السبت، يناير 22، 2011

فقه "البلاغ" الإسلامي


(ما على الرسول إلا البلاغ)، (فما أرسلناك عليهم حفيظا)، (إن عليك إلا البلاغ)، (وما أرسلناك عليهم وكيلا)، بل لقد عوتب النبي –صلى الله عليه وسلم- على حرصه الشديد على هداية الناس حتى إنه ليكاد يقتل نفسه (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين)، (لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا).

هذه آيات قرآنية نزلت على صاحب الرسالة (صلى الله عليه وسلم)، ولا مجال لفهمها على وجهها الصحيح إلا بالنظر إلى سيرة صاحب الرسالة وكيف عمل بها وفيها، ومن المؤسف – والمحير أحيانا- أن تخرج لهذه الآيات تفسيرات واجتهادات تضاد ما فعله صاحب الرسالة على طول الخط؛ فهذا النبي الذي أنزلت عليه هذه الآيات فحصرت مهمته في "البلاغ" لم يَعُد من ندائه على جبل الصفا ليجلس في بيته يرى أنه قد أدى ما عليه وأذن في الناس في البلاغ، ثم (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

لم يجلس في بيته، بل لم يجلس في بلده، خرج إلى الطائف ثم طاف على القبائل يقول: "من رجل يحملني إلى قومه فأبلغ رسالة ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ رسالة ربي"، ثم خرج على كره منه من أحب البلاد إليه، ثم مات ودفن –صلى الله عليه وسلم- في الأرض التي استطاع فيها أن يبلغ رسالة ربه، إن في هذا لعبرة لأولي الألباب.

وعلى هذا، فإن "فقه البلاغ" كما حدده صاحب الرسالة الذي نزلت عليه آيات البلاغ وعَرَّفَتْه مهمة في البلاغ، ليس هو مجرد الإعلان، وليس مجرد البيان، بل هو العمل ثم العمل ثم العمل حتى يُقام الكيان الذي يتم فيه استيفاء مهمة البلاغ.. وهذا ما فعله النبي، فلم يمت قبل أن يوطد للدولة أركانها، وحينئذ أتاه نعيه حين أتاه الناس يدخلون في دين الله أفواجا بعد أن تحقق "النصر".. فهنا انتهت مهمة البلاغ وحان وقت الرحيل إلى الملأ الأعلى (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا). إن تسمية السورة التي جاءت بنعي النبي له بسورة "النصر" يحمل معنى يجب ألا يغيب عن ورثة النبي من العلماء والدعاة.

ولقد خشي الخليفة الأول والأعظم أبو بكر الصديق أن يفهم الناس آية في كتاب الله تحصر "البلاغ" في مجرد البيان والإعلان، وترفع عن كاهل "الذين اهتدوا" القيام بفعل في وجه الظالمين، قال أبو بكر: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" (صحيح).

فمن ضرورات "الهداية" الأخذ على يد الظالم.. وواضح أن "الأخذ على اليد" ليس هو مجرد البيان والإعلان وإسداء النصائح والتحذير من عاقبة الظلم، إنه فعل مُوَاجِه مُقَاوِم.

لم يفعل الخليفة الأعظم شيئا أكثر من أنه صحح فهم الآية بوضعها إلى جوار غيرها من النصوص، وهكذا ينبغي أن تُفْهَم النصوص، فلا يظن أحدٌ ممن يحملون ميراث النبي أن يرى أن مجرد البيان –دون فعل ٍمُوَاجِه ومُقاوِم- يكفي لإيفاء مهمة "البلاغ".

***

في سِيَر الأنبياء السابقين نرى النبي يدعو قومه فيحاورهم ويجادلهم حتى يبلغ معهم نهاية المطاف فينزل بهم عقاب الله ويُنجِّي الله الذين آمنوا، ومن المهم أن نعلم أن آخر تدخل للسماء كانت في إهلاك فرعون موسى، ثم اصطفى الله من عباده بني إسرائيل ليقوموا بواجب البلاغ، وفَضَّلهم –في هذا الوقت- عن العالمين، فمنذ ذلك الوقت كان ضروريا على الأمة المصطفاة أن تُنشيء كيانها الذي يقوم بالدعوة ويحميها وبها يبلغ رسالات الله.

لم ينج بنو إسرائيل –بل لم يفعلوا شيئا ذا بال- إلا حين كانت تسوسهم الأنبياء، وهذا النجاح بلغ ذروته في ملك داود ثم سليمان (عليهما السلام) الذي جعل الله ملكه لا ينبغي لأحد من بعده..

ثم كشف بنو إسرائيل عن طباع لا تليق بمن يحملون الرسالة الإلهية، وأثبتت القرون أنهم قوم سوء (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا؛ ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون).. فعاقبهم الله بما هو معروف وقطعهم في الأرض أمما وضرب عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله.

ثم انتقلت رسالة الله إلى هذه الأمة المسلمة، وكان أكثر من ذُكر من الأنبياء في كتابها هو موسى نبي الله، وهو النبي الذي انتهى به العقاب الإلهي للطغاة، وبدأ به "تأسيس الدول" للدعوات، هو النبي الذي كانت "الأرض" جزءا من دعوته، (يا قوم ادخلوا الأرض التي كتب الله لكم)، والأرض هي العامل الأول لتأسيس الدولة.

ونحن أولى بموسى.. كما قال نبينا (صلى الله عليه وسلم)

ينبغي أن تنتبه الأمة المسلمة، وفي الطليعة منها علماؤها –الذين هم عُدُولها وخيارها- إلى أمور في هذه السلسلة التاريخية للأنبياء.

أن نزول العقاب الإلهي للطغاة قد أُوكل بالأمة المؤمنة التي اصطفاها الله لحمل رسالته (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)، وعليه فإن إزالة الظلم ومواجهة الطغاة عمل هو من صميم مهماتها في هذه الحياة.. وأنه –ولهذا السبب- لم يكن نبيهم (صلى الله عليه وسلم) رجلا صالحا وحسب، بل كان مؤسس دولة وقائدها، وأنه لم يمت قبل أن يُقيم الحق ويُزهق الباطل ويؤسس للكيان الذي يتم به البلاغ.

وأن خليفته الأول، وأقرب الناس إليه وأشدهم فهما لرسالته وإيمانا بها، لم يرض أن يفرق بين الصلاة –العمل الشخصي البحت- وبين الزكاة –عمل الدولة- وقالها بكل وضوح "لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لحاربتهم عليه".

وأن واجب العلماء –الذين ورثوا النبوات- أن يكونوا على قدر المسؤولية في القيام بواجب البلاغ، وهو –كما سبق واتضح- ليس مجرد البيان أو الإعلان، بل إن الفعل من صميمه وأركانه.

لقد ورثت الأمة المسلمة رسالة الله في الأرض، هذا ما يؤمن به المسلمون جميعا، وإن عليهم تبليغ هذه الرسالة إلى سائر الناس، وهذه الأمة التي اصطفاها الله تعالى لا ينبغي أن تفقد الثقة في نفسها وفي قدرتها على حمل هذه الرسالة حتى وإن كان فيها الظالم لنفسه، كما قال ابن كثير ورَجَّحَ "أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين، على ما فيه من عوج وتقصير" .. وأولى من هذا أن يثق المصلحون والدعاة والعلماء في هذه الأمة التي اصطفاها الله وأن يظنوا بها الخير والقدرة على إصلاح نفسها وإصلاح غيرها.

إن أسوأ ما يمكن أن تُطعن به الأمة أن تأتيها الطعنة من علمائها ودعاتها، يرون أنها قد غَيَّرَت وبَدَّلت وزاغت، وأن إصلاحها يحتاج العشرات والمئات من السنين، فربما يأسوا وربما رأى أحدهم أن مهمته تقتصر على مجرد "البيان والإعلان" ثم يسمي هذا "بلاغا"، ثم يرى أنه قد قام بحقه الذي يفرضه عليه ميراث النبوة!!

إن عدم القدرة على النهوض بالأمة ينبغي أن يكون دافعا نحو مراجعة المناهج والطرق والوسائل، ولا ينبغي أبدا أن يُفسَّر على أن الأمة لا تريد النهوض، أو لا تستطيع النهوض، فإذا كان هذا حال من اصطفاهم الله فكيف بغيرهم؟!!

لكنما ينبغي على العلماء أن يكونوا بحق ورثة الذين وصفهم الله فقال (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا * ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما).

نشر في يقظة فكر

الجمعة، يناير 21، 2011

أخي أحمد حسن حامد.. في رحاب الله




أخي الغالي أحمد حسن..

كم تمنيت أن أكون شاعرا في هذه اللحظة لكي أستطيع أن أكتب فيك مرثية خالدة، وتضع اسمك بين من كتبت لهم المراثي فتذكرهم الناس بعد القرون.. لكن لعلي ولو كنت شاعرا لكنت عجزت عن كتابة شيء، فالمصاب فيك –يا أخي الحبيب- مصاب عظيم..

تعود الناس على سماع كلمات الرثاء، ويظنون كاتبها يحاول التفنن في الوصف، ويحاول إظهار بلاغته، إلا أنهم لا يفهمونها إلا حين يُصابون بفقد أحبابهم.. وها أنذا أعيد كتابة كلمات أعرف أنها لا تقع في نفس أحد كما تقع في نفسي..

رحمك الله يا أخي الحبيب,, رحمك الله،، رحمك الله..

أحمد حسن..

واحد من أفضل من عرفتهم في حياتي، ولقد كشفت لي هذه الحياة القصيرة عن أن كثيرا من الناس –كما قال الشافعي- ذئاب على أجسادهن ثياب، فلأن تجد واحدا طيب النفس، صديقا صدوقا، قويا أمينا مكينا.. فلقد أنعم الله عليك بنعمة من أندر النِعم..

شاب تخرج في كلية الهندسة، ثم انتمى إلى صفوف الإخوان المسلمين، تلك الدعوة المباركة التي ما تزال تلتقط من بين الناس أصفاهم وأنقاهم فتسكب عليهم من التربية والإعداد ما يجعل المعدن الطيب يتوهج بالخير للناس، فصار في زمن وجيز من أعمدتها الفاعلة، فكان مثالا على أن العبرة ليست بمن سبق ولكن بمن صدق.

أحمد حسن يصدق فيه قول الشيخ الغزالي في المجاهد الشيخ محمد فرغليى (قائد الإخوان الفدائيين ضد الإنجليز في معارك القناة)، قال فيه: "لو أراد الشيخ فرغلي أن يكون صغيرا لما استطاع".. وهكذا كان أحمد حسن، كان كريم المعدن عزيز النفس طيب الأخلاق صادقا صدوقا صالحا، وجهه الهاديء لا ينبيء عن هدير همته العالية التي تجعله واحدا من أنشط الإخوان المسلمين في مكانه، رجلا يُعتمد عليه في الأعمال الكبار، وشعلة نشاط تجعله كرياح الخير في الحركة والفعل والإنجاز.. وكل هذا مختبئ خلف وجه هادئ وصوت هاديء وهيئة هادئة، يستكمل بها صفات المخلصين.. الأتقياء الأخفياء..

ورغم أن أحمد حسن مهندس، إلا أنه نشأ في بلد يحكمها مبارك، فلم يجد عملا، غير أنه لم يكن من الذين ينتظرون أحدا، بل سارع إلى إنشاء مشروعه الخاص، وإني لأشهد أنه ذو قراءة بصيرة بواقعه ومكانه، وكان أفضل ما يمكن إنشاءه من المشاريع وأكثرها أمنا أن يُنشيء مطعما جديدا، لحسن حظه ولسوء حظنا وحظ بلادنا فإنه فضَّل أن يُنشيء مشروعا نهضويا، فأنشأ "المركز العلمي للغات وعلوم الحاسب الآلي في قنا" بشراكة مع مجموعة من أمثاله من الشباب الناضج المحترم الذي يرى أن عليه رسالة في الحياة.

وأضحى المركز بعد سنوات معدودة منارا في محافظة قنا، فهو فضلا عن توفيره لدورات اللغات والتنمية البشرية والكمبيوتر، وتعاقده مع هيئات رسمية وحكومية لتأهيل العاملين فيها، واعتماده لإعطاء شهادات رسمية باحتياز الدورات، فضلا عن هذا فإنه استطاع أن يُحدث طفرة في المحافظة حملت كثيرا من أصحاب الأموال على تقليد المشروع.. وأغلبهم لم يوافقه النجاح، ذلك أن النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة.. ولا يستوي عمل أراد أصحابه أن يكون نهضة مع عمل لم ير فيه أصحابه إلا وسيلة للكسب.

تسلط أمن الدولة على المشروع، واعتبره من المؤسسات التمويلية للإخوان في قنا، وأغلقه كثيرا، وعاد بعد أحكام قضائية، فلا يلبث أمن الدولة أن يُعيد الكَرّة.. هذا الاضطراب في الغلق والتوقف ثم العودة ثم الغلق والتوقف أدى لنهاية المشروع الفريد الذي لم يتكرر في المحافظة حتى هذه اللحظة.

أحمد حسن لا يتوقف ولا يستسلم، ذهب إلى مشروعات أخرى وأعمال أخرى، أحمد حسن لا يكاد ينام.. كل هذا وهو يعاني من حالة نادرة من سرطان الدم اكتشفها قَدَرًا وهو بتبرع بالدم قبل سبع سنوات منذ الآن.. وهو الخبر الذي أحفاه عن أقرب المقربين إليه، واستمر في عمله الدعوي والنهضوي أحسن ممن لا يعاني.. صورة مصغرة من الشيخ الشهيد أحمد ياسين، قعيد الجسد طليق الهمة!

في كل مرة كان المرض يجبره على لزوم الفراش، كنت أتوسل إلى الله أن يثبته وأن يصبره، وكنت أحاول اختبار حالته الإيمانية والمعنوية في وقت الأزمة، فكان يُدهشني، كنت أراه يتحدث عن الرضا بالله وأنا الذي كنت أسأل الله له الصبر.. كان رجلا عالي الهمة حتى في إيمانه، يتجاوز الصبر إلى الرضا.. كان يرجو الله أن يرضى عنه وأن يرضى به، وأن يجعله أهلا لأن يكون ممن يبتليهم لينقيهم من ذنوبهم.. كان يسألني: هل أستحق أن أكون ممن يصطفيهم الله لمرتبة الصبر والرضا؟

ووالله لقد كنت أنظر إليه عاجزا عن إجابته، لأني كنت صغيرا أمامه، وكنت ازداد كل مرة تصاغرا أمامه.. لطالما كان مُلْهِمي في خطب الجمعة، ماثلا في ذهني حين اقرأ آيات من القرآن، مثيرا للخواطر الإيمانية والمعاني التي لا يمكن أن يعطيها إلا رجل مؤمن ولا تُقرأ في صفحات الكتب.

أحمد حسن آية في الذكاء وسرعة البديهة، لا تخونه الذاكرة، لا يستغرق وقتا في تذكر المعلومات وتركيبها وتحليلها حتى في حال مرضه، فيندهش الأصحاء من حوله من هذه القدرة في وقت الضعف والمرض.. كان عزيز النفس يأنف كل الأنفة أن يخدمه أصدقاؤه ويحملونه ويضعونه، رغم أن له على كل واحد منهم فضلا لن يستطيع إيفاءه.. كان أشد ما يرهقه أن يشعر أنه عبء على من حوله، وكان في كل لحظاته حريصا على ألا يُرهق أحدا بطلب أو معونة.. إلا أن تاريخه من العطاء كان يحمل الأصدقاء على رعايته وكلهم يَوَدُّ أن لو يعطيه من نفسه ويُشفى.

كان أحمد حسن الولد الوحيد لأب مات منذ زمن، ولأم تجاوزت السبعين –اسأل الله أن يلطف بها ويُنزل السكينة على قلبها- فلم يكن له إخوة ولا أخوات، غير أن أصدقائه قاموا بأفضل ما استطاعوا، وكم في الناس من ذوي القرابات والإخوة والأنساب لا يجدون مثل من كانوا حول أحمد حسن.

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس

كانت حالته نادرة، الخلايا السرطانية تعمل في النخاع نفسه، وصورة الدم نقية، يندهش الطبيب المعالج –وهو أفضل الأطباء في مصر في مجاله- أمام هذه الحالة النادرة التي لاتحدث، وقال: ربما تحدث بنسبة واحد في المليون.. وطلب منه صور التحاليل لتكون حالة جديدة للدراسة فقال أحمد حسن بصفاء نفس: حسنا، لعلي أكون مفيدا في البحث العلمي!

كان يحتاج إلى علاج يكلفه 11 ألف جنيه شهريا، ومن أين له هذا، اجتهد معه الحاج هشام القاضي –عضو مجلس الشعب عن دائرة قوص- في الحصول عليه من هيئة العلاج على نفقة الدولة، كانا يعانيان في دهاليز النظام الفاسد الذي تفنن في قتل المصريين بكل طريق..

ثم بدا بعد العلاج أن المرض ينتقل إلى مرحلة أخرى ويحتاج علاجا يكلف 36 ألف جنيه شهريا، مع أمل ضعيف في نجاحه أيضا، إلا أن هذا العلاج الجديد لم يدخل في قائمة العلاج على نفقة الدولة أو في قائمة التأمين الصحي.. كان من المستحيل توفير هذا المبلغ.

لم يعد أمامه إلا إجراء عملية لزرع النخاع، غير أن كونه وحيدا جعل من هذه العملية أمرا معقدا يستوجب التواصل مع المستشفيات حول العالم لإيجاد نخاع يمكنه التوافق معه، وهو أمر نادر، ثم إن استقدامه إلى مصر يؤثر على حالته.. كان التفكير منصبا على إجراء العملية في الخارج، وكان العائق هو المال..

وقبل أن نستكمل التفكير في حل هذه المعضلة وتوفير المبلغ المطلوب، تطورت الأمور بسرعة مع أحمد حسن ليرقد أسبوعا في المستشفى في حالة غير مستقرة، ثم تفيض روحه إلى بارئها قبل أربع ساعات من لحظة كتابة هذه السطور.

أحمد حسن حامد.. نموذج للبلاد التي تفقد كفاءاتها وشبابها الصالح لأنها تهتم بالتافهين والسافلين وتغرقهم بالأموال والمكافآت.. ولست أدري ما هي القيمة الحقيقية للاعب كرة أو مغني أو راقصة؟ ما هي إضافتهم التي يستفيد منها الوطن على مسار نهضته العلمية أو الحضارية؟

إنه الآن بين يدي ربه، وهو –قطعا- أرحم به من الدنيا، وما هذه السطور إلا لهدف واحد وحيد.. أن يدعو له كل من يقرأ هذا المقال، أن يدعو له دعوة مخلصة، فإنه يستحق أن يكون من الخالدين، غير أننا في أيام تغفو عن مثله من الصالحين المخلصين..

أضحى التنائي بديلا عن تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا

وقد نكون وما يُخْشى تفرقنا ... فاليوم نحن وما يُرجى تلاقينا

بِنْتُم وبِنَّا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم، ولا جَفَّت مآقينا

تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

حالت لفقدكم أيامنا فَغَدَت ... سودا، وكانت بكم بيضًا ليالينا

لا تحسبوا بُعْدكم عنا يُغيِّرنا ... إذ طالما غَيَّر البُعْد المحبينا

إن كان قد عزَّ في الدنيا اللقاء بكم ... ففي موطن الحشر نلقاكم ويكفينا

الثلاثاء، يناير 18، 2011

غزة تونس السودان، تعددت الأحداث والعُمْق واحد!

غزة – تونس – السودان.. تعددت الأحداث والعُمْق واحد

في مثل هذا اليوم حققت الحركة المباركة، حركة المقاومة الإسلامية حماس، معجزةً عسكرية لا نعرف لها مثيلا في تاريخنا الحديث، حيث انتصرت الثلة القليلة المؤمنة على الوحش الإسرائيلي المسلح بما يفوق قوة العرب مجتمعة، حتى انسحب الجيش صاغرا، لم يحقق من أهدافه شيئا، وعاد إلى ثكناته بمزيد من الفضائح والجرائم ودماء المدنيين الذين لم يجد غيرهم ليستأسد عليهم.

إن حديث الحرب ومعجزة النصر حديث طويل، وجوانب روعته كثيرة، من صمود الناس خلف حماس، وتقديم حماس لقياداتها شهداء في المعركة –ولقد كدنا ننسى هذا من بعد ما طال علينا العمر مع زعماء إما متنازلين أو هاربين أو مختبئين- وما سمعناه عن قصص المجاهدين التي تبدو أسطورية لا تصدق.. إنه حديث طويل لا يُملُّ، على رغم ما أفاض فيه المتحدثون، ذلك أنه آية من آيات الله، و(لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا).

إلا أن أمرا مهما يظل مُلِحَّا على الذهن في كل هذه الحرب، وهذا هو ما امتازت به حماس عن كل الذين انتصروا على إسرئيل، ذلك هو أنها كانت وحيدة في الميدان، وحيدة تماما، لا ظهر لها ولا نصير. فحتى النصر الخالد الذي حققه حزب الله اللبناني، جاء وحزب الله مستند إلى عمق لبناني مفتوح، من ورائه قناة سورية تُفْضِي إلى المنجم الإيراني الكريم الذي لم يبخل (وجزاهم الله خيرا أن قاموا بواجبهم في الدعم والمساندة).. لكنَّ حماس انتصرت وحدها، على رغم الضيق والحصار والعنت الذي تفرضه مصر عليها، إن عمالة النظام المصري لإسرائيل صارت حقيقة لا تحتاج إلى إثبات بل يُشَكُّ في القدرات العقلية والبصرية لمن لا يراها.

لقد استمرت حماس في معركة الصمود والبطولة بعد حرب الفرقان، إلا أنها –مع ذلك- لم تستطع استثمار نصرها على النحو الممكن في البناء والتقدم على مسار القضية.. وما هذا إلا لنفس السبب.. مصر.. أو "العمق الاستراتيجي".

إن هذا "العمق الاستراتيجي" هو نفس المعضلة التي تواجهها تونس هذه الأيام، وهو الخطر الأكبر الذي قد يُفضي إلى اختطاف ثورتها، فالقذافي قال بوضوح أنه ضد هذه الثورة لا يؤيدها بل وسار في تمنياته إلى أن تمنى بقاء زين العابدين بن علي مدى الحياة، إن القذافي محير في الكتابة عنه حقا، إن وصفه بالمخبول يكاد يكون أفضل الألفاظ تهذبا، إلا أننا نفهم من صراحته –الصراحة أيضا أكثر الألفاظ تهذبا- أن تونس ستعاني من جهة القذافي. وعلى الجهة الأخرى ترقد جزائر بوتفليقة التي أضحت الآن محطة إدارة العمليات بين المخابرات الأمريكية والفرنسية مع دعم ومساندة من السعودية وليبيا، ولربما أطراف أخرى لم تظهر بعد في التسريبات الإخبارية.

إلا أن تونس في الوضع الأخطر.. ذلك أنه لا قيادة للثورة، بخلاف حالة حماس التي هي حركة من الطراز الأول في النظام والانضباط، ما يجعل اللاعبين الدوليين –ومعهم هذا العمق الاستراتيجي- يعملون في مسرح فارغ، في حين لم يكن لأحد أن يتحدث -فضلا عن أن يعمل- في غزة متجاوزا حماس.

لَكَم ضيَّعت علينا الزعامات العربية فرصا للتحرر والنهضة والتخلص من النفوذ الأجنبي وبناء المشاريع الوطنية، وها نحن – في يناير 2011- نرقب الوضع في تونس وأيدينا على قلوبنا، كما نرى قطاع غزة وبعد عامين من الحرب لم يرَ حتى وعود الإعمار تُقيم ما هَدَّمته الحرب، ونرى جنوب السودان ينفصل في غياب العمق الاستراتيجي للسودان والمتمثل –لمرة أخرى- في مصر!

كان أسوأ ما نُشر من أخبار في الفترة الماضية أن الرئيس جيمي كارتر صرَّح بأنه طمأن الرئيس مبارك أكثر من مرة بأن انفصال جنوب السودان لن يمثل خطرا على الأمن القومي المصري في الفترة الحالية!!!

لنا أن نضع ما نشاء من علامات التعجب، إذ أن القيادة المصرية صارت تعمل بالتطمينات فيما يخص أمنها القومي، كما أن هذه التطمينات يُقَدُّمها طرف غير ذي ثقة، وهذا الطرف نفسه يصرح بوضوح بأن التطمين قائم في "الفترة الحالية".

فإن كان هذا عمقا استراتيجا للسودان، فلنا أن نفهم جيدا كيف تضيع الفرص، بل كيف تضيع البلاد كلها!

لئن كان من أمل في شأن هذه المعضلة، معضلة العمق الاستراتيجي لحركات المقاومة والإصلاح، فهي أن كثيرا من القيادات باتت تنتظر ملك الموت، أو ربما تنفجر في وجهها ثورة الإصلاح بغتة وهم لا يشعرون.. (ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)

الأحد، يناير 16، 2011

ثورة تونس بين الرأي وشجاعة الشجعان!

صبرنا إلى أن ملَّ من صبرنا الصبرُ ... وقلنا: غدًا أو بعده ينجلي الأمرُ

فإذا غدٌ دهرٌ، ولو مُدَّ حبله ... لانطوى في جوف هذا الغد الدهرُ

أين هي النقطة الحرجة الكامنة في أعماق الشعوب الإسلامية؟

ما يزال المحللين والمراقبين والمنظرين، بل والإصلاحيين، يتلقون في كل مرة صدمة جديدة من شعوبهم التي يتوقعون أنهم خبروها وحللوها ووصلوا إلى أعماقها وعرفوا من أين تُؤكل ومن أين تُساق، حتى لقد صاروا كمن قال الله فيهم (يُفْتنون في كل عام مرة أو مرتين).

حماس نفسها فوجئت بنسبة النجاح التي اكتسحت بها الانتخابات الفلسطينية، والإخوان فوجئوا بأنهم حققوا (33) مقعدا في المرحلة الأولى من انتخابات البرلمان، كذلك فإن مؤيدي حزب الله كانوا يضعون أيديهم على قلوبهم من انفضاض الناس عن حزب الله بعد حرب 2006، ومؤيدي حماس كانوا على وجل من قدرتها على مواجهة الحصار وإدارة القطاع ثم الانتصار في حرب الفرقان، لكن الشعوب فعلت هذا وصمدت وانتصرت، وإلى الآن لا ترى احتجاجات شعبية ضد حماس المحاصرة المرهقة التي اجتمعت عليها الدنيا، أو ضد حزب الله الذي يحاولون هزيمته سياسيا بعد هزيمتهم عسكريا.

فإذا كان هذا حال المصلحين ومؤيديهم وهم الأقرب للشعوب، فكيف بالحكام الذين انفصلوا عن شعوبهم منذ زمن بعيد، أو بالأجانب من صحفيين وخبراء وسفراء وباحثين وهم ثقافة أخرى وبيئة أخرى ونظرة أخرى.. فهؤلاء أبعد مكانا وأضل عن سواء السبيل.

واللافت للنظر أن هذه النقطة الحرجة دائما متقدمة عن التحليلات وسابقة لها، أي أن الشعوب دائما أفضل من المتوقع، وهذه الحقيقة ينبغي أن تنقل السؤال من "لماذا لا يثور الشعب؟" إلى "كيف نستطيع تثوير الشعب؟".

***

ما حدث في تونس كشف –أول ما كشف- عن جهلنا بها، فهذا الشعب الذي لم يَبْدُ منه قبل الآن شيء، فاجأ الجميع بأنه انطلق مرة واحدة، ثم تصاعدت ثورته حتى هرب رئيسه من أمامه مذعورا.

لم نكن نتوقع شيئا من بلد استطاع فيها القهر أن يحارب الناس في دينهم إلى الحد الذي كان رئيسه يجاهر بالفطر في نهار رمضان (بورقيبة) ثم يُمنع فيه ارتداء الحجاب –وهو فرض إسلامي- لا بل تفتي المؤسسات الدينية بأنه ليس من الإسلام في شيء، بل إن القيروان –وهي المنارة الإسلامية في الشمال الإفريقي- لا تقام فيها صلاة الجماعة.

لابد أن في الأمر ما نجهله، وجهلنا هذا سيؤدي إلى خطأ في التحليل والتقييم لما حدث، كما سيجعلنا ننتظر مفاجآت أخرى فيما سيحدث من بعد.. ونسأل الله أن يتم الثورة التونسية على خير وأن تحقق أهدافها كاملة.

ولئن كنا نجهل تونس الشعب، فالحمد لله أننا لم نجهل رئيسها البائد المخلوع، فلقد كرر المخلوع سيرة الطغاة من قبله حتى أكملها، ولقد كان تعامله مع الثورة كما تعامل كفار قريش مع دعوة الإسلام، تجاهل في البداية، ثم ضرب وتعذيب ومواجهة وحشية لا أخلاق فيها، ثم محاولات التفاوض، ثم لحظة الغرق التي قال فيها "فهمتكم، إيوه فهمتكم" فكأننا نرى فرعون يقول: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل"!!

ولقد أخبرتنا ويكيليكس –حفظها الله!!- في وثيقة سابقة أن الرجل لا يسمع لا لعدو ولا لحليف، إنما يعمل من رأسه وفقط، فكأنما تسمع قول فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

ويبدو أنه تعود على هذا النمط إلى الحد الذي لم يعقل فيه متى يمكن أن يُقدم ومتى يمكن أن يتراجع، فكان أسوأ ما فعله أن أقال قائد جيشه ووزير داخليته وهو في قلب الأزمة، وهذا هو خطؤه القاتل الذي عجل برحيله؛ فلئن كان الطغاة لا يحفلون بحب الناس لهم، فإنهم يحفلون جدا بامتلاكهم نقاط القوة المتمثلة في الجيش والشرطة. ولا شك في أنه -في هذا الوقت العصيب الذي يواجه فيه الشعب- لو لم يصنع مشكلة مع الجيش والشرطة لكان استطاع إخماد الثورة.. كما استطاع غيره من الطغاة إخماد كثير من الحركات الشعبية بل والانقلابات المسلحة أحيانا.

وما إن فقد "بن علي" قوة الجيش والشرطة حتى فقد سلطانه جميعا، وما هو إلا أن هرب في طائرة قبل أن يقرر إلى أين يتوجه..

***

الحمد لله الذي أضله وقذف في قلبه الرعب..

إلا أن ثورة تونس غامضة، نتمنى أن تفاجئنا بكل خير كما فعلت حتى الآن، لكننا نخشى أيضا أن تفاجئنا بما لا نحب..

إنها ثورة لا نعرف لها قائدا ولا مفجرا ولا زعيما، حسنا؛ إن هذا يجعلها شعبية خالصة، ليست ملكا لأحد، وينفي عنها كل شبهة خارجية أو شبهة تآمرية، كما سيجعل الجميع متوحدا حولها ومن ثم فلن يحاول طرف أو توجه أو حزب إفسادها نكاية في الطرف الذي هو صاحبها.

إن ثمة ميزات كثيرة لكون هذه الثورة بلا قائد ولا زعيم ولا تيار..

إلا أنها ميزة على طريق الهدم، ومعضلة على طريق البناء.. إن الهدم لا يحتاج إلى مهندس ولا إلى فريق متناسق ولا إلى تخطيط مسبق، إنه يحتاج إلى مجموعة منطلقة تستطيع إحالة البناء إلى ركام، غير أن البناء لا مناص منه.

لقد قامت شعوبنا بثورات كثيرة على الاحتلال، تكاد كلها أن تكون قد سرقت حتى ليصح قول القائل "الثورة يشعلها ثائر ويقطف ثمارها جبان"، وتمخضت ثوراتنا المباركة ضد قوى الاحتلال عن أنظمة هي أشد علينا من الاحتلال نفسه فنكبتنا نكبة جديدة لم يستطعها الاحتلال ذاته.

لقد هدمت الثورة التونسية شخص "بن علي"، وهي الآن تعيش في الفراغ، فإن لم يكن ثمة بديل فإن بقايا النظام القديم ستعيد ترتيب صفوفها لتعود، كما أن الخارج لا يجلس منتظرا، وهو لاشك يعمل الآن على قدم وساق.

وعلى سبيل المثال: فثمة معلومات قريبة من اليقين عن أن فرنسا تواصلت مع أحزاب صغيرة لتدفعهم باتجاه منع صدور قانون عفو عام أو رفع الحظر عن التوجهات المحظورة، ولقد ظللت أتتبع هذا الخبر تحديدا فإذا به صحيح، وإذا كثير من التيارات تم التواصل معها إلا حزب النهضة الإسلامي المحظور، ولقد عادت بعض القيادات المعارضة إلى تونس فيما لا يستطيع –حتى لحظة كتابة هذه السطور- راشد الغنوشي أن يحضر إلى تونس.

المقصود أن الخارج قد دخل على الخط، وهذه الثورة إن لم تستطع إفراز قيادة، أو –بعبارة أخرى- إن لم تستطع قيادة ما أن تقود هذه الثورة، فإن عودة النظام القديم في طلاء جديد هو احتمال قائم، بل –للأسف- هو الاحتمال الأكبر.

ما أصعب إشعال الثورات، ولكن ما أسهل سرقتها ما لم تكن الثورة على مستوى المرحلة.. ما لم تكن ثمة قيادة تستطيع أن تمسك بالوضع الداخلي وتخاطب أحلام الجماهير.. وتتفاهم مع الخارج، نعم الخارج..

صحيح أن الخارج ليس إلها، لكن الخارج ليس صفرا.. وواقع الحال أن تونس دولة صغيرة وضعيفة، ويكاد ألا يكون لها عمقٌ يرحب بالثورة (يمينها بوتفليقة ويسارها القذافي وفوقها أوروبا).. فلا بد من قيادة تستطيع على الأقل أن تتفاهم مع هذا الخارج الذي يملك امتدادت بالداخل.

ومن المؤسف كذلك أن أحدا من قيادات المعارضة الذين امتلأت بهم الفضائيات والصحف في اليومين الماضيين لا تسمع منهم أي خطوات محددة يفكرون في القيام بها، ما يؤكد أن ثمة فراغا لا يوجد من يملؤه.. ولئن كان الشعب قد استطاع الثورة فالحقيقة المعروفة أن الجماهير لا تستطيع أن تتفق على رأي واحد ولا أن تسير في البناء والتعمير على قلب رجل واحد.. فيكون إلقاء التبعة على الجماهير في مثل هذا الأمر من تحميلهم ما هو فوق طاقتهم.

إن مشاهد الانفلات الأمني التي قامت بها ميليشيات بن علي بعد هروبه تثير القلق، وتؤكد أن الجماهير قد انتهت مهمتها بعد أن حققت "الهدم" وبقيَ أن يأتي من ينظم هذه التيارات الكثيرة في سياق واحد نحو "البناء".

***

هذه هي معضلة أن الثورة حتى الآن بلا قيادة معروفة.. لا أدري كيف ستحل ولا أحب أن أكون مثبطا فأتوقع هذا الاحتمال الأكبر..

ربما ينبغي أن نعلم أن الحاكم ليس إفرازا لشعبه، بل هو إفراز لمحصلة القوى المؤثرة في المجتمع، فأين هذه القيادة الداخلية التي ينبغي أن تظهر فتجمع قوة الجماهير في نسق يجعلها أقوى القوى العاملة في البلد.

ورحم الله المتنبي لما قال:

الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أولا، وهي المحل الثاني

نشر في: يقظة فكر

الثلاثاء، يناير 11، 2011

أثر الروايات الضعيفة في تشويه التاريخ الإسلامي

للوهلة الأولى، لا يُكتشف الأثر البعيد والسيء للروايات الضعيفة والموضوعة في التاريخ الإسلامي، ولا سيما روايات العصر النبوي والراشدي، إنما يبدأ إدراك الأثر حين يبدأ عقلٌ ما في تركيب هذه الروايات في "نموذج تفسيري" –بتعبير د. عبد الوهاب المسيري- وهو في عامة الأحوال نموذج سيء، أقله أن يثير الشكوك ويأتي بالغرائب، وأعلاه أن يطعن في رجال العصر الأول –وهم خير القرون- فينسبهم إلى ما يتنزه عنه كثير من الفساق والفجار.

وعندي أن الرواية الضعيفة في تاريخ العصر النبوي والراشدي لها من الضرر ما يساوي ضرر الحديث الضعيف والموضوع، ذلك أن سيرة النبي وسيرة الخلفاء الراشدين من السنة التي أُمِرَ المسلمون باتباعها والاقتداء بها، فمنها ينهلون طريق الإصلاح والتجديد والتطوير، وعبر مساراتها يستكشفون سنة النبي r وهديه في التعامل مع الأزمات والمشكلات، ولقد حدث أن فعلت روايات ضعيفة في السيرة أثرا سيئا حين بُنيَت عليها مناهج للتربية وطرائق للإصلاح ومسارات للنهضة.. فاستهلك الكثير من الجدل والمجهود، وذهبت كثير من الأوقات –بل والأعمار- في بناءٍ تأسس على روايات ضعيفة.

وكثيرا ما لا تبدو الرواية الضعيفة وكأن فيها ما يريب، بل ربما كانت من "المقبول" الذي يستحسنه البعض، ويستطيبون ذكره، إلا أنه –وفي أحوال كثيرة- تساهم الرواية الضعيفة إلى جانب أخوات لها ضِعَاف في تكوين صورة شائهة، ثم تدفع هذه الصورة الشائهة بالعقول إلى تحليلات خاطئة تماما.

وثمة كثير من الأمثلة التي يُمكن أن تُضرب في هذا المجال لا سيما تلك الروايات التي وردت في الفتنة الكبرى بين الصحابة، ونحن نرى كيف ساهمت في تكوين الفكر الشيعي –على سبيل المثال- حتى لقد غدا من الدين لعن أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة (رضي الله عنهم).

إلا أن الأنسب –في هذا المقام- أن نضرب مثالا بروايات ضعيفة لا يكاد يُستشعر منها خطر أو فتنة، وسنرى كيف أدت إلى صورة شائهة ثم تحليل موغل في الخطأ..

ذلك هو تحليل المستشرق البريطاني المعروف مونتجمري وات، وهو مستشرق منصف كما يبدو من عامة كتبه، ولقد بذل مجهودا يستحق الإعجاب في دراسته للسيرة والتي نُشرت في مجلدين هما "محمد في مكة" و"محمد في المدينة". إلا أن مونتجمري وات بمجهوده الدؤوب وعقله النبيه لم يكن يستطيع التفرقة بين الصحيح والضعيف من الآثار، فليس مؤهلا لذلك، ولا نستطيع أن نطالب مستشرقا باستيعاب علم لا يقدر عليه إلا القليل من أبناء أمتنا نفسها، وحيث أن أمتنا تعيش كبوة من كبواتها فإن هذا أدى إلى تأخر المجهود المطلوب في تحقيق الروايات التاريخية في مصادرها الأولى.

***

جاءت ثلاث روايات صحيحة؛ الأولى تقول: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) فرأينها سيئة الهيئة، فقلن لها: ما لك فما في قريش أغنى من بعلك؟ قالت: ما لنا منه شيء؛ أما ليله فقائم، وأما نهاره فصائم. فدخل النبي (صلى الله عليه وسلم) فذكرن ذلك له، فَلَقِيَه، فقال: "يا عثمان بن مظعون أما لك بي أسوة؟". فقال: يا بأبي وأمي وما ذاك؟ قال: "تصوم النهار وتقوم الليل". قال: إني لأفعل. قال: "لا تفعل؛ إن لعينيك عليك حقا، وإن لجسدك حقا، وإن لأهلك حقا، فصلي ونم، وصم وأفطر. قال: فأتتهن بعد ذلك عطرة كأنها عروس، فقلن لها: مه؟ قالت: أصابنا ما أصاب الناس[1].

والثانية تقول: أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين رأى أسماء بنت عميس –وكانت ممن هاجر إلى الحبشة ثم عادت إلى المدينة- قال لها: "سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت وقالت كلمة: كذبت يا عمر، كلا والله؛ كنتم مع رسول الله يُطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار -أو في أرض- البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله، ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك لرسول الله وأسأله ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أريد على ذلك، قال: فلما جاء النبي قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان"[2].

والثالثة مختلف في إسنادها، وإن كانت أقرب إلى الصحة، تقول: أن عثمان بن مظعون أراد أن يختصي ويسيح في الأرض فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أليس لك في أسوة حسنة فأنا آتي النساء وآكل اللحم وأصوم وأفطر إن خصاء أمتي الصيام وليس من أمتي من خصى أو اختصى"[3].

***

ثم يأتي دور الروايات الضعيفة، وهي التي اعتمد عليها مونتجمري وات لورودها في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، فانظر هذه الروايات كيف تبدو –للوهلة الأولى- غير ذات ضرر، ثم انظر كيف ركبها مونتجمري وات في صورة مضللة فخرج منها بتحليل غريب لهجرة الحبشة، وإن كان لا يُلام عليه وحده.

جاء عند ابن سعد:

1. أن عثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث وأبو سلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف حتى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه، فأسلموا جميعا في ساعة واحدة[4]. [من رواية الواقدي وهو متروك، وفي السند انقطاع عند يزيد بن رومان وهو من صغار التابعين].

2. أن عثمان بن مظعون حرم الخمر في الجاهلية وقال إني لا أشرب شيئا يُذهب عقلي، ويضحك بي من هو دوني ويحملني على أن أُنكح كريمتي من لا أريد. [قال الذهبي: هذا خبر منقطع لا يثبت[5]]

3. وأنه ذهب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال: يا رسول الله إني لا أحب أن ترى امرأتي (عورتي) قال رسول الله: "ولِمَ؟"، قال: أستحيي من ذلك وأكرهه. قال: "إن الله جعلها لك لباسا وجعلك لها لباسا وأهلي يرون عريتي" [قال الذهبي: منقطع، وحكم الألباني بضعفه[6]]

4. وأنه اتخذ بيتا فقعد يتعبد فيه فبلغ ذلك النبيَّ فأتاه فأخذ بعضادتي باب البيت الذي هو فيه فقال يا عثمان إن الله لم يبعثني بالرهبانية مرتين أو ثلاثا وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة [سنده مرسل، وفيه معاوية الجرمي لا تعرف له ترجمه][7].

5. وأن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: لما توفي عثمان بن مظعون وفاة لم يُقْتَل (أي لم يُستشهد ومات على فراشه) هبط من نفسي هبطة ضخمة، فقلت: انظروا إلى هذا الذي كان أشدنا تخليا من الدنيا ثم مات ولم يقتل، فلم يزل عثمان بتلك المنزلة من نفسي حتى توفي رسول الله r فقلت: ويك إن خيارنا يموتون (أي على فراشهم) ثم توفي أبو بكر فقلت ويك إن خيارنا يموتون، فرجع عثمان في نفسي إلى المنزلة التي كان بها قبل ذلك". [من رواية الواقدي وهو متروك، وفي السند انقطاع إذ لم يدرك عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عمر بن الخطاب][8].

6. وأن خالد بن سعيد –وكان من أوائل المهاجرين إلى الحبشة- تأخر عن بيعة أبي بكر لشهرين أو ثلاثة تكبرا واستنكارا أن يتولى أبو بكر –وهو من تيم- على بني هاشم وبني أمية من بني عبد مناف، فكان هذا مما أثار عمر –وهو من بني عدي الأقل شأنا من بني عبد مناف- فلما أن وَلَّى أبو بكر خالدَ بن سعيد قيادة جيش متجه إلى الشام ما زال به عمر حتى عزله أبو بكر. [وهذه الرواية من رواية الواقدي، وهو متروك، ووردت من طرق كلها ضعيفة[9]].

7. ثم جاء خبر بلا إسناد عند ابن هشام أن عثمان بن مظعون كان هو الأمير على المهاجرين إلى الحبشة[10].

8. وأخيرا ثمة صحابي اختلف في تاريخ إسلامه، وهو الحجاج بن الحارث بن قيس، فيذكر البعض أنه من السابقين إلى الإسلام والمهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فيما يذكر آخرون بأنه ظل مشركا حتى أسِر في غزوة بدر ثم أسلم[11].

***

لم يفرق مونتجمري وات بين الصحيح والضعيف من هذه الروايات، بل قرأها كلها معا من طبقات ابن سعد ومن سيرة ابن إسحاق، ولا يمكن أن نلومه لعدم تمكنه من تمحيص الأسانيد، فهذه أمور ما نحسب أن مستشرقا يمكنه أن يُفلح فيها، كيف وعلم الحديث والرجال من أصعب العلوم على المسلمين أنفسهم!!

ولقد فعلت الروايات الضعيفة فعلها في بناء الصورة المضللة والتحليل الغريب لموضوع الهجرة إلى الحبشة، حاول وات أن يستنطق الأحداث والظروف ليفهم لماذا أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بعضا من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وحيث أنه لن يقبل التفسير الإسلامي للحدث كما يقبله المسلم، لذا خرج بعدد من الاستنتاجات الأخرى، وكان منها هذا التحليل الذي يقول:

من الواضح أن انقسامًا حادًا جرى بين المسلمين الأوائل، ولذا نلاحظ أن المهاجرين إلى الحبشة كان أميرهم عثمان بن مظعون، وعثمان هو الرجل الذي كان –حتى في الجاهلية- لا يشرب الخمر، والذي حاول أن يُدخِل إلى الإسلام بُعدا تقشفيا وأن يقود تيار الزهد، وأن محمدا حاول في أكثر من مرة أن يرده عن هذه التصرفات والأفكار، ويبدو واضحا من قيادته للمجموعة التي أسلمت مبكرا ثم قيادته للمهاجرين إلى الحبشة أنه كان شخصية قيادية وحوله مجموعات تتأثر به، وتدلنا روايات أخرى عن خلافات وتنافسات قائمة بين مجموعة عثمان بن مظعون ومجموعة أخرى يتزعمها أبو بكر ومعه عمر، فحتى بعد وفاة عثمان بن مظعون ظل عمر لا يراه ذا مكانة لأنه مات في فراشه.

كذلك فإن عمر دخل في نزاع مع أسماء بنت عميس –وهي ممن هاجر إلى الحبشة- بدعوى أن المهاجرين إلى المدينة أفضل، وهو ما أغضبها حتى تدخل محمد بنفسه لحل الإشكال، كذلك فإن خالد بن سعيد –وهو ممن هاجر إلى الحبشة- أظهر بعد موت محمد عداء لأبي بكر، وكذلك الحجاج بن الحارث بن قيس الذي أسلم وهاجر إلى الحبشة لكنه حارب المسلمين في بدر وأسِر.

ومن ثم –يقول مونتجمري- شعر محمد بضرورة معالجة هذا الانقسام في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الدعوة في مكة، فأرسل بمجموعة عثمان بن مظعون التي تنافس مجموعة أبي بكر إلى الحبشة، ليستقيم أمر الجماعة المسلمة في مكة، وهذا هو التفسير لمبادرته بن يطلب منهم الهجرة مع أنهم أقوياء الإيمان ولا شك في قدرتهم على الثبات على دينهم أمام التعذيب[12].

ومن الإنصاف أن نذكر أن مونتجمري وات فتح الباب لخطأ وصواب جميع تحليلاته، وأكثر فيها من ألفاظ الاحتمال والجواز والإمكان وما إلى ذلك من عبارات الاحتياط، كأنما يفكر بصوت مسموع.

***

قد كان يمكن اتهام هذا التحليل بالتعسف والتحيز والتآمر وما إلى ذلك، لو لم تكن مستندات الرجل في التحليل هي الروايات التي وردت فعلا في كتبنا، وقد وثقناها في هذا المقال من مصادرها الأصلية.

وطالما ظلت كتب التراث لا تلقى الاهتمام بتصحيح ما فيها من الروايات على منهج المحدثين –خصوصا في العصر النبوي والراشدي فإن تاريخهما من السنة التي تُتَّبَع- فستظل ما فيها من روايات ضعيفة تنشر مزيدا من التشويه والتضليل، ويتكيء عليها –جهلا أو عمدا- من أراد الطعن في الإسلام وجيله الذهبي، هذا فضلا عن إثارتها البلبلة والحيرة في نفوس المسلمين، ومساهمتها في تضليل مصلحين يتشوش عليهم منهج الإسلام في الإصلاح والتجديد والنهوض من الأزمات.

وقد ضربنا مثالا لروايات تبدو بعيدة عن موضوع جوهري، وتبدو كل واحدة منها على حدة غير ذات أثر كبير، إلا أنها حين تجمعت في تحليل أخرجت صورة شائهة، ولذا فهي دعوة للعلماء والجامعات والمراكز البحثية، ولطلبة العلم –لا سيما طلاب علم الحديث- إلى بذل الجهد في هذا الباب، فإنه باب خالد ترجع إليه الأمة في كل أجيالها فيكون أجرا خالدا بإذن الله تعالى.



[1] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/395، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، انظر: الألباني: إرواء الغليل 7/79، والسلسة الصحيحة 4/182، وقال شعيب الأرناؤوط: حسن لغيره في تعليقه على صحيح ابن حبان.

[2] البخاري (3990)، ومسلم (2503).

[3] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/395، وفي السند خلاف، فقال الألباني: إسناد جيد (السلسلة الصحيحة 4/329 – تحت الحديث 1830)، فيما أفاد شعيب الأرناؤوط وحسين سليم أسد بأنه منقطع.

[4] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/393.

[5] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/394، والذهبي: سير أعلام النبلاء1/155.

[6] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/394، والذهبي: سير أعلام النبلاء 1/157، والألباني: السلسلة الضعيفة (3066).

[7] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/395، وقال الألباني عن سنده: مرسل (الصحيحة 4/281 – حديث 1782)، وانظر: تحقيق شعيب الأرناؤوط وحسين الأسد (حاشية: سير أعلام النبلاء 1/158).

[8] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/399.

[9] ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/97، من رواية الواقدي، ورواه الحاكم في المستدرك (5087)، وقال الذهبي: "منقطع"، والطبري في تاريخه 2/331 من طريق محمد بن حميد الرازي –وهو ضعيف- وفي الرواية ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعنها. وانظر: محمد بن طاهر البرزنجي: ضعيف تاريخ الطبري 8/143، وانظر: عبد السلام بن محسن آل عيسى: دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1423هـ = 2002م. 1/532.

[10] ابن هشام: السيرة النبوية 1/409.

[11] ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 2/30.

[12] مونتجمري وات: محمد في مكة، ص242 وما بعدها (باختصار وتصرف).

نشرت في مجلة الوعي الإسلامي (العدد 546 - صفر 1432 - يناير 2011)

الأحد، يناير 02، 2011

مذبحة الإسكندرية مقدمة الحرب الأهلية


من منطلق أخلاقي بحت، ومن منطلق دعوي أيضا، أقول: للمرة الألف مليون إن ما حدث في الإسكندرية مرفوض إسلاميا.

وبرغم كل اليقين من أن هذه الكلمة صارت لا تعني شيئا، أو هي –بالأساس- لا تعني شيئا، لأنها دفاعٌ عن غير مُتَّهَم، ولأن الجريمة لا دين لها، ولأن أكابر المجرمين في العالم الآن من اليهود والمسيحيين بلا أدنى شك.. وأعداد الضحايا بيننا هي الدليل.

وأحرى بنا –إن أردنا أن نفهم- أن نتكلم في نقاش حقيقي لا أن نسعى لتسجيل النقاط في معارك كلامية لن تنتهي، وإذا أمسكنا بخناق الأديان فإننا سنثير كل الكوامن والغرائز الإنسانية الحسن منها والمتعصب لتدخل في معركة "الدفاع عن الدين ضد الأعداء".. وبمزيد من التوتر نكون قد وصلنا إلى ما يُراد بنا وما يُراد لنا.

لا المسلمون في مصر يريدون "تطهيرها" من المسيحيين، أتوقع أن هذه حقيقة، كما أن المسيحيين في مصر لا يريدون "تطهيرها" من المسلمين، وهذه أيضا حقيقة وإن كانت فلتات بعض الألسن في القيادات الكنسية (وهي موجودة على اليوتيوب، وآخرها تصريح بيشوي للمصري اليوم) قد بدأت تخدش منها لكنه شذوذ على طول المسيرة التاريخية التي بلغت الآن أكثر من أربعة عشر قرنا.

وحتى لو أراد المسلمون هذا، فإن من فوقهم نظاما مستبدا متعفنا متجبرًا هو أحرص ما يكون على رضا السيد الأمريكي وأخوف ما يكون على غضبه، ومن ثَمَّ فلا سبيل إلى تنفيذ هذه الخطة التطهيرية من المسيحيين. كما أن موازين القوى ونسبة العدد لا تسمح للمسيحيين بالتفكير في خطة تطهيرية كهذه في اللحظة الحاضرة على الأقل.

وهذا –بوضوح- هو الواقع القائم، حتى إذا تجاوزنا كل مباديء وقيم الديانتين، وكل هذا التاريخ الطويل من التعايش والتراحم والمواجهة المشتركة للاحتلالات التي جاءت على أرض هذه البلد.

***

وأرجو ألا يزايد أحد على هذه الحقيقة، والأقباط في مصر عاشوا أفضل عهودهم في ظل الشريعة الإسلامية بشهادة البابا شنودة نفسه في (الأهرام 6/3/1985) وقد قال حرفيا: "إن الأقباط في ظِلِّ حكم الشريعة يكونون أسعد حالاً وأكثر أمنًا، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد... نحن نتوق إلى أن نعيش في ظِلِّ: "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا". إن مصر تجلب القوانين من الخارج حتى الآن، وتُطَبِّقُها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين، فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة، ولا نرضى بقوانين الإسلام".

والقول بأن المسلمين والأقباط في مصر نسيج واحد قول حقيقي، وإن بدا الآن سخيفا لأن الذي يردده منافقون، وهو قول يشهد به المؤرخون والمستشرقون والمحتلون.. فهي حقائق متواترة.

أعرف أن حديث التاريخ في هذا الموطن حديث سخيف، حسنا، فلنتجاوز كل التاريخ ولنعتبر أن في مصر شعبين لم تجمع بينهما رابطة أبدا، وأن بينهم كراهية تحسب بالسنين والقرون، وأنهم لا يتعايشون في هذا البلد إلا مضطرين مقهورين.. ليكن، لنتخيل هذا الوضع، وحينها –فقط- سنرى أنه من الطبيعي والمنطقي أن تندفع مجموعة من المسلمين لتفجير كنيسة في ليلة عيد الميلاد.

لكن لماذا؟ لماذا الآن تحديدا؟

حسنا، لدينا تهديد منذ شهور يقول بأن الكنيسة المصرية لو لم تُفرج عن المسلمات المحتجزات في الأديرة سنفجر كنائس مصرية.. وإذن، فالمجرمون لهم مطالب.

هل مطالبهم هذه، أوذرائعهم، حقيقية أم أنها خيالية؟

هل هي واقعية؟ أم تعجيزية؟

لئن كان يستحيل عليَّ استبعاد اليد الخارجية من هذا الحادث، إلا أنني سأسير خلف الذين سارعوا لاتهام المسلمين، أو اتهام القاعدة.. فليكن هذا حقا، حينها ستكون المعطيات أمامنا بهذا الشكل: القاعدة تيار متعصب دموي، وهم مجموعة من المتطرفين.. إلا أنهم في الحقيقة كانوا شرفاء، أعلنوا عن مطالبهم وعن تهديدهم من قبل أن ينفذوه.. وأعطوا مهلة كافية، كما طلبوا مطالب واضحة وبسيطة وغير تعجيزية.

لماذا لم يحاول شنودة إنقاذ شعبه من المتطرفين الدمويين المسلمين؟ لا سيما وهم يعيشون بين شعب من المسلمين المتطرفين الدمويين كذلك؟

إنه سؤال يتجنبه كل المحللين ولا يجيبون عليه، وهو سؤال سيضيع في الزخم القائم الآن، لأن أحدا لا يريد أن يواجه الحقيقة كما هي.. دعونا نفترض فعلا أن القاعدة هي فعلا من أطلقت التهديد وهي فعلا من نفذت التفجير.. أما كان من الممكن تفويت هذه الفرصة عليهم؟

الحقيقة أنه كان من الممكن لولا هذا الاستعلاء والاستكبار الذي أصاب القيادة الكنسية، والتي استقوت فعلا بالخارج، واستغلت ببراعة لحظة ضعف النظام المتهافت الحقير الذي يحكم مصر الآن.

***

لكنني أعود وأقول وأؤكد وأصرخ وأصيح لأقول: ليس هذا تبريرا لأحد، والجريمة التي حدثت هي جريمة أخلاقية محرمة، والضحايا الذين ذهبوا لا ذنب لهم ولايتحملون مسؤولية أفعال أحد منهم.. إنما أريد أن أؤكد على شيء واحد: أنه إذا أحببنا أن نتعامل مع مذبحة الإسكندرية على أنها جريمة قام بها مسلمون بدوافع إسلامية ومن منطلقات إسلامية، إذا أحببنا أن نفعل هذا فلننظر في الدوافع والمبررات التي ساقها هؤلاء لأنفسهم، وهل هي حقيقة أم لا؟

إن هذا أدعى لأن نفهم الواقع بدل أن نردد ما يحلو لنا ترديده عن الإرهاب والتطرف والخطاب الديني ومنابع التعصب والقنوات الفضائية ومثل هذا الكلام الذي يثير النفوس ويزيد من المشكلات.

***

سيفرح لهذا الحادث أربعة فئات:

1. القيادة الكنسية، والإعلام الكنسي، وأقباط المهجر وما يمتلكون من وسائل إعلام: ولن ترى أحدا يتحدث عن قانون الطواريء أو عن فشل النظام في الحفاظ على أمن البلد، أو عن تغول وزارة الداخلية ... لا لا .. سيتوجه الحديث في مسار آخر: حرية بناء الكنائس، نسبة من الوظائف القيادية للأقباط، نسبة للأقباط في مجلس الشعب والشورى، حذف الآيات القرآنية من مناهج التعليم (مع أن التعليم ليس فيه آية يُمكن أن يُشتمَّ منها رائحة تحريض ولو بالخطأ)، حذف مادة الدين من المدارس.... وهكذا.

فهو ليس حديثا عن الأمن أو الحماية، وإنما حديث في "المكاسب" التي يمكن أن نخرج بها من هذا الحادث، حديث في "حرب المساحات" بين الكنيسة والدولة.

2. العلمانيون الذين يكرهون الإسلام ويريدون أي لحظة للتخويف من الإرهاب ومنابع الإرهاب وقنوات الإرهاب وصحف الإرهابيين ومواقع الانترنت للإرهابيين.. وهم يريدون لا حماية الأقباط، بل يريدون مزيدا من القمع للإسلاميين، مزيدا من التعذيب، مزيدا من الاضطهاد.. ولئن كان الأقباط لهم من يبكي عليهم، فإن الإسلاميين لا بواكي لهم.

3. الذين يحبون أن يكونوا "إصلاحيين" ممن يريدون تغيير الخطاب الديني، وهم في الحقيقة يريدون تغيير الفقه وتغيير النصوص وتغيير الدين كله، لأن كل هذه المنظومة –عندهم- لا تساعد على التعايش، ولا تؤدي إلى "الدولة المدنية" التي ينبغي أن تكون بلا هوية ولا مشروع ولا رسالة.. ينبغي أن تكون فقط الكيان الإداري الذي يسهل الحياة للمواطنين.. ولهذا، فإنها فرصة عظيمة للحديث عن التعصب والتطرف والخطاب الديني الذي يؤدي إلى العنف والتفجير.

4. النظام المتستبد الفاسد المتعفن الذي سيسوق نفسه وكأنه حامي حمى الأقباط من تغول الإسلاميين ودمويتهم.. وبهذا يزيد في قمعه للحركات المعارضة –لا سيما الإسلامية منها- ويسوق نفسه غربيا باعتباره الأنسب للحكم.

***

وسيسكت في هذا الحادث ثلاث فئات:

1. المهزومون نفسيا والمعتقدون فعلا أن الإسلام كدين هو المسؤول عن مثل هذه الأعمال، وسيبدون في ثوب الخجول المعتذر الذي لا يدري ماذا يفعل وقد وُلِد مسلما في بيئة مسلمة..

2. الجاهلون والمتعصبون والذين يشعرون فعلا أن موت الأقباط هو في صالح المسلمين، وهذه فئة بدأت توجد فعلا في مجتمعاتنا، وقد شوهها فعلا نوع من الخطاب الديني ملأ الساحة حين تراجع الأزهر وارتمى في أحضان السلطة المستبدة.. لنكن واقعيين: إن الأزهر الآن لا يحترمه أحد، ولا يراه أحد معبرا فعلا عن هموم المسلمين وقضاياهم، وكل متابع يعرف أن الأزهر مؤسسة تديره الدولة وتسيطر عليه، وتستخدمه في خدمة مشروعاتها.. لقد أدى هذا الغياب إلى الذهاب نحو من يُرى فيهم الإخلاص والتعبير الحقيقي عن المسلمين وهمومهم.. ولا أنكر أن هؤلاء وإن كانوا مخلصين إلا أن مبلغهم من العلم أولا ومن فهم الواقع ثانيا شيء مؤسف.. غير أني أعود وأكرر أن خطابهم مهما كان سيئا ورديئا لم يصل أبدا إلى التحريض على العنف أو القتل.. إلا أنه أنتج عقليات ومشاعر تتقبل أن يحدث هذا ولا تهتز له ولا تتحسر على وقوعه. وهذه الفئة هي من ضحايا السلطة وعلماء السلطة ثم الجهل بالدين.

3. وسيسكت البسطاء الذين لا يملكون شيئا.. الذين تعودوا على السكوت لأنه لم يُسمح لهم بالكلام.. الذين عاشو ستين سنة في قهر واستبداد وحكم عسكري بغيض جعل الكلام بثمن يُدفع بالأرواح والأرزاق والتعذيب والاضطهاد.. سيسكتون لأنهم يسكتون دائما.

***

وإذا كانت ورقة الفتنة الطائفية هي الورقة السحرية التي تستطيع تفجير المجتمع المصري، فإن من غير المستبعد أن تكون هذه هي المقدمة، ثم بعد يوم أو يومين نسمع عن تفجير في مسجد أو في موقع شرطة، ليس شرطا أن يقوم به بعض الأقباط كرد فعل، بل أن تقوم به نفس اليد التي صنعت التفجير الأول (والتي لا أقتنع حتى الآن أنها داخلية).

وكان للدكتور محمد عباس توقعا لسيناريو الحرب الأهلية، حيث تبدأ باغتيال البابا شنودة ثم اغتيال شيخ آخر مشهور كمحمد حسان أو عمرو خالد، وحينها ستكون الدائرة قد اتسعت ولم يعد من الممكن إيقافها أو لملمتها.

إن تصريحات مدير الموساد السابق كانت واضحة وكاشفة، فالموساد يعمل في مصر بحرية كتلك التي يعمل بها في لبنان، وهو المسؤول عن إشعال المشكلة الطائفية، بحيث لا يقوى حتى خليفة مبارك على السيطرة عليها ولو أراد.. ومن ثمَّ فلا بديل أمام المتضرر إلا اللجوء إلى الإسرائيليين والأمريكان.

بعض التحليلات تقول إنه رد على الإعلان عن الجاسوس الإسرائيلي، ربما، ولكن الحقيقة الأهم والتي ينبغي التركيز عليها هي أن المناخ في مصر يحتاج إلى قيادات عاقلة تهتم بالصالح العام فوق اهتمامها بمصالحها الخاصة..

وحيث أن الواضح أنه لا وجود لهذه القيادات في هذه اللحظة.. فلنستبشر جميعا بالحرب الأهلية القادمة.