الأحد، أغسطس 30، 2015

تعليقا على فيلم عودة الدينار

وأخيرا استطعت أن أشاهد فيلم "عودة الدينار"، بعد رحلة مطاردة استمرت يوما وليلة، كان اليوتيوب أسبق مني دائما في حذف الفيديو..

وهذه تعليقات سريعة جدا عليه، مأخوذة منه نفسه، دون استعانة بشيء من خارجه.

1. الفيلم قوي بصريا، كعادة إصدارات تنظيم "الدولة"، ولعله أقوى مما سبق كثيرا (إذ لم أشاهد جميع إصداراتهم).. ولذلك فهو ممتع ومؤثر بلا شك.

2. والفيلم قوي في المحتوى العلمي، ومكثف، بدأ بطيئا حتى وصل إلى بداية التاريخ الاقتصادي الأوروبي في إنشاء البنوك ثم جرى سريعا وكثيفا، وأظن أن فهمه صعب على من يتعرض للموضوع لأول مرة.. بينما من يفهم قصة الاقتصاد هذه سيرى أنه فيلم متين ومتقن.

3. وحيث أني شاهدت رد فعل الكثيرين على الفيلم قبل الفيلم نفسه، فيلزمني هذا أن أقول إن المحتوى العلمي للفيلم ليس اكتشافا خرجت به دولة البغدادي ولا هو من عبقريات خبرائهم الاقتصاديين، بل هذه المادة مطروحة مبذولة معروفة مشهورة لكل من بحث في الأمر سابقا، وكتبت عنه أبحاث وروايات وأفلام وثائقية وأفلام درامية وأفلام كارتون.. هذه فقط ملحوظة لمن يتخيل أن تنظيم الدولة اكتشف ما كان مجهولا وعرف ما كان سرا مكينا.

(من هنا يبدأ النقد)

4. استعرض الفيلم تاريخ الخداع العالمي منذ الإقراض بالربا، ثم تحويل الذهب إلى عملة ورقية، ثم رفع غطاء الذهب عن العملة الورقية.. ثم رفع غطاء الذهب عن الدولار (وهنا أهم نقطة باعتبار أن الفيلم كله موجه في معركة النظام العالمي).

لقد أغفل الفيلم، أو لنقل: سيغفل الكثيرون ممن يشاهدونه، عن أن رفع غطاء الذهب عن الدولار لم يكن ليتم أولا قبل إقرار الجميع بأن الدولار هو عملة موثوقة وقوية ومعبرة عن مخزون ضخم من الذهب. تراكم في أمريكا بفعل قوتها الصناعية والعسكرية وبفعل حسن سياستها في بيع المنتجات وقت الحرب مقابل الذهب.

[أي أن القوة الصناعية والعسكرية، ثم قوة السياسة.. هي التي منحت الدولار قيمته التي اضطرت باقي الدول أن تستسلم له.. أو بعبارة أخرى أوضح: لو لم تكن أمريكا متفوقة على مستوى القوة لما استطاعت بحال خزن الذهب عندها وإخضاع الجميع للتعامل بعملتها]

الخلاصة: أن القوة الحقيقية هي التي صنعت الدولار (وليس العكس).

5. وبهذه القوة الحقيقية، القوة العسكرية والصناعية، صدم نيكسون العالم حين قال له: لا غطاء ذهبي للدولار، وعليكم أن تتعاملوا به.. ولم يكن ليفعل هذا، ثم لم يكن لأحد أن يقبل بهذا، لولا القوة الحقيقية (الصناعية والعسكرية) الأمريكية.. فما لأحد بهم طاقة.. فخضعوا لهم.

6. وبهذه القوة الحقيقية، القوة العسكرية والصناعية، أجبرت أمريكا دول النفط، كما أجبرت باقي الدول على أن تستعمل الدولار لبيع وشراء منتجاتها وكنوزها وثرواتها بالدولار الذي تطبعه هي.

7. هل إهمال الدولار وطبع عملة ذهبية أو فضية يقضي على سيطرة الدولار؟

لو كان الأمر هكذا فما أهون هذا وما أيسره، وساعتها سنرمي بالغباء كل عدو واجه أمريكا منذ الاتحاد السوفيتي الرهيب حتى كوبا النحيلة!

ربما يمكن أن نتصور هذا لو كانت الدولة منغلقة على نفسها لديها اكتفاء ذاتي فلن تضطر للتعامل مطلقا خارج حدودها مع القدرة التامة على حماية نفسها.. ساعتها فقط يمكن إهمال الدولار والتعامل بالذهب أو الفضة أو النحاس أو حتى التراب.. ساعتها سينهار الدولار (لكن داخل هذه البلد) لكنه لن يسقط عن عرش العالم أبدا.

8. أما إذا كانت الدولة (وكل الدول هكذا) لا تملك أن تنعزل عن العالم، بل هي مضطرة للتعامل معهم، فهنا ستُصدم بالدولار في وجهها، لأنها مجبرة على التعامل به.. فباقي الدول لا تقبل التعامل بغيره لحاجتها إليه.. وما هذا إلا لأن القوة الأمريكية الحقيقية (الصناعية والعسكرية) تفرض على العالم التعامل به.

ولهذا يسعى كل مخلص إلى المنافسة في مجال القوة الحقيقية (الصناعية والعسكرية) تحت قيد الدولار الذي لا يملك منه فكاكا، حتى يستطيع (بهذه القوة) أن يُحجم من تأثيرات الدولار عليه.. برفع قيمة عملته، أو بالدخول في شراكات وتحالفات تجعل مجموعة من الدول تتبادل فيما بينها بعملة أخرى غير الدولار أو تصنع لنفسها عملة موحدة أخرى أو غير هذا من الإجراءات التي تحتاج قوة حقيقية (صناعية، عسكرية) تسندها في محاولة التحرر من الدولار.

9. ولذلك فالمعضلة الحقيقية التي لن يتبه لها معظم من شاهدوا الفيلم.. خصوصا لو كانوا من مؤيدي "الدولة" هو:

- ما هي قدرة "الدولة" على التبادل بالذهب والفضة مع من يشتري منها النفط (بصورة أساسية) وغيره من السلع؟

- ما هي قدرة "رعية البغدادي" على التعامل بالذهب والفضة خارج حدود الدولة؟

- هل يملك البغدادي إجبار أحد خارج نفوذه على مبادلة ديناره الذهبي أو درهمه الفضي بقيمته الحقيقية بالذهب والفضة؟.. إنه إن لم يفعل فسيصير الذهب فعلا بقيمة التراب إن حبكت عليه مؤامرة بسيطة صغيرة، فكيف وهو يرى "العالم كله" يتآمر عليه؟!!!

- ثم ما هي قدرة رعية البغدادي على مبادلة السلع والبضائع حتى داخليا بقيمة الذهب والفضة.. كيف سيقسم الدينار إلى عملات أصغر ذهبية أو فضية لتصلح للتعامل في حدود شراء كيلو طماطم أو جلبابا أو حذاء أو نحو هذا من السلع البسيطة الصغيرة اليومية؟ هل حل العملة النحاسية حل ناجع (هذا السؤال لا أدري إجابته حقا، وأطرحه للاستفسار)

ومن هنا نفهم جانبا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم بإقرار التعامل (بعملة المشركين: الفرس والروم) كما ذكر الفيلم نفسه، وأن هذا الوضع لم يتغير إلا حينما صارت الدولة الإسلامية قوة عالمية في عهد عبد الملك بن مروان.

ولعل القراء يتذكرون السؤال الذي طالما طُرح على الشيخ البصير الأسير حازم أبو إسماعيل: هل ستجعل دخل قناة السويس بالجنيه المصري؟ فكان رده البسيط: هذا أمر يحتاج دراسة واسعة، لكن هل أجعلها بالجنيه المصري ثم أذهب لكي أشتري الدولار مرة أخرى به؟!.. فماذا استفدنا إذن؟

10. ومنذ أن انتهى الفيلم من شرح طبيعة النظام الرأسمالي حتى ترك الواقعية ودخل في التفاؤل والأحلام.. إذ جعل مجرد بيع السندات والتخلص منها مؤديا إلى الانهيار بتلقائية.. وهذا صحيح ولكن بشرط واحد، وهو الشرط الذي يدور كلامنا كله حوله.. القوة الحقيقية (العسكرية، الصناعية).. ذلك أن الأمر ليس متروكا لمزاج الدول، بل إن أمريكا بما لديها من قوة تمارس القهر والإجبار لئلا يتغير وضع النظام المالي، ولذلك سترانا نحوم ونحوم حول الدولار لكننا نجد أنفسنا في نهاية المطاف أمام القوة.. القوة الصلبة (الصناعية، العسكرية).

وقد اعترف الفيلم ببعض هذا، حين قال بأن الدول الطاغوتية تستفيد كذلك من وجود البنكنوت، ولكنها تخزن الذهب وتنتظر التغير المثير (انهيار القوة الأمريكية).. وهنا، فجأة: ترك الفيلم كل العقلانية والواقعية وأعطانا زخة من الأناشيد والصور لمقاتلي "الدولة" قائلا: بأن الدولة هي الوحيدة التي ستهاجم هذا الفساد مباشرة وستسقط أمريكا!! في نقلة مفاجئة لا يبتلعها إلا مشاهد مؤيد مبهور أو مشاهد لم يفكر في إعمال عقله.

11. يشبه الأمر مشهد بلطجي يحكم الحارة، أخذ ذهبهم وأجبرهم على التعامل بالخرز أو حتى الخزف الذي يصنعه هو وحده.. وبه يشتري أملاكهم وثرواتهم ومجهودهم (يعطيهم رواتب).. لا تكمن المشكلة في فكرة "تجنب الخرز أو الخزف" فهي بديهية، بل تكمن حقا في "القدرة" على مواجهة قوته وتجبره وتسلطه.

12. بلا شك أن كل ما سبق هو تبسيط شديد لصورة النظام العالمي، فالأمر معقد جدا، فهذا الجانب المالي فضلا عن أنه محمي بالقوة العسكرية والاقتصادية والأمنية (المخابراتية) فإنه قد ترتبت عليه أوضاع ونشأت حوله شبكات مصالح متعددة ومتداخلة بشكل يجعل كسرها عملية لا يسبق فيها جانب على جانب. وهذه الشبكات صارت محكومة بمنظمات عالمية تتحكم في شروط ومعايير الجودة وتقييم السلوك المنفرد للدول والأنظمة والهيئات.. وأمور أخرى لا محل لبسطها هنا.

13. بدون عملية دعوية جهادية واسعة تؤسس لقيم (الزهد) و (الجهاد) و (التراحم والتكافل والتماسك) فضلا عن محاولات عظيمة لتوحيد الجهود الإسلامية وتحييد الأعداء وشراء الخصوم.. فلن نصل إلى شيء مؤثر.. إذ نحن نحتاج لكل خطوة تحجم نطاق تدخل المؤسسات في العمليات الصغيرة الفردية والمحلية..


نعم، سيبقى الجهاد أول الطريق وآخره ومبدأه ومنتهاه.. ولكن الجهاد بدون علم وحكمة يتحول إلى إجرام وقطع طريق كما قال شيخ المجاهدين عبد الله عزام.. وأبعد الناس عن عمل ضخم كهذا أناس يكفرون أقرب الناس إليهم ويستحلون ذبحهم، وليس لهم في محيطهم صديق ولا حليف!!!

الخميس، أغسطس 27، 2015

مقاومة المجتمع الإسلامي للاستبداد (2/3)

ذكرنا في مقال سابق أن الإسلام يبني نظامه بتقوية الأمة بعيدا عن السلطة، بحيث تكون هذه التقوية في ذاتها عاملا رادعا لاستبداد السلطة وعاملا فاعلا في نهضة الأمة وإن ضعفت السلطة. ولهذا فإن الأصل الكبير في منهج الإسلام هو تمتين روابط الأمة وتقويتها، ذلك أن كل استبداد أو فساد لا يبدأ دفعة واحدة، بل يبدأ بتفريق الناس طوائف وأحزابًا.

وباستقراء المنهج الإسلامي رأينا أن الإسلام اعتنى بتقوية ثلاثة روابط كبرى هي: رابطة الدين التي تناولناها في المقال الماضي، ورابطة الرحم التي نتناولها في هذه السطور، ثم رابطة الجوار التي نؤجلها إلى المقال القادم إن شاء الله تعالى.

إن الإسلام الذي أنشأ رابطة الدين لم يهدم ما سواها، بل أكد الإسلام على رابطة الأرحام بين الناس، وكان هذا منذ اللحظات الأولى في عمر الرسالة بتوجيه المؤمنين إلى البر بالوالدين، وإن ظلوا على الشرك: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14، 15]، وحين جاء عمرو بن عبسة في بداية الدعوة إلى النبي سأله: "ما أنت؟ قال r: "أنا نبي". فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله". فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يُوَحَّد الله لا يُشْرَك به شيء"[1]. وحين أوجز جعفر بن أبي طالب معالم الرسالة أمام النجاشي قال: "وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار"[2].

واستمر هذا حتى اكتمل الدين وتمت الرسالة، فكان الإحسان إلى ذوي الأرحام من أولويات التكاليف: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ...} [النساء: 36]، وكان الإنفاق عليهم من أفضل وجوه الصدقات: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى...} [البقرة: 177]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى...} [البقرة: 215]، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26].

وقد قَرَن الله بين قطع الأرحام والإفساد في الأرض؛ إذ قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، كما قرن النبي r بين وصل الأرحام وتعمير الأرض؛ ففي الحديث: "صلة الرحم وحُسْن الخلق وحُسْن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار"[3]. وروي عنه r أنه قال: "إن الله ليعمّر بالقوم الزمانَ ويُكثر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بُغْضا لهم". قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "بصلتهم لأرحامهم"[4].

وبلغت صلة الرحم مقامًا عظيمًا في الإسلام؛ إذ أخبر النبي أن الله الرحم قالت لله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أَصِل من وَصَلك، وأقطع من قطعك؟"[5]. وقال r: "ليس شيء أُطِيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرحم"[6]. ومن هذا الثواب بسطة الرزق وطول العمر كما قال r: "من سَرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، أو يُنْسأ له في أثره[7]، فليصل رحمه"[8]. وخير الناس خيرهم لأهله كما قال r: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"[9].

والنصوص في ذلك كثيرة ومشهورة. قال القاضي عياض: "لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة... وصِلَتُها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة؛ فمنها واجب ومنها مستحب؛ لو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعًا، ولو قَصَّر عما يقدر عليه وينبغي له لا يسمى واصلاً"([10]).

ولا ريب أن العاطفة المركبة في النفس من حب الأهل هي أول وأكبر دواعي استشعار المسئولية نحوهم، وإنتاجها الحرص عليهم وحب الخير لهم، واستثمر الإسلام هذه الطبيعة الإنسانية، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، وفي الحديث: "كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته". فذَكَرَ: "الرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها... والرجل في مال أبيه راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"[11].

لكن الضابط الذي وضعه الإسلام على رابطة الرحم أن لا تعلو على الحق، ولا تتحول إلى العصبية الجاهلية، فتكون مدخلاً إلى الكبر والاستعلاء واحتقار الناس؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، وقال r: "دعوها (أي العصبية) فإنها مُنْتِنَة"[12]. وقال r: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر". قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة. قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط[13] الناس"[14].

وبهذا بقيت القبلية وعصبيتها في عهد النبي r وزمن الخلافة الراشدة، ولم يسعَ الإسلام لتفكيكها أو إنهائها؛ بل على العكس من ذلك، اسْتُثْمِرَتْ عاطفة الرحم وروابط القربى في نصرة الدين؛ فقد ميز خالد بن الوليد الجيش المقاتل في اليمامة إلى القبائل؛ ليمتاز الناس ويُعرف من أين يؤتى الخلل، فدافع كل قوم أشد المدافعة لئلاَّ يقال أُتِي المسلمون من قبلهم[15]، والدراسة العميقة المفصلة لتاريخ الفتوحات الإسلامية أدَّت إلى نتيجة تقول: "قد تأكد لدينا أن قبائل المسلمين العرب كانت تتحرك كوحدات حربية في الميدان، خلافًا لما ذهب إليه كثير من الكتاب المُحْدَثين من أن الإسلام قضى على النزعة القبلية، وصهر القبائل كلها في بوتقة واحدة لا تدين بالولاء للقبيلة.. كلا، إن ما أذابه الإسلام وقاومه هو العصبية القبلية والتفاخر بالأنساب؛ ولكنه لم يحارب القبيلة في حد ذاتها كوحدة لها وجود عميق في البيئة العربية، لقد ظلت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية والوحدة الحربية المعترف بها في الفتوح الأولى، واستفاد الكيان الإسلامي من هذا الوجود إلى أقصى حد"[16]. ومن أظهر الأدلة على هذا المعنى أن كتاب ابن مزين (أبي بكر محمد بن عيسى بن مزين) الذي أرخ فيه لفتح الأندلس كان اسمه "الرايات" وتعني أن كل قبيلة كانت كتيبة ولها راية في جيش الفتح.

والأمر لم يكن هكذا فقط في حال الحرب؛ بل في حال السلم؛ فمنذ نزل النبي r المدينة وزَّع على المهاجرين ما لم يكن مملوكا من أرضها وما تنازل عنه الأنصار أو ما غنمه من ديار اليهود، فأقطع كل قبيلة أرضا، فكانت كل قبيلة في ناحية لها[17]، وبهذا بقيت القبيلة كوحدة قائمة، وعلى هذا جرى العمل في المدن التي بناها المسلمون في البصرة والكوفة والفسطاط والقيرون وبغداد والقطائع والعسكر، مما يؤكد المعنى المراد بأن تظل القبيلة قوة متماسكة ومترابطة[18].

ولم يجد المسلمون بأسا في استدعاء أحلاف القبلية القديمة طالما كان الأمر في الحق، ففي عهد معاوية t وقعت منازعة بين الحسين بن علي بن أبي طالب t وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان -ابن أخي معاوية، والوالي على المدينة- "فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه؛ فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله r ثم لأدعون بحلف الفضول. قال: فقال عبد الله بن الزبير -وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال-: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعًا. قال: وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي"[19]. وذلك الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص t لما استشعر ظلمًا من والي مكة والطائف عنبسة بن أبي سفيان جاء بمواليه وسلاحه، وتصدى للدفاع عن بستانه، وقال: "والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد"[20].

ولا ريب أن قوة القبيلة واتحاد كلمتها منعت من ظلم الحكام، أو هي على الأقل مهدت السبيل لحل المشكلات بالسلم والمفاوضة؛ إذ لم تكن السلطة قادرة على إشعال معركة وفي القوم من إذا غضب غضب له عشرة آلاف أو مائة ألف سيف!

ويبقى المذموم شرعًا هو رفع رابطة الرحم فوق الحق والدين.

نشر في ساسة بوست 



[1] مسلم (832).
[2] الألباني: صحيح السيرة ص174، د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/173، 174.
[3] أحمد (25298)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح.
[4] الحاكم (7282)، وقال: غريب صحيح ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (12586) وقال الهيثمي: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 13457)، وهو إن ضعفه بعض المحدثين كالألباني (صحيح وضعيف الترغيب والترهيب 1491) إلا أن معناه صحيح كما في الآية والحديث السابق له.
[5] البخاري (4552)، ومسلم (2554).
[6] البيهقي (20364)، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة 977).
[7] يُنْسأ له في أثره: أي يؤخر ويبارك له في بقية عمره.
[8] البخاري (1961)، ومسلم (2557).
[9] الترمذي (3895)، وابن ماجه (1977)، وصححه الألباني.
[10] النووي: شرح صحيح مسلم 16/113.
[11] البخاري (2278)، ومسلم (1829).
[12] البخاري (4622)، ومسلم (2584).
[13] بطر الحق: دفعه ورفضه استعلاء وترفعًا، غمط الناس: احتقارهم.
[14] مسلم (91).
[15] الطبري: تاريخ الطبري 2/278، ابن كثير: البداية والنهاية 6/357، وانظر: محمد بن طاهر البرزنجي: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 3/63 (قسم الصحيح)، د. أكرم العمري: عصر الخلافة الراشدة ص407، 408.
[16] أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن ص20، وإن كُتُبَ أحمد عادل كمال "سلسلة استراتيجية الفتوحات الإسلامية" هي -على حد ما نعلم- أفضل ما كُتِبَ مطلقًا في دراسة الفتوحات.
[17] ابن شبة: تاريخ المدينة 1/260 وما بعدها.
[18] محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية ص49، 57، 58، 61.
[19] الألباني: صحيح السيرة النبوية ص36، 37.
[20] ابن حجر: فتح الباري 5/123.