كان من فقه ابن عباس -رضي الله عنهما- حين
ذهب لمحاورة الخوارج، أن بدأ كلامه معهم بقوله: "جئتكم من عند صحابة رسول
الله ﷺ، وليس فيكم منهم أحد".
فأشار لهم إلى حقيقةٍ كان يجب أن تردعهم وتشككهم فيما هم عليه، وهي أن ما هم عليه من الرأي والموقف لا يوافق عليه صحابي واحد من صحابة النبي ﷺ، هذا مع أن المعسكر الآخر -معسكر معاوية رضي الله عنه- فيه صحابة قاتلوا عليا رضي الله عنه.
فمجرد مخالفة علي، بل ومقاتلته، كانت رأيا ذهب إليه بعض أولئك الصحابة، ولكن موقف الخوارج لم يذهب إليه ولا صحابي واحد!! فكان ذلك علامة على ضلالهم!
ووضع علماء الأصول قاعدة ذهبية كان لها أعظم الفضل والأثر في ضبط الحركة الفقهية عبر التاريخ، وهي أنه لا يجوز مخالفة سلف الأمة، فإذا اتفقوا على رأي، لم يكن جائزا لمن بعدهم أن يخالف هذا الرأي، فإن الحق لن يخرج عنهم، إذ هم الموصوفون بالخيرية على لسان رسول الله، وهم الذين نزل عليهم الوحي، وأخذوا العلم عن رسول الله، فمخالفتهم هي في واقع الأمر قولٌ بأنهم قد أخطؤوا الحق وضلوا عنه، والأمة لا تجتمع على ضلالة.
وكذلك إذا اختلف هؤلاء الصحابة والتابعون على رأيين، لم يكن جائزا لمن بعدهم إحداث رأي ثالث، وذلك أن هذا الرأي الثالث هو رمي لهم بأن جميعهم قد ضلوا الحق وأخطؤوه، وهو ممتنع كذلك، إذ لا يجتمعون على ضلالة.. وكذلك إذا اختلفوا على ثلاثة أقوال لم يجز إحداث رأي رابع.. وهكذا، وثمة تفاصيل يعرفها من يدرس الأصول.
ولذلك كان علماء الأمة حساسين للغاية لمخالفة السلف الأوائل، وإذا ورد الشيء عن الصحابي توقف عنده وخضع له أولئك الذين شهد لهم العالَم بالعبقرية، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولم يتجرؤوا أن يخالفوا ما وصل إليهم من علم الصحابة، مع ما هم عليه من الذكاء ونفاذ العقل وقوة القريحة.
ومن هذا الباب قيل: إذا أردت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.. وقيل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها سلف.
كان هذا كله، خشية أهل العلم من الوقوع في الخطأ في ذات المسألة، أو الوقوع في اتهام السلف الأوائل بأنهم ضلوا عن الحق.
وحين استقرت المذاهب الفقهية، كادت الأمة أن تتفق على اتباع المذاهب الأربعة المشهورة، وثمة إقرار تام بأن الحق ليس محصورا في تلك المذاهب الأربعة؛ إذ ليس لاتفاقهم قوة اتفاق الصحابة، ولأنهم لم يتفردوا بالاجتهاد، فثمة غيرهم ممن بلغ مرتبة الاجتهاد ولكن مذاهبهم لم تخدم ولم تحرر كمذاهب الليث والأوزاعي والثوري والطبري وغيرهم.. مع ذلك فإنك تجد إماما مثل الذهبي يقول: نهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها.
فاستعمل لفظ "نهاب"، ليعبر به عن معنى أن الحق غالبا لن يتجاوز هذه المذاهب الأربعة إذا اتفقوا، ولكن لا يمكن الجزم بهذا.
تلك -عزيزي القارئ- مقدمة طويلة أردت منها لفت النظر إلى شيء واحد: أنك إذا رأيت جمهرة من أهل الصلاح اتفقوا أو غلب عليهم الثناء على شخص فيجب أن تتهيب اقتحام الطعن فيه، أو وجدت منهم الطعن في أحد فكذلك.. فإن الله جعل أهل العلم والصلاح معالم هداية وإرشاد وتوجيه.
ومناسبة هذا الكلام ما رأيتُه من الطعن في الشيخ العلامة الراحل يوسف القرضاوي -رحمه الله وبرد مضجعه- بعيد وفاته، فأما الذين طعنوا فيه لأنهم من أتباع السيسي وابن زايد وابن سلمان، فهؤلاء لا نأبه لهم ولا نلتفت إليهم، فلا قيمة لهم ولا لكلامهم، فإنهم في معسكر الباطل الصريح الذي يقف على رأسه الشيطان بنفسه، وأما الذين نقصدهم بالحديث هنا فهم إخواننا الذين يطعنون في الشيخ، يحسبون بذلك أنهم يدافعون عن الإسلام ويحرسونه من أهل الضلال!
إنك حين ترى جمهرة العلماء والصالحين يثنون على الشيخ ويجلونه ويترحمون عليه ويتوجعون لفقده، فمن البداهة أنهم لم يفعلوا ذلك وقد اجتمعوا على النفاق والكذب وبيع دينهم بدنيا غيرهم! ومن البداهة أيضا أنهم لم يفعلوا ذلك جهلا بما علمتَه أنت، لا سيما وهم الذين يشتغلون بالفقه ليلهم ونهارهم بينما لستَ في ذلك.. وإن ما في جعبتك من المطاعن التي تبلغ العشرة أو العشرين ليست بخافية عليهم، ولهذا لا يعدو الأمر أن يكون له احتمالات:
إما أن هذه المطاعن ليست بأخطاء أصلا، وأن الشيخ حين قال بها كان له فيها وجه مقبول، أو حتى عذر مقبول. ولكنك جهلت هذا الوجه أو هذا العذر فرأيت الخطأ فيما ليس في نفسه من الخطأ.
وإما أنها أخطاء حقيقة وقع فيها الشيخ ولكن ليس لها في حقيقة الأمر ما لها في نفسك، فلعلها من الفروع وأنت تراها من الأصول، ولعلها من الخلاف السائغ وأنت تراها من غير غير الخلاف السائغ لجهلك بالخلاف أو لعدم تصورك له في المسألة.
وإما أنها أخطاء كبيرة حقا، ولكنها مغمورة في بحر حسنات الرجل، فكانت الحصيلة النهائية في صالح الشيخ، ولذلك نطقت سائر هذه الألسنة بالمدح والثناء والتحدث عن فضله وبذله.
لا سيما وفي صدر الذين أفاضوا بالثناء على الشيخ رجال موصوفون بالعلم والشجاعة، ولا يعرف عنهم نفاق أو خيانة، أعني بذلك أمثال الشيوخ: محمد الحسن ولد الددو، والصادق الغرياني، وأسامة الرفاعي وكثيرون وكثيرون كثيرون.. وإذا تيسر لك فتح كتابٍ مما كُتب في ذكرى بلوغه السبعين أو التسعين لوجدتَ جلة المشيخة، من مختلف المدارس، يكتبون في الثناء عليه.. وكثيرون من مخالفيه كتبوا في الترحم عليه واقتضبوا في العبارة، فكان ذلك منهم إقرار بأن الشيخ من المبرزين في أهل الإسلام وأنه شأنه شأن من يرجى له الرحمة لما قدَّم وبذل، بل حتى الذين سكتوا ولم تسمح نفوسهم بالترحم عليه.. كل هؤلاء كانوا في معسكر الذين رأوا أن الشيخ من أهل الخير والفضل، ولم يروا أن المقام مقام تحذير من صاحب ضلالة يوشك أن يُفتن الناس به.
فكيف رأيتَ أنت أنك أحرص من هؤلاء جميعا على دينهم ودين الناس، فاندفعت ترى نفسك مكلفا بالطعن في الرجل، وإلا ضلّ الناس إن سكتَّ ولم تتكلم؟!
إن الكلام عن الشيخ ومنهجه، ووضع "أخطائه" في موضعها أمر لا يتسع له هذا المقام، لكن ثمة أصليْن كبيريْن تجب الإشارة إليهما:
الأول: أنه لا يمكن تقييم ما يُقال أنه أخطاء الشيخ على غير منهجه وأصوله، فكما لا يُقيم رأي للأحناف على قواعد المالكية أو للشافعية على قواعد الحنابلة، فكذلك لا يمكن تقييم عمل الشيخ القرضاوي على قواعد المدرسة السلفية أو المدرسة الجهادية أو مدرسة الإيمان بالتقليد المذهبي! وإنما الحق أن يُنظر إلى عمل الشيخ ضمن المنهج الذي سار عليه وأعلنه وقعَّد له.
الثاني: أن في المدرسة السلفية نزوعا إلى تكييف المسألة تكييفا عقديا، فإذا بالمخالفة في الفروع تتطور سريعا لتلتحق بالأصول والعقائد، فإذا بوسيلة مثل دخول البرلمان -مثلا- تندرج بعد تسلسل بسيط لتكون تحت أصل الرضا بالحكم بغير ما أنزل الله، بل الرضا بالشرك بالله.. وهو أمر لا يخطر ببال الذين أباحوا دخول البرلمان!.. وهذه النزعة ضخمت كثيرا من الخلاف، بل وضغطت على الكلمات الطبيعية لتولد منها معاني عظيمة لم يقصدها المتكلم بحال.
وبعد ذلك كله، فالأمر الذي يغيب عن الكثيرين أن الشيخ القرضاوي كان عالم أمة، ولم يكن عالم جماعة ولا حزب ولا دولة، وكان مشتبكا مع نوازل الأمة ولم يكن منعزلا عنها، ومثل هذا الشيخ حين يوجد في عالم شكَّله أعداء الإسلام وحددوا مجالاته وقوانينه، يجد نفسه أمام أوضاع لا حلّ فيها إلا اختيار أدنى المفسدتيْن، أي أنه يفتي بالوقوع في مفسدة.. ومن العجيب أن الكثيرين ممن يأخذون راحتهم في الطعن بالشيخ ربما اضطرته الظروف إلى الحياة في الغرب فرارا بنفسه وبحثا عن أمنه (وما عليه في هذا من حرج)، ولكنه في ظل الحياة هناك، اضطر أن يفتح لنفسه حسابا بنكيا، واضطر أن يدخل أولاده مدارس تدرس لهم الإلحاد وتخلط البنات بالبنين، وهو يحتكم في كل حركاته وسكناته إلى قانونهم المناقض للشريعة بطبيعة الحال.. يفعل كل ذلك ويرى نفسه مضطرا! ولستُ أجادل في أنه مضطر معذور.. ولكن هذا الرجل نفسه إذا كان عالما يستفتى في النوازل فإنه سيفتي كثيرا من الناس بما أفتى به لنفسه.. وحينها سيراه الجالس في البلد المسلم مترخصا ومستهترا ومستهينا بأحكام الله، وربما طوّر المسألة بقليل من التسلسل واللوازم ليجعله راضيا بالشرك بالله!!
إنك لن تجد عالِما مشتبكا مع نوازل الأمة في هذين القرنين الأخيرين، إلا وجدت له فتاوى مستغربة.. وأكثر الطاعنين في أولئك ليس لهم من فضل الاشتباك مع نوازل الأمة مثل ما كان للأولين، وتلك قاعدة الحياة: من عمل كثيرا أخطأ كثيرا، ولكن القاعد لا يخطئ! وما من شك في أن الخطأ -في هذا المقام- خير من القعود!
أسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ بواسع رحمته، وأن يخلف علينا بخير منه، وأن يحسن أخلاقنا ويوسع صدورنا للمسلمين جميعا، لا سيما أهل الفضل والبذل منهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق