من
الفوارق المهمة بين النموذج الحضاري الإسلامي والنموذج الغربي أن الأول
مُسْتَكمِلٌ لبنيانه النظري وله لحظته النماذجية المتحققة في التاريخ وهي زمن
النبوة والخلافة الراشدة المحددة في الأحاديث الصحيحة بثلاثين سنة بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم. وسائر ما صنعه المسلمون ويصنعونه حتى الآن من نظريات سياسية
أو تطبيقات عملية إنما هي "اجتهاد" في الفهم والتفريع واستيعاب المسائل
المستحدثة، أو "اجتهاد" في التطبيق والتنزيل. ولذلك يدور سائر التراث
الإسلامي –تنظيرا وتطبيقا- على الاستمداد من القرآن وسنة النبي وسنة الخلفاء
الراشدين. بينما النموذج الغربي لافتقاده نصا مقدسا لا يزال يتقلب بين الآراء
والأفكار والنظريات التي تصل إلى أن ينقض بعضها بعضا فهو يُطارد نموذجا نظريا
مكتملا للفكر كما يطارد نموذجا تطبيقيا نهائيا يسميه "المدينة الفاضلة"
أو "نهاية التاريخ"[1].
وقد
تبدت ملامح النظام السياسي للدولة الإسلامي قبل قيامها، فقد نزلت سورة الشورى بمكة، ونزلت فيها البشارة للمؤمنين بقرب
قيام الدولة الإسلامية المرجوة، وذلك في قوله تعالى {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
(38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 38،
39]، ففي الآية رسم لمجتمع يقيم الصلاة ويدير نظامه بالشورى ويدفع أصحاب الرزق
شيئا من أموالهم، ثم هو مجتمع يستطيع أن ينتصر لنفسه إذا أصابه ظلم. وهو الأمر
الذي يُمثِّل حلما يطوف بخيال المؤمنين الذين منعهم الله من رد الاعتداء الواقع
عليهم بمكة. ويظهر أن الآية رسمت تاريخ تطور الدولة الإسلامية، فلقد كان بناء
المسجد أول شيء فعله النبي حال وصوله المدينة، ثم صار النبي يدير شأن الأمة
بالشورى رغم اتصاله بالوحي قبل أن تُفرض الزكاة في العام الثاني للهجرة، وهو العام
الذي نزل الإذن بالقتال. لكن ما يهمنا هنا أكثر هو هذا التحديد المبكر لملامح
النظام الإسلامي في حرصه على العبادة وكون نظامه يُدار بالشورى وله سياسة مالية
وعنده القوة القادرة على الردع والردّ ضد التهديدات الخارجية.
ثم تطور الحال مع قيام الدولة، ونزلت التشريعات
التفصيلية، وصارت الآيات تُفَصِّل في شأن المجتمع ونظامه، كما في قول الله تعالى {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 58، 59]. ففي هذه
الآية رسم أوضح تفصيلا، إذ يُرى فيها:
1. أن المسلمين صاروا في "جماعة" لها
"نظام"، تنزل عليه الأوامر، وله مرجعية عليا، وله أولي أمر، ثم له جهة
لفض المنازعات. ومن لطيف ما يُستدل به هنا ما قاله ابن تيمية من أن انتفاء النظام
من سمت الجاهلية، "فأهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، والنبي صلى الله عليه
وسلم دائما يأمر بإقامة رأس، حتى أمر بذلك في السفر إذا كانوا ثلاثة، فأمر بالإمارة
في أقل عدد وأقصر اجتماع"[2].
2. وأن نظامهم يمارس الحكم والسيادة لا على المسلمين فقط
بل على "الناس"، فحكمهم هذا يستوعب ويشمل الملل والنحل والطوائف
والأديان المخالفة، ومع هذا فهو مأمور بإقامة العدل لهم.
3. وأن "أولي الأمر" في هذا النظام جماعة وليس
فردا، وإلا قال "وولي الأمر منكم"، وهو ما يقتضي تعدد السلطات وتوزيعها،
وألا ينفرد واحد بالأمر من دون المسلمين.
4. وأن المسلمين مأمورون بالطاعة ما دام أولي الأمر لم
يخالفوا القرآن والسنة، فطاعة أولي الأمر مشروطة بلزومهم المنهج، وأن التنازع بين
المسلمين وبين أولي الأمر فيهم وارد، وأن جهة فض التنازع إنما تكون بمرجعية القرآن
والسنة.
وهكذا، ظهر من نصوص القرآن وسيرة النبي (طوال عشر سنوات
في المدينة) وسنة الخلفاء الراشدين (طوال ثلاثين سنة) نظام حقيقي انتقلت به أمة
العرب من الجاهلية إلى الحضارة، ثم تأسست به حضارة زاهرة ظلت في موقع الصدارة أكثر
من ألف سنة، فنظام الخلافة هو من أبرز حقائق التاريخ[3].
لم تزل الخلافة عن المسلمين إلا قبل تسعين عاما فقط، لا
كما يحاول البعض تصوير هذا النظام وكأنه نظام سحيق عتيق تجاوزه العصر وانتهى
الأمر، بل من الغريب أن صار بعضهم يتصور استحالة إحياء نظام الخلافة مرة أخرى، رغم
أنه النظام الذي أجمع عليه المسلمون، فليس في مذاهب المسلمين من لم يُوجب نصب
الخليفة، ومن اقترح صيغا أخرى –كالسنهوري في فقه الخلافة- إنما جعلها ضرورة واعترف
بأن ما يطرحه عن عصبة الأمم الإسلامية إنما هو حكومة إسلامية "ناقصة"
للعجز عن إقامة الكاملة، حتى فوجئنا في الأعوام الأخيرة من يؤصل لأن الخلافة يمكن
أن تكون على طريقة الاتحاد الأوروبي!
ربما يتفهم المرء وبكثير من الصعوبة أن يخرج هذا الكلام
من سياسي إسلامي يسير على جمر العلاقات والتوازنات، أو من شيخ في فتوى مخصوصة
اضطرته إليها ظروف إقامته أو محاضرته في بلد ما، أما أن يُقال هذا الكلام على سبيل
التأصيل الفقهي وفي غير موطن اضطرار مخصوص فهذا هو الشذوذ نفسه، ليس شذوذا عن فقه
الأمة وحده بل شذوذ عن مسار التاريخ.
فأما الفقه فقد اضطرد في أقوال العلماء ضرورة وجود
الإمامة، وأنها "من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها"[4]، بل سمّى بعضهم اضطراب أمرها بالاضطراب الأعظم "بل
الاضطراب الأعظم على السلطة الإسلامية التي يعتقدون أن لا بقاء للإسلام بدونها، والحرص
على بقائها ممزوج بدم كل مسلم وعصبه، فهو لا يرى دينه باقيًا إلا بوجود دولة إسلامية
مستقلة قوية قادرة بذاتها على تنفيذ أحكام شرعه بغير معارض ولا سيطرة أجنبية"[5]. والفارق واضح وكبير بين نموذج الخلافة في مهماته
ووظائفه وبين نموذج الاتحاد الأوروبي، فالخلافة ليست مجرد حدود مفتوحة أو عملة
واحدة أو تعاون اقتصادي، وليس متاحا في ظل الخلافة انفصال بعض أقطارها والخروج من
نظامها، وليس الدخول إليها قرارا منوطا بالسلطة بل بالمسلمين إذ لا تظل دولة مسلمة
تنتظر موافقة سلطة الخلافة على دخولها إليه سنين ولربما لا تدخل! والفوارق كثيرة
لا نطيل بذكرها.
وأما التاريخ فكيف يُقارن نظام دام ثلاثة عشر قرنا ونصف
القرن بنظام جاوز بالكاد نصف القرن، ثم هو مضطرب على أهله أيضا ويُصَوِّت بعض
أطرافه بالانفصال عنه، ويهدد بعضهم بعدم تمويل بعض مشاريعه، ولئن كان مفهوما أن
يصل الأوروبيون إلى هذا المستوى من التعاون والتنسيق –لا الوحدة- وهم الذين
أهلكتهم حروب القرون الوسطى ثم التنافس الاستعماري ثم حربين عالميتين، فليس من
المفهوم إطلاقا أن يكون هذا المستوى هو أمل من حققوا الأمة الواحدة بالمعنى الكامل
للكلمة فكان لهم خليفة واحد في المدينة أو في دمشق أو في بغداد يحكم سائر المسلمين
شرقا وغربا، فيرى أنه مسؤول عنهم ويرون أنهم مسؤولون منه، ويكون استقلال أي طرف
عنه بمثابة الانحراف عن الأصل فهو دليل على ضعف النظام وانهيار الوحدة.
لم تكن قدوتنا ولن تكون في نسخة حضارية طرحها الشرق أو
الغرب، بل لدينا نموذجنا الذي تحقق فعلا في دولة المدينة في عصر الخلافة الراشدة،
وكوننا ملزمين بالاقتداء بهذا النموذج يدفعنا دائما إلى العودة إليه كما كان وبأدق
صورة ممكنة، ولا نجاوز شيئا كان فيه إلا لضرورة يقتضيها الواقع تقدر بقدرها.
[4] ابن
تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ط1 (الرياض: وزارة الشؤون
الإسلامية والأوقاف، 1998)، ص129.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق