كانت الثورة العرابية أخطر تهديد لنظام الدولة الحديثة
العلمانية التي أسسها محمد علي باشا، تلك الدولة التي حطمت نظام المجتمع الإسلامي
وأنشأت نظاما استبداديا قاهرا على نمط فرعوني جديد تتحول فيه السلطة لغول يستولي ويستعبد
كل ما في البلاد من بشر وموارد.
الأدهى والأمر أن نظام محمد علي تأسس على يد نخبة من
الأجانب، فلقد كانوا سادة البلاد وأصحاب الأمر والنهي فيها، وقد استكثر محمد علي
في بلاطه من اليهود والنصارى كما لم يفعل حاكم في كل التاريخ الإسلامي، وهو الأمر
الذي استمر واستقر من بعده بأفحش وأشنع مما كان في وقته، حتى وصل الحال في عصر
الخديوي إسماعيل إلى أن كان الأجانب هم سادة كل مؤسسات البلد المهمة من الجيش وحتى
البريد، وصار لهم وزارتان في الحكومة المصرية: المالية والعمل (الأشغال)، وكان
النظام القانوني في مصر يجعل الأجانب سادة حتى على الخديوي نفسه، وتستطيع محكمة
أجنبية أن تقضي بحجز أموال الخديوي ومنعه من التصرف فيها.
كانت مصر كنزا يسيل في جيوب الأجانب، حتى إن الشحاذ في
أوروبا كان يلقي بنفسه في المركب (هجرة غير شرعية!) ليصل إلى مصر، فيجد النظم
والقوانين والقنصليات والحماية الأجنبية توفر له كل عوامل الغنى والثراء ونهب الموارد
المصرية. ولهذا فقد كان النظام في مصر محققا للمصالح الأجنبية كما لم يكن نظام
آخر، وهذا بغير تكلفة الاحتلال العسكري المباشر.
كان من نتائج هذا الوضع وجود سخط شعبي عارم جعل حركة
تململ محدودة في الجيش تتحول من فورها إلى ثورة شعبية كبيرة، وكان من نتائجه أيضا
أن يصير تغيير النظام في مصر مشكلة دولية لا محلية، تتحرك لها البوارج والقوات
الأجنبية، وتتفق عليها القوى الاستعمارية رغم اختلافهم الواسع فيما سوى ذلك من
المصالح.
حاولت القوى الاستعمارية نزع فتيل الثورة بتغيير رأس
النظام (الخديوي إسماعيل) فعُزِل الخديوي الذي التقت على عزله رغبات جميع الأطراف:
الشعب والنخب المتذمرة، القوى الأجنبية للحفاظ على النظام واستباق الثورة، السلطان
العثماني (عبد الحميد الثاني) الذي يحاول استعادة سلطانه على مصر ومقاومة التغلغل
الأجنبي.
جاء ابنه الخديوي توفيق فسعى في تصفية الثورة ضمن
إجراءات التغيير، فنفى أبرز رموز الحراك الثوري: جمال الدين الأفغاني بعملية سرية
سريعة بمنتصف الليل، وترأس بنفسه الحكومة ليغل يد البرلمان عن محاسبتها، وجاء
بحكومة يقودها القانوني الإصلاحي "محمد شريف باشا" الملقب بـ "أبو
الدستور المصري"، وأجرى تعديلات في ألوية الجيش ليبعد بها ألوية عرابي
ورفيقيه عن القاهرة، ثم حاول القبض على عرابي ورفاقه لولا أنهم انتبهوا. على مسار
آخر سعى محمد شريف باشا إلى تصفية قوة عرابي وإلى غل يد البرلمان، وإلى الاستجابة
للضغوط الإنجليزية الفرنسية "لسحب الذرائع وتفويت الفرصة"، مما أشعل
مواجهة بين الحكومة الإصلاحية والقوى الثورية اضطرت معها الحكومة إلى الاستقالة
وأعقبتها حكومة ثورية بقيادة محمود سامي البارودي وكان عرابي هو وزير الحربية
فيها.
هنا بدا أن الأمر سينفلت وأن نظام محمد علي على وشك السقوط،
ودعم السلطان العثماني تلك الحركة بكل قوته، وأنعم على عرابي برتبة الباشا، وكانت
له معه مراسلات سرية أبدى فيها موافقته على إنهاء نظام أسرة محمد علي، وتلك هي
الشرعية الكبرى التي حازتها الثورة العرابية، كذلك فقد ألقى السلطان عبد الحميد
بكل ثقله السياسي لمحاولة منع الإنجليز من احتلال مصر في مؤتمر القسطنطينية، إلا
أنه لم ينجح، واستطاع الإنجليز بتفاهم مع الحكومات الغربية أن ينزلوا لاحتلال مصر
بذريعة أن الأجانب في خطر وأن عرابي مثير للقلاقل والأزمات فوق أنه يمارس إجراءات
عدوانية "تحصين ساحل الإسكندرية"!
لسنا هنا بإزاء حكاية الثورة العرابية ولكن لحكاية: كيف
فشلت تلك الثورة التي اجتمع لها كثير من عوامل النجاح.
الواقع أنه يمكن تلخيص هذا الفشل في سبب رئيسي كبير هو:
العقلية العسكرية لأحمد عرابي.
كان عرابي ثمرة من نظام الجندية الذي بدأ في عصر محمد
علي، الجيش النظامي الرسمي المتدرب على طاعة الأوامر والمتشرب للتقاليد العسكرية
الغربية التي بدأت بالجنرال الفرنسي سيف (سليمان باشا الفرنساوي) واستمرت مع بقية
القيادات الفرنسية والأمريكية والإيطالية التي توالت وانتشرت في المراتب العليا
للجيش المصري.
لقد كان عرابي متدينا، لكنه لم يتشرب الجندية الإسلامية
بل تشرب الجندية الغربية، وقد أدى هذا لثلاث مشكلات عظيمة صنعت بمجموعها فشل
الثورة العرابية.
1. الإيمان بالقانون الدولي
كانت الخطة البريطانية
لاحتلال مصر هي الهجوم عليها من ناحيتين؛ الأولى: من الإسكندرية عبر البحر المتوسط
بضربها بالمدافع المحمولة على السفن البحرية والتي لا تستطيع المدافع المصرية أن
تصل إلى مداها، ثم إنزال القوات البرية لتسير إلى القاهرة. والثانية: عبر البحر
الأحمر عند السويس حيث تأتي القوات الإنجليزية من الهند والخليج لتدخل البحر
الأحمر ثم إلى قناة السويس ثم تنزل برا إلى القاهرة.
فكر عرابي تلقائيا في ردم
قناة السويس، وهو التفكير الحربي المنطقي والطبيعي ليمنع رسو السفن الحربية وإنزال
القوات الإنجليزية، وهنا تصدى له ديليسبس صاحب شركة القناة، وأحد المجرمين العتاة
الكبار في تاريخ مصر، وأقنعه بكل وسائل الإقناع: الرغبة والرهبة أن القناة ممر
ملاحي دولي محايد لا يمكن لبريطانيا خرق القانون الدولي واستعماله للأغراض الحربية،
وأنه هو –أي ديليسبس- لا يمكن أن يسمح بهذا، ومن ورائه فرنسا.
إيمان عرابي بالقانون
الدولي والشرعية الدولية وما إلى ذلك منعه من ردم القناة.. وهو المسار الذي دخلت
منه القوات البريطانية، ومنه أوقعت بالجيش المصري هزيمة التل الكبير المشهورة،
والتي كانت بداية الاحتلال. أما في الجهة التي حصنها عرابي ووضع فيها القوات
المصرية فقد استطاع أن ينزل هزيمة كبيرة بالقوات البريطانية عند كفر الدوار. ولو
لم تجد القوات البريطانية ممر قناة السويس لماتوا جوعا وعطشا وما استطاعوا إنزل
قواتهم في الصحراء الشرقية والتعرض لمهالكها.
أما ديليسبس فقد أرسل
برقية إلى عرابي يتأسف فيها أن بريطانيا خرقت القانون الدولي وأن لعرابي أن يفعل
الآن ما يشاء!!
يوما ما حين تنتهي دولة
محمد علي العلمانية العسكرية سينصب المصريون تمثالا لديليسبس لرجمه، بل ولجمعوا
مئات أو آلاف التريليونات من فرنسا للتعويض عما أجرمه في حق بلادنا بدعم وتواطأ
حكومته.
2. الإيمان بمؤسسات
الدولة
بين بداية بواكير الثورة
وبين وقوع الاحتلال الإنجليزي ست سنوات، وبين بداية تولي وزارة الثورة وبين احتلال
القاهرة سبعة أشهر (من فبراير – سبتمبر 1882م)، وطوال الوقت لم يتخذ عرابي وسيلة
للاستفادة من قوات المتطوعين القادمين للجهاد معه في سياق الثورة أو في سياق
مقاومة الاحتلال الإنجليزي!
لقد اعتمد عرابي على
"مؤسسة الجيش" النظامي، وهو ما جعل طاقة ضخمة من الشعب محذوفة من
المعركة، لا هي تدري كيف تساعد، ولا القيادة تفكر في الاستعانة بها، وهو ما انعكس
بقوة على نتائج المعركة التي انتهت بالاحتلال الإنجليزي.
إن فكرة تسليح الشعب كانت
حاضرة بقوة طوال تاريخنا الإسلامي، حيث كانت الشعوب بطبيعتها مسلحة، لكن منذ أن
حرم محمد علي على الناس حمل السلاح خرج الشعب من المعركة وصار عبدا للاستبداد ثم
للاحتلال، كالأسير الأعزل بين يدي السجان المسلح! وقد كان ممكنا لفكرة مثل تسليح
الشعب أن تغير ميزان القوى كله لتجعل طاقة المقاومة أضعاف أضعاف ما يستطيعه الجيش
النظامي.
لكن عرابي الذي تربى في
جيش الدولة النظامي لم يكن بالذي تخطر برأسه مثل تلك الأفكار المناقضة لطبيعة
الدولة الحديثة ومنهجها، فلم يكن في المواجهة إلا الجيش وحده بينما الجماهير لم
تملك إلا مقاعد المتفرجين والمشجعين.. وقديما كان الجيش الرسمي إن هزم بدأت
المقاومة الشعبية، أما منذ محمد علي وحتى اللحظة فإن هزيمة الجيش الرسمي تعني سقوط
البلد كلها في قبضة الاحتلال، وهو ما كان!
3. الإيمان بالتقاليد
العسكرية
حين هُزِم جيش عرابي
المأخوذ على حين غرة في التل الكبير تصرف أحمد عرابي كعسكري مهزوم لا كقائد ثورة.
والتقاليد العسكرية التي
شربها عرابي في جيش محمد علي تدفع بالقائد المهزوم إلى تسليم نفسه للمنتصر، متوقعا
من الطرف المنتصر أن يتعامل معه كقائد مهزوم، بينما التقاليد الإسلامية بل ودوافع
الفطرة الطبيعية إن لم تتلوث تقضي على القائد المهزوم أن يتحول إلى قائد مقاومة
سرية تستحث كل ما من شأنه إشعال الأرض تحت أقدام العدو الغاصب.
ولقد كان بالإمكان إن لم
يستسلم عرابي أن تواصل المناطق المنتفضة والتي استعدت للمقاومة نضالها، وهو الأمر
الذي تحطم بتسليم عرابي لنفسه، فانتهى حلم المقاومة السرية. ومن جهتهم سعى
الإنجليز من لحظة الاحتلال الأولى إلى تسريح الجيش المصري وإبقاء قوة صغيرة لا
تسمن ولا تغني من جوع، وهي إن استخدمت فإنما ستكون كقوة "مكافحة
الإرهاب" لا غير.
هكذا فشلت الثورة
العرابية..
فشلت بالقناعات والأفكار
قبل أن تفشل لأسباب القوة والحرب، وبدأ عصر الإنجليز.
وهكذا تجرع المصريون
جميعا ولسبعين سنة ثمار الإيمان بالقانون الدولي، والإيمان بمؤسسات الدولة،
والإيمان بالأعراف والتقاليد العسكرية.. والمؤسف أن من لا يُتَهمون في شرف ووطنية
لا زالوا يؤمنون بتلك الثلاثية التي أوردتنا المهالك والمجازر والمذابح، وألقت
ببلادنا في يد الإنجليز قديما، وفي يد الصهاينة والأمريكان اليوم!
نشرت في مجلة كلمة حق
ربما الدرس الذي نتعلمه الآن في ۱٤٤۲هـ، ۲۰۲۰م، هو حاجتنا إلى قيادة، لتقوم ثورة، أو لئن قامت ثورة توجهها، ويشترط أن تكون القيادة على نور ووعي بهذه ومثيلاتها، ومنطلقات حركتها، وهدفها من الثورة.
ردحذفلم يكن محمد علي أول من حاول تجريد الشعب من السلاح . ربما يكون الأكثر نجاحا كما نجح في كثير من مخططاته قبل أن تجتمع عليه أوربا وتحطم أسطوله . نفسها أوربا التي أعز مواطنيها في مصر واستمر خلفاؤه على ذلك
ردحذفوهل تفضلت وشرحت لنا سر فشل ثورة 25 يناير؟!
ردحذف