نزل الإنجليز إلى مصر ببوارجهم وجيوشهم لمنع سقوط نظام
أسرة محمد علي، وهو النظام الذي أسس للأجانب على نحو ما رأينا في المقال الماضي، وبدأت بهذا لحظة جديدة اتحد فيها الاستبداد الداخلي مع النفوذ الاحتلال
الخارجي، وبهذا صار الخطر مضاعفا على مصر وأهلها، كما صار التحدي مضاعفا على حركات
الكفاح والمقاومة.
استمر الاحتلال الإنجليزي لمصر سبعين سنة، أعيد
فيها قلب المجتمع المصري ليخرج من نظامه الإسلامي إلى نظام غربي محض، جرى ذلك عبر
السيطرة على الاقتصاد، والمؤسسات الإدارية، والهيئات الاجتماعية، ونظام التعليم
ومناهجه الدراسية، ونخبة الإعلام والصحافة، والهيمنة على الحالة السياسية، ويفتخر
اللورد كرومر –المندوب السامي للإنجليز في مصر، والذي قضى ربع قرن- بإنجازه هذا
التحويل في كتابه "مصر الحديثة"، لقد كانت سنوات الاحتلال الإنجليزي
تغييرا شاملا في مصر ونظامها وهي السنوات التي انخلعت فيها مصر تماما من النظام
الإسلامي ودخلت بكليتها في النظام الغربي، وهنا نعني النظام لا الجماهير التي ظلت
وفية لدينها وجذورها، وبدأ في تلك السنين السبعين التشوه الكبير لدى النخبة
الممزقة –كما وصفها كرومر نفسه- بين أصولها وجذورها الشرقية وبين ما اعتنقته من
الأفكار الغربية، بداية من القومية والإقليمية (في مقابل الانتماء الإسلامي) مرورا
بالأفكار الممثلة للانحيازات الحضارية، وانتهاء بالملابس التي أزيحت فيها العمامة
والحجاب لحساب البذلة الإفرنجية والطربوش والسفور.
وفي هذه السنين السبعين جرت الأهوال العظام،
ومنها الحربان العالميتان، والتي أسفرت أولاهما عن سقوط الخلافة، وأسفرت ثانيتهما
عن تبدل موازين الامبراطوريات في الشرق والغرب، فغربت شمس الإنجليز والفرنسيين
لتشرق شمس الأمريكان والروس، وكانت حركة الانقلابات العسكرية في الشرق من وسائل
المستعمرين الجدد لطرد المستعمرين القدامي، وانتقلت مصر من حكم الإنجليز والملكية
إلى حكم الأمريكان والعسكر. ومنذ تلك اللحظة بدأت مرحلة جديدة في اتحاد الاحتلال
مع الاستبداد، فالمستبد هنا يعيش في حماية الاحتلال، والاحتلال هو من يحفظ نظام
المستبد ويدعمه علانية.
لا يختلف المؤرخون الآن عن العلاقات
الأمريكية المبكرة بعبد الناصر، وقد صارت وثائق تلك الفترة منشورة، وهي العلاقة
التي شلت يد الإنجليز عن التحرك لمواجهة الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الناصر
والذي استهدف به استباق الثورة الشعبية التي تتوقعها وثائق المخابرات الأمريكية،
ليكون هذا الانقلاب هو عملية الإجهاض للثورة الشعبية المرتقبة[1]، وأسس
الأمريكان جهاز المخابرات المصرية وكان رجال المخابرات الأمريكان حاضرون دائما في
ساحة اتخاذ القرارات وتوجيه السياسات على نحو ما يفعل أهل الأمر والنفوذ والحكم.
وكانت الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت تنقسم حول ما إن كان ينبغي أن تعول على
إسرائيل أم على مصر للتحكم في الشرق الأوسط، ثم اتضح أن كفاءة الإسرائيليين كانت
أعلى بكثير من العسكر المصريين، وحرصت إسرائيل على أن تحسم هذا الاختيار
بانتصاراتها المتتالية على محيطها العربي وبالذات ضد مصر، فاضطربت العلاقات لفترة
قصيرة بين نظام عبد الناصر والأمريكان دخل فيها الروس على خط السياسة المصرية، لكن
هذه المرحلة لم تلبث أن انتهت بمجيئ السادات الذي لم ير إشكالا أن يكون أكثر صراحة
ووضوحا في توجهه ناحية الأمريكان ورهن السياسة المصرية لهم تماما، وهو ما تبدى
واضحا في اتفاقية كامب ديفيد ثم في معاهد السلام بين مصر وإسرائيل.
ثم لم يكن مبارك إلا موظفا، فهو شخصية بلا
زعامة ولا طموح ولا مشروع سياسي، فعمل كموظف برتبة رئيس في ظل منظومة ورثها، ثم لم
يلبث الحال أن حُسِم نهائيا في نهاية العقد الأول من حكمه بانهيار الاتحاد
السوفيتي وانفراد الأمريكان بقيادة العالم، فتعزز وترسخ النفوذ الأمريكي
والإسرائيلي في مصر طوال سنواته الثلاثين التي كانت تشهد تدهورا سريعا لثقل مصر
السياسي والاقتصادي والعلمي، حتى شهد آخره إعلان الحرب على غزة من القاهرة، فكان
مبارك كما وصفته أصوات إسرائيلية بأنه "الكنز الاستراتيجي لإسرائيل".
وظيفة الجيش المصري
والآن يحكم مصر عبد الفتاح السيسي الذي هو
الثمرة الكاملة لكامب ديفيد، فهو من جيل العسكريين الذين دخلوا إلى الجيش بعد هذه
الاتفاقية، حيث السيطرة الأمريكية التامة على الجيش المصري وتسليحه وتدريبه، بل
وعلى فكره وروحه وثقافته، ونستطيع أن نسوق على هذا الكثير من
"الاعترافات" المصورة بهذه الحقيقة لقادة الجيوش المصري والأمريكي والإسرائيلي
أيضا، وإن متابعة بسيطة للتصريحات الإسرائيلية السياسية أو ما يتردد في الصحافة
الإسرائيلية تقطع بأن إسرائيل تعيش مع نظام السيسي واقعا لم تكن تحلم به، على كل
حال سأكتفي هنا بأربعة تصريحات فقط كاشفة لدور ووظيفة الجيش المصري:
1. تصريح آن باترسون بعد الانقلاب العسكري
بأن هناك جيلا من العسكر المصريين تشربوا الثقافة الأمريكية ولا ينبغي قطع
المعونات عنهم كي لا يتكرر ما حدث عندما قطعت المعونات عن العسكر الباكستان
فاضطروا للتعامل مع السوفيت فنشأ فيهم جيل أقرب إلى الروس من الأمريكان[2].
2. تصريح رئيس الأركان الأمريكي الجنرال
ديمبسي "تجربتي الشخصية تعود إلى وقت قيادتي للمنطقة المركزية الأمريكية في
2008 وأستطيع أن أقول لكم إن القوات المسلحة المصرية شريك قوى جدا لأمريكا وأن مصر
دولة رئيسية جدا فى المنطقة ونحن نتمتع بمرور تفضيلي فى السويس وتحليق ديناميكي كذلك،
وهم ملتزمون تجاه اتفاقيات كامب ديفيد، والجيش الصهيوني يعتبر الجيش المصرى شريكا قويا،
فى تجربتي الشخصية التي استمرت 5 سنوات: إنهم يستحقون الاستثمار بأموال المعونة الأمريكية"[3].
3. تصريح رعنان جيسين –مستشار شارون، والمتحدث
الأسبق باسم الحكومة الإسرائيلية– وهو مندهش، يبدي ندمه على أنه حين كان يفاوض على
الانسحاب من سيناء أصرَّ ألا يكون فيها قوات للجيش المصري، بل يبقى البدو والجِمال
فقط.. هو الآن يقول: "يا إلهي، لو عادت بي الأيام لقلت: خذوا البدو والجمال واتركوا
لنا الجيش المصري"[4]!!
4. تصريح اللواء محمد العصار، وهو الآن وزير
التصنيع الحربي، الذي يفتخر فيه بأن الجيش المصري جزء من الأمن القومي الأمريكي،
يقول: "تعلمون أن علاقاتنا استراتيجية وقوية جدا، وقد بدأت بتوقيع اتفاقيات
كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل 1979، وبالنسبة للعلاقات العسكرية بين
الجيشين لدينا علاقة رائعة، ونحن نعتبرها عمود وحجر زاوية بين أمريكا ومصر... ونحن
أيضا فخورون بأن نكون عنصرا هاما للأمن القومي الأمريكي، ونحن فخورون بأهمية
مساهماتنا للبعد الاستراتيجي لمصالح أمريكا"[5].
التحدي المضاعف
لقد أثمرت الثورة الصناعية وما ألقت به من ثورات
المواصلات والاتصالات على هذا التقارب الذي وصل إلى حد الاتحاد بين الاحتلال
الخارجي والاستبداد الداخلي، وهو الأمر الذي تعاني منه الشعوب الإسلامية منذ بداية
التاريخ الحديث الذي بدأ في مصر مع محمد علي.
منذ ذلك التاريخ فشلت الثورات المصرية الثلاثة لأسباب
مختلفة، فثورة عرابي التي كادت تقضي على الاستبداد سبق إليها الاحتلال، وثورة 1919
احتواها الاحتلال الإنجليزي عبر تنصيب الزعامات الزائفة التي أدخلت بركان الثورة
في ثلاجة القانون والمفاوضات حتى انتهت، ثم استبق الاحتلال ثورة شعبية في 1952
بانقلاب عسكري مدعوم أمريكيا فذهبت أحلام الثورة وبدأ عصر أشد استبدادا من كل
العصور السابقة، وفي ثورة 2011 انقلب الاحتلال الخارجي عبر أذرعه الإقليمية
الخليجية والمحلية العسكرية على الثورة في 3 يوليو 2013، وبدأ في مصر عصر جديد من
التوحش.
لم تنته الثورة المصرية بعد، لكنها تعاني أزمات خانقة،
أكبرها هو افتقادها للقيادة، والاحتلال الفكري والنفسي لقيادات جماعة الإخوان
المسلمين الذين عمل النافذون فيهم على إجهاض حركة المقاومة الطبيعية الفطرية
للانقلاب العسكري فوفروا له وللاحتلال من الخارج ما لم يكن ممكنا لهم أن يفعلوه
وحدهم بحال. فالثورة الآن تشبه خزان البنزين الذي ينتظر من يشعله ويفجره بعد
الأوضاع القاسية التي وُضِع فيها المصريون إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو
الديني.
[1] انظر
التفاصيل في: محمد جلال كشك، ثورة يوليو الأمريكية، ط2 (القاهرة: الزهراء
للإعلام العربي، 1988م)، ص77 وما بعدها.