الجمعة، ديسمبر 23، 2022

عاصفة طالبان وتعليم البنات!

 

أعسر الكلام كلامٌ يضطر المرء معه لبيان موقفه بعد أن أسيئ فهمُه!.. فهذه السطور من هذا النوع، فالله المستعان!

 1. جاء الخبر بأن طالبان منعت مؤقتا تعليم النساء! فهاج الناس في كل واد، وتهاطلت بيانات المؤسسات الرسمية والدينية تدين ما حصل!

 2. أقسم بالله غير حانث أن ثلاثة أرباع -إن لم يكن تسعة أعشار- هذه الإدانات مغرضة، وأنها وجدت فرصة لتنهش في طالبان، فلم تفعله حبا في المرأة ولا دفاعا عنها، بل بغضا في طالبان!

 دليل ذلك أن أفغانستان تعيش منذ التحرر حصارا وهموما ومجاعات وسوء تغذية وقلة أدوية، بل أصابها زلزال مهلك، ثم انتعش فيها الدواعش -بدعم الدول المحيطة وغير المحيطة- وما كلَّف أحد هؤلاء نفسه أن يتعاطف!

 3. وإذا بالبيانات والتغريدات الساخطة تجتمع على معنى واحد: أن حرمان المرأة من التعليم ليس من الإسلام، وهو عمل يشوه صورة الإسلام!

 وهذا يقذف في روع القارئ أن طالبان أصدرت فتوى شرعية بحرمة تعليم النساء.. لا أنه كان قرارا بإيقاف مؤقت لهذا التعليم حتى يتسنى الظرف المناسب.

 4. سألت بعض الأصدقاء والمتابعين من الأفغان ومن غيرهم -وفيهم معارضون لطالبان- عن خلفية هذا القرار وأسبابه، وجاءتني ردود عدة، لا أستطيع الآن أن أفصل أيها هو الصحيح.

 فقائل يقول: قلة الموارد والظرف الاقتصادي، وقائل يقول: مشكلة الخوف والظرف الأمني، وقائل يقول: مشكلة في المناهج الموروثة منذ زمن الاحتلال، وقائل يقول: مشكلة في الالتزام بالخط الشرعي، وهو فرع عن الميراث من زمن الاحتلال الأمريكي

 (ونعرف بطبيعة الحال أن الأمريكان لم يكونوا يقصّرون في سعيهم لصياغة الجيل الموافق لهواهم وأفكارهم.. ونحن العرب أبناء تجارب الاحتلال، ولا زلنا نعاني حتى اللحظة من الأفكار التي انتشرت في مجتمعاتنا بفعل التعليم الأجنبي، حتى نشأ فينا من هو أخلص للغرب من بعض الغربيين أنفسهم.. فالخطر لا هو بعيد ولا هو مظنون).

 5. ثم إن طالبان في ظرف استثنائي، بعد تجربة احتلال، ومثل هذا الظرف الاستثنائي إذا مرّ بأمة من الأمم، فإنه يحصل فيها من الموازنات والاضطرارات ما هو خلاف الطبيعة، والغرب نفسه حين كان يمر ببعض هذه الظروف في الحروب أو في غيره، كان يأخذ المرأة إلى المصنع فتعمل بنصف أجر الرجل إذا افتقد اليد العاملة، أو كان يعيدها إلى البيت لئلا تعمل إذا قدّر أن عملها يثير مشكلات اجتماعية أو أخلاقية.. وحديث هذا يطول، يعرفه من يفتش في أخبار المجتمعات في أزمنة الحروب والثورات.

 6. ومن الجدير باستصحابه في حالة طالبان على وجه الخصوص أمران:

 أ. الأول: أنهم قوم صادقون ولا يهتمون بالمناورة، وإذا رفضوا شيئا رفضوه بغير اعتبار (كما صرحوا بوضوح برفض الديمقراطية مع أنها بالنسبة لمثقفي عصرنا كالدين أو هي فوق الدين.. وكما صرحوا باستئثارهم بالحكم لأنهم من قاوموا الاحتلال مع أن أغنية التوافق الوطني هي الترتيل المقدس لعصرنا هذا أيضا)..

 فالقوم حين يتحدثون عن أمر يرونه غير شرعي يقولون هذا صراحة، فلا يُفهم من قرارهم هذا ما يُفهم عادة من قرارات الحكومات والرؤساء، أن له باطن وظاهر، وله أغراض خفية تختبيء وراء السطور.. بل يفهم منه أنهم يقولون قناعتهم.

 ب. والثاني: أن لهم تجربة سابقة في الحكم، وقد جاوزوا في الحكم عاما.. وفي كلا الحقبتيْن لم يتعاملوا مع مسألة تعليم البنات على أنها مخالفة شرعية تستوجب التصدي لها.. وأن هذه التهمة على وجه التحديد كم وُجِّهت لهم، وأجابوا عنها قديما وحديثا.. فالزعم بأنهم يحرمون تعليم الفتيات دعوى ينقضها الواقع العملي.

 7. فما موقفك أنت من تعليم المرأة؟

 جاءني هذا السؤال السخيف، كأن موضوع تعليم المرأة هو محل جدل بين المسلمين أو بين الإسلاميين.. ولأننا في زمن أحمد موسى وتوفيق عكاشة، فيجب أحيانا أن تتعامل مع الغباء وكأنه منطق!

 والجواب مباشرة: تعليم المرأة إن لم يكن واجبا شرعيا، فهو ضرورة في واقعنا المعاصر.

 ولم يكن النقاش دائرا بين الإسلاميين حول فكرة التعليم نفسها، بل حول غايتها وأهدافها من جهة، وحول ضوابطها من جهة أخرى.. وهذا هو الطبيعي البديهي، فإن الإنسان لا يتعلم لمجرد التعليم، بل يتعلم ليحقق بهذا العلم غايات مقصودة.. لهذا كان التعليم في أي مجتمع جزءا من ثقافة المجتمع ووعيه ونظامه الاجتماعي.

 ولا يختلف الإسلاميون مثلا في ضرورة وجود الطبيبة والمعلمة، ولكن يختلفون في ضرورة وجود المهندسة والمذيعة والموظفة الإدارية.. فثمة أعمال لا غنى فيها عن المرأة، وثمة أعمال لا ضرورة أن تعمل فيها المرأة، وبالتأكيد فثمة أعمال يحرم أن تمارسها المرأة.. فالتعليم في كل مجتمع جزء منه ومن نظامه.

 لعل السائلين قد ارتاحوا الآن، مع أني مؤمن أنهم لم يحدث!

 8. لكن تعالوا نفترض أن طالبان قد أصدرت فتوى شرعية بأن علماءها يرون حرمة تعليم المرأة.. وهنا أحاول أن أدفع التفكير إلى أقصى حد، جدلا.. فكان ماذا؟!

 لن يحذف هذا نضالهم وكفاحهم وصلابتهم التي تستحق كل إعجاب، وكل ما في الأمر أن سيكون هذا الجانب جزء من أخطائهم وتشددهم، لن نتوانى عن بذل النصح فيه، ولكن في كل الأحوال: لن يحذف تشددهم في جانب فضائلهم في جانب آخر. ولن يمسح هذا ما لهم علينا من حق الأخوة والمناصرة، ولن يخرجهم هذا من زمرة الذين يثيرون الإعجاب لدى كل مهتم بتحرر الشعوب من الاحتلال.

 ونحن نكون أحمق الأمم، بل نكون أسوأ الإخوة، إن كان الذنب الواحد أو الخطيئة الواحدة تنقلنا من المحبة والمناصرة إلى العدواة والمفاصلة مع شعب مسلم!

 9. مع أن بعض الذين أدانوا طالبان من المثقفين الذين يقرؤون ويستضيفون ويناقشون جماعة من مفكري ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، مثل إدوارد سعيد ووائل حلاق وطلال أسد وجوزيف مسعد، ويشنفون آذاننا دائما بأسماء فوكو وتشومسكي... إلخ!

 مع أنهم كذلك، إلا أن معالجتهم لهذا الموقف تحديدا بدا فيه وكأنهم دولتيون سلطويون يحصرون معنى التعليم في المدرسة الحكومية النظامية، مع أن حالة أفغانستان لا يمكن الحديث عنها باعتبارها دولة حديثة، بل صرّح عدد من المسؤولين الأمريكان بإخفاق عملية زرع الحكومة المركزية هناك..

 لكن القصد الآن: إذا كنا نحتفي بالأفكار والمفكرين الذين يحذرون من توغل الدولة وهيمنتها، ويحذرون من أن المدرسة ليست مجرد وسيلة تعليم بل هي وسيلة تنميط وقولبة وهي أداة الدولة في إنتاج العبيد والموظفين المتشربين للقيم السلطوية.. إذا كان ذلك كذلك، فيفترض بقومنا هؤلاء أن يكونوا سعداء بانكماش قبضة أي سلطة عن أي منظومة اجتماعية، رغبة من السلطة أو عجزا.. فإن هذا هو الأولى بالذي يفكر في تحرير المجتمعات.

 فإذا كان صاحبنا هذا معاديا لطالبان ويراها حركة متشددة، فالأولى به أن يطرب لمثل هذا القرار، بل أن يتشوف إلى لحظة لا يكون فيها ثمة تعليم ولا مدارس خاضعة لنظامهم أصلا، كي لا تُخَرِّج لنا -وفق منظورهم- أجيالا جديدة من الطالبانيين!

 فيا لله! كيف ينفصل التنظير عن الواقع في لحظة واحدة؟!

 إن المدارس اختراع حديث، أقصد المدارس التي تنظمها الدولة وتشرف عليها وتضع لها المناهج وتدير دولابها.. والناس قبل هذه المدارس كانوا يتعلمون، يتعلمون بأشكال متعددة، في مدارس أهلية أو في مدارس فنية عملية، أو يتعلم الواحد منهم ما هو ضروري لعمله وصنعته على شيوخ المهنة!

 ولم يكف الناس عن التعلم حين لم توجد المدارس.. ونحن أبناء الثورات، ونعرف ونرى ونبصر كيف استطاعت شعوبنا أن تتعلم خارج المدارس حين اضطرتهم ظروف الثورات والتهجير والنكبات إلى هذا.. من أول المبادرات التي صنعت مدارس تحت الأنقاض المهدومة، وحتى المبادرات التي أبدعت في إنتاج المنصات والتطبيقات الإلكترونية.. وخرج من هذا وذاك من الكوادر والعقول ما ينافس -ويتفوق- على خريجي المدارس النظامية الرسمية.

 فأن تلغي دولةٌ ما تعليم الفتيات، فلن يكون هذا هو نهاية العالم.

الاثنين، ديسمبر 05، 2022

خير أصحاب لخير نبي

 

قال الفرزدق يوما: "إنّا لنعرف سجدة الشعر كما تعرفون السجدة من القرآن"، يريد بذلك أن يقول إن الشعر يبلغ أحيانا في قوة المعنى وجودة التعبير ما يخضع له الشعراء لسطوته وإطرابه، وأكاد أقول: لكل قومٍ في فنِّهم شيءٌ مثل هذا، العبارة يطلقها الخبير في بابه فتسري مسرى النار في الهشيم والنور في الليل البهيم! فتشهد لصاحبها بالقوة والعبقرية، وتنحل بها إشكالات وتنفتح بها آفاق وتأملات!

شعرتُ بقول الفرزدق هذا حين قرأت كلمة الإمام القرافي التي يقول فيها: "لو لم يكن لرسول الله ﷺ معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته"[1].

فتلك كلمةٌ تشهد لصاحبها بالقوة والعمق في قراءة التاريخ وفهمه، وفي معرفة أحوال الرجال وتقدير أثرهم، فإن أحوال الصحابة هي من معجزات النبي ﷺ، فما من شخص عظيم من صاحب دعوة أو مؤسس حضارة قد خلَّف بعده من أصحابه مثلما كان صحابة محمد ﷺ.

فإنه لم يقم أحد ببلاغ دين الأنبياء مثلما قام أصحاب النبي ﷺ بإبلاغ دينه لمن بعدهم، فقد حفظوا صفته وكلامه وإشاراته وسيرته، وكانوا يعلمونها أبناءهم كما يعلمونهم السورة من القرآن الكريم، ولم ير النبي منهم ما رآه موسى من أصحابه، ومات بينهم عزيزًا مُمَكَّنًا لا كما وُصِل إلى عيسى وأريد صلبُه من بين حوارييه! فهم خير أصحاب لنبي في الدين وفي الدنيا!

كذلك لم يقم أحدٌ بالحفاظ على إرث زعيم وقائد كما قام بذلك أصحاب محمد مع إرثه، فما من مؤسس مملكة وحضارة ودولة كان له من طول الأثر وخلود الذكر وقوة المملكة واتساعها وطول بقائها بعد موته كما كان للنبي محمد ﷺ، فقد رحل النبي ﷺ وقد خضعت له الجزيرة، وبعد مائة عام من رحيله كانت دولة الإسلام قد بلغت من الصين إلى فرنسا! بينما ما مرَّ القرنُ على رحيل جنكيز خان إلا وكانت مملكته قد انقسمت إلى أربعة! وما إن مات الإسكندر الأكبر حتى انقسمت مملكته من بعده.

إن صحابة النبي ﷺ ينافسون عظماء الدنيا في كل باب، بل المنافسة محسومة لهم في كل باب، فما في الدنيا خلفاء سادوا الناس وساسوهم بالعدل والرحمة والفضل كما فعل خلفاء النبي ﷺ، وليس في الدنيا زعيم سياسيٌّ كأبي بكر استلم الحكم والعاصمة مهددة بالاجتياح ثم مات عنها وهي قوة عظمى تقاتل القوتيْن العظميين في وقت واحد، وذلك كله في عامين. وليس في الدنيا حاكم مثل عمر تضاعفت مساحة البلاد في عهده أربع مرات ودخلت في ظله خمسة أعراق على الأقل دون أن تشهد توسعاته مذابح ومظالم بل كان عهده مثالا للعدل.

والعسكريون في كل زمن وأرض يعرفون ويخضعون لخالد بن الوليد، بطل الفتوح في فارس والروم، وصاحب أسرع الفتوحات ضد أقوى الإمبراطوريات في زمنه، ومثله نجوم الفتح معه كالمثنى بن حارثة الشيباني، وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح.. ثم يزيدُ هؤلاء الصحابة عن سائر العسكريين أنهم لم يدرسوا الحرب في كليات ولا أكاديميات ولا خاضوا مناورات تدريبية! ومع ذلك فههم أصحاب "أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله"[2]. ثم يزيدون على سائر العسكريين كذلك بما كان فيهم من الزهد والورع، والنزول السهل السلس عن الإمارة والمنصب[3]!

بل حتى العِلْمُ والذكاء والعبقرية، فإن قومًا ربما ظنُّوا أن هؤلاء الصحابة كانوا من بساطة الحياة في حال من السذاجة والبداوة والجهالة، وأحتاج أن أتوقف هنا لحظة لأحكي حكاية مهمة: هذا القرافي، الفقيه الأصولي المحقق المدقق، صاحب الدرة البديعة في علم الأصول، أي: كتابه "الفروق، لا يعرف كثير من الناس أنه كان مهندسا مخترعا، وأنه قبل أكثر من ثمانية قرون اخترع ما نسميه الآن إنسانا آليا يقوم بخدمة صاحبه، يقول في وصفه: "بلغني أن الملك الكامل (الأيوبي) وُضِعَ له شمعدان، كلما مضى من الليل ساعة انفتح بابٌ منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة السلطان، فإذا انقضت عشر ساعات طلع شخص على أعلى الشمعدان وقال: صبَّح الله السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع". ثم يضيف القرافي بأنه لما سمع بنبأ هذا الاختراع صنع مثله، يقول:

"وعَملتُ أنا هذا الشمعدان وزِدْتُ فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحُمرة الشديدة في كل ساعة لهما لون، فيعرف التنبيه في كل ساعة، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره، ويغلق باب ويفتح باب، وإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان وإصبعه في أذنه يشير إلى الأذان، غير أني عجزت عن صنعة الكلام، وصنعت أيضا صورة حيوان يمشي ويلتفت يمينا وشمالا ويصفر ولا يتكلم"[4].

أحكي هذه القصة لأنبه إلى أن هذا الرجل البارع في علوم الدين والدنيا، هو الذي يقول: "أصحاب رسول الله ﷺ كانوا بحارًا في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسات والعلوم الباطنة والظاهرة"[5].

وهذا ابن تيمية، شيخ الإسلام الذي لا يختلف أحد على قوة عقله وعبقريته، يذكر أن أذكياء الأمة كلها عبر التاريخ كانوا يتوقفون عند قول الصحابي، فيستدل على ذكاء الصحابة بذكاء أتباعهم، يقول: " كل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس. واعتَبْر ذلك بأتباعهم، فإن كنت تشك في ذكاء مثلِ مالكٍ والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزُفَر بن الهذيل والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي والبخاري ومسلم وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي، بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من أمثالهم، فإن شككت في ذلك فأنت مُفْرِطٌ في الجهل أو مكابر، فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم، حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد خالفه صاحب آخر. وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة: أنهم فوقنا في كل عقل وعلم، وفضل وسبب يُنال به علم، أو يُدرك به صواب، ورأيهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا"[6].

فهذا شأنهم في العلم والذكاء، وقوة العقل والفهم والعبقرية..

وأي شيء أدلُّ على قوة الشخصية وشدة العزم وصلابة النفس من قومٍ انخلعوا من أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم وولائهم لأقوامهم، ليتبعوا رجلا مضطهدا جاء بدعوة جديدة متعرضين بهذا للعذاب والنبذ في بيئة لا انتماء فيها ولا رابطة أقوى من رابطة الدم؟! بل إن بعضهم -كمصعب بن عمير- انخلع مما هو فيه من طيب العيش ورغد الحياة ليعيش حياته بعدها فقيرا معدما حتى يموت. وبعضهم ينزل عن زعامة الناس ليُسَلِّمها طائعا مختارا لرجل غريب طارئ في بيئة أشدُّ ما عليها أن يحكمها من ليس منها كما فعل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وزعماء الأنصار؟! هذا فضلا عن الذين خرجوا من أموالهم كلها أو شطرها أو قسمٍ عظيم منها لينفقوها في سبيل الله، حتى كان بعضهم يتصدق بالقبضة من التمر لا يجد غيرها!! وبعضهم كانت عينه تفيض من الدمع لأنه لم يجد سبيلا ليجاهد بنفسه في سبيل الله!!

إن الذي تميَّز به الصحابة عن سائر الناس هو ما انطوت عليه نفوسهم من الدين والإيمان والتقوى، والزهد في الدنيا وطلب الآخرة، وبهذا كان عمل الواحد منهم لا يُلحق، كما وصف ذلك النبي ﷺ بقوله: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه"[7]، وكما فسره ابن مسعود رضي الله عنه حين قال للتابعين: "أنتم أكثر صلاة وأكثر صياما وأكثر جهادا من أصحاب محمد ﷺ، وهم كانوا خيرا منكم. قالوا: وبم ذاك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة".

إن فضل الصحابة ومكانتهم يجتمع عليه العقل والنقل، فلو كان الإنسان كافرا لا يؤمن بالله ولا بالرسول لرأى في تاريخ هؤلاء من وجوه العظمة ما يخضع له، سواءٌ في ذلك تغيرهم هم في أنفسهم وانتقالهم الكبير بل انسلاخهم التام من الجاهلية إلى الإسلام، أو تغييرهم للعالم من حولهم، إذ العالم بعدهم غير ما كان قبلهم تماما، فكأنهم قلبوا الدنيا وأعادوا نظامها من جديد!

فأما المسلم، فيكفيه ما جاء في فضل هؤلاء في كتاب الله وسنة رسوله، بل يكفيه نصٌّ واحدٌ فحسب من ذلك كله، فكيف بالمسلم يمرُّ على قول الله تعالى {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} ولا تأخذه رعدة؟! إن الله تعالى ذكَّر نبيَّه بأن هؤلاء الصحابة هم من نِعَم الله عليه، وهم من تأييد الله له، وأن الله تعالى غرس في قلوبهم الحب والألفة التي لا يُستطاع بلوغها {وألَّف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن ألّف بينهم}.

وما من مسلم يُعَظِّم رسول الله، ثم يرى منه هذا الحب لصحابته، إلا وهو مدفوعٌ لمحبتهم، محبة تغلب عليه وتأخذ منه بأقطار نفسه! إذ كيف يجتمع في قلبٍ واحدٍ حب النبي وبغض أصحابه! وذلك كان جواب ابن عمر لرجل من الخوارج جاء يسأله عن عثمان، فمدحه ابن عمر، ثم رأى الكراهة في وجه الخارجي فقال له: لعل هذا يسوؤك؟ قال الخارجي: نعم. قال ابن عمر: فأرغم الله بأنفك! ثم سأله الرجل عن عليّ، فمدحه ابن عمر وأشار إلى بيت علي يقول: هو ذاك بيتُه أوسط بيوت النبي ﷺ، ثم رأى الكراهة أيضا، فقال له: لعل هذا يسوؤك؟ قال الخارجي: نعم. قال ابن عمر: فأرغم الله بأنفك!

وهذه الإشارة الذكية من ابن عمر من أن عليًّا كان بيته أوسط بيوت النبي، أي ذلك دليل محبة النبي له، هي مدخلٌ يختبر المرء به إيمانه، فإن النبي ﷺ صاهر أبا بكر وعمر، وزوّج ابنتيه من عثمان وزوّج أحب بناته إليه من علي! ولا يكاد يُرى سائرا إلا وفي رفقته أبو بكر وعمر، وشهد لعثمان بالجنة والشهادة، وشهد لعلي بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.

ومن هنا فإن الذي يبغض الصحابة، لا سيما أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، إنما يشير إلى نفسه بفراغه من الإيمان والدين، فإن كان صاحب الرسالة يحبهم، وإن كان هؤلاء هم أنصار الدين منذ بزغ وإلى أن صار قوة عظمى عالمية، فمن الذين تُصرف لهم المحبة في الدين إن لم يكن هؤلاء؟!

وأشدُّ من ذلك أن طعنه في هؤلاء لا بد سيصل إلى الطعن في النبي ﷺ نفسه صاحب الرسالة، فإن كان هذا النبي قد صرف محبته لغير مستحق، فأي رجل هو؟ هل خان الرسالة -حاشاه-؟ أم هو غير بصير بالرجال –حاشاه-؟!

وإذا كان ألصق الناس بالنبي ﷺ قد خانوا وبدّلوا كما يزعم أولئك الذين يبغضونهم، فمن هم أهل الصلاح إذن؟ فإن كان صاحب الرسالة قد أخفق في تربية أقرب أصحابه وتعليمهم وتزكية نفوسهم، فكيف يمكن أن يكون هذا الرجل عظيما ومعلما ومربيا؟!

هذه البدهيات العقلية هي التي جعلت علماءنا حساسين للغاية لمن يبغضون الصحابة أو يسبونهم، وجعلت كثيرين منهم ينظرون إلى هذه الظاهرة بأنها كفرٌ مستتر، فهذا المبغض عجز عن أن يطعن في صاحب الرسالة نفسه فالتمس صحابته ليتوصل من خلالهم إلى الطعن فيه، كما قال الإمام مالك رحمه الله. ومثله مقالة الشعبي: ائتني برافضي صغير أُخرج لك منه زنديقا كبيرا.. فإن الطعن في الصحابة لا يلبث بالمجهود القليل أن يتحول إلى الطعن في النبي ﷺ نفسه.

وللشيخ العلامة الهندي أبي الحسن الندوي كتاب عنوانه "صورتان متضادتان"، يُركّز فيه على هذا المعنى، فصورة الصحابة عند أهل السنة تشير إلى نبي عظيم ومصلح كبير ومربٍّ قدير، بينما صورتهم عند الشيعة تشير إلى نبي لا يستحق وصف العظمة بحال لأن أصحابه قد ارتدوا من بعده وخانوا رسالته!!

إن موقف المرء من الصحابة هو من علامات دينه ومن علامات عقله كذلك! فالذي يقع في الصحابة يشهد على نفسه بخلّوه من الدين ومن العقل معا!

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم {والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم}

نشر في مجلة "أنصار النبي"، ديسمبر 2022م



[1] القرافي، الفروق: أنوار البروق في أنواء الفروق، (بيروت: عالم الكتب، د. ت)، 4/170. ونسبها لبعض الأصوليين.

[2] ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة مجموعة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م). 13/ 73.

[3] أحسن ما اطلعت عليه في التأريخ الحربي للفتوحات الإسلامية كتب الأستاذ أحمد عادل كمال، وهي سلسلة "استراتيجية الفتوح الإسلامية".

[4] القرافي، نفائس الأصول شرح المحصول، (القاهرة: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1995م)، 1/441، 442.

[5] القرافي، الفروق، 4/170.

[6] ابن تيمية، درء التعارض بين العقل والنقل، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، ط2 (الرياض: جامعة الإمام، 1991م)، 5/71، 72.

[7] البخاري (3470).

الجمعة، نوفمبر 04، 2022

المحدثون وعلم الحديث.. فخرنا الخالد

 

بعد تسع سنوات من الحكم الشمولي الرهيب، وقف عبد الفتاح السيسي في كلمته نهاية المؤتمر الاقتصادي بتاريخ 25 أكتوبر 2022م، يشكو من أن الأزهر لا يطاوعه فيما يريد، وضرب مثلا على ذلك بموضوع الطلاق الشفوي، فالسيسي يريد من الأزهر أن يفتي بأن الطلاق الشفوي لا يقع، ولا يقع الطلاق بين الرجل وامرأته إلا بتوثيقه في المحكمة.

هذا مع أن السيسي –كما اعترف وزير العدل في المؤتمر نفسه- ماضٍ في إعداد قانون للأسرة، ومع أن شيخ الأزهر الحالي من رجال الدولة  المهادنين، ومع أن الأزهر في أضعف حالاته عبر التاريخ تجاه السلطة!

وإذن، فالصورة على هذا النحو: لم يستطع طاغية في عنفوان قوته أن يستخرج من مؤسسة دينية إسلامية في أقصى حالات ضعفها، وتحت رئاسة رجل مهادن تابع للدولة، لم يستطع أن يستخرج منها تغييرا في حكم فقهي!

يقف الإسلام هذا الموقف في ذات الوقت الذي هُزِمت فيه المسيحية أمام العلمانية وخضعت تماما لسلطة الدولة، وأجازت بل رحبت بما كان محرما تحريما قطعيا كزواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، وكالتحول الجنسي للذكر والأنثى، وغيرها. وكذلك هُزِمت اليهودية أمام تيار الحداثة، فحتى دولتها الصغيرة يحكمها النظام العلماني، وطبيعة الحياة فيها هي أقرب للحياة الغربية العلمانية، وليست لشريعتها اليهودية.

إن الحضارة الغربية أنتجت نظاما تهيمن فيه الدولة على الدين، ويكفي أن يُقِرَّ برلمانها قانونا لتخضع له الأديان، فالديمقراطية فوق الدين وهي المهيمنة عليه والمتحكمة فيه.

وهذا المشهد ينبغي أن يوقفنا أمام هذا السرِّ العظيم في الإسلام، السر الذي يجعل الدين متساميا على السلطة، فهو فوق الدولة، بل الدولة ذاتها بنت الدين، إذ نشأت الدولة في الإسلام من رحم الدين، ونشأت لتقيمه وتقوم بشأنه، والدين هو المرجعية العليا، وهو الذي تستمدُّ الدولةُ شرعيتها منه، والمسلمون يطيعون هذه السطلة ما كانت ملتزمة بهذه المرجعية، وهم ينصحونها ويقومونها وفقا لهذه المرجعية، أو هم يثورون عليها ويخلعونها ويرون ألا طاعة لها عليهم إذا نبذت هذه المرجعية وانخلعت عنها.

وقد زعم السيسي أن جهازا أمنيا عرض مسألة الطلاق الشفوي على مجلس من العلماء، فأقروه، فلما طالبهم أن يُعلنوا هذا رفضوا قائلين: لو أننا أعلنَّا إقرارنا له، فسيظهر أننا نؤيد السلطة ونوظِّف الدين لها.

فلو أنه صدق في هذا، ولست أصدقه، فهذا الكلام نفسه دليلٌ على ما أنشأه الإسلام في علمائه وفي المجتمع من حساسية بين العلماء والسلطة، وأن العالِم يجتهد في أحرج أوقات ضعفه لئلا يكون محسوبا ضمن علماء السلطة. بينما ليس يجد الحبر والكاهن بأسا في أن يتبع الملك أو الإمبراطور صاحب السلطة الزمنية، فإن القسّ يعتنق أن "ما لقيصر لقيصر" وأن مملكته في السماء، وليس يجد القانوني والدستوري بأسا في الخضوع للرئيس والأمير في الدولة العلمانية، فإن تكوينه الفكري والثقافي والاجتماعي يجعله موظفا ضمن نظام الدولة، وقد أشربته السلطة من مناهجها وأنشأته في أروقة نظامها، فهو دولتي بطبعه!

إن هذا هو المدخل الذي ندلف منه للإشارة إلى هذا البناء العظيم الشامخ الذي أقامه المحدثون، أولئك الرجال الذين جمعوا سنة النبي ﷺ فحفظوها ورووها ودونوها، وفهرسوا رواتها وفحصوهم فغربلوهم وتتبعوهم حتى منحوا أمتنا فخرا خطيرا ليس لأمة في التاريخ الإنساني مثله.

لقد حاول بعض الناس الطعن في المحدثين من جهة السياسة، فزعموا أن تدوين الحديث وتصحيحه وتضعيفه تأثر بالسياسة والسلطان، ثم لم يستطع واحدٌ منهم أن يقدِّم دليلا واحدًا على حديث واحدٍ صححه المحدثون، كُتِب أو دُوِّن برغبة السلطة! بل إن المنهج النقدي الصارم الذي أسسه المحدثون لو طُبِّق على التاريخ فلن يبقى لدينا تاريخ، لأنه ما من خبر من أخبار التاريخ يُروى بالسند المتصل من العدل الضابط عن مثله من مبتدئه إلى منتهاه، ولا تكتنفه شذوذ أو علة!

بل إن أرقى ما وصلت إليه مناهج البحث المعاصرة من التوثيق العلمي والصرامة المنهجية هي أقل من شروط الحديث الصحيح لدى المحدثين، ففي أرقى جامعة علمية في هذا العصر، يكفي الباحثَ أن يوثق معلومة أخذها إذا ذكر اسم الكتاب ومؤلفه والطبعة ورقم الصفحة. هذا نفسه لم يكن مقبولا لدى المحدثين، بل كانوا ينظرون في صاحب الكتاب ويختبرون هل كان يكتبه بنفسه أم يمليه؟ وهل كان ثمة أحد من ولده أو تلاميذه يمكن أن يُدخل في الكتاب ما ليس منه؟ وهل صاحب الكتاب يتذكر ما في كتابه جيدا أم يمكن إذا غولط في بعض معلوماته أن يغلط أو ينسى؟ ولهم في هذا مواقف عجيبة وطرائف غريبة من اختبار التلاميذ لشيوخهم ليحققوا ضبط النقل. هذه الشروط لا يمكن للباحث المعاصر في أرقى جامعة علمية معاصرة أن يحققها، إذ لا يمكن لأحدٍ يمسك بالكتاب أن يضمن تماما كون كل كلمة فيه قد خطَّها المؤلف، وأن الكتاب سالمٌ من تدخل باحث مساعد أو مراجع لغوي أو محرر أو دار النشر، ثم كم في الباحثين المعاصرين من يستطيع الوصول إلى مؤلف كل كتاب، فيختبره في كتابه، فينظر إن كان قد نسي شيئا منه أو لم يضبطه!!

لذلك كله، استحال على الطاعنين أن يقدموا دليلا واحدا على أن تدوين الحديث قد خضع لرغبة السلطة! وسائر ما كتبوه في هذا مجرد ثرثرة ولغو فارغ!

لقد ظن المستشرقون وتلاميذهم من العلمانيين أن المحدثين كانوا من علماء السلاطين، ذلك أنهم يتصورون العلاقة بين العلماء والسلطة كما كانت العلاقة بين الكنيسة والقصر في العصور الأوروبية الوسطى، أو بين مؤسسات الثقافة والسلطة في عصر الدولة الحديثة. لقد فات كثيرا منهم أن الإسلام لم تكن فيه هذه السلطة المتغولة، وأن نظامه جعل السلطة محدودة الصلاحيات، وأن طريقة التلقي العلمي للقرآن والسنة -من النبي إلى الصحابة إلى التابعين إلى تابعيهم وحتى مصنفي كتب الحديث- لم تكن تمرُّ عبر السلطة، ولم تكن تتأثر بها.

بل إن الأمة الوحيدة التي هزمت المعرفةُ فيها السلطة هي أمتنا الإسلامية، فبينما كان الحكم للأمويين والعباسيين، وبينما كان العلويون هم المعارضة المضطهدة سياسيا، كانت البيئة العلمية تزخر بالأحاديث الكثيرة المنتشرة في فضل علي رضي الله عنه، بينما تقل الأحاديث جدا في فضل معاوية والعباس –رضي الله عنهما- وهما أساس الدولتين الكبيرتين: الأموية والعباسية.

ما من أمة استطاع أهل العلم فيها أن يغلبوا سطوة السلطة وترويج ما يزعجها ويربكها سوى أمتنا الإسلامية، حتى إن الاحتكاك الوحيد المعروف بين العلماء والخليفة في عصر تدوين السنة كان هو قضية خلق القرآن، وهُزِمت فيها السلطة أيضا. وسوى ذلك لا نعرف أن السلطة حاولت إجبار المحدثين على اختراع أحاديث لنصرتها. ولو حصل هذا لكانت فضيحة أشهر وأكبر وأعظم من فضيحة محنة خلق القرآن!

وبهذه المناسبة فيجب أن أشير هنا إلى ثلاثة كتب متميزة في هذا الموضوع، موضوع براءة المحدثين من الخضوع للسلطة، وبراءة السلطة الإسلامية من إجبار المحدثين على اختراع حديث منسوب للنبي ﷺ لتأييدها:

1. الأول هو كتاب "المحدثون والسياسة"، وهو رسالة دكتوراة للشيخ الدكتور إبراهيم العجلان، وهو سِفْرٌ جليل في تسعمائة صفحة، صدر قبل خمس سنوات (2017م) عن مركز البيان للبحوث، وفيه تتبع الرجل مطاعن القائلين بتأثير السياسة في رواية الحديث، ثم عاد عليها بالنقد والنقض، وإثبات ما فيها من المبالغة والمجازفة حتى كأنه لم يترك بعده قولا لقائل. وكنتُ قد كتبت مقالا عن هذا الكتاب فليُرجع إليه.

2. والثاني هو كتاب "أسباب إيراد الحديث" للأستاذ الدكتور بكر قوزدوشلي، وهو كتاب لطيف وفكرته مبتكرة، إذ تتبع المؤلف فيه الأسباب التي دفعت الصحابة والتابعين لرواية الحديث، من خلال ما تكشفه الروايات نفسها، ليجمع بذلك صورة تاريخية لحركة رواية الحديث في القرن الأول الهجري، فينكشف في سياق هذه الرحلة اللذيذة حقا كيف أن دوافع رواية الحديث كانت علمية ودعوية خالصة، وأنها استحثتها الحوادث والحاجة بأكثر مما سيَّرتها إرادة سلطوية، بل إن الإرادة السلطوية تغيب تماما عن هذا المجال، ولئن حضرت السياسة فإنما يُروى الحديث عادة لتقويمها وإدانتها وتصحيح اعوجاجها!

3. والثالث هو كتاب "السلطة السياسية وحركة رواية الحديث ونقده" للدكتور أحمد صنوبر، الأستاذ المساعد في قسم الحديث بجامعة 19 مايو في اسطنبول، وهذا الكتاب هو وقفة مع أحاديث الفضائل المتعلقة بعلي ومعاوية والعباس –رضي الله عنهم جميعا- وفيه يرصد انتشار الأحاديث المتعلقة بكل منهم في عصري الدولتين الأموية والعباسية، ليختبر حقيقة الشبهة التي تقول بتأثير السلطة في تدوين الحديث. ثم يختبر فرضية أن تكون الأسانيد مزوّرة قد اتفقت جماعة المحدثين على تزويرها، فيرصد عوائق التزوير الداخلية (المتعلقة بالسند) والخارجية (المتعلقة بالظروف والأوضاع العامة) وما أسماه "الانسجام" بين المعلومات الواردة عن الرواة في كتب الحديث والرجال والتاريخ المشرقي والمغربي، بما يستحيل معه اختراع راوٍ تدور عليه الرواية! وفي الكتاب –الذي سيصدر قريبا إن شاء الله- أمورٌ أخرى لا أريد أن أكشفها كلها. وقد سعدنا في هذا العدد من مجلة "أنصار النبي ﷺ" بانضمام د. أحمد صنوبر إلى كُتّابنا، معرفًا بكتابه الصادر حديثا "من النبي ﷺ إلى البخاري"، والذي هو تبسيط لتاريخ رواية الحديث منذ تفوه به النبي حتى وُضِع في كتب السنة الصحيحة، وكيف انتقل الحديث من النبي إلى الصحابي، ثم منه إلى التابعي، ثم من التابعين إلى تابعيهم، ثم من هؤلاء إلى جامعي الحديث ومدونيه ومصنفيه، وكيف صحب هذا الانتقال منهج نقدي علمي حال دون أن يتأثر الحديث بأي رغبة سياسية!

والواقع أني أراني محتاجا لأن أتقدم على هؤلاء الأساتذة الأفاضل خطوة، فلئن كانوا قد دافعوا عن المحدثين فبرؤوهم حتى ما تركوا مقالا لقائل، فأجدني مضطرا للدفاع عن السلطة الإسلامية التي لم تجد من يدافع عنها؛ ذلك أن صورة السلطة في أذهاننا نحن المعاصرين هي سلبية غالبا أو حتى دائما، فكأن السلطة والشرّ قرينان، ولست ألوم المعاصرين على هذا التصور، كذلك فإن أسلافنا المتقدمين قد أفاضوا في نقد السلطة الإسلامية وإدانتها والنكير عليها حتى يتصور قارئ كلامهم أنها كانت سلطة على غرار الطغيان والاستبداد الذي نحياه في أيامنا هذا!

ومعاذ الله! إنك لا تجد في تاريخنا الإسلامي خليفة صالحا أو ظالما فكَّر في اقتراف الكذب على رسول الله، أو حمل المحدثين على ذلك بالرغبة أو بالرهبة، وحتى المأمون صاحب فتنة خلق القرآن، الذي يضرب به المثل، لم يكن مريدًا للشر ولا ساعيا في هذه المحنة بغرض تثبيت سلطته وتأييد سياسته، أبدًا، إنما اعتنق الرجل رأيًا باطلا، ظن أنه من الحق وأنه من تنزيه الله وتوحيده ووصفه بالكمال، فاستعمل سلطة الدولة في نشر هذا الرأي وتأييده! أي أنه كان ساعيا في نصرة ما يرى أنه الحق الواجب في ذات الله، ولم يكن ساعيا في استخلاص شرعية لنفسه أو تأييدا لسلطته!

لم تخل أيام تاريخنا من المظالم والأزمات، فإنما نحن بشر، ولكن لم يقف خليفة أو سلطان يوما ليقول: أرى أنه يجب أن يكون كذا وكذا، ويجب على هؤلاء العلماء أن يخرجوا لي الفتوى بما أريد مهما كانت تخالف ما يرونه، وإلا فإنهم غير خاضعين للدولة، وسأصنع بنفسي قانونا أضع فيه ما أريد رغم أنوفهم بل بعيدا عنهم.

إن السلطة في تاريخنا الإسلامي، وفي سياقنا الحضاري، لم تفعل هذا.. فإن قلنا: لم تفعله دينا فقد مدحناها بما كان فيها من الدين والخضوع له والوقوف عند حدوده، وإن قلنا: لم تفعله عجزا فقد مدحنا نظام الإسلام الذي لم يجعل للسلطة هيمنة على الدين والعلم، ولا سبيل إلى احتمال ثالث!

ولقد مرَّت على السلطة الإسلامية أوقاتٌ لو شاءت فيها أو استطاعت أن تحذف حديثا أو تروي حديثا لفعلت، لشدة الحاجة إليه، وأقربها إلينا زمانا تلك المحنة التي تعرض لها السلطان عبد الحميد الثاني، فقد سعى الإنجليز في توظيف حديث "الأئمة من قريش" ليطعنوا به في شرعية خلافة العثمانيين، واستثارة الشريف حسين ومن معه للانقلاب على العثمانيين، وإغرائهم بخلافة عربية قرشية هاشمية، فلو كان عبد الحميد قادرا أو راغبا لسعى في حذف هذا الحديث، ولكنه لم يرغب، ولو رغب لما قدر، بل طُبعت النسخة السلطانية الحميدية من صحيح البخاري، وغيرها من كتب السنة في زمن عبد الحميد وبرعايته، وبقي فيها هذا الحديث[1].

من الأولى بمن يثيرون المطاعن في المحدثين أن ينظروا في أنفسهم، فإنهم لو أخلصوا للعلم وتجردوا له، لازدادوا إيمانا بأن هذا الدين دين الله المحفوظ، ولازدادوا فخرا وتيها بتراث علمائنا الأولين الذين بلغوا قبل ما يزيد عن ألف سنة ما لا تبلغه المناهج العلمية الآن[2].

نشر في مجلة أنصار النبي ، نوفمبر 2022م



[1] لمزيد من التفصيل ينظر بحث: حديث الأئمة من قريش في العصر العثماني: https://bit.ly/3eccXSv

[2] للمزيد في موضوع المقال،

ينظر بحث: فحص دعوى تأثير السياسة في تدوين الموطأ: https://bit.ly/2JQ0KFr

وبحث: أخطاء فهم الحديث في ضوء الثقافة المعاصرة: أحاديث طاعة الأمراء في البخاري نموذجا: https://bit.ly/2tZPNNd

الأحد، أكتوبر 16، 2022

لماذا نعجز عن إظهار نبينا ﷺ باعتباره منقذا للإنسانية؟

 

يذكرنا شهر ربيع الأول بمولد النبي الأعظم صلوات الله عليه، وفيه تستدعي الذاكرة ما قيل فيه ﷺ من القصائد والمدائح.

 وفي #أسبوع_نصرة_النبي ﷺ طافت ببالي أبيات من قصيدة شوقي الأشهر: وُلِد الهدى، فالكائنات ضياء..

 أغلب الناس لا يعرفون من هذه القصيدة سوى هذا البيت الأول أو إن زادوا ضمُّوا إليه الثاني، بينما القصيدة كلها من عيون قصائد شوقي، بل من عيون الشعر العربي كله.

 وقد قرأت -لا أتذكر الآن أين- أن بعض الناس رأى شوقي في منامه بعد أن توفي، فسأله: ماذا صنع الله به؟ فقال: غفر لي بمدحي لنبيه ﷺ.

 وهذا أمر لا يُستبعد على رحمة الله، كما لا يُستبعد في نفسه لأن قصائد شوقي مما يحيي معاني الإيمان والحب للنبي ﷺ حقا، وهي تعبر عن قلب نابض بحب النبي ﷺ حقا، فوق ما فيها من صنعة الشعر وجودته، نحسبه هكذا، والله حسيبه!

 المهم الآن، أنه طافت ببالي هذه الأبيات التي تتحدث عن فضل النبي ﷺ على الفقراء، ومعالجته لأمرهم:

 جاءت فوحدت الزكاة سبيله .. حتى التقى الكرماء والبخلاء

أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى .. فالكل في حق الحياة سواء

لو أن إنسانا تخيَّر ملة .. ما أختار إلا دينك الفقراء

الاشتراكيون أنت إمامهم .. لولا دعاوى القوم والغلواء

داويتَ متئدا وداووا فجأة .. وأخف من بعض الدواء الداء

الحرب في حق لديك شريعة .. ومن السموم النافعات دواء

 المعنى المبسط لهذه الأبيات، أن النبي ﷺ جاء بالزكاة، فالتقى في دفعها الكرماء والبخلاء، وبذلك انتصف الفقراء من الأغنياء، وصارت الحياة الكريمة حقا لهم جميعا، فلو أن الأديان عُرِضت على الناس عرضا صحيحا لكان الفقراء هم أسرع الناس دخولا في الإسلام، لما فيه من إنصاف الإسلام لهم.

 وبهذا كان النبي ﷺ -كما يقول شوقي- إمام الاشتراكيين، لولا أنه كان خبيرا بطبائع النفوس وسياسة المجتمعات، فعرف كيف يداوي المفاسد بالصبر والروية والحكمة، حتى صارت الزكاة فريضة يأخذها الفقراء من الأغنياء، دون أن يلجأ للمذابح والوحشية التي لجأ إليها الاشتراكيون، فكانت محاولتهم الإصلاح وإغناء الفقراء أشد سوءا مما لو لم يحاولوا، كما يكون بقاء الداء أحيانا خيرا من جرعة الدواء القاتلة!

 أتذكر أن الإمام العلامة المجدد محمد رشيد رضا كتب يوما في رسالته لشكيب أرسلان "لو أن الناس يعرفون من الإسلام ما أعرف لهرعوا إليه وما استبدلوا به شيئا غيره، ولوجدوا فيه حلولا لسائر مشكلاتهم"، أو نحو هذا المعنى..

 وأقسم أن هذا المعنى يتردد في صدر المصلحين، ولكن كثيرا منهم لم يجد الفرصة، أو لم يوهب البلاغة الكافية ليعبر بها للناس عن هذا المعنى المحبوس في صدره.

 نحن الآن في زمن الرأسمالية الليبرالية والتفوق الغربي الكبير، ولهذا يوضع الإسلام في قفص المحاكمة ويُسأل:

 ما موقفك من الحرية؟ ما موقفك من المرأة؟ ما موقفك من الفن؟ ما موقفك من الديمقراطية؟ ما موقفك من الأقليات؟... إلخ!

 وهذه الأسئلة حين يتفوه به الغالب الليبرالي الرأسمالي، فإنه يعني بالأساس حرية التجارة التي تُمَكِّنه من الهيمنة المالية والتحكم في مجال المال والأعمال.

 ويعني أيضا حرية الانحلال -بما فيها من الخمر والتعري والزنا والعلاقات الشاذة- التي تُمَكِّنه من السيطرة على النفوس والأجساد التي تأسرها الشهوات.

 إنه يسأل في الحقيقة عن الأدوات التي تتيح له التحكم في هذا المجتمع، تحت شعار الحرية والحقوق!

 قبل نحو سبعين أو تسعين سنة، كان ثمة تفوق آخر يمثله الشيوعيون في الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا، وهؤلاء كانت محاكمتهم مختلفة، ففي ذلك الوقت كانت الأسئلة التي تتوجه للإسلام الواقف في قفص الاتهام:

 ما موقفك من الفقر والفقراء؟ ما موقفك من الطبقية؟ ما موقفك من الطبقات الكادحة؟ ما موقفك من العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة؟

 وفي ذلك الزمن، دافع المسلمون عن أنفسهم، واستخرجوا من الإسلام طريقته المثلى في حل مشكلات الفقر، ومحاربة تكدس الثروة، ورعاية الفقراء وإنصافهم، وكانت فريضة الزكاة إجابة سحرية لصدّ هذا الاتهام، فالمجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي تحركت فيه الجيوش لمعاقبة الممتنعين عن الزكاة، إذ هي حق الله في المال، وهي كالصلاة تماما.

 هذا فوق ما في الإسلام من حث على الصدقة والإنفاق وعلى إعتاق العبيد وتحريرهم وعلى وقف الأوقاف لرعاية الضعفاء وذوي الحاجة!

 هذه الإجابات -يا عزيزي القارئ- تختفي في زماننا هذا اختفاء تاما، لأن الغالب الآن لا يهتم بالفقر ولا يأبه للفقراء.. الغالب الآن يهتم بالحرية العلمانية.

 ولذلك، فبينما كانت فريضة الزكاة إجابة ساحرة باهرة لقوم يهتمون بالفقراء، فإن إقامة حرب ضد مانعي الزكاة هي الآن وحشية وظلم وانتهاك لحقوق الإنسان، وظلم لأصحاب الأموال واعتداء على أموالهم، بل اعتداء على حريتهم الدينية.. فالدين ليس بالإكراه ولا بالإجبار، ومن شاء فليؤمن وليؤدِ الزكاة ومن شاء فليكفر!

 أليس هذا لسان الدولة العلمانية والحرية وحقوق الإنسان الرأسمالي؟!

 هذا مع أن نفس نفس هذه الدولة تأخذ الضرائب الجائرة من الناس، وهي التي تفوق الزكاة أضعافا مضاعفة، وتقرر عليهم مزيدا من الضرائب كلما شاءت، وتعتبر التهرب من الضرائب جريمة كبرى تعاقب عليها!

 ألم تعلم -عزيزي القارئ- أن الضرائب في الإسلام حرام، وأنه لا يجوز فرضها إلا لضرورة قاهرة ولفترة استثنائية، وذلك حين يخلو بيت المال ويحتاج المسلمون إلى دفع أمر عظيم كعدو محتل أو كارثة طبيعية، وأنها -إذا فرضت- تؤخذ من الأغنياء لا من الجميع؟!

 هذا حديث آخر.. تكلمنا فيه سابقا.. (بعض ذلك هنا: https://t.me/melhamy/1665 -  https://youtu.be/AvJPtppr_gQ - https://www.youtube.com/watch?v=x7HfN0xnL2k  -  https://youtu.be/AvJPtppr_gQ  - https://t.me/melhamy/1614)

 ولكن المقصود الآن، أن المنقبة والمفخرة أمام غالب متفوق يزعم أنه مهتم بالفقراء، هي ذاتها تصير المنقصة والمثلبة والمعرة التي نبحث لها عن تأويل أمام غالبٍ متفوقٍ يزعم أنه مهتم بالحريات!!

 وهذا يفسر لك كيف كثرت في ذلك الزمن المؤلفات التي عنيت بالدفاع عن الإسلام أمام هذه الفتن، مثل: "اشتراكية الإسلام" أو "العدالة الاجتماعية في الإسلام" أو "كيف عالج الإسلام مشكلة الفقر" ونحو ذلك.. وينبغي هنا ألا نسارع إلى اتهام من ألَّف "اشتراكية الإسلام" بأنه منهزم، بل هو إنما استجاب لواقع وقته ومحنة عصره.. إلا أن يكون زاد في الإسلام أو نقص لمغازلة الغالب المتفوق.. مثلما لا تجد أحدا في عصرنا هذا يكتب كتابا بعنوان "الحرية في الإسلام" أو "حقوق الإنسان في الإسلام"، فليس هذا انهزاما وافتتانًا إلا أن يكون في محتواه قد زاد في الإسلام أو نقص منه.

 ها أنت ترى شوقي يمدح نبينا بأنه إمام الاشتراكيين، لا يقصد بهذا طبعا أن يجعل نبينا تابعا لهم أو حتى متصفا بصفاتهم، إنما قصد هذا المعنى من العدالة الاجتماعية ورعاية الفقراء.

 الذي أريد قوله، والذي أقصده، بعد هذا الكلام الطويل أن أكثر ما نحتاجه في واقعنا الآن هو ما نعجز عنه..

 نحن نعجز عن إظهار صورة نبينا ﷺ باعتباره منقذا للبشرية، وباعتباره دينه هو الحل لمشكلاتنا المعاصرة.

 بعض هذا العجز يرجع إلى الجهل.. فإن كثرة الكلام عن جمال نبينا وأنه وُلِد يتيما وأنه تعرض للاضطهاد وأنه كان رحيما.. كثرة الكلام عن هذه الجوانب تُغَطِّي على الجوانب الأخرى الأهم التي نحتاجها في واقعنا المعاصر، وإذا عرفها الناس علموا أن نجاتهم في اتباعه.

 وبعض هذا العجز يرجع إلى سطوة الثقافة الغالبة، فيظن الداعية أو المتكلم أن هذه أمور لا توافق المزاج العام، وتفتح عليه سيلا من الاتهامات والمشكلات، هذا إن كان الداعية نفسه مستوعبا لهذه السطوة.. ولكن كم يكون الداعية نفسه مأسورا لهذه الثقافة، ويحيك في صدره بعض ما يصح عن النبي ﷺ فيكتمه ويلتمس له التأويل!

 وبعض هذا العجز يرجع إلى الخوف والمحاصرة والتعتيم الإعلامي، فإن الكلام عن هذه الجوانب التي لا تعجب الغالب المتفوق الذي يملك مفاتيح الإعلام والأموال، فوق ما يملكه من القبضة الأمنية القاهرة والأذى الرهيب، يجعل الذين يعرفون يتجنبون الحديث في المخاطر.. ولهذا يختفي الحديث عن نبينا الثائر المقاتل، وعن نبينا القائد السياسي الحكيم، وعن نبينا الذي لا يتهاون مع الباطل ولا يتوافق معه ولا يخضع له، وعن نبينا الذي لا يلدغ من جحر مرتين، وعن نبينا الذي يطبق الحدود ويُنصر بالرعب ويحرض المؤمنين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 إننا نحتاج إلى قوة نفسية أولا، ثم إلى قوة فكرية وعلمية ثانيا، ثم إلى بلاغة وفصاحة وبساطة في الخطاب ثالثا، كي نستطيع في النهاية أن نتكلم عن نبينا فيشعر السامع، مسلما كان أو غير مسلم، أن هذا النبي هو الرجل المنقذ الذي لا بد من اتباعه.. هو الرجل الذي قدَّم قديما من الوصايا والتعاليم والهدايات ما يزال حتى الآن ناجعا شافيا!

 هذا هو واجب المعاصرين حين يحتفلون بالنبي الكريم، فلو أن حفلات المولد الشريف كانت حديثا في فضل النبي على العالمين، وفي حل النبي لمشكلات البشر أجمعين، لكانت موسما دعويا عظيما يتدفق فيه الناس على الإسلام!

 وهذا على كل حال خير لأهل الإسلام ولبني الإنسان من حفلات الطرب والسماع وتوزيع الحلوى وإقامة الولائم.