه مستوعبا لهذه السطوة.. ولكن كم يكون الداعية نفسه مأسورا لهذه الثقافة، ويحيك في صدره بعض ما يصح عن النبي ﷺ فيكتمه ويلتمس له التأويل!

 وبعض هذا العجز يرجع إلى الخوف والمحاصرة والتعتيم الإعلامي، فإن الكلام عن هذه الجوانب التي لا تعجب الغالب المتفوق الذي يملك مفاتيح الإعلام والأموال، فوق ما يملكه من القبضة الأمنية القاهرة والأذى الرهيب، يجعل الذين يعرفون يتجنبون الحديث في المخاطر.. ولهذا يختفي الحديث عن نبينا الثائر المقاتل، وعن نبينا القائد السياسي الحكيم، وعن نبينا الذي لا يتهاون مع الباطل ولا يتوافق معه ولا يخضع له، وعن نبينا الذي لا يلدغ من جحر مرتين، وعن نبينا الذي يطبق الحدود ويُنصر بالرعب ويحرض المؤمنين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 إننا نحتاج إلى قوة نفسية أولا، ثم إلى قوة فكرية وعلمية ثانيا، ثم إلى بلاغة وفصاحة وبساطة في الخطاب ثالثا، كي نستطيع في النهاية أن نتكلم عن نبينا فيشعر السامع، مسلما كان أو غير مسلم، أن هذا النبي هو الرجل المنقذ الذي لا بد من اتباعه.. هو الرجل الذي قدَّم قديما من الوصايا والتعاليم والهدايات ما يزال حتى الآن ناجعا شافيا!

 هذا هو واجب المعاصرين حين يحتفلون بالنبي الكريم، فلو أن حفلات المولد الشريف كانت حديثا في فضل النبي على العالمين، وفي حل النبي لمشكلات البشر أجمعين، لكانت موسما دعويا عظيما يتدفق فيه الناس على الإسلام!

 وهذا على كل حال خير لأهل الإسلام ولبني الإنسان من حفلات الطرب والسماع وتوزيع الحلوى وإقامة الولائم.

 

الجمعة، أكتوبر 07، 2022

عالَمٌ بغير محمد ﷺ.. كيف يكون؟

 

وقف العلامة مصطفى صبري، آخر شيوخ الإسلام في اسطنبول، يخطب أمام عشرة آلاف في جامع السلطان علاء الدين في قونيا، وكان ذلك في الزمن الذي زحفت فيه العلمانية وهيمنت فيه جماعة الاتحاد والترقي على البلاد، وانتشر يومها الحديث عن الحرية القادمة من الغرب، في مقابل الاستبداد الذي أنتجه الدين وحرسه المشايخ في الشرق. وحيث كان الوقت قبيل انتخابات مجلس النواب فقد خطب الشيخ يحثّ الناس على التمسك بحريتهم، ومقاومة كل تضييق أو خداع يقوم به من يريد كسب أصواتهم. وقد حاول والي قونيا معمر بك -الذي كان حاضرا في الخطبة- أن يُشَغِّب على الشيخ، فإذا بالشيخ يستخرج له مثالا من الفقه الإسلامي، فينقلب الحال عليه!

ذكر الشيخ مصطفى صبري مسألة من الفقه الحنفي تقول: ماذا إذا وقع نزاعٌ بين رجلين: مسلمٌ وذِمِّيٌّ على طفل، المسلم يقول إنه عبده، والذمي يقول إنه ولده، وكلاهما جاء بالشهود التي تؤيد كلامه، ولم يتبيّن وجه الحق للقاضي، فهل يُسَلّم الطفلُ إلى المسلم فيكسب الطفل نعمة الإسلام ويخسر نعمة الحرية؟ أم يسلم إلى الذمي فيخسر نعمة الإسلام ويكسب نعمة الحرية؟

يختار أبو حنيفة أن يُسَلَّم الطفل إلى الذِمّي ويكون حرًّا، فإنه إذا سُلِّم إلى المسلم لم يستطع كسب نعمة الحرية بنفسه، ولكنه إذا سُلِّم للذمي يستطيع بالنظر والتفكير ومقارنة الأديان أن يكسب نعمة الإسلام بنفسه. والشرع الإسلامي يُعطي للطفل ما لا يستطيع أن يكسبه بنفسه، إذ الشرع واثقٌ من قوة حجة الإسلام وظهوره، والطفل إذا لم يُسْلِم حين يكبر كان هذا تقصيرا منه، وجناية جناها هو على نفسه!

يقول الشيخ مصطفى صبري: هذه الفتوى تدل على ما بلغه الفقه الإسلامي من سعة الأفق، وهي تبرز أهمية الحرية في شرعة الإسلام، وتُفهم أهيمتها حق الفهم إذا تذكرنا أن الشريعة ترى أن أكبر ملوك غير المسلمين ليس كفؤا ولا أهلا لأن يتزوج أدنى بنت من بنات المسلمين[1].

***

حين مررتُ بهذه القصة، تذكرت بحثا آخر كتبه المستشرق الإيطالي ديفيد دي سانتيلانا، وهو قانوني درس المذهب المالكي، عن الشريعة والقانون والمجتمع، وطفق هذا المستشرق يتناول جوانب الشريعة الإسلامية بقلم المُعجب المنبهر بها، فكان مما تناوله مسألة الحرية، فقال فيها:

"أما الرق فهو استثناء لتلك القاعدة (كان آدم وحواء وكلاهما حر)، من هذا المبدأ استخلص الفقهاء مسائل عديدة إليك بعضها:

1. اللقيط المجهول أصله ترجح حريته على عبوديته.

2. الحر المشكوك في حريته لا يجبر مبادهة على إثبات حريته؛ حتى تنهض القرائن والدلائل القضائية على عكس ما يزعم.

3. ترجح حالة الحرية عند وجود الشك.

فالحرية على هذا الأساس لا يمكن أن تباع أو تشترى لرغبة ساورت صاحبها، أو لنزوة عارضة، والعبودية التي يختارها المرء بملء رغبته لا تعترف بها الشريعة قانونا قط، وعلى هذا المنوال تحرم الشريعة الانتحار"[2].

وقد أُعجب دي سانتيلانا على نحو خاص بالتحرر التام الذي يتمتع به المسلم من سلطة الكهنوتية، حتى قال في ذلك: "أشد المذاهب البروتستانتية صرامة إنما تكاد تكون مذهبا كهنوتيا صرفا إذا ما قورنت بعقيدة التوحيد الراسخة، التي لا تلين ولا تتزعزع، ولا تسمح بالتدخل بين الخالق والمخلوق"، وأعجب بالرحمة التي تهيمن على سائر جوانبها، فيؤكد أن "آيات القرآن فُصِّلَتْ للناس بمعرفة خبير حكيم لتكون شريعة للحرية، وقانونا للرحمة التي أنعم الله بها على الجنس البشري"، ويختم مبحثه اللطيف قائلا: "المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور"[3].

***

وصدرت قبل أشهر الترجمة العربية لكتاب الباحث الأمريكي المسلم، جوناثان براون، بعنوان "الإسلام والرق"، وقد قرأت شطرًا منه ولم أتمّه، وهو كتاب ممتاز، لكن الشاهد هنا أنه قضى زمنا في أول الكتاب يحاول أن يُفهم قرَّاءه من الغربيين والأمريكان أن الرق الذي كان في الإسلام لا علاقة له بصورة العبودية والاستعباد التي تنبثق في أذهانهم لدى سماع هذه الألفاظ، ذلك أن تلك المعاني السيئة إنما هي المخزون الموروث الذي أنتجته التجربة الغربية حين استعبدت الشعوب الإفريقية والآسيوية، ولا علاقة لهذه المعاني بموضوع الرق الذي كان في العالم الإسلامي. وذلك إلى الحدّ الذي لا يمكن فيه الوصول إلى تعريف دقيق لمعنى "الرق"، بل إن مطالعة التاريخ تكشف أن ظروف العُمّال الأحرار في المصانع الأوروبية كانت أسوأ حالا بكثير من أحوال العبيد في العالم الإسلامي، وأن بعض أولئك العبيد وصلوا في العالم الإسلامي إلى مراتب السلطة العليا كوزراء وأمراء وقادة جيوش يملكون الثروة والسلطة!

وكان قد وقع لي من أخبار العبيد والرقيق في التاريخ الإسلامي، ما استخلصتُ بعضًا منه، ونشرته في مقال "كيف عامل المسلمون عبيدهم.. شذرات من مؤلفات الرحالة الغربيين"[4]، وفيه يقرر المستشرقون والرحالة الغربيون بأنفسهم أن أحوال العبيد في عالم المسلمين كانت خيرا من أحوال الأحرار في الغرب!

وهذا مع أن الإسلام يرى الرق نقصا، ويحث على إعتاق العبيد، كما يحث العبد على تحرير نفسه، وقد فتح لذلك الأبواب، وقد أغلق الإسلام باب استرقاق الناس إلا في الحرب المشروعة، أي أنه جعل الرق بديلا عن القتل، فكان الرق -في هذا الموطن- من باب الرحمة بالأسير! فلعله أن عاش بين المسلمين أن يتأثر بهم فيُسلم فيفوز في دنياه وأخراه، ولئن لم يفعل فقد أصابته الرحمة بالإطالة في عمره فلعله أن يُفتدي أو يفتدي نفسه أو يعيش في الرق عيشة كريمة!

***

لقد وقف المنصفون من غير المسلمين أمام فضل النبي ﷺ على هذه الإنسانية حتى تمنى بعضهم أن لو وصلت جيوش الفتح الإسلامي إلى بلادهم، مثل المستشرق والفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير جوستاف لوبون، ذلك الذي تحسّر أن المسلمين لم يدخلوا باريس، فلم تنعم باريس بمثل ما نعمت به قرطبة، فقال في ذلك: "كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربا التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضرجت أوربا بالدماء عدة قرون"[5].

لقد رأى هذا الرجل فضل النبي متجسدا في التاريخ، ورأى كيف أن البلاد التي وصلها أتباعه كانت في نعمة ورحمة حُرِمت منها البلاد التي لم تنعم بأنواره، ليس فقط على مستوى الأخلاق وشيوع التسامح الديني، بل حتى على مستوى العلوم والحضارة والاختراعات المادية والفنون، يقول: "كلما أمعنا في درس حضارة العرب، وكتبهم العلمية، واختراعاتهم، وفنونهم ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها -مدة خمسة قرون- موردا علميا سوى مؤلفاتهم، وأنهم هم الذين مدنوا أوربا مادة وعقلا وأخلاقا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفقهم قوم في الابتداع الفني"[6].

ولم يكن وحده في هذه النظرة، فهذا المستشرق البريطاني الشهير مونتجمري وات، يقول في ذات المعنى: "إننا -معشر الأوربيين- نأبى في عناد أن نقر بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانا إلى التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانا تجاهلا تاما، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين، أن نعترف اعترافا كاملا بهذا الفضل، أما إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على كبرياء زائف"[7].

ينظر آخرون بإعجاب إلى فضل النبي ﷺ في تحرير الإنسان من الخرافة والأوهام وسلطان الآلهة الوثنية، هذه المستشرقة الإيطالية لورافيشيا فاجليري تقول: "بفضل الإسلام هُزِمت الوثنية في مختلف أشكالها، لقد حُرِّر مفهوم الكون، وشعائر الدين، وأعراف الحياة الاجتماعية من جميع الهولات أو المسوخ التي كانت تحط من قدرها، وحُرِّرت العقول الإنسانية من الهوى. لقد أدرك الإنسان -آخر الأمر- مكانته الرفيعة، ولقد أذل نفسه أمام الخالق، رب العالمين، أنه لم يصبح قادرا فحسب على أن يقول مع إبراهيم، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] بل قد تعين عليه في الواقع أن يقول مع هذا النبي {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. لقد حُرِّرت الروح من الهوى، وأطلقت إرادة الإنسان من القيود التي طالما أبقته موثقا إلى إرادة أناس آخرين، أو إلى إرادة قوى أخرى يدعونها خفية. لقد هوى الكهان، وحفظة الألغاز المقدسة الزائفون، وسماسرة الخلاص، وجميع أولئك الذين تظاهروا أنهم وسطاء بين الله والإنسان"[8].

***

إذا كان هؤلاء الناس قد التفتوا إلى فضل النبي على الإنسانية في حياتهم الدنيا، وما بث في تاريخ الأرض من الأخلاق والحضارة والعلم والنور والكرامة وتحرير البشرية من الخرافة والأوهام، فنحن المسلمين أولى الناس أن نلتفت إلى فضله ﷺ في الدنيا والآخرة، فما الدنيا في الآخرة إلا كقطرة في بحر، وكل شيء بالنسبة إلى الخلود غيرُ معدود، فبه عرفنا طريق الهداية، فمن اتبعه فقد أنقذه الله بمحمد ﷺ من النار، والصلاة عليه في الدنيا هو غفران للذنوب وتفريج للكروب وسببٌ لأن يذكرنا الله تعالى في عليائه جل علاه، وهو ﷺ شفيعنا يوم القيامة بإذن الله، فبشفاعته يتجاوز الله عن الذنوب والخطايا لمن شاء، وهو الذي يسقينا في اليوم الرهيب من حوضه الشريف، شربةً تروي الظمأ الشديد القاتل شربة لا نظمأ بعدها أبدا، لا يُحرمها إلا من بدَّل وأحدث من بعده.

فلو كان اتباع محمد ﷺ يُهلكنا في الدنيا ويحيينا في الآخرة لكفي بذلك نعمةً ومنّةً وفضلا عظيما، فكيف إن كان اتباعه هو العز والنصر والتمكين في الدنيا، وهو النجاة والفلاح في الآخرة؟!

كثيرا ما يغيب هذا الجانب، أي: فضل النبي ﷺ علينا في الآخرة، عن حديث المتحدثين عن فضله، وذلك من آثار طغيان التفكير المادي الدنيوي على حياتنا المعاصرة.

لن نفهم فضلَ محمد ﷺ علينا في الدنيا والآخرة إلا إذا تخيلنا مسيرة هذا العالم بدونه، إن مجرد الشروع في تخيل هذا الوضع يقذفنا في عالم كئيب مظلم أسود؛ عالم تتقاذفه الشياطين، ويهيمن عليه الطغاة الجبابرة، ويأكل القوي فيه الضعيف.. عالم بلا رحمة ولا شرف ولا أخلاق!

عالم ليس فيه أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، لا خالد بن الوليد ولا أبو عبيدة بن الجراح ولا عمرو بن العاص، عالم ليس فيه عمر بن عبد العزيز ولا هارون الرشيد ولا نور الدين زنكي ولا صلاح الدين ولا يوسف بن تاشفين ولا عبد الرحمن الناصر ولا المنصور بن أبي عامر ولا عثمان ولا مراد ولا محمد الفاتح! عالمٌ ليس فيه ذلك الطابور الطويل من العُبَّاد والزُهَّاد الذين هم مصابيح الدنيا في التقوى والورع والأخلاق، من يتخيل عالما بغير الحسن البصري وعبد الله بن المبارك وإبراهيم بن أدهم والحارث المحاسبي وبشر الحافي والجنيد؟! عالمٌ ليس فيه ذلك الموكب المكتظ من العبقريات المدهشة التي فجرت ينابيع العلوم، أي عالم ذلك الذي يخلو من أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن حزم والجويني والغزالي والزمخشري والفخر الرازي وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن رجب وابن عبد الهادي! وأي عالم ذلك الذي افتقد الزهراوي والجزري والحسن بن الهيثم والزرقالي والمرادي وابن النفيس وابن البيطار!

كل أولئك وغيرهم كثير كثير كثير ممن أقاموا العدل ونشروا العلم وعالجوا الأرواح والأبدان، إنما شربوا من معين محمد، ومن سنّته ارتووا، وعلى دينه قاموا ونصبوا وماتوا! ولولا محمد لكانوا من أغمار الناس، أو لذهبت طاقتهم وعبقريتهم في خدمة الطغاة والجبارين الذين غلبوا عليهم!

ستجد عزيزي القارئ الكريم، في هذا العدد من مجلتنا أنصار النبي، شذرات عن فضل النبي ﷺ على الحيوان وعلى النبات وعلى الجماد، على الكافرين وعلى المسلمين، من التاريخ ومن الواقع، وهي أمور لا تكفيها هذه الصفحات القليلة، وإنما هي بمثابة فتح الباب، والدلالة على الكنز العظيم! فاغترف من الكنز ما استطعت، وانهل من النهر حتى تتضلع، فإن ذلك فلاحك في الدنيا والآخرة.

نشر في مجلة أنصار النبي ، أكتوبر 2022 



[1] مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، 4/340، 341.

[2] دافيد دي سانتيلانا، القانون والمجتمع، ضمن: توماس أرنولد (إشراف)، تراث الإسلام، ص417.

[3] نفس المصدر، ص410، 411، 439.

[4] مجلة المجتمع، يوليو 2020م، الرابط: https://melhamy.blogspot.com/2020/07/blog-post.html

[5] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص317.

[6] نفس المصدر، ص26.

[7] مونتجمري وات، فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ص8.

[8] لورافيشيا فاجليري، دفاع عن الإسلام، ص45، 46.

الأحد، أكتوبر 02، 2022

وقفة مع الطاعنين في الإمام القرضاوي

 

كان من فقه ابن عباس -رضي الله عنهما- حين ذهب لمحاورة الخوارج، أن بدأ كلامه معهم بقوله: "جئتكم من عند صحابة رسول الله ﷺ، وليس فيكم منهم أحد".

فأشار لهم إلى حقيقةٍ كان يجب أن تردعهم وتشككهم فيما هم عليه، وهي أن ما هم عليه من الرأي والموقف لا يوافق عليه صحابي واحد من صحابة النبي ﷺ، هذا مع أن المعسكر الآخر -معسكر معاوية رضي الله عنه- فيه صحابة قاتلوا عليا رضي الله عنه.

فمجرد مخالفة علي، بل ومقاتلته، كانت رأيا ذهب إليه بعض أولئك الصحابة، ولكن موقف الخوارج لم يذهب إليه ولا صحابي واحد!! فكان ذلك علامة على ضلالهم!

ووضع علماء الأصول قاعدة ذهبية كان لها أعظم الفضل والأثر في ضبط الحركة الفقهية عبر التاريخ، وهي أنه لا يجوز مخالفة سلف الأمة، فإذا اتفقوا على رأي، لم يكن جائزا لمن بعدهم أن يخالف هذا الرأي، فإن الحق لن يخرج عنهم، إذ هم الموصوفون بالخيرية على لسان رسول الله، وهم الذين نزل عليهم الوحي، وأخذوا العلم عن رسول الله، فمخالفتهم هي في واقع الأمر قولٌ بأنهم قد أخطؤوا الحق وضلوا عنه، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

وكذلك إذا اختلف هؤلاء الصحابة والتابعون على رأيين، لم يكن جائزا لمن بعدهم إحداث رأي ثالث، وذلك أن هذا الرأي الثالث هو رمي لهم بأن جميعهم قد ضلوا الحق وأخطؤوه، وهو ممتنع كذلك، إذ لا يجتمعون على ضلالة.. وكذلك إذا اختلفوا على ثلاثة أقوال لم يجز إحداث رأي رابع.. وهكذا، وثمة تفاصيل يعرفها من يدرس الأصول.

ولذلك كان علماء الأمة حساسين للغاية لمخالفة السلف الأوائل، وإذا ورد الشيء عن الصحابي توقف عنده وخضع له أولئك الذين شهد لهم العالَم بالعبقرية، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولم يتجرؤوا أن يخالفوا ما وصل إليهم من علم الصحابة، مع ما هم عليه من الذكاء ونفاذ العقل وقوة القريحة.

ومن هذا الباب قيل: إذا أردت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.. وقيل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها سلف.

كان هذا كله، خشية أهل العلم من الوقوع في الخطأ في ذات المسألة، أو الوقوع في اتهام السلف الأوائل بأنهم ضلوا عن الحق.

وحين استقرت المذاهب الفقهية، كادت الأمة أن تتفق على اتباع المذاهب الأربعة المشهورة، وثمة إقرار تام بأن الحق ليس محصورا في تلك المذاهب الأربعة؛ إذ ليس لاتفاقهم قوة اتفاق الصحابة، ولأنهم لم يتفردوا بالاجتهاد، فثمة غيرهم ممن بلغ مرتبة الاجتهاد ولكن مذاهبهم لم تخدم ولم تحرر كمذاهب الليث والأوزاعي والثوري والطبري وغيرهم.. مع ذلك فإنك تجد إماما مثل الذهبي يقول: نهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها.

فاستعمل لفظ "نهاب"، ليعبر به عن معنى أن الحق غالبا لن يتجاوز هذه المذاهب الأربعة إذا اتفقوا، ولكن لا يمكن الجزم بهذا.

تلك -عزيزي القارئ- مقدمة طويلة أردت منها لفت النظر إلى شيء واحد: أنك إذا رأيت جمهرة من أهل الصلاح اتفقوا أو غلب عليهم الثناء على شخص فيجب أن تتهيب اقتحام الطعن فيه، أو وجدت منهم الطعن في أحد فكذلك.. فإن الله جعل أهل العلم والصلاح معالم هداية وإرشاد وتوجيه.

ومناسبة هذا الكلام ما رأيتُه من الطعن في الشيخ العلامة الراحل يوسف القرضاوي -رحمه الله وبرد مضجعه- بعيد وفاته، فأما الذين طعنوا فيه لأنهم من أتباع السيسي وابن زايد وابن سلمان، فهؤلاء لا نأبه لهم ولا نلتفت إليهم، فلا قيمة لهم ولا لكلامهم، فإنهم في معسكر الباطل الصريح الذي يقف على رأسه الشيطان بنفسه، وأما الذين نقصدهم بالحديث هنا فهم إخواننا الذين يطعنون في الشيخ، يحسبون بذلك أنهم يدافعون عن الإسلام ويحرسونه من أهل الضلال!

إنك حين ترى جمهرة العلماء والصالحين يثنون على الشيخ ويجلونه ويترحمون عليه ويتوجعون لفقده، فمن البداهة أنهم لم يفعلوا ذلك وقد اجتمعوا على النفاق والكذب وبيع دينهم بدنيا غيرهم! ومن البداهة أيضا أنهم لم يفعلوا ذلك جهلا بما علمتَه أنت، لا سيما وهم الذين يشتغلون بالفقه ليلهم ونهارهم بينما لستَ في ذلك.. وإن ما في جعبتك من المطاعن التي تبلغ العشرة أو العشرين ليست بخافية عليهم، ولهذا لا يعدو الأمر أن يكون له احتمالات:

إما أن هذه المطاعن ليست بأخطاء أصلا، وأن الشيخ حين قال بها كان له فيها وجه مقبول، أو حتى عذر مقبول. ولكنك جهلت هذا الوجه أو هذا العذر فرأيت الخطأ فيما ليس في نفسه من الخطأ.

وإما أنها أخطاء حقيقة وقع فيها الشيخ ولكن ليس لها في حقيقة الأمر ما لها في نفسك، فلعلها من الفروع وأنت تراها من الأصول، ولعلها من الخلاف السائغ وأنت تراها من غير غير الخلاف السائغ لجهلك بالخلاف أو لعدم تصورك له في المسألة.

وإما أنها أخطاء كبيرة حقا، ولكنها مغمورة في بحر حسنات الرجل، فكانت الحصيلة النهائية في صالح الشيخ، ولذلك نطقت سائر هذه الألسنة بالمدح والثناء والتحدث عن فضله وبذله.

لا سيما وفي صدر الذين أفاضوا بالثناء على الشيخ رجال موصوفون بالعلم والشجاعة، ولا يعرف عنهم نفاق أو خيانة، أعني بذلك أمثال الشيوخ: محمد الحسن ولد الددو، والصادق الغرياني، وأسامة الرفاعي وكثيرون وكثيرون كثيرون.. وإذا تيسر لك فتح كتابٍ مما كُتب في ذكرى بلوغه السبعين أو التسعين لوجدتَ جلة المشيخة، من مختلف المدارس، يكتبون في الثناء عليه.. وكثيرون من مخالفيه كتبوا في الترحم عليه واقتضبوا في العبارة، فكان ذلك منهم إقرار بأن الشيخ من المبرزين في أهل الإسلام وأنه شأنه شأن من يرجى له الرحمة لما قدَّم وبذل، بل حتى الذين سكتوا ولم تسمح نفوسهم بالترحم عليه.. كل هؤلاء كانوا في معسكر الذين رأوا أن الشيخ من أهل الخير والفضل، ولم يروا أن المقام مقام تحذير من صاحب ضلالة يوشك أن يُفتن الناس به.

فكيف رأيتَ أنت أنك أحرص من هؤلاء جميعا على دينهم ودين الناس، فاندفعت ترى نفسك مكلفا بالطعن في الرجل، وإلا ضلّ الناس إن سكتَّ ولم تتكلم؟!

إن الكلام عن الشيخ ومنهجه، ووضع "أخطائه" في موضعها أمر لا يتسع له هذا المقام، لكن ثمة أصليْن كبيريْن تجب الإشارة إليهما:

الأول: أنه لا يمكن تقييم ما يُقال أنه أخطاء الشيخ على غير منهجه وأصوله، فكما لا يُقيم رأي للأحناف على قواعد المالكية أو للشافعية على قواعد الحنابلة، فكذلك لا يمكن تقييم عمل الشيخ القرضاوي على قواعد المدرسة السلفية أو المدرسة الجهادية أو مدرسة الإيمان بالتقليد المذهبي! وإنما الحق أن يُنظر إلى عمل الشيخ ضمن المنهج الذي سار عليه وأعلنه وقعَّد له.

الثاني: أن في المدرسة السلفية نزوعا إلى تكييف المسألة تكييفا عقديا، فإذا بالمخالفة في الفروع تتطور سريعا لتلتحق بالأصول والعقائد، فإذا بوسيلة مثل دخول البرلمان -مثلا- تندرج بعد تسلسل بسيط لتكون تحت أصل الرضا بالحكم بغير ما أنزل الله، بل الرضا بالشرك بالله.. وهو أمر لا يخطر ببال الذين أباحوا دخول البرلمان!.. وهذه النزعة ضخمت كثيرا من الخلاف، بل وضغطت على الكلمات الطبيعية لتولد منها معاني عظيمة لم يقصدها المتكلم بحال.

وبعد ذلك كله، فالأمر الذي يغيب عن الكثيرين أن الشيخ القرضاوي كان عالم أمة، ولم يكن عالم جماعة ولا حزب ولا دولة، وكان مشتبكا مع نوازل الأمة ولم يكن منعزلا عنها، ومثل هذا الشيخ حين يوجد في عالم شكَّله أعداء الإسلام وحددوا مجالاته وقوانينه، يجد نفسه أمام أوضاع لا حلّ فيها إلا اختيار أدنى المفسدتيْن، أي أنه يفتي بالوقوع في مفسدة.. ومن العجيب أن الكثيرين ممن يأخذون راحتهم في الطعن بالشيخ ربما اضطرته الظروف إلى الحياة في الغرب فرارا بنفسه وبحثا عن أمنه (وما عليه في هذا من حرج)، ولكنه في ظل الحياة هناك، اضطر أن يفتح لنفسه حسابا بنكيا، واضطر أن يدخل أولاده مدارس تدرس لهم الإلحاد وتخلط البنات بالبنين، وهو يحتكم في كل حركاته وسكناته إلى قانونهم المناقض للشريعة بطبيعة الحال.. يفعل كل ذلك ويرى نفسه مضطرا! ولستُ أجادل في أنه مضطر معذور.. ولكن هذا الرجل نفسه إذا كان عالما يستفتى في النوازل فإنه سيفتي كثيرا من الناس بما أفتى به لنفسه.. وحينها سيراه الجالس في البلد المسلم مترخصا ومستهترا ومستهينا بأحكام الله، وربما طوّر المسألة بقليل من التسلسل واللوازم ليجعله راضيا بالشرك بالله!!

إنك لن تجد عالِما مشتبكا مع نوازل الأمة في هذين القرنين الأخيرين، إلا وجدت له فتاوى مستغربة.. وأكثر الطاعنين في أولئك ليس لهم من فضل الاشتباك مع نوازل الأمة مثل ما كان للأولين، وتلك قاعدة الحياة: من عمل كثيرا أخطأ كثيرا، ولكن القاعد لا يخطئ! وما من شك في أن الخطأ -في هذا المقام- خير من القعود!

أسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ بواسع رحمته، وأن يخلف علينا بخير منه، وأن يحسن أخلاقنا ويوسع صدورنا للمسلمين جميعا، لا سيما أهل الفضل والبذل منهم.