أخبرني
صديق جزائري ذات ليلة تناولنا فيها أشعار الغزل عند العرب أنه لما ترجم بعض أبيات
شعر إلى الألمانية كادت فتاة ألمانية أن يُغشى عليها لرقة المعنى وعذوبته! وليس
هذا بالغريب، فلا ريب أن لغة العرب هي أمتع اللغات، وقد سألت كثيرين ممن يتكلمون
العربية ولغة أخرى (كلغات أم) ما إن كان في اللسان الآخر نفس ما يتذوقه العرب من
لغتهم فاتفقت إجابتهم أن لا.
قالوا منذ قديم: نزلت الحكمة على لسان العرب..
لذلك كان العرب قوم المعاني البديعة، وكان الشعراء فيهم
صفوتهم ونخبتهم، وكانت القبيلة تحتفل إذا نبغ فيها شاعر، وليس من مقام يحققه المرء
في العرب قديما فوق أن يكون فارسا شاعرا معا. ولهذا قالوا: المرء بأصغريه: قلبه
ولسانه. يشيرون إلى الشجاعة والبلاغة، وليس أدلَّ على رقة إحساس العرب وتأثرهم
بالمعنى من إنشائهم أسواق للكلام، وتعظيمهم القصائد الفاخرة بتعليقها على الكعبة.
ولهذا جاءهم القرآن فحيَّرهم وأخذ بعقولهم فصار الذي يريد الكفر يجتهد ألا يسمع
القرآن وألا يدع أحدا يسمعه.
(راجع: لماذا لا نشعر بجمال القرآن)
والشاعر في حضارتنا العربية ليس مجرد رجل يجيد صناعة
الكلام، بل هو الآن بمثابة الجهاز الإعلامي أو القناة الفضائية، إنه صاحب العقل
الذي يُحسن الأخذ والرد، ويطلع على علوم زمنه وأحوال السياسة فيتخذ من كل هذا
أدوات له في سبك المعاني، ولا يُشتهر الشاعر لمجرد قدرته على صناعة الوزن، بل
لقدرته على صوغ المعنى العالي في الكلام الموزون، ويا ويل من يُتهم بالسرقة، لا
سرقة الأبيات والقصائد –كما في عصر الظلام الذي نحن فيه- بل بسرقة المعنى والفكرة
وإن أنتجها في وزن آخر.
وكان الحب أشهر ما تنافس فيه شعراء العرب وتفننوا في وصف
معانيه، بل به تبدأ القصائد، وعامة الأطلال التي بكاها شعراء العرب كانت ديار المحبوب،
كما قال شاعرهم:
أمرُّ على الديار ديار
ليلى .. فألثم ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
.. ولكن حب من سكن الديارا
وبالعموم، فما أحسب الذي يتذوق أشعار العرب في الغزل إلا
أحد اثنين، إن كان عاشقا فقرأها أصابه الجنون، وإن عافاه الله وقرأها أصابته رقة وذوق
ولطف شفيف. وفي مذهبي ألا يتعرض من ليست عنده زوجته لشعر الغزل أو لأدب الحب، فإن ذلك
أمر شديد لا يكاد يقدر عليه أحد
(1) المعاني العالية
روى قيس كيف دافعت ليلى العامرية عن نفسها لما رأى كفها
مخضَّبا باحمرار، فعاتبها لأنها نسيته وتزينت بعد الفراق بالحناء، فكان دفاعها
هكذا:
ولما تلاقينا على سفح رامة
.. وجدت بنان العامرية أحمرا
فقلتُ: خَضَبْتِ الكفَّ
بعد فراقنا؟ .. فقالت: معاذ الله، ذلك ما جرى
ولكني لما رأيتك راحلا ..
ذرفتُ دما بَلَلْتُ به الثرى
مسحتُ بأطراف البنان
مدامعي .. فصار خَضابا في اليدين كما ترى
ووصف أبو صخر، شاعر هذيل، حالته حين يلقى محبوبته التي
عزم على هجرها بقوله:
أما والذي أضحك وأبكى
والذي .. أمات وأحيا والذي أمره الأمرُ
لقد كنتُ آتيها وفي النفس
هجرها .. بتاتا لأُخْرى الدهر، ما طلع الفجرُ
فما هو إلا أن أراها فجاءة
.. فأبهتُ، لا عُرْفٌ لدي ولا نُكر
وأنسى الذي قد كنتُ فيه
هجرتها .. كما قد تُنَسِّي عقلَ شاربها الخمرُ
وإني لتعروني لذاكراكِ
هزٌّة .. كما انتفض العصفور بلَّله القَطْر
وأخبر عنترة عبلة بقدرها في نفسه فقال:
أحبُّك يا ظلومُ وأنتِ
منِّي .. مكان الروح مِنْ نَفْسِ الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ..
لَخِفْتُ عليك بادرة الطِّعان
ولشاعر آخر حين يغلبه الشوق حيلة أخرى، سجلها في قوله:
وإني لأهوى النوم في غير حينه
.. لعل لقاءً في المنام يكون
تحدثني الأحلام أني أراكمُ
.. فيا ليت أحلام المنام يقين
وقال شوقي في بيت ما أروعه:
مولاي، وروحي في يده .. قد
ضَيَّعَها، سَلِمَتْ يدُه
(2) حب الملوك والفقهاء
وشارك في هذا الموكب الطويل الملوك والوزراء والفقهاء
والصوفية، واشتهر بعضهم بحبه وشعره، فخليفة مثل الحكم المستنصر يُنشد في جاريته
صبح هذا الشعر:
عجِبْتُ وقد ودَّعتها كيف
لم أمت .. وكيف انثنت -بعد الوداع- يدي معي
فيا مُقْلتي العبرى عليها
اسكبي دما .. ويا كبدي الحرَّى عليها تقطَّعي
وإذا ذُكِر الوزراء، ذُكِر ابن الخطيب، صاحب البيت
العجيب في مدح العيون:
كل السيوف قواطع إن
جُرِّدَت .. وحُسام لحظِك قاطع في غمده
وأما الفقهاء فكثيرون، لا تتسع المساحة سوى لنقل مثال
واحد للقاضي عبد الوهاب المالكي الذي ألَّف صورة يجتمع فيها الحب بالفقه، فقال:
ونائمةٍ قبَّلتُها،
فَتَنَبَّهَتْ .. فقالت: تعالوا، واطلبوا اللصَّ بالحدِّ
فقلت لها: إني –فَدَيْتُك-
"غاصبٌ" .. وما حكموا في غاصب بسوى الردِّ
خذيها وكُفِّي عن أثيم
ظلامة .. وإن أنتِ لم ترضي فألفٌ على العدِّ
فقالت: قصاصٌ يشهد الله
أنه .. على كبد الجاني ألذُّ من الشهد
والمعنى أنه اختلس قبلة منها، فنادت على الناس ليعاقبوه،
فأخبرها –وهو الفقيه- بأن جريمته ليست إلا "الغصب"، وحكم الشرع فيها أن
يرد الغاصب ما أخذه، وهو مستعد أن يرد ما أخذه ولو ألف ضعف حتى ترضى، فقالت: هذا
قصاص ألذ على الجاني من العسل.
عد واقرأها مرة أخرى، وينبغي التنبيه على أن هذه الصور
مؤلفة من الخيال وليست حقيقية، فتلك هي عادة الشعر والشعراء (يقولون ما لا يفعلون)
(4) الحب والأخلاق
لقد مدح العلماء والحكماء الحبَّ لما فيه من رقة النفس ولطف
الطبع وحسن التهذب، فقالوا في هذا:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ
ما الهوى .. فكن حجرا من جانب الصخر جلمدا
ومدحوه لما يكون فيه من الترقِّي بالأخلاق والتحلِّي
بالمكارم، فالعاشق حريص على أن يثير إعجاب من يُحب، فقالوا:
فيهتزّ للمعروف في طلب العُلى
.. لِتُحمَد دومًا عند ليلى شمائلُه
وللمرء أن يفتخر بنفسه إن اجتمع فيه الحب والعفة، كما
افتخر شاعرهم:
أخلو به فأعِفّ عنه تكرُّمًا
.. خوفَ الديانة، لستُ من عشّاقِه
كالماء في يد صائم يلتذّه ..
ظمئا فيصبر عن لذيذ مذاقه
وشبيه بذلك قول الشاعر:
أُنَزِّه في روض المحاسن مُقْلَتي
.. وأمنع نفسي أن تنال محرَّما
وأحمل من ثِقْل الهوى ما لو
انّه .. يُصَبّ على الصخر الأصمّ تهدّما
ولم يُمدح الحب لما قد يكون فيه من سوء الأخلاق
والانحلال والغدر والخداع، اللهم إلا المنحلين والفاسقين الذين ملكوا وسائل
الإعلام ومنافذ الثقافة في عصور الظلام التي نحياها الآن، منذ نزل بلادنا الاحتلال
ثم حَكَمَنا عملاؤه من بعده، فأفسدوا الدين والأخلاق، وكان من بين ما أفسدوه: معنى
الحب!
(5) أعلى مراتب الحب
لما آخى رسول الله بين
المهاجرين والأنصار، قال سعد بن الربيع الأنصاري لأخيه عبد الرحمن بن عوف
المهاجري: وإن لي زوجتان، انظر أيهما أحب إليك، أطلقها فتتزوجها!
وانتزع حنظلة بن أبي عامر
نفسه من أحضان عروسه بعد ليلة زفافهما حين سمع نداء الجهاد في أحد، فنال الشهادة،
فكان من كرامة الله له أن غسَّلته الملائكة، فعُرف بلقبه "غسيل
الملائكة".
وقيل للقعقاع الأوسي:
شوِّقنا إلى الجنة، فقال: فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
نشر في مدونات الجزيرة
لافض فوك
ردحذف