الأربعاء، سبتمبر 27، 2017

ما لا نحب أن نقوله في استشهاد عاكف

قد ادخرت لنفسي الحديث المزعج بعدما سبقني الأكثرون بالحديث الجميل، وأسأل الله أن يجعلني من المخلصين الناصحين لا ممن يحب الظهور والتميز، فمن شاء أن يقرأ كلاما لا يعجبه فعلى العين والرأس والرحب والسعة، ومن شاء غير ذلك فأسأل الله أن يرزقه خيرا من كلامي كتبه من هو أحسن مني وأرفق.

قد قتل العسكر فضيلة الأستاذ المجاهد الباسل الكبير محمد مهدي عاكف، إلا أن لتدبير الله ألطافا، فقد ظهر يوما في محاكمته مستندا إلى عكازه متلفعا ثوبا فكان أشبه شيئ بصورة عمر المختار المتلفع قبل شنقه بثوبه والمقيد إلى أغلاله، ثم إن العسكر بعد قتله سلَّموا لأهله نظارته ومصحفه فأكملوا له شَبَهَ عمر المختار وأكملوا لأنفسهم شَبَه سيرة الاحتلال! وأنتم تعرفون، فنحن في زمن القتل فيه بالقانون وبالنظام، إنما نسلب الأرواح ونعيد المتعلقات الشخصية.. فهل رأيت مثلنا قاتلا أمينا؟!

(1) لم يتغير النظام

هو سجين كل العصور، فما معنى هذا؟

ليس إلا معنى واحدا من اثنين، إما أن كل العصور كانت خيرا وكان هو الشر الذي اتفقوا على سجنه، أو أنها كانت كلها شرا وكان هو الخير الذي اتفقوا على سجنه.. فأي شيء كان عاكف؟ وأي شيء كان فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي؟!

للأمة إجابتها، وللمنافقون إجاباتهم.. وقد رضينا بضمير الأمة وإجابته.

إلا أن الذي ينبغي أن نؤكد عليه أن كل تلك العصور برغم ما بدا من كونها انقلابات على بعضها، لم تكن في الحقيقة إلا تنويعات على عصر واحد، عصر الاحتلال والاستبداد، عصر قهر الأمة وإذلالها وتحطيم قوتها ومطاردة رجالها وتشويههم، عصر الولاء للغرب والحفاظ على العلمانية وحراسة إسرائيل. ما الذي يجمع بين فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي إلا هذا؟! إن وجدتَ شيئا يجمع بينهم إلا هذا فالتمس سببا لعدائهم جميعا لمهدي عاكف.

ومن هنا، فعلى كل من شاء "إسقاط النظام" أن يعرف حدود النظام وأعماقه وامتداده في الزمان كي يُحسن الإسقاط، ويُحسن البناء.. فإن قِصَر النظر وتَوَهُّمَ أن تكون المشكلة في مبارك قد أوردنا المهلكة، وستظل مهالكنا تترى إن حسبنا المشكلة في السيسي.

(2) ألا وهي القلب

رفض عاكف أن يكتب طلبا للسيسي ليُفرج عنه إفراجا صحيا، ولا يفعلها إلا رجل قوي القلب.. إنه ربما انكسر في مثل المحنة الشاب القوي الجلد، ولست ألوم أحدا ضَعُف بل ولا أدري ما أفعل إن ابْتُلِيت بمحنة كهذه. لكن صمود الرجل وهو عند التسعين من عمره شيء يلهب الخيال ويثير الآمال.

ما كان له أن يصمد لولا قوة قلبٍ، فالقلب سر المرء وخلاصته، وما الجوارح إلا مظاهر ومشاهد وخدم، كما أخبر نبينا "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

والدرس المستفاد أن معركة الأمة لا يقوم لها إلا صاحب قلب قوي، وقد نزل على نبينا في أول رسالته فرض قيام الليل لأن (ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا)، وحفظنا عن سلفنا الصالح الاهتمام بعبادة السر لتربية القلب وإخلاصه لله، ومتابعة السنن والنوافل وإدامة تلاوة القرآن.. بغير تلك الأمور يسقط الرجل في أول الطريق أو في منتصفه أو حتى عند آخره.

ومن كان يحب أن يتشبه بالشهيد فعليه أن يختبر بين الفينة والأخرى قلبه، يرى هل تسلل إليه حب المال أو الحرص على الدنيا أو تعلق بشهوة أو سعى إلى جاه.. تلك الأمور تحرف الثائر عن غايته، بل ربما كانت هي نقاط ضعفه التي منها يُخترق ومنها يُسْقَط!

(3) سيرة الجماعة في رجل

وُلِد عاكف مع مولد الجماعة (1928م)، وبرأيي أنه توفي أيضا مع وفاتها، وإن سيرته لتَخْتَزِل سيرتها، فقد كان في محنتها ممتحنا، وكان في عافيتها مسؤولا عن أهم مفاصلها: الشباب والتنظيم الدولي والمرشد العام، كان في قلب الجهاد يوم كانت تجاهد، وفي قلب المسؤولية السياسية يوم دخلت البرلمان. رأى معها السجن والإعدام والتعذيب، ورأى النفوذ والجاه والانتشار!

فهل حقق عاكف ما يصبو إليه؟! وهل حققت الجماعة أهدافها؟!

أعرف أن المجاهد لا يلزم أن يرى النصر والتمكين، ولكن، هل هو صحيح في شأن الكيان والجماعة والمجموع؟! من واقع ما أعرفه من التاريخ أن الأمر ليس كذلك، وأن الدعوة تصل إلى السلطة (وكل دعوة غيير أو إصلاح تستهدف السلطة لأن السلطة هي أهم وأقوى وسائل التغيير) في عمر مؤسسها أو في حياة تلاميذه، فإن مضى عليها الجيل الثاني يكون قد فاتها الوقت، وبدأت في الجمود وفي أول طريق الشيخوخة.

هل تقضي الكيانات زمانها وأعمارها في معاناة المحن؟! إن سيرة الحركات الناجحة أنها تُمتحن وهي في طريقها للتمكين، لا أنها على دائرة المحنة ما إن تخرج منها حتى تعود إليها كرة أخرى.. وللتمكين أيضا محنته، لكنها ليست محنة سجون وعذاب بل محنة معاناة القيادة والزعامة وإيجاد الحلول. أما أن يتكرر على نفس الأشخاص انقلاب في شبابهم وانقلاب مثله في شيخوختهم فما تلك بسيرة من يتقدمون.

قد يُهزم المجاهد، قد يُخفق، وليس هذا يضيره هو ما دام قد اجتهد، وحسابه عند الله! وأمتنا بقدر ما أخرجت من مجاهدين لا يُحصون كثرة في القرنين الماضيين بقدر ما هُزِموا فلم يكد ينجح إلا القليل، فلا يُنزل هذا من قدرهم ومقامهم وبطولتهم وتغنينا بها.. لكننا نخون أنفسنا ونخون التاريخ والمستقبل إن لم نبصر أسباب الإخفاق ونعمل على تلافيها، ونحن نأثم ونذنب إن كررنا الأخطاء ولم نتعلم منها، ونحن نرتكب الجريمة الكبرى إن سُقْنا قصص أبطالنا على أنها نصر كبير مؤزر مكتمل.. عندها ندمر معايير البصر والنظر والعقل، ونستمتع بالهزيمة نُخَدِّر أنفسنا أنها نصر.

فمهما جل عندنا قدر الشهيد الكبير فإن أمانة الله ألا نتوقف عند التغني ببطولته، وإنما في التقييم الموضوعي لسيرته ومسيرته. والجماعة التي قدمت للإسلام خدمة عظمى يوم كانت في شبابها وفتوتها ليست –ولا ينبغي أن تُتَّخَذ- صنما يُعبد حتى في وقت غروبها وأفولها.

(4) القيادة الربانية

أول من طعن الشهيد بعد موته كان نائبه في منصب المرشد العام، إنه محمد حبيب.

لقد بدا من الرجل ما لم يكن يتوقعه منه أحد من أعضاء الجماعة ولا من أنصارها ولا حتى من أعدائها، وهو منذ ترك منصبه تحول إلى سهم مسموم، حتى صار حالة غريبة بعد الانقلاب العسكري، ولا تزال تظهر منه الغرائب.

إن السمع والطاعة والثقة للقيادة من أركان أي عمل تنظيمي لا شك، وبغيرها لا يكون للتنظيم ولا للعمل الجماعي معنى، لكن بين تلك الأمور وبين التسليم المطلق للقيادة والثقة فيها مساحة واسعة وشاسعة وواضحة.

إن القيادة التي كان فيها عاكف هي نفسها التي كان فيها محمد حبيب، فهل كان ينبغي أن يبذل لهما نفس السمع والطاعة والثقة؟! فإن لم يكن ممكنا تمييز من سينتهي مثل عاكف ممن سينتهي مثل حبيب حيث سيرة المرء لا تكتمل إلا بالموت، فلا بد من أن تكون الثقة مشروطة والطاعة بصيرة والمحاسبة قائمة. إنه ليس أفضل من أبي بكر وعمر، وكلاهما لم يطلب من الأمة طاعة مطلقة ولا بذلت له الأمة ثقة مطلقة، فقد عورضا واحتُجَّ عليهما واستمعا بل وطالبا بالنصح والتقويم وأعملا الشورى ونزلا عليها.

وإن القيادة التي كان فيها عاكف الزاهد في المنصب والحائز لأول مرة على لقب "مرشد سابق" هي القيادة نفسها التي يستمسك فيها بالمنصب من لم يأتِ باختيار ولا شورى، أحدهم في مخبئه بمصر، والآخر في اسطنبول، والثالث في لندن.. وثلاثتهم لم يخترهم أحد، وثلاثتهم لم يبق في مكانه إلا بحكم المال والعلاقات، وثلاثتهم يتعامل مع معارضيه بالفصل والتجميد!

نفس القيادة التي كان فيها عاكف المحبوب بين الشباب المنفتح عليهم المتسع الصدر لهم فيها من يحتقر الشباب وينفر منهم ولا يثق فيهم، وتحتفظ ذاكرتي بإبراهيم منير على شاشة الجزيرة عام 2008 وهو يقول بالحرف: أما الشباب فطبيعة الشباب أنه متهور ولا يدري أين المصلحة! وكان كلامه في وقت يفور فيه الشباب بالحراك وينتظرون أن تكون الجماعة داعمة لهم فيه.

فهل حقا كانت قيادة الإخوان "قيادة ربانية" كما يحب أنصارها أن يصفونها؟! وهل القيادة الربانية تُلدغ من الجحر الواحد مرات ومرات؟! هل القيادة الربانية تأتي لمن تقودهم بمثل ما نراه ونعانيه من نتائج؟! هل كان ينبغي أن تحصل على ما كان لها من الثقة والسمع والطاعة بغير محاسبة ولا مساءلة ولا مراجعة؟! وهل يجب أن ننتظر النهايات لنرى من هو الرباني الذي يموت موتة عاكف من غيره الذي إن لم نر تحوله كحبيب والهلباوي فربما رأيناه في وثائق ومراسلات أمنية بعد سنين!

تلك أربعة دروس ينبغي أن نستوعبها ونهضمها، وما أسهل أن ينطلق القلم ليرسم ما يداعب أحلام المحبين ويدغدغ مشاعرهم، إلا أنها من صاحب القلم خيانة، وقد سمعت من شيخنا الفقيه محمد عبد المقصود أن الشيخ فوزي السعيد كان يقول في مثل هذا الرجل: "هو كالطبيب الذي خدر المريض دون أن يجري له العملية، يقوم المريض متوهما أنه في طريقه للشفاء، ويأخذ الطبيب الأجر، ويبقى المرض على حاله!"، فأعوذ بالله أن أكون من هؤلاء.



الأربعاء، سبتمبر 20، 2017

أطيعوا ولي الأمر.. واكفروا

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]

على تلك الآية يعتمد علماء السلطة وعملاء الشرطة في مهمتهم القبيحة: ترقيع دنيا الملوك والسلاطين بدينهم، رغم أنهم يعلمون أنهم يحرفون كلام الله عن مواضعه، ويستعملونه على غير مراد الله منه، فالآية في حقيقتها ضدهم بل وهي حجة عليهم.

تلك السطور هي بيان لحجم الكذب والإفك والتضليل والفجور الذي يمارسه هؤلاء في تفسير الآية:

1. جاءت الآية في سياق أن تكون الأمة المسلمة هي اليد العليا، لأنها صاحبة الرسالة المكلفة بإقامة العدل في الأرض، ففي الآية التي قبلها يقول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ولا يمكن للأمة القيام بهذه المهمة لو لم تكن في قوة ونظام ووحدة، أي عليها أن تخرج من طبيعتها العربية القبلية الجاهلية النافرة من نظام يجمعها ومُلك يدبر أمرها وزعيم يقودها. فها هنا جاءت طاعة أولي الأمر لتمنع المسلمين من الارتداد إلى الجاهلية والفرقة والنفور من النظام وإعجاب كل قبيلة بصاحبها. قال ابن تيمية: "فأهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، والنبي صلى الله عليه وسلم دائما يأمر بإقامة رأس، حتى أمر بذلك في السفر إذا كانوا ثلاثة، فأمر بالإمارة في أقل عدد وأقصر اجتماع"[1].

فالمقصود من وجود أولي الأمر للأمة هو انتقالها من حال الفرقة والعصبية والتمزق إلى حال الوحدة والقوة، والغاية هي إقامة العدل بين الناس.. فأما مهمة عبيد السلاطين اليوم فهي تعبيد الناس لمن فرقوا وحدة الأمة ومزقوها وجعلوها نهبا لكل طامع، وأنزلوا العدو في أرضها وأنفقوا عليه أموالها وحفظوا له مصالحه من شبابها ودمائها وثرواتها.

2. ليس في الآية "ولي الأمر"، بل فيها "أولي الأمر"، وهذه الصيغة الجمعية تدل على أن خليفة الأمة نفسه ليس له أن يستبد بالأمة ولا أن ينفرد بأمرها لنفسه، فليس مطلق اليد والحكم.. وإنما أمر الأمة منصرف إلى "مجموعة" هم "أولي الأمر".. وللعلماء في تفسير تلك اللفظة كلام طويل، وهل هم الأمراء أم هم العلماء أم هم الأمراء والعلماء معا. والمهم المقصود في سياقنا الآن أن المسألة جمعية لا فردية، وهو ما يناقضه علماء السلاطين الكذابين الذين يجعلون أمر الأمة بيد واحد هو "ولي النعم"! فإن زادوا على ذلك وضعوا معه ابنه، وليس أي ابن، بل هو الابن الذي يعده الملك لوراثة الملك من بعده قهرا وقسرا وبعيدا عن رأي الأمة فيه وفي ابنه.

3. أوضحت الآية أن طاعة أولي الأمر ليست مستقلة ولا مطلقة، إنما هي تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله، فهي محددة باتباعهم منهج الله ورسوله، فقالت الآية "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر"، فلم تجعل لأولي الأمر طاعة مستقلة. فطاعة الله وطاعة رسوله فوق طاعة أولي الأمر وسابقة عليهم، بل الطاعة لهم هي بقدر طاعتهم هم لله ورسوله، وهو ما قاله بجلاء الخليفة الأول أبو بكر في أول خطبة سياسية "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

وقد صرح إمام الحرمين الجويني بأن الأمير "إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم... وذلك أن الإمامة إنما تعني لنقيض هذه الحالة، فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضيه الزعامة والإيالة، فيجب استدراكه لا محالة، وتَرْكُ الناس سُدًى ملتطمين مقتحمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشين وموئل الهاجمين ومعتصم المارقين الناجمين"[2].

أما عبيد السلاطين فإنهم يحثون الناس على طاعة سلاطينهم ولو قام نظامهم كله على مناقضة الدين وعصيان الله ورسوله، بل ولو كانت سياستهم هي الحرب على الدين وحبس العلماء والصالحين والتمكين للمفسدين والمجرمين. حتى لو منعوهم من الحج لبيت الله الحرام كما فعل عبد الله ملك السعودية ومبارك مع أهل قطاع غزة في 2007، وكما فعل سلمان مع أهل قطر والمقيمين فيها. والأمثلة تطول وتتكاثر ولا تُحصى، وإنما نسوق منها ما هو شديد الوضوح قريب العهد.

4. وتحصر الآية "أولي الأمر" بأنهم من المؤمنين، فلفظ (منكم) يعني أن أولي الأمر هم "من الذين آمنوا"، وبهذا يخرج من وصف أولي الأمر من كان مفروضا على الأمة قهرا وقسرا بغير رغبة منها ولا اختيار، كأن يفرضه الاحتلال الأجنبي العسكري، أو يستمر في موقعه بدعم هذا المحتل.

وسنفهم لفظ (منكم) بشكل أدق حين نتذكر قصة نوح عليه السلام، حين دعا ربه فقال (رب إن ابني من أهلي)، فقال الله له (إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح).. ولا تكاد تجد في عالمنا العربي المنكوب من رضي به شعبه وقدموه، إنما حكموا بالقهر وبقوة المحتل، وساروا في نقيض مصالح الأمة وعلى عكس رسالتها ومنهجها، فما أبعد أن يكون هؤلاء "منكم".

وإن عبيد السلاطين قد فجروا إلى الحد الذي أفتى فيه بعضهم بأن (البابا شنودة) إن حكم مصر فهو ولي أمر، وأن بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق هو ولي أمر تجب طاعته!! فما أبعد هؤلاء أن يكونوا داخلين تحت قول الله تعالى (منكم)، إلا أن فجور علماء السلطة لا حد له.
5. والآية نفسها تصرح بحق الأمة في مخالفة أولي الأمر، في قوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء)، أي أن للأمة أن تنازع "أولي الأمر" الذين هم "منها"، فلم يصنع الإسلام أمة من العبيد والرعاع والغنم، بل ضمن لهم حق المنازعة والاعتراض والاختلاف، وهو الحق الذي يسبقه حق المراقبة والنقد والتقويم.. وفي الخطبة الأولى للخليفة الأول قال: "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".

وقد أجمع علماء السلاطين عند تلاوتهم للآية أن يتوقفوا عند "أولي الأمر"، فلا يُجاوزون الكلام إلى ما يليها مباشرة "فإن تنازعتم في شيء..." وهو شبيه بفعل أحبار اليهود حين يريدون أن يكتموا ما أنزل الله من الكتاب، ولولا أن كتاب الله محفوظ تكفل الله بحفظه، لقام عبيد السلطان هؤلاء بتحريف الكتاب كما قام به أسلافهم واشتروا به ثمنا قليلا.

6. وحين يقع التنازع بين الأمة وبين أولي الأمر فإن جهة الفصل في المنازعة تكون بالعودة إلى المرجعية العليا النهائية: الكتاب والسنة، (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)، ومقتضى هذا أن يكون الفصل بين الحكام والأمة للعلماء، حيث هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله.

(لتقريب الصورة: يشبه الأمر في الدول العلمانية المحكمة الدستورية العليا، الجهة التي تقيم وتفصل في الخلاف بين السلطة والشعب طبقا للدستور، إلا أن الفوارق بين النظام الإسلامي والعلماني ضخمة من أهمها: أن العلماء نبت الأمة لا يستندون في مكانتهم على شهادة من السلطة كما لا تجمعهم منظومة كهنوتية ولا نظامية تُسهل التحكم فيهم وفي قرارهم، كما أن الدستور المكتوب ليس نصا وضعته لجنة في ظرف سياسي ففيه كل عوار عمل البشر وضغط الظرف وإنما هو نص مقدس مطلق لم يكتبه بشر وخُدِم بالتفسير عبر قرون وأجيال وعلى اتساع نصف العالم بما يجعل إمكانية التحريف والانحراف عنه مفضوحة مكشوفة مستنكرة. لمزيد إيضاح للفكرة انظر هنا وهنا وهنا وهنا وهنا).

تلك ست كذبات وتحريفات فاجرة يرتكبها عبيد السلاطين في آية واحدة لا تتجاوز السطرين، مكونة من تسع عشرة كلمة فحسب، لا لغرض إلا لترقيع دنيا سلاطينهم من دينهم هم، فبئس ما يفعلون!





[1] ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1 (الرياض: جامعة الإمام، 1986)، 1/557.
[2] الجويني، الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، ط1 (جدة: دار المنهاج، 2011م)، ص275، 276.

الجمعة، سبتمبر 15، 2017

اعتقالات السعودية.. ليلة قلم مخنوق

جلست أكتب مقال "مدونات الجزيرة"، يأبى خاطري إلا أن أكتب في عاصفة الظلم التي تجتاح السعودية فترسل بعلمائها ومشايخها إلى الزنازين.. حسنا، فماذا أكتب؟!

اكتُبْ في الذكريات..

ألم تر إلى اليوم الذي رأيت فيه مؤلفات محمد موسى الشريف كأنها تتوالد وتتكاثر؟! لم أشك ذلك اليوم أنه متفرغ تمام التفرغ مع علو همة وبركة في الوقت وقوة في العقل. ثم كان في جولة علمية يوما وافقت البلد الذي كنت فيه، فأمضيت يومي كله أتتبعه من مسجد لمحاضرة لدورة لمجلس، فإذا به يُعطي الدورة في طبقات كتب التاريخ ومؤلفيها على البديهة والسليقة من خاطره دون تحضير ولا مراجعة؟! ثم ظفرت به يوما فسألته على هامش مؤتمر في التاريخ فعرفت أنه ليس متفرغا بل هو طيار في الخطوط السعودية ويمارس عمله ولديه رحلة بعد ساعتين!

ألم تر إلى سلمان العودة؟! أحسبه أفضل من في طبقته في استعمال وسائل وتقنيات الإعلام المعاصر، برنامجه "وسم" حالة فنية متقنة لمحتوى رائق بديع، أتذكر يوم قال في أحدها "العلماء إن لم يسبقوا الناس إلى فتح الباب على وجهه، اقتحمه الناس ثم جرى العلماء يرقعون ما كسروا"! تلك الكلمة على وجازتها خبرة عمر وخلاصة حياة دعوية. كنت أراه يسير في اسطنبول وحيدا منفردا، لم أحاول الاقتراب منه، أشعر كأنه في حالة "وسم" يوشك على تكوين صورة ورسم كلمة، أكتفي بمراقبته حتى يغيب!

علي العمري؟! صاحب واحدة من أنضج التجارب الإعلامية الإسلامية، خصب الذهن سيال الأفكار، رأيته أول مرة صباح يوم السفارة.. ليلة تسلق شاب مصري عمارة السفارة الإسرائيلية فمزق علمها في صيف 2011، سهرت يومها حتى الصباح، وحين كدت أمضي رأيته هناك، لست أدري كان يمر من هنا أم كان يزور المكان الذي شهد واحدة من غرائب الأمور. أتذكر أيضا حين استمعت محاضرة له لأول مرة، كنت وقتها أظنه نموذجا سعوديا للدعاة الجدد مع سمته الشبابي الأنيق، ففوجئت بعلم وخبرة واطلاع واسع، ثم رأيت مؤلفاته أيضا فإذا هي أكثر مما توقعت من رجل ظننت اهتمامه ينحصر في الإعلام!

وليد الهويريني، رأيته أول مرة في مؤتمر "السلفة والوهابية" في قطر، ثم في عدد من المؤتمرات فيما بعد، أمره عجيب.. فيه رقة ودماثة وتهذب وأدب رفيع حتى ليخيل إليك أنه شاب يتلمس طريقه في أول طلب العلم، خفيض النجاح هادئ الصوت رقيق الحاشية، تزور عينك عنه إن لم تكن تعرفه، حتى إن جاء وقت كلامه رأيت تمكنا وسعة واطلاعا. فإن فتحت كتبه كـ "الحراك الفكري السعودي" أو "خارطة الدم" رأيت فوق ما تصورت حين سمعته!

ألم تر إلى ...

يهجم على خاطري: ما حاجة الناس إلى ذكرياتك؟! لا هو أمر ينفعهم ولا يضرهم، ومن تتحدث عنهم أشهر من نار على علم، ولعله لكل قارئ معهم ذكرى لما وُضِع لهم من القبول بين الناس.

أنصرف عن تلك الفكرة وأعود إلى السؤال: فعمَّ أكتب؟!

يخطر لي طيف أن أنشر مقالا في شأن آخر، ومباشرة أجد نفسي تدفع الخاطر وتُنْكره وتنفر منه، تقول: إن لم يكن لديك شعور بالمرحمة بين المؤمنين ودعاتهم، فواجب كلمة الحق، فإن نكصت عن كلمة الحق، فالمروءة.. أناسٌ لقيتهم وكلمتهم واستمعت إليهم ولهم في عنقك حق المودة!!

حسنا.. أستسلم، وأعود فأسأل:
-       ففيم أكتب؟!
-       اكتب في الإنكار على الظالم، في النهي عن المنكر، في بيان سوء الفعل وسوء المنقلب..
-       لا لا، قد كتبت في هذا ما لا أجد في نفسي مزيدا منه، استنفدت طاقتي ومعجمي ومعرفتي في الحديث عن أولئك الحكام وعما يفعلون وعن سوء المصير الذي يسوقون إليه البلاد والعباد.. ثم إنه أمر تكفل به أو سيتكفل أصحاب الأقلام جميعا.
-       حاول
-       لا أستطيع.. ولا أجد في نفسي القدرة على هذا
يأتي السؤال مرة أخرى: ففيم أكتب؟!

لا بأس، لنكتب في شأن من أجرموا وأفسدوا من أهل الصحافة والإعلام السعودي ممن لا زالوا يتمتعون بالأمن والحظوة والوجاهة.. تذكرت على الفور أني رأيت مجلة الفيصل في عددها الأخير قد أعدت ملفا عن الإسلام والعلمانية، كان أول مقالاته لحسن حنفي بعنوان ""العلمانية أسسها في القرآن الكريم"! وبقية عناوين المقالات في نفس السبيل.

ضحكت وقد تذكرت يوما سخر فيه صديق خفيف الظل من دعوات تجديد الإسلام فقال عبارة بديعة: "الإسلام دين وسطي جميل لا يتعارض مع الإلحاد"، فضحكنا وذهبت بيننا مثلا. ها قد تحققت السخرية وصارت واقعا مريرا!!
بل تذكرت ما هو أقسى من هذا، كاتب سعودي يريد تجديد عقيدة محمد بن عبد الله! إنه تركي الحمد أطلق  تغريدة نصها: "جاء رسولنا الكريم ليصحح عقيدة إبراهيم الخليل، وجاء زمن نحتاج فيه إلى من يصحح عقيدة محمد بن عبدالله"!!

ثم اندفع من أعماق الذاكرة ما نشرته صحيفة الرياض قبل ثلاثة عشر سنة حين أكتب أحمد الجميعة مقالا جاء فيه "لم يخرج فكر التكفير إلى الوجود بغتة بل إن له جذوراً وسوابق في التاريخ الإسلامي ولعل أول وأهم واقعة تاريخية عبرت عن ميلاد فكرة التكفير في الإسلام هي "حروب الردة" التي خاضها الخليفة أبوبكر الصديق في مطلع عهده" ثم قال بعد ذلك: وبذلك تكون "حروب الردة" أول بيان رسمي يعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير".

عند هذا الحد صار الأمر مثيرا للاشمئزاز، وبدا لي لمرة أخرى أنه أسلوب قديم، فالحرب التي أطلقها بوش على الإرهاب قبل ستة عشر عاما أثمرت في السعودية أمرا هائلا، ليس ثمة من يغفل عنه أو يتعجب منه، قد غُزِي الإسلام في عقر داره، فعاد الإلحاد ومعه من يريد تصحيح عقيدة محمد رسول الله ومن يرى أبا بكر وصحابة النبي تكفيريين.

خطر لي أن أجعل المقال اقتباسات من مؤلفات المشايخ المحبوسين، فقرات من تفسير الطريفي أو تغريداته الذكية الملهمة، أو معنى بديع صاغه العقل الألمعي والقلم المدهش إبراهيم السكران، أو فنا من فنون القول ابتكره سلمان العودة بأسلوبه الرشيق الرقيق المتظرف، أو درسا تاريخيا استخلصه موسى الشريف، أو عبارة من قواعد الحياة الأربعين وشرحها لعلي العمري..

هممت بهذا وشرعت في الاختيار، أمسكت بتفسير الطريفي، وذهبت إلى سورة البقرة، فتذكرت أن أول حكم في كتاب الله هو حكم الخلافة عند قوله (إني جاعل في الأرض خليفة)، فأمسكتُ من فوري.. قد عرفتُ من نفسي أن اختياراتي من أقوالهم قد تكون عليهم لا لهم، فالحسنات في ميزان الأمة سيئات وخطايا في ميزان أجهزة الأمن.. فكففتُ القلم!

حقا.. لم أجد ما أكتبه، واختنق القلم في يدي كاختناق النفس في صدري!

فكتبت قصة القلم المخنوق.. وهو مقال في فن الهروب من المقال! وأسلوبٌ سخرتُ ممن صنعه يوما فقد ابْتُليت به.
على أن ها هنا كلمة لا بد من قولها:

إن الفتنة في بلاد الحرمين ليست كغيرها.. الساقطون فيها ليسوا صحفيين تصنعوا الشجاعة ولا ممثلين تصنعوا الرسالة ولا معارضة تصنعت المعارضة. بل شيوخ وقراء وعلماء فتحت لهم العيون والقلوب والأسماع!

فيا لها من فتنة السقوط فيها مريع ومروع، أسيف ومؤسف، هلكة ومهلكة..

قضى الله على عباده بالفتنة ليبلوهم، فلا يدخل الجنة إلا من أثبت أن الله أكبر في قلبه من الدنيا وسلاطينها!


والساكتون اليوم هم ضحايا الغد! فإن الفراعين لا تقبل معها آلهة ولا رأيا، وقد قال من ضربه الله لنا مثلا في الفرعونية (ما علمتُ لكم من إله غيري)، وقال (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

الخميس، سبتمبر 14، 2017

حركة المقاومة الإسلامية المصرية عبر قرن

يلخص شادي حميد، أحد أبرز الوجوه الغربية في مجال بحث الحركات الإسلامية، الأزمة القائمة في العالم الإسلامي بقوله: "المشروع الأساسي للحركات الإسلامية السائدة، إن أمكن تلخيصه في جملة واحدة، هو السعي للتوفيق بين الشريعة الإسلامية والدولة القومية الحديثة. مهما تعددت الطرق، وفي أغلب الأحيان حصدت "الدولة" النتائج الأفضل في تلك العلاقة. ذلك أن نمط بناء الدولة الحديثة والبيئة الدولية المتمركزة عليه والداعمة له، لهما أثر علماني متأصل في المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وهو ما يضغط على الحركات الإسلامية لتحد من طموحاتها الدينية الدافعة إلى حد لم يكن ليخطر بالبال فيما قبل الدولة الحديثة، مما يقود إلى درجة خطيرة من التوتر بين المجتمعات المسلمة التي لا تزال إلى حد كبير متدينة ومحافظة"[1].

كانت أول حركة مقاومة واجهت هذا الوضع الضاغط العنيف هي حركة مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني والتي انتهت عمليا مطلع العقد الثاني من القرن الماضي، ثم جاءت حركة الإخوان المسلمين فعملت على تلك المقاومة حتى انتهت تماما منتصف الستينات ومن بعدها تحولت إلى جماعة إصلاحية لا مُقاوِمة، ثم ظهرت محاولات الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد منذ نهاية السبعينات حتى انتهائها بمنتصف التسعينات.

بين كل تلك الحركات خيط ناظم واضح ظاهر، هو من أثر الواقع الضاغط نفسه الذي فرضه وجود مؤسسات سلطوية متحكمة في البشر والموارد تمارس تعبيد الناس للسلطة المحتلة والمستبدة، ذلك الخيط هو أن جميع تلك الحركات تؤول فكرتها الإصلاحية إلى حل واحد: حركة مقاومة تقود انقلابا عسكريا مدعوما بالجماهير العريضة التي عملت على تجهيزها حركة دعوية مدنية!

1. من المشهور ما قام به مصطفى كامل من المجهود المدني والسياسي في الخطابة والصحافة والسياسة ونشر القضية، وأقل منه شهرة عمله الواسع في إنشاء النقابات وتفعيل دور المدارس والتغلغل إلى الاتحادات العمالية وإنشاء المشاريع الاقتصادية، وأما المغمور تماما فهو نشاطه السري العسكري في إنشاء خلايا تقاوم الاحتلال وتمارس الكفاح المسلح والتي وصلت إلى اغتيال رئيس الوزراء الخائن بطرس غالي (جد بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة، المتوفي العام الماضي)، وهو الاغتيال الذي نبه الاحتلال الإنجليزي وكان من آثاره إنشاء جهاز الأمن السياسي (= البوليس السياسي، أمن الدولة، الأمن الوطني)، والذي اكتشف وجود نحو ثمانين تنظيما سريا في مصر[2].

لقد كان الحزب الوطني أول حركة مقاومة تنتبه إلى أن الوضع قد تغير، ولم يعد مجرد المقاومة العسكرية يجدي، وإنما لا بد من مقاومة نمط الدولة المفروض بمؤسساتها، فمن ثم لا بد من وجود أجهزة وعي وتوجيه وروابط اقتصادية ونقابية، فضلا عن التنظيمات السرية. ويبدو واضحا أن الخطة النهائية ستفضي إلى مقاومة مسلحة مدعومة بجماهير مدنية فضلا عن الدعم السياسي من الخليفة العثماني (عبد الحميد الثاني) والذي كانت علاقته ممتازة بمصطفى كامل.

من المؤسف أن المجهود الكبير ضاع بضربة أمنية من بعد عام 1910، عملت تلك الضربة الأمنية على إزالة القيادات (بالسجن أو النفي) وتفكيك خلايا المقاومة، مما جعل الطاقة الثورية تتشتت في واحدة من اللحظات الذهبية التي يندر تكرارها. وسنرى أن أسلوب "الضربة الأمنية" هو الأسلوب الذي نجح منذ تلك اللحظة وحتى وقتنا هذا في إنهاء أي حركة مقاومة.

2. أما الإخوان المسلمون بزعامة الشهيد حسن البنا فقد انبعثوا في ثلاثينات القرن العشرين، وما إن جاءت الأربعينات حتى كانت الجماعة قد انقسمت على الحقيقة إلى كيان دعوي علني جماهيري طبقا لقانون الاحتلال، وكيان آخر سري أمني وعسكري هو "النظام الخاص"، وبينما يعمل الكيان العلني الدعوي على تجهيز الجماهير المدنية، يعمل النظام الخاص على جمع المعلومات والتدريب العسكري.

من الطبيعي أن يحيط بعض الغموض بمشروع حسن البنا التغييري، فمرحلة "التنفيذ" لم يفصح عنها، وهو أمر مفهوم، لكن مجمل ما نراه من هذا التركيب التنظيمي يفيد أن البنا كان يسعى إلى انقلاب عسكري عبر النظام الخاص تدعمه الجماهير المدنية المؤمنة بدعوة الإخوان المسلمين، خصوصا وأن البنا لم يكن يرى أن الثورات طريق صحيح للتغيير كما صرح بهذا، وكان يرى أنها تسيل كثيرا من الدماء دون نتائج مكافئة بالضرورة.

لكن المشكلة التي واجهت البنا كان إنشاء إسرائيل، لقد دفعته تلك الضرورة إلى الكشف عن قوته، فأخرج المتطوعين إلى حرب فلسطين، ثم كُشف شأن التنظيم عبر قضية السيارة الجيب، وقبلها كُشف دعمه لثورة اليمن وأنه ضالع فيها، فهنا صار الإخوان مستهدفون إقليميا (من النظم الملكية التي تخشى الثورات) ودوليا (من القوى التي تؤسس وتحمي إسرائيل)، وكانت الضربة الأمنية الكبيرة باغتيال البنا وتعقب تنظيمه، وقد نجحت تلك الضربة في إنهاء النظام الخاص على الحقيقة، وعاشت الجماعة فترة من الزمن في فوضى وتضارب بلا مرشد ولا قيادة، ثم تولى أمرها حسن الهضيبي وجرى ما هو معروف بينه وبين النظام الخاص لينتهي الحال بضربة أمنية أشد وأقسى على يد عبد الناصر الذي مثَّل أقوى اختراق لصفوف الجماعة وسيطر على أعضاء تنظيم الجيش. ولما حاول شباب الإخوان ممن لم يدركوا أزمة 1954 تكرار المحاولة وقعت بعض الاحداث التي أدت لانكشاف المحاولة أمنيا فجاءت ضربة أقوى في 1965، ومن ساعتها لم يفكر الإخوان في الصدام مع النظام في مصر.

3. عند نهاية السبعينات جرت محاولات انقلابية أشبه بالمتسرعة والطائشة كحادث الفنية العسكرية، لكن تنظيمي "الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد" المتكونان في تلك الفترة اعتنقوا نفس الفكرة المضطردة: العصبة المسلحة التي تنفذ انقلابا عسكريا مدعوما بجماهير قد تجهزت وتأهلت من خلال الخطاب والحركة الدعوية.. فقد عمل التنظيمان على نفس تلك الخطة، وهو أمر سمعته من شهود عيان تلك المرحلة، إلا أن الجماعة الإسلامية كانت أقوى في باب العمل الدعوي العلني، بينما عمل تنظيم الجهاد بشكل أكبر في اختراق الجيش لتكوين العصبة المسلحة التي ستنفذ الانقلاب العسكري.

مثلما كانت حرب 1948 دخولا مفاجئا على خطة البنا أربكت حساباته واضطرته للتدخل السريع وكشف قوته، كانت اعتقالات السادات 1981 دخولا مفاجئا على خط "الجماعة الإسلامية"، لقد ظن الجميع أن اعتقالات السادات ستكرر تجربة عبد الناصر حيث الإعدامات بالجملة والسجن لمدة ربع القرن، فتسارعت وتيرة اغتيال السادات ومحاولة السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون ومديريات الأمن، وهو ما لم ينجح منه إلا مسألة الاغتيال وحدها، لتدخل تلك الحالة في صراع مع الدولة قبل أن تتجهز له لا مدنيا ولا عسكريا.

وبضربة أمنية أمكن مطاردة عناصر الجماعة الإسلامية، ولم يكن أمرا صعبا لأنها في المجمل جماعة علنية دعوية، ثم بخطأ أمني أمكن اكتشاف تنظيم الجهاد وتتبع أفراده وإجهاض خططه بداية التسعينات!

ومن تلك الفترة لم تظهر حركة مقاومة في مصر، إلا البذور والبدايات الصغيرة التي ظهرت بعد الانقلاب العسكري (2013)، وهي تجربة لم تكد تبدأ بعد!

المشكلة الواضحة في كل هذا المسار أن أيا من تلك الحركات لم يمتلك جهازا أمنيا قويا يجمع المعلومات ويحللها ليعرف ويفهم تركيبة النظام ومفاصله وشخصياته المؤثرة، حتى "النظام الخاص" للإخوان المسلمين كان خليطا من الجهاز الأمني والجهاز العسكري، وهو الخلط الذي لا يصح بحال، لأن التفكير الأمني مناقض للتفكير العسكري في العديد من النقاط والمستويات. وغاية ما كان لدى تلك الحركات ما يشبه جهاز الاستطلاع الذي يحصل على معلومات بدائية سريعة لتنفيذ عملية صغير.

ولعل تلك النقطة هي أكثر النقاط التي تحتاج إلى مراجعة وتقويم في مرحلتنا المعاصرة.

كانت كونداليزا رايس المتخصصة في الإدارة واحدة من المسؤولين عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة لتناسب متطلبات الوضع الجديد بعد اختفاء العدو القوي وتغير طبيعة العالم، فضلا عن التغير الهائل الذي حصل في أجهزة الأمن والاستخبارات الغربية (الأوروبية والأمريكية) بعد نهاية الحرب الباردة لتواجه العدو الجديد كما حددوه (الإرهاب، الجريمة المنظمة)، وقد استدعى هذا التغير تغيرا هائلا في الوسائل والوظائف والمهام، وتخلت فيه الأجهزة عن جيش من الجواسيس لتجند آخرين، بل وتخلت عن قسم عظيم من التجسس البشري لحساب استخدام التقنيات الحديثة[3] وما استتبع كل هذا من تغيير قوانين ودمج أجهزة وأقسام وإنشاء غيرها.

كادت المعركة في العالم الآن أن تكون معركة أمنية، وتقنية، ثم بعدها بفارق واضح: معركة عسكرية!



[1] Shadi Hamid and Rashid Dar, Islamism, Salafism, and jihadism: A primer, (Brookings, July 15, 2016).
[2] يراجع في الكفاح المسلح للحزب الوطني كتاب د. عصام ضياء الدين السيد "الحزب الوطني والنضال السري 1907 – 1915"، وقد صدر عام 1987 عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" ضمن سلسلة "تاريخ المصريين".
[3] انظر مثلا كتاب "أسياد الجواسيس الجدد" لستيفن جراي.