هذه هي الحلقة الثالثة من الكتاب الخامس في "مكتبةالثائر المصري" (راجع
الأولى، الثانية)، حيث نواصل
فهم نشأة ووظيفة الجيش المصري الذي أنشأه محمد علي، واستعبد له الناس وسحقهم
وأذلهم، ثم أنشأ مؤسسات الدولة لخدمة الجيش، وأما الشعب فكان يراهم مجموعة من
البهائم والمتخلفين. لقد نجح محمد علي أن يختطف من بين الشعب شريحة يحولهم من
أفراد طبيعيين إلى جنود عبر رحلة من تغيير حياتهم وأفكارهم بالتعذيب والقهر والضبط
حتى ينفصلوا عن شعبهم، ثم يستخدمهم في قهر الشعب وضبطه والسيطرة عليه، وهو ما
سنقرأ هنا خلاصة مكثفة لقصته المريرة.
خلاصات الكتاب:
21. بذلت السلطة كل وسعها في منع التهرب من التجنيد أو
الهروب منه، فألزمت كل من ينتقل بين قرية وأخرى أن يحمل بطاقة شخصية فيها اسمه
وقريته وصفاته الجسمانية، وإذا وُجِد فلاح بغير التذكرة يُعاد إلى قريته فورا،
وأُلزم مشايخ القرى بحمل هذه البطاقة إذا ذهبوا إلى القاهرة، ثم استحدثت السلطة
نظام وشم الجنود بحيث إذا عثر على هارب يُعاد إلى التجنيد، ونظمت قوات خاصة
لمراقبة الجنود لمنع هروبهم، وتعاونت مع العربان لتسليمهم من يهرب من قريته أو من
المعسكر.
22. لما أدركت سلطة محمد علي أنها لا يمكن أن تعتمد على
مشايخ القرى والعُمَد في تجنيد الفلاحين إذ يتواطؤون معهم لتهريبهم وإخفائهم، شرعت
في نظام "دفترة الواقع"، وهو أن يكون لديها إحصاء وتعداد لكل شيء، ويكون
كل شئ مسجلا في الدفاتر بحيث تسيطر السلطة على البشر، فتعرف عدد من يمكن تجنيدهم،
وتكافح المتهربين من التجنيد ثم الهاربين من المعسكرات. وهكذا توفر للسلطة أول
تعداد دقيق للمصريين.
23. في هذه اللحظة تحول الإنسان إلى اسم في دفتر، وصارت
حياته كلها متعلقة بورقته، فهو بلا وجود في الدولة إلا إذا وُجِد اسمه في دفتر،
يُلزم بالتكاليف أو ترفع عنه بحسب وجود اسمه في دفتر أو شطب اسمه من دفتر، فصار
الشعب محصورا في دفتر أمام السلطة، وصار الكاتب وظيفة كبرى في دولة الباشا لأنه
محور جهاز الدولة، ولما هرب كاتب بدفاتره جُنَّ جنون السلطة وكانت عنايتها العثور
على الدفاتر أكثر من عنايتها العثور على الشخص نفسه، ونَظَّمت السلطة دفاترها بحيث
تكون مسلسلة مرقمة ولا يسمح فيها بكشط أو شطب أو ترك صحفات بيضاء فارغة.
24. لقد نجح محمد علي في تكوين جيش مصري على النمط
الحديث، ذلك النمط الذي لا يعتمد على شجاعة المقاتل وذكائه أو على "فن
القتال" المعتمد على الموهبة الشخصية، وإنما على الدقة والنظام والتراتبية
الجندية والتخطيط بناء على "علم الحرب"، وبهذا تحققت انتصارات الباشا
العسكرية المشهورة، ولكن السؤال: كيف أمكن لسلطة الباشا تحويل الفلاحين إلى جنود
طيِّعين منقادين ملتزمين بالنظام المفروض عليهم؟
الإجابة: لم يكن هذا بالعقاب العنيف القاسي وحده، وإنما
باتخاذ الأساليب التي ابتكرتها السلطة الحديثة في احتلال العقول والأفكار، لقد
عمدت السلطة الحديثة إلى السيطرة على الناس لا بمجرد العقوبة أو التعذيب البدني،
وإنما بأنماط من التحكم في النفس والعقل من خلال "تنظيم المجال المادي"
و"إنتاج المعنى" كما بيَّن ذلك ميشيل فوكو في أعماله خصوصا "المراقبة
والمعاقبة" وجاك دريدا، وقد أوضح تيموثي ميتشيل في كتابه "استعمار
مصر" كيف طبَّق الباشا عبر مستشاريه الأجانب هذه الوسائل على المصريين.
25. أول هذه الأساليب هي "الاعتقال" حيث اتخذت
التدابير القاسية لعزل المجندين عزلا تاما عن حياتهم المدنية، ليكون دخولهم إلى
الجندية فاصلا جذريا ورهيبا بين حياتيْن، وبعدما سُمِح في البداية أن ينتقل أهل
المخطوف للتجنيد أن يأتوا معه ساكنين أكواخا خارج المعسكر عادت السلطة فمنعت هذا
ونفذت عزلا تاما ونهائيا للمجندين عن المدنيين، وعومل المجندون كالمعتقلين في
معسكرات اعتقال.
26. كذلك استخدمت السلطة أسلوب "المراقبة"
والمراد منه أن يرسخ في أذهان الجنود أن الهروب أمر مستحيل والتفكير فيه هو
النهاية، فمن ذلك أن ضابطا خيَّر ثلاثين من الجنود بين البقاء أو الرحيل من
المعسكر، فلما اختاروا الرحيل أطلق عليهم النار وذبح معظمهم. ومن ذلك ابتكار طريقة
"كشف التمام" الذي جرى تفعليه مرتين في اليوم، فمن لم يوجد يُعتبر فارا
ثم تُطبَّق عليه عقوبة الهارب. ومن ذلك فكرة "البطاقة" التي يجب أن
يحملها كل عسكري بما فيهم كبار الضباط، وإلا عوقب كهارب، وهي بطاقة لا تُعطى إلا
بإذن السلطة. وهكذا تعاونت الوسيلة العنيفة (العقاب الجسدي) مع الوسيلة الناعمة
(أساليب الضبط والنظام) في السيطرة على عقول الجنود وإقناعهم أنهم مراقبون ولا حل
أمامهم إلا السمع والطاعة.
27. كان العقاب الجسدي ينفذ أمام الناس في دولة محمد
علي، وكان يُقصد به فوق ردع الناس تثبت مركز السلطة وتعظيم وجودها، وقد عوقب جندي
فقد دلو ماء بخمسين جلدة أمام زملائه، وكانت هذه الخمسون جلدة عقابا في ستة وعشرين
مادة من خمسة وخمسين من قانون الفلاحة، وقتل محمد علي ثلاثة وعلقهم على أحد أبواب
القاهرة وعلى جثامينهم لافتة "هذا جزاء من لا يمسكون ألسنتهم"، وكان
الجزار الذي يزيد سعر اللحم تُقطع أنفه وتُعلَّق أمام الجميع ويربط بها قطعة لحم،
ويوضع بائع الكنافة إذا غش في الوزن أو السعر فوق مقلاة الكنافة وهي فوق النار،
وشُنِقت النساء المتهمات بمساعدة رجالهن على تشويه أنفسهم للتهرب من الجندية
بالشنق في مدخل القرية [وهي عقوبة عظيمة على نفوس مجتمع يصون النساء]، وأمر بشنق
بعض الكهول والمُقْعدين على مداخل القرى لإنهاء ثورة الصعيد (1824م) ليكونوا ردعا خصوصا
وأنهم بلا فائدة للباشا لكونهم لا يستطيعون العمل!
28. كان السجن في دولة الباشا للانتقام والنفي لا
للإصلاح، فلا يشترط في السجن أن يكون مناسبا بل سُجِّلت حالات ارتفاع الوفاة بين
المسجونين مما استدعى تحقيقا ذات مرة، وكان المسجون تحت سلطة الباشا يُستعمل في أي
شيء تريده السلطة، حتى إنه أحيانا أجرى عليهم تجارب طبية كنقل العدوى من أشخاص
مصابين، وكان كثير من المساجين لم يخرقوا أي قانون وإنما قرر الباشا سجنهم،
وبالمثل فللباشا الإفراج عنهم بمجرد العفو دون أي اعتبار آخر.
وكان السجن الرئيس هو ليمان الإسكندرية، ومع أن كلمة
ليمان تعني بالتركية ميناء، إلا أنها تحولت في اللغة المصرية إلى معنى
"السجن"، وهذا دليل كافٍ على انطباع صورة السجن في العقلية المصرية.
29. أما العقوبات العسكرية
فكانت على العكس، لا تستهدف الانتقام من المذنب بل إخضاعه للنظام، وغرس اليقين فيه
أنه لن تمضي جريمة بلا عقاب، كان المطلوب إخضاع الجميع لنظام عسكري صارم يتحول إلى
عادة وتقليد مهيمن على الجميع، مهيمن على نفوسهم وعقولهم كطريقة حياة لا لمجرد
خوفهم من العقاب الجسدي، فالخوف وحده ليس كافيا في تحقيق الضبط اللازم.
إلى هنا انتهت المساحة المخصصة ونواصل في المقال القادم
إن شاء الله.
نشر في مدونات الجزيرة
لا إله إلا الله محمد رسول الله
ردحذف